بأقلامهم (حول منجزه)

قراءة نقدية في قصة (وانشقّ القمر) للأديب الباحث ماجد الغرباوي / هيام مصطفى قبلان

سأبدأ من عتبة العنوان:

 (وانشقّ القمر):

يعتبر العنوان بوابة يدخل منها القارىء الى جسد النص القصصي وعلى الناقد تناول عتبة العنوان قبل الغوص والابحار في بحر الكلمات لكن عليه الحذر كي لا يسقط في فخ القاص ومضمراته من اطلاع وبحث، وقد يتيه أحيانا اذا لم " يضبط ايقاع العنوان فتنفلت من بين يديه فيكون ظالما للقاص وللعمل القصصي لأنه سيضطر الى تقويل النص أشياء لا يريد قولها " (1) ولا يفهم من كلامي أنّ العنوان يجب أن يكون مباشرا يعرّف بالنص ويكشف جوانبه من أول وهلة، لكن أهميته لتوضيح العلاقة التي تجمع العنوان بالنص بوظائف مشتركة بينهما، منها وظيفة العنوان السيكولوجية، حين نعتبره محفّزا يستنهض القارىء ويثير تساؤله وانتباهه وأحيانا يستميله اليه، ومن وجهة أخرى هناك الوظيفة السوسيولوجية حين تحدث المفارقة ويصدم العنوان القارىء حين لا يتوافق مع معتقداته وأيديولوجياته

" جيرار جينيت "يعتبر العنوان علامة تميّز الكتّاب وتبيّن مجال اختصاصه، وما دام العنوان كذلك فيمكن ربطه بمجال الاشهار والتسويق فالكاتب يختار عناوين براقة أو مؤثرة تسترعي اهتمام القارىء وتشدّ انتباهه وتحرك فيه المضمرات الكامنة في اللاوعي " (2) . والعنوان قد يثير في المتلقي رغبة  التأويل والبحث الجاد عن الخيط الذي يربطه بالنص وتختلف طبعا القراءات وتوجهات القراء ..!

انشق القمر: وانشقاق القمر من المعجزات التي أيّد الله بها نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم، معجزة انشقاق القمر الى شقّين، حين رأى بعض الصحابة جبل حراء بينهما، وقوع هذه المعجزة كان قبل الهجرة النبوية عندما طلب كفّار مكة آية تدلّ على صدق دعوته ففي الحديث " أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين، حتى رأوا حراء بينهما "وهو متفق عليه وعن " ابن مسعود " رضي الله عنه قال: "انشق القمر على عهد رسول الله فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله اشهدوا " متفق عليه وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " لقد رأيت جبل حراء من بين فلقيّ قمر" .

انشق القمر كعنوان للقصة: دال على منجز القصة ورمز لمعجزة انشقاق القمر وهي احدى علامات الساعة التي حدثت ففي الحديث الصحيح: " خمس قد مضين، الدخان، والقمر، والروم والبطشة واللزام " * اللزام: أي القحط، وقبل التصاق القتلى بعضهم ببعض يوم بدر، * والبطشة: القتل الذي وقع يوم بدر ...وقد ورد ذكر هذه الحادثة في القرآن الكريم مقرونا باقتراب الساعة قال تعالى: " اقتربت الساعة وانشق القمر": ( القمر1) ولما كان من عادة قريش التعنّت والتكذيب فقد أعرضوا عن هذا ووصفوا ما رأوه بأنّه سحر ساحر، وقد حكى القرآن لسان حالهم فقال تعالى: " وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر(القمر: 1-2) وقد نقل عن أبي اسحاق الزجاجي في معاني القرآن أنّه قال: " أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفين الملّة انشقاق القمر، ولا انكار للعقل فيه لأنّ القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء، كما يكوّره يوم البعث ويفنيه ".وكان احتجاجا للبعض: أنه لو وقع ذلك الانشقاق لجاء متواترا ولأشرك أهل الأرض في معرفته، ولما اختصّ به أهل مكة " والجواب أنه وقع ليلا وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة وقد يقع أن يخسف القمر وتبدو الكواكب العظام وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها الاّ الآحاد من الناس، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا وتعنّتوا، فلم يروا غيرهم ومن المحتمل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون غيرهم كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم .نقل عن الخطابي قوله: " انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعد لها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع فليس مما يطمع في الوصول اليه بحيلة، فذلك صار لبرهان به أظهر ".

أما الدراسات الحديثة التي اعتنت بدراسة سطح القمر أنه يوجد به آثار لانشقاق وانقسام كان له الأثر في اسلام البعض لما علم أن القرآن تكلّم عن ذلك قبل قرون، فسبحان الذي أظهر الدلائل والآيات الدالة على ألوهيته وعظيم خلقه، قال تعالى:" سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيدا "، (فصلت: 53)، ودلائل هذه الحادثة: تدلّل على قدرة الباري عزّ وجل المطلقة في تغيير النظام الكوني وعلى صدق دعوة رسول الله، صلى الله عليه وسلّم لنبوّته وأيضا تدل على اضطراب النظام الكوني في المستقبل، فانشقاق القمر هو نموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تستبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض، أي قيام عالم جديد آخر ومختلف تماما .

* النص الذي أمامنا للأديب الباحث ماجد الغرباوي، رحلة السواقي والأنهار والطبيعة الساحرة ورحلة النفس والغوص داخلها، ان أستاذنا الغرباوي وصف مراحل هذه الرحلة بعاصفتها الهوجاء، ومباغتة الموت واحتراق نصف جسده الأيسر و" التشبث بالنصف الثاني، الخروج من المكان، من واقع الى العالم الآخر،وما فوق الطبيعة من تخيّل وربما الوهم يلعب دورا هاما في نفس السارد  (كيف يعيش بنصف جسد لوقدّر له أن يعيش ونصفه الأيمن سليم) ونصفه الأيسر الذي يرمز الى القلب والنبض والحياة من جديد وهو الذي أقبل عليه الموت بعاصفة هوجاء.

** التقاء عالمين (العالم الثاني) والعالم الآخر الحياة ما بعد الموت، " الشمس أذّنت بالمغيب " وصف مدهش لانتقال الروح الى العالم الآخر" لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض، لا يرى سوى أحشائه المتدلية".حيرة وتساؤل " ماذا يحصل حين نموت هل نتحول رمادا؟"، هذا الانسان دائم البحث المتطلّع الى المجهول بين شك ويقين، هل حقا تموت أعضاء الجسد، وبعد موت الجسد ماذا عن القلب والرئة والأحشاء،، تساؤلات تدعو للبحث والتأمّل، يتخيّل فاجعة الانسان وما يحصل بعد موته " هل هناك حياة بعد الموت؟" الدخول الى عالم الغيب، المجهول الآتي الذي لا نفكر فيه .هكذا هي المسافة بينه وبين نصفه الثاني، كيف يتقرب بنصف جسد خائر القوى (هي المسافة بين الضوء والظل)  المسافة بين الحياة والموت، هو اللغز اذن (الحياة بعد الموت) وكبرياء الانسان وغروره .

مز القلب في النص بجهته الى اليسار له علاقة بالانشقاق (الشق واضح على شكل أفقي من اليسار لليمين، هذا اذا تمعّنا بصور الانشقاق التي أحدثتها التكنولوجية الحديثة للتأكيد من العلاقة بين انشقاق القمر واقتراب الساعة وهي علامات تعتبر ليوم الميعاد) كفار مكة قالوا للرسول: " ان كنت صادقا فشقّ لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالايمان ان فعل، وكانت ليلة بدر فسأل الرسول ربّه أن يهبه ما طلبوا، فانشق القمر نصفين على (جبل الصفا) ونصف على (جبل قيقعان) المقابل له، حتى رأوا حرّاء بينهما وقالوا: " سحرنا محمد ثم قالوا: " ان كان سحرنا فانّه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فقال أبو جهل: " اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي فان أخبروا بالانشقاق فهو صحيح والا فقد سحر محمد أعيننا، فجاءوا فأخبروا بانشقاق القمر فقال أبو جهل  والمشركون: "هذا سحر مستمر، أي دائم فأنزل الله: " اقتربت الساعة وانشق القمر وان يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا وتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر، ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغني النذر فتول عنهم " .

* الحديث عن جدلية الموت فلسفة قائمة بذاتها، الصراع بين الجسد والروح في لحظات الاحتضار الأخيرة وانفصال الروح عن الجسد، والسؤال الذي قد يخشى منه سائل: الجسد يفنى وماذا عن الروح، وقد آمن الهنود أن الروح تحل في شخص آخر ومن الممكن أن تكون انسانا أو حيوانا، وبهذا تتجدّد وتتناسل بينما هناك قبائل تحرق الجسد بعد الموت كي لا يبقى منها أيّ أثر وينثر رماده في أرجاء الأرض وفي البحار، وهذا ما يدّعونه بحياة أخرى متجددة وما يسمى بتناسخ الأرواح، أما قلق الكاتب في القصة فهو قلق ينمّ عن كون الشخصية الساردة في النص تتفاعل مع نموذج الشخصية الايجابية والتي بدورها تتأقلم مع مجريات الأحداث وترفض أن تقذف خارج دائرة الصراع وتحت أي مبرر، هذه الشخصية تراهن على تطوير الذات واقتناص فرص التحول الايجابية التي تخصب شخصية تمنحها وعيا دقيقا بخصوصية اللحظة التاريخية التي يجتازها وايجابية هذه الشخصية في النص تنهض أساسا على قوة ارادة ورغبة في المواكبة الحداثية .

بالنسبة للجسد ولو قدّر له أن يعيش هل يستطيع بنصف جسد؟ وماذا عن الحلم في النص؟ وكيف ننظر الى الجسد حين تنفصل عنه الروح؟

نحن للأسف ما زلنا" نحتفظ بذاكرتنا الجمعية للجسد بايحاءات سالبة لأنه مراوغ فهو في الغالب يدخل في علاقات ضدية مع الروح المقدسة، وهذا يرجع لطبيعته التي تسمى بالزوال والتلاشي فضلا عن انشداده الى اللذة الزائلة والمتع اللحظوية علما أن هذا التقسيم الثنائي للروح والجسد الطاهر والمدنس أنتج منظومة قيمية بقدر ما بخست من شأن الجسد أعلت من الروح وهذا قد يرجعه البعض لزمن البدايات الأولى للخلق منذ طرد آدم من جنة عدن بسبب ضعف مقاومته للغواية، هو مسار تاريخي طويل ترتبت عنه مفاضلة انتقصت من حظوة الجسد وهو ما لا ينسجم والثقافة الاسلامية التي تعد المؤمن بفردوس من اللذات في الدار الآخرة كجزاء على ايمانه " (193) ..هذا هو القلق في القصة اذ أنّ تراكم ثقافي جعل رؤية الجسد مشوشة ولماذا؟ هل لأن السعادة الحسية مخيفة فلا تتحقق بالحياة الواقعية فنبحث عن عالم آخر نرى فيه ضالتنا التي فقدناها فنلجأ الى الحلم والتأمّل والرغبة ونفصل أنفسنا عن عالمنا الواقعي .

ما المسافة بين الانسان وبين نصفه الثاني الا المسافة بين الموت والحياة، بين سكون الجسد عن حركته وبين الروح الثائرة المتوثبة التي تبحث لها عن جسد آخر تحلّ فيه، انها قضية فلسفية في ولادة الانسان وبعثه من جديد ومشاهدة نفسه في لحظاته الأخيرة لينظر الى نفسه يسألها هل هي التي ما تزال تحيا؟

في قصة الأديب ماجد الغرباوي نلحظ أسلوبه الذي يلجأ من خلاله الى القصص الغرائبية والتي تعتمد في مجملها على التاريخ والتناص الديني بآيات وسور من القرآن الكريم، والبحث عن حقيقة الكون واختراق العالم الكوني الى ما وراء الطبيعة، وهذا الانشقاق للقمر بقدر ما يبدو أنه ظاهرة طبيعية بقدر ما كاتبنا أثبت علاقة هذا الانشقاق بمعجزة ربانية أشير اليها في الآيات القرآنية وفي التاريخ الاسلامي وحين يأتي بقوله: " ضاقت به الأرض بما رحبت " (التوبة)،فأديبنا الذي شعر بضيق الأرض وهي علامة دالة على التهيّء للحدث قبل وقوعه،وهنا في النص يصوّر الذي يحدث وكأنه مشهد حقيقي يراه أمامه وربما لا يراه غيره، وقد استعان بتوظيفه للمفردات التي لها علاقة بالظاهر الطبيعية التي لا سلطة للانسان عليها: "دمدم الرعد/ سنا البرق / أضرمت غضبها / تلبّدت السماء/ زمجرت وأبرقت / أحرقت ... ... " وقد يدخل هذا الأسلوب في الوصف للجدث حالة من الفزع في نفس القارىء فيربكه هو أيضا .

في النص توجّه للصراع الداخلي للانسان والذي من المحتمل أن يأتيه بالصدمة حين لا يتوافق مع ايمانه أو الأيدولوجية التي يحملها فمن منطلق فلسفي فقد ترك لنا الكاتب النهاية مفتوحة للتأمّل في حيثيات ومراحل تطور القصة الملازمة للحدث حيث الايقاع السريع المتقن، والخروج عن رتابة اللغة من ناحية سردية قد تتوافق مع عمل تاريخي وبحثي جميل قد يحقق هدفا لكن الكاتب في هذه القضية بالذات وعنوانه وانشق القمر يمنح للمتلقي العبور من مكان الى آخر والوصول الى اللاشيء أو اللامحدود ..!

أحييك الكاتب والباحث المبدع ماجد الغرباوي وأتمنى أن أكون قد قرأتك جيدا.

هيام مصطفى قبلان /

الكرمل -  فلسطين 

...................

ملاحظة: يمكنك العودة الى الاشارات في القراءة:

1 - مضمرات القصة القصيرة، للناقد محمد يوب سلسلة دفاتر الاختلاف ص 20 /22 .

2 - أسئلة القصة القصيرة بالمغرب، مقاربات موضوعاتية،للناقد محمد رمصيص ص193 .

- آيات معتمدة من القرآن الكريم.

..........................

وانشق القمر!! / ماجد الغرباوي

خرج على غير عادته .. تتبع حركة السواقي والأنهار .. بهرته الطبيعة بسحرها

.. استدرجته .. حتى غاص في أعماق الحقول المجاوره، وتغلغل في أحراشها العالية.

كان الجو صحوا، والشمس ترسل أشعتها ندية.. تنعكس على صفحة أحلامه، فيحلّق مع ميامي، وتأخذه نشوة الحديث معها.

فجأة تلبّدت السماء، وأضرمت غضبها، فهطل المطر، بعد أن زمجرت وأبرقت، لتعلن عن بداية عاصفة هوجاء.

بحث عن ملاذ .. ضاقت به الأرض بما رحبت. همّ بالفرار .. خذلته إرادته. هرول ليحتمي بظل شجرة عارية .. دمدم الرعد، وراح سنا البرق يملأ الحقول والبساتين. وهو يتلفت مرعوبا، ينظر الى دواب الأرض كيف تلجأ الى جحورها. نزلت صاعقة مدوية فأحرقت كل ما حوله .. بهت مذعورا، يا إلهي ....

لم تمهله السماء طويلا، فصعقت ثانية، إلا أنها أحرقت نصف جسده الأيسر.. فظل مشدوها، فاغرا فاه، متشبثا بنصفه الثاني، لا يدري ماذا يفعل. راح يلملم جراحه، ويشد من أزره بارتباك .. ملتحّفا بخوفه وترقبه.

ماذا يفعل..؟ .. تساءل وهو في الرمق الآخير من الحياة.

عجز عن الكلام، غير أن علامة استفهام ارتسمت على صفحة حيرته، واندهاشه.

كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أن يعيش؟

علامة استفهام أخرى، طفت .. لكن هذه المرة على مساحة واسعة من الأفق .. كاد ان يحدد نهايتها، فارتد بصره خاسئا.

عاد يتلفّت .. لم ير الا أعمدة دخان، بعد أن أتت النار على كل شي، سوى نصفه الأيمن.

انتصب بما تبقى من جسده .. نظر الى نصفه الآخر .. وانهمرت دموعه شلالا من الأسى،.. لم يجد شيئا من معالمه، الا عينا، وشبح أطراف، وصدرا عاريا، وبضع كلمات.

نظر الى السماء .. راحت الغيوم تجر أذيالها، بعد ان أنهت مهمتها، والشمس أذنت بالمغيب، الا خصلات ذهبية، أضفت لمسة سحرية على ذكريات ميامي الجميلة. لكنها سرعان ما توارت، خلف أمله التعيس، ليبقى فريسة سهلة للظلام الزاحف بلا روية ولا رحمة.

عاد تحت هول الصدمة، ينظر لنصفه الأيسر، يتأمله، يدقق فيه. كان أول ما لفت نظره تلك الكلمات .. حاول أن يقرأها، فاستفزه صوت جسده بعد أن هبط الليل بثقله.. كان مرعوبا، لا يسمع سوى اصطكاك أسنانه العارية، وأنين الموتى القادم من أعماق الأرض .. ولا يرى سوى احشائه المتدلية، فلاح له سؤال حيّره، هل نصفه الأيسر أحترق، أم اختطفه ضوء الصاعقه فصيّره رمادا؟

كانت حيرة فهمه للسؤال أصعب عليه من الاجابة .. ما الفرق في ذلك؟ .. جسده الان ملقى، بعد أن انتزعت النار كل معالمه. لكن يبدو هناك لغز يتوقف على فهمه لهذا السؤال اللعين. سؤال محيّر فعلا، أين يعثر على شفرته؟

وسرعان ما جرفه سيل الأسئلة .. أين احشاؤه .. قلبه .. رئته؟ هل ما زالت هناك، حيث يرقد نصف جثته المتفحم؟.

ثم راح يتأمل فاجعة الإنسان بعد موته، ماذا يتبقى منه؟ كيف خمد جانبه الأيسر بلا حراك، وماذا لو كان مات كله، من سيكون الشاهد على مأساته؟ .. مغرور هو الإنسان، هل كل ما تبقى من جانبي الأيسر بضع كلمات؟ آه يا لحسرتي .. ربما هي كل ما تبقى مني .. من يدري، يلفنا الغيب من كل جانب، ولا نبالي. تحاصرنا الدنيا من كل زاوية، ولا نفكر بما هو آت.

آه يا إلهي .. اراد ان يصرخ، يستغيث، يتشبث بصدى صوته، لكن حيرة الدهشة والسؤال عقدت لسانه الثاوي.

جانبه الأيسر، كان نابضا بالحياة، كان قلبه يعزف موسيقى الصباح .. يدندن كل يوم أغنية جديدة. كانت ميامي لا تأنس الا به .. بايقاعه .. بنبضه. هل ستعود ميامي الى أحلامه أم اختطفها سنا البرق الأهوج؟؟ .. سؤال آخر فاجأه بينما بدأ الليل يجهز عليه، ولم تبق سوى نقاط بعيده من الضوء، لا تبعث على التفاؤل اطلاقا.

هل يرحل ..؟ .. كيف يترك نصفه الأيسر؟

سمع صوتا خافتا ينبعث من النصف المحطّم .. حاول ان يصغي له جيدا، لكن دون جدوى. عليه الاقتراب ولو قليلا.

كيف يقترب بنصف جسد خائر القوى؟. كيف يقطع المسافه بينه وبين نصفه الثاني؟

انها بضع خطوات.

لا .. لا .. لا .. ليست بضع خطوات، هي المسافة بين الحياة والموت .. اللغز الذي حير الإنسان منذ الأزل.

ليس من حيلة .. ألقى نفسه على الأرض .. زحف تحت جنح الظلام، سمع أصواتا غريبة .. ارتعدت فرائصه .. استلقى بجانب نصفه الآخر يرتجف، نظر اليه مليا، استغرب وجود تلك الكلمات .. حاول ان يصغي ثانية .. ركّز بكل جوارحه .. لم يسمع سوى صداها المحيّر .. تارة تتقاطع وآخرى تنتظم، أو ترسم عمودا من النور.

في غمرة تأمله، وحيرته، عاد يتساءل: كيف يعيش بنصف جسد لو قدر له أنْ يعيش؟ وكيف يواصل حياته؟ وماذا عن احلامه مع ميامي؟

أفاق على أنين ميت قريب، أو كائن لم يفهم كنهه. تخيله يزحف اليه، اجتاحته قشعريره .. حاول أنْ يتجلد .. أنْ يتمالك نفسه، لكنه فشل.

استسلم للرقاد، او كاد .. أرعبته الاصوات ثانية.

التف بحيرته، ليس معه سوى نصف جسد متفحم .. انه جسده، وعينه اليسرى، وأربع كلمات، تتخذ أشكالا مختلفة.

ماذا يفعل؟؟

كان من الصعب ان يمسك بما تبقى من جسده، كان خائر القوى .. أصوات مخيفه. آه يا الهي .. تخيّل ان ذلك الأنين يصدر عن جثث أخرى. من يدري .. ربما هو لرجل عظيم، او امرأة صالحة..

لماذا يشكك الانسان بالموت، أليس هو الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا .. لماذا لا يردعه الموت؟

الإنسان؟ يا له من مخلوق عجيب .. كم هو بائس .. مغرور ..؟!!!

هل يخشى الإنسان ما بعد الموت؟ ربما .. لكنه عنيد، مكابر، لا ينصاع، الا حينما تسحقه الطبيعة بجبروتها.

يا للهول، أليس من حقنا ان نهرب منه؟ ماذا تبقى من نصفي الأيسر، سوى بضع كلمات. ما قدرها. نصفي الأيسر ذلك الكائن الجميل، الذي أرهق حياتي ..

لم يمكث طويلا حتى رأى طيرا أسود، عرفه من حفيف جناحيه .. حالت حلكة الظلام دون معرفة فصيلته، أخذ يحوم حولها، وينظر اليَّ بعين حمراء متوقدة، كجمرة في يوم شتائي قارص. أقترب من الجثة الهامدة، كتمثال أهمله تمادي القرون الطويلة، ثم أرتفع، فدنا... فكان قاب قوسين او أدنى .. تمتم بأصوات غير مفهومة، ارتبكت جثتي، ثم تجهّمت وأشتد غضبها حين خطف الطير إحدى الكلمات وحلق عاليا.

رأيت عيني اليسرى، كيف أجهشت بالبكاء .. توسلت بقواي كلها، لأقترب أكثر، وأصون ما تبقى منها. كنت أرتجف .. أصرخ .. استغيث، لا أجد لصدى دموعي سوى جثة هامدة، ولما اقتربت منها، سمعت صوتا هامسا:

أنتبه ..

هذا ..

 

سر نجاتك!!