أقلام فكرية
غزلان زينون: عندما يتكلم دريدا.. فلسفة التفكيك وآلياته في النقد المعاصر

شهدت الساحة الأدبية على مر أزمنة مضت اتجاهات نقدية سعت إلى دراسة النصوص الأدبية وتناولتها من جوانب شتى، فارتبط النقد العربي في محطاته المتأخرة بالمنجز الغربي ونقل مناهجه وحاول تطويعها لتناسب الإبداع العربي، وقد مر النقد عبر هذه الأزمنة بالعديد من التحولات المنهجية بدءا بالنقد الانطباعي الذي عادة ما كان يلامس الشعر وبلاغته، مرورا بالمناهج الموضوعية التي جندت أدواتها الإجرائية وفق تصورات محددة لدراسة النصوص، كالمناهج السياقية/الحديثة (التاريخي، والاجتماعي، والنفسي) والتي تناولت دراسة النصوص و نقدها استنادا على مشيرات خارجية، ثم المناهج النسقية (الحداثية)التي اهتمت بالبحث داخل النص نفسه، فسعت البنيوية كنموذج لها إلى تأسيس مذهب نقدي يعتمد في شرعيته على منهج علمي تجريبي، وتبنت النموذج اللغوي كمدخل للمقاربة البنيوية للنصوص الأدبية، وحينما تأكد قصور النموذج اللغوي في تحقيق المعنى، واكتشف أنه يعجز عن تقديم نموذج عام للتطبيق على جميع النصوص بنفس القدرة، سقط المشروع البنيوي لتنبثق من عباءته مناهج ما بعد الحداثية، حيث انفتح النقد الأدبي على العديد من النظريات الجديدة من حيث الأسس والمبادئ، وانفتح أيضا على القارئ الذي همشته البنيوية/ الحداثية، فأصبح مصدرا إبداعيا لا متناهي القراءات وبالتالي الدلالات، وأصبح نقد ما بعد البنيوية يجسد مبادئ نقدية مستمدة من تراكمات فلسفية للفكر الإنساني، فجاء ثائرا متمردا على مقولات الفكر الحداثي الغربي، وأعلن في مرحلة نضج المنهج البنيوي على ظهور المنهج التفكيكي بآلياته المبتكرة في مجال تحليل النصوص، مسيطرا على السياقات النقدية، محاولا دمج الوعي المعاصر في عمليات توليد المعنى، وبالتالي تجدد هذا الأخير وتغيره المستمر نتيجة عدم استقرار الحركية الزمكانية لهذا الوعي. واستنادا على هذا التحول الدياكروني للمناهج النقدية، ارتأيت التوقف عند المنهج التفكيكي، ومعاينة الأسس والمبادئ الفلسفية التي قام عليها، والوقوف على جملة الآليات الإجرائية التي توسل بها.
- الأسس والمبادئ:
خلال القرن 17 أقامت التجريبية فلسفتها على إمكانية المعرفة اليقينية عن طريق الاعتماد على الحواس والثقة في المعرفة، والقول بتأسيس المعرفة على سلطة الحواس يعني الشك في سلطة اليقين، واستمرت التجريبية كمنهج لتحقيق المعرفة اليقينية إلى أن شككت الفلسفة الميثالية مع كانط في قدرة الخارج وحده على تحقيق تلك المعرفة، وأصبحت التجريبية موضع الشك قابله يقين قدرة العقل بمقولاته الميتافيزيقية[1] العليا، بعدها بدأت دورة جديدة للثنائية( الشك واليقين) ظهرت فيها البنيوية وازدهرت لفترة من الزمن في أحضان العلم والتجريب، وفي منتصف القرن الماضي (بعد الحرب العالمية الثانية)انعكست الثنائية من جديد وعاد الشك الفلسفي من جديد، ولكنه شك في كل شيء، وفي خضم هذه الثنائية، انبثقت التفكيكية[2].
فقد استمدت التفكيكية مفاهيمها وآلياتها الإجرائية من فلسفة الشك مع هايدغر هوسرل وفوكو وغيرهم، يقر جاك دريدا بأن المنطلق الأساسي الذي ألهمه في التنظير لتفكيكيته هي الأفكار الفلسفية الوجودية التي وضعها هايدغر، حيث تتجلى معالم هذا التأثر في القراءة التقويضية[3]، التي تنهجها التفكيكية في نقض النص، وهي استراتيجية مستوحاة من منهجيّة هايدغر ذاته، فهذا التأثر هو إقرار بأن أشدّ استراتيجيات دريدا أصالة في تحقيق تعليقه للمفاهيم وتعطيلها، نابعة من ممارسة هايدغر نفسه للنصوص، ويطلق على هذه الطريقة اسم وضع الكلمات تحت المحور ويعني عبور الكلمات من خلال النص، ثم تحذير القارئ بعد ذلك حتى لا يأخذ تلك الكلمات أو يقبلها بقيمتها السطحية الفلسفية[4].
يقول جاك دريدا:" إن ديني لهايدغر هو من الكبر، بحيث أنه سيصعب أن نقوم هنا بجرده، والتحدث عنه بمفردات تقييمية أو كمية، وأوجز المسألة بالقول إنه هو من قرع نواقيس نهاية الميتافيزيقا وعلمنا أن نسلك معها سلوكا استراتيجيا يقوم على التموضع داخل الظاهرة، وتوجبه ضربات متوالية لها من الداخل"[5]، ويقول أيضا: "أما بالنسبة لنقد هايدغر فهذا ما كنت أقوم به في الواقع منذ البداية. وفي جوانب كثيرة من عمله، وجدته ما يزال حبيس الرؤية الميتافيزيقية"[6] وهذا اعتراف من دريدا باستفادته من هايدغرا[7]، خاصة استخدامه للمفهوم الهادغري "التدمير" والذي استعمله في مناحي عدة بمعنى التفكيك فقد دافع هايدغر في كتابه الكينونة والزمن الذي ترجم إلى الإنجليزية(1962) أي قبل ظهور المفهوم عند دريدا ب4 سنوات ، إلى فكرة تدمير تاريخ المعرفة أو بمعنى أصح الثورة على التاريخ والتقاليد لكنه ليس تدميرا بالمعنى الحرفي له، لكن المعنى هنا هو إعادة كتابته[8]، وهنا يظهر مدى تماهي المرجعيتين وتأثر دريدا بهايدغر والذي نجم بطبيعة الحال عن واقع المثاقفة.
إنّ هذا التقارب بين تفكيكية جاك دريدا و باقي الفلسفات؛ هو الذي يزيد التفكيكية غموضا في الساحة النقدية، ويدفع النقاد إلى تتبع مرجعياتها الفلسفية من أجل فهمها والتمكن من تمثل آلياتها في مقاربة مختلف النصوص، ذلك أنّ التفكيكية كاستراتيجية لقراءة النصوص وتقويضها، تقوم على نهج قراءة تقويضية تكشف بها عن التناقض الذي يحيط بدلالة النص، فهذه القراءة تحفز الشك في اليقينيات النصية، ثم تعتمد بعد ذلك على "أسلوب تحليلي واستراتيجية نصية قائمة على التعامل مع النص باعتباره نشاطا لغويا متعدد الطبقات، ويقوم الناقد التفكيكي باختراق الكلمات في سياقها النصي قبل أن يقبل الدلالات المرافقة وليس باعتبارها مسلمات فلسفية أو عقلية، إن منهجية دريدا قائمة على تحرير اللغة من دلالتها المقيّدة بقواعد النحو ووضعها في إطار تحليلي من الفكر والرؤية الشعرية"[9]
لقد ساهمت فلسفة هوسرل أيضا في بلورة الآليات المعتمدة في التفكيكية، فقد حاول دريدا عبر الخلفيات الفكرية لهوسرل أن يبين الكيفية التي يتصور بها فعل الدلالة المنبثق عن الصوت/ العبارة، ذلك أن العبارة إذا كانت إخراجا للمعنى فإن هذا الإخراج موجود أصلا فيها، والخارج هنا لا علاقة له بأي شيء موجود بعيدا عن الوعي، فهو مدلول يخرج من نفسه ويقع على العبارة نفسها، ويشبه ذلك "التلقي الضمني الذي يفترض وجوده بالضرورة في أي خطاب ذاتي، على أن صوت الذات هو عبارة الخطاب بحد ذاتها، لأنها إرادة قاصدة تهب للمعنى بعده الروحاني حسب تعبير هوسرل"[10].
- آليات الاشتغال:
التفكيكية هي امتداد لنظريات التلقي(نقد ما بعد الحداثة)، حيث ركزت على سلطة القارئ في قراءة النص وتأويل معناه ، على عكس المناهج البنيوية التي اكتفت بسلطة اللغة عند مقاربة النص مقاربة محايثة[11]، وبذلك فالتفكيكية في تركيزها على القارئ، لم تخرج عما قدمته نظريات التلقي في مرحلة نقد ما بعد البنيوية؛ فهي منحت للقارئ دورا في توليد دلالة النص باستمرار، وهو ما يجعل المعنى متجددا ومختلفا من قراءة لأخرى، ومن سياق لآخر، فالتفكيكية " دراسة حتمية لنظريات التلقيreception theory، والنقد قائم على استجابة القارئ، ولن ندخل هنا في مجال التفرقة بين المسميين أو أيهما يتسع للآخر، إن أهم محاور التفكيك يرتكز على الأهمية الجديدة التي يكتسبها القارئ والدور الأساسي الذي يلعبه في تفسير النص"[12].
فالتفكيكية إذن تعيد بعث مكانة القارئ في النقد الأدبي، بعدما همشته المناهج النقدية الحداثية، إذ شجعت التفكيكية القارئ على ممارسة فعل القراءة المتجددة للنص، بحيث لا يقتصر دوره على قراءة النص، واكتشاف معانيه، بل صار دوره قائما على إعادة بناء معان جديدة للنص، تكون قابلة للتغير مع كل قراءة جديدة، وتتغير بتغير سياق القراءة من فترة إلى أخرى ، فهي ترفض أن يبقى النص محافظا على تماسكه البنائي وفق نظام معين، لذلك فهي تسعى إلى خلق الفوضى في النص من خلال إشاعة مبدأي الشك والنقض اللذين تتميز بهما، وهو ما يجعل التفكيكية نظرية للهدم والتشتيت والتقويض.
واستطاعت التفكيكية بآليتها النقدية الثائرة على مبادئ النقد البنيوي أن تقلب موازين النص وتخلخل قواعده المنطقية، ليصبح في حالة من اللااستقرار واللاثبات، فالتفكيكية كما يشبهها عبد العزيز حمودة(1998) في تعاملها مع النص الأدبي "كالثور الهائج أطلقه عصر الشك الشامل من مربطه يحطم كل شيء، فلا شيء معتمد ولا شيء موثوق ولا شيء مقدّس"[13].
أ- التفكيك:
هو تعبير لاتيني استخدمه دريدا للدلالة على نوع من القراءة تشتغل من داخل النص الفلسفي أو الأدبي من أجل زعزعة بنائه القائم على الثنائيات المتضادة" الخير والشر، اللسان والكتابة، الدال والمدلول المحسوس والمعقول، التعاقب والتزامن، والسكون والحركة...، وبيان أن هذه الثنايات ترتبط فيما بينها على علاقة التجاذب وهو ما يلغي مركزية أحدها وهامشية الآخر، ويضع الطرفين في موضع حاجة كل منهما إلى الآخر، فالصوت في حاجة إلى الصمت مثلا والعكس بالعكس[14].
إن مصطلح التفكيك في أساسه الأول يعمل على الهدم والتفريق والتناثر، أما من حيث دلالته فهو يقوم بخلخلة وفك شفرة النصوص والخطابات لمعرفة خباياها المختلفة، وفك تلك الارتباطات الموجودة في اللغة وكل ما يقع خارجها.
فالتفكيكية حسب جاك دريدا ليست تحليلا ولا نقدا ولا منهجا[15] ، بل هي استراتيجية في قراءة الخطابات من خلال التموضع داخلها وتقويضها من الداخل من خلال توجيه بعض الأسئلة وطرحها عليها من الداخل، بنيت على رفض الفلسفات الميتافيزيقية الغربية باعتبارها أيديولوجيات عرقية ذات تصور ذهني قائم على الثنائيات (الخير والشر، الحضور والغياب، الواقع والحلم...)
فالتفكيك يهدف إلى استنطاق النص والكشف عن الحقيقة الخفية داخله والمتناقضة مع المعنى الظاهر.
ب- الاختلاف:
سعى النقاد إلى فهم وترجمة خصوصية هذا المصطلح؛ الذي يظهر تفرده في طريقة كتابة كلمة الاختلاف Différanceوهو تميز يراه دريدا حكرا على المصطلح ذاته، يقول: "أعتقد أن قلقك حول ترجمة هذه المفردة يتّجه إلى صميم المشكل، فهي ليست غير قابلة للترجمة إلى العربية فحسب، وإنما حتى الإنجليزية وسواها من اللغات وحتى إلى الفرنسية بمعنى ما، من حيث إنّها تتعارض مع الكلمات المتجذرة من الميراث اللاتيني كما أنّها في اقتصادها نفسه غير قابلة للإبدال بمفردة أخرى"[16].
استمد مصطلح الاختلاف Différance ميزته الفريدة من تركيبته اللغوية التي خالف بها جاك دريدا Différence ، وهو تمايز يبدو واضحا بين الأحرف ance و ence ، في حين أن مفهوم الاختلاف يتحدد عنده كشيء ديناميكي لا يرتبط في اختلافه بالأشياء الأخرى المقابلة له، فهو اختلاف منبعث من دلالة الشيء ذاته أي بين الشيء الأصل، ومثال ذلك "سافر= انتقل شخص من مكان إلى آخر" وفقا لمعناها فإنها ستفتح المجال لتكون هنالك قراءات متعددة تعطي معنى مختلفا، لكنه لا يخرج عن دائرة مدلول الانتقال من مكان لآخر مثل: الهجرة، الرحلة، المغادرة، الغربة، الارتحال، الحرقة، وهي كلها ألفاظ تحمل معنى الانتقال بألفاظ مختلفة ومتعددة، دون أن تكون هذه الألفاظ ذات علاقة ضدية مع المعنى الأول، حيث يري دريدا "بمحاكاة ديالكتيكية[17] نوعا ما، أن الأصلي لا يكون أصليا إلا بالاستناد إلى النسخة التالية له، التي يسود الزعم أنها تأتي لتنسخه وتكرره، ضامنة له بذلك حيازة تسمية الأصلي أو الأصل، لا يكون الأول أولا إلا بالاستناد، استنادا مؤسسا، أي يقيم في جوهر الأول نفسه بما هو أول نقول الاستناد إلى الثاني الذي يدعم ذلك الأول في أوليته"[18].
يؤسس دريدا من خلال الاختلاف مقولته حول الحضور والغياب، ويرى دريدا أن مفهوم الاختلاف مرتكز من المرتكزات الأساسية للمنهجية التفكيكية ...، فيشرح مفهوم الاختلاف في إطار كلامه عن الصوت والظاهرة الفينومينولوجيا[19] لدى هايدغر اعتماد على حالتي التعارض والتكامل التي تحصل بينهما، بحيث لا يمكن لكل منهما الاستغناء عن الأخر، فالصوت باعتباره يمثل الحضور الذاتي للمتكلم في حاجة إلى نقيضه أي الصمت، وهذا إشارة إلى ضرورة الغياب لتأكيد حضور الذات، فالذات بحاجة لإثبات حضورها بوجود غيابها أيضا، وبالتالي فهي تعيش في حالة اختلاف دائم عن نفسها كلما أرادت أن تثبت حضورها[20].
ج- الحضور والغياب:
من بين أهم المرتكزات في مشروع دريدا التفكيكي نجد ثنائية الحضور والغياب، فالعملية النقدية للتفكيك تعمل من أجل حضور الدوال التي تكون حاضرة في اللغة، وقد رأى دريدا أن الحضور بشكل عام يتشكل داخل الميتافيزيقا، أي "وجود سلطة أو مركز خارجي يعطي الكلمات والكتابات و الأفكار والأنساق معناها ويؤسس مصداقيتها، حيث إنّ اللغة خارج النص الأدبي أو داخله تكتسب مصداقيتها من إحالتها إلى المركز أو تلك السلطة الخارجية"[21].
تسعى التفكيكية إلى خلخلة النص تقويضه، حتى يكون النص هشا، ويصبح معناه متحررا، فتزول قصدية دلالته لتحمل معنى مختلفا ومتجددا من قراءة لأخرى، استنادا لتحرير الدوال من المركز الخارجي الذي تقوم عليه، الذي يتجسد عبره مبدأ الحضور والغياب، ويتم ذلك عبر الشك "في وجود مركز، أي مركز مرجعي خارجي يعطي الأشياء شرعيتها ويمكن اللغة من الدلالة وبدلا من التقاليد التي يجب أن تدمر بعد أن حجبت الكينونة والنظام الخارجي الذي لم يعد له وجود في ظل غيبية المركز القادر على تثبيت الأشياء تؤكد استراتيجية التفكيك استحالة الحضور، فحضور ذلك المركز المحوري الخارجي داخل النص أو اللغة يرتبط دائما بالغياب، وتصبح المراوغة indeterminacy والغموض ambigüité والانتشار
Dissémination والبينصية ولا نهائية الدلالة هي أبرز سمات النص"[22].
فالتفكيكية بذلك تقوم على فصل النص عن كل قوة خارجية فيصبح النص متحررا، وبالتالي تصبح العلامة اللغوية مشتتة، ومعناه متعددا، لأنه يغيب ويحضر من قراءة إلى أخرى، فالدوال تحمل مدلولات تتعدد تبعا لمبدأ الاختلاف، فيحضر معنى ويغيب آخر.
د- المعنى اللانهائي:
يعطي جاك دريدا أولوية للمدلول على حساب الدال، أي الأسبقية للضمني على الظاهر، لأنه يرى أن الدال سطحي ووهمي، بينما الحقيقة تختفي خلف المدلولات.
لقد أقر جاك دريدا أن النص يحمل معنى لا متناهيا، حيث يحتمل قراءات متعددة، فكل قراءة فيه تولد معنى جديدا يختلف عن السابق، دون أن يكون هنالك ثبات في المعنى، حيث "إنّ التغيير الجوهري الذي طرأ على نظرة ما بعد البنيوية إلى اللغة، يتضح في التّعديل الذي حدث للعلاقة بين طرفي العلامة وهما الدال والمدلول واللذان يمثلان معا وحدة العلامة اللغوية، وهو التغيير يتمثل في بعد المسافة بين الدال ومدلوله أو في ضعف العلاقة بينهما... وتتسع مساحة الشك / الفجوة حتى تختفي العلاقة بين الدال ومدلوله ولا تبقى في النهاية إلا الفجوة بين الاثنين، الفجوة التي يتحقّق فيها اللعب الحر للمدلولات، وتتحقق لا نهائية الدلالة أو المعنى، وحيث تصبح كل قراءة إساءة قراءة[23].
إن النص عند دريدا غير ثابت على قراءة واحدة، وبذلك فهو لا يستقر على معنى واحد، بل هو يعيش في حالة من التشتت نتيجة تجدّد القراءات، وتجدّد المعاني بالنسبة للنص الواحد، أو القارئ الواحد من سياق لآخر، وهذا الوضع يتشكل عندما تقوم التفكيكية بهدم مركز النص، وعزله عن السياقات الخارجية التي تتحكم في معناه، وعليه يكون النص متحررا من الضوابط والقوانين المركزية، فلا تصبح علامته اللغوية مقيّدة ومغلقة، بل تصير منفتحة ومتحرّرة، حتى تكتسب دلالات متعددة ولانهائية[24].
فالتفكيكية إذن تقوم في المرة الأولى بالتشكيك في اليقينيات المنطقية، التي يتمثلها الفكر الغربي، ثم تقوم بخلخلة النص عبر البحث في بنيته المضطربة، ثم بعد ذلك تقوض دلالة النص من خلال تبيان التناقض القائم بين المعنى الظاهر والمعنى المضمر، حيث يمثل المعنى المضمر من منظور التفكيكية المعنى الحقيقي للنص.
***
غزلان زينون
..............................
قائمة المراجع
نوريس كريستوفر (1989) التفكيكية النظرية والممارسة، ترجمة صبري محمد حسن، دار المريخ للنشر، الرياض.
لحميداني حميد (2014) الفكر النقدي الأدبي المعاصر مناهج ونظريات ومواقف، مطبعة أنفو، فاس، الطبعة 3.
حمودة عبد العزيز (1998) المرايا المحدبة، من البنيوية إلى التفكيك، دار المعرفة.
جاك دريدا (2000) الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمد علال سيناصر، دار توبقال للنشر، الطبعة 2.
عطية أحمد عبد الحليم (2010) جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي، بيروت، الطبعة 1.
هوامش
[1] - الميتافيزيقا" أو ما وراء الطبيعة، من الأطروحات الفلسفية التي تسعى إلى تفسير الأمور الغيبية التي لا نستطيع إخضاعها للتجارب العلمية، كانت تسمى عند الفلاسفة اليونان بالفلسفة الأولى
[2] - حمودة عبد العزيز،1998، المرايا المحدبة، ص 260
[3] - التقويض: نقض المبادئ والقيم المعروفة في العرف القائم، لمحاولة تغيير نظام سلطوي مترسخ في هذا العرف.
[4] - نوريس كريستوفر، 1989، التفكيكية النظرية والممارسة، ترجمة صبري محمد حسن، ص 152
[5] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47
[6] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47
[7] - جاك دريدا،2000، الكتابة والاختلاف، ص 47
[8] - حمودة عبد العزيز،1998، المرايا المحدبة، ص 146
[9] - عطية أحمد عبد الحليم 2010، جاك دريدا والتفكيك، ص 117
[10] - لحميداني حميد،2014، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، ص 194
[11] - المحايثة تعني دراسة النص في ذاته بعيدا عن كل سياق خارجي.
[12] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 274
[13] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 270
[14] - لحميداني حميد، 2014، الفكر النقدي الأدبي المعاصر، ص 205
[15] - جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 60- 61
[16] - جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 53
[17] - ديالكتيكية: الجدل والمحاورة
[18] جاك دريدا، 2000، الكتابة والاختلاف، ص 30
[19] - الفينومينولوجيا أو الظاهراتية: رائدها هوسرل، هي الدراسة العلمية للوعي بالظواهر أو أشياء العالم الخارجي في الوعي، وطريقة إدراكه لها، وكيفية حضور الظواهر في خبرته، غير أن الفينومينولوجيا لا تعني علم النفس الذي يدرس الحالات العصبية والسلوكية للمخ البشري ، بل بإدراك الوعي للموضوعات من أجل الوصول إلى معرفة يقينية وموضوعية حوله.
[20] - الحميداني حميد، الفكر النقدي المعاصر، 207- 208
[21]- حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 330
[22] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 331
[23] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 303- 304
[24] - حمودة عبد العزيز، 1998، المرايا المحدبة، ص 336- 337- 338