بأقلامهم (حول منجزه)

عفاف المحضي: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي (1-2)

القسم الأول من مشاركة طالبة الدكتوراه عفاف المحضي في الندوة العلمية الدوليّة حول التسامح الدينيّ وثقافة الاختلاف - مركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة، مدينة سوسة – تونس، يوم 5 – 10 – 2016م. بعنوان: فهم التسامح.. قراءة في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح فرص التعايش بين الأديان والثقافات لماجد الغرباوي. وقد نالت على بحثها شهادة تقدير من إدارة الندوة العالمية.

 afaf1

مقدمة: الإنسان هو من يعيش فنّ الحياة. من يبتكر لنفسه قارب نجاة وطريق حياة مشتركة. الإنسان هو من يحيا ليحيا الإنسان معه وليس من يحيا لينفي غيره .. هو من يرسم فن الوجود بكل سماته ووأبعاده الإنسانية والأخلاقيّة التي تعتبر بوابة للتسامح ومبدأ فلسفة التعايش الإنساني في الكون.

 

 ماهو التسامح ؟و كيف نفهمه؟

1. تعريف التسامح لغة واصطلاحا:

لغة: تأتي كلمة التسامح من جذر (س.م.ح) سَمَحَ – سَمْحًا وسَمَاحًا وسَمَاحَةً: فلاَنَ وسَهُلَ ويقال سَمَحَ العودُ وتجرَّدَ من العُقَدِ وانقاد بعد استعصابٍ وفلان: بذل في العسر واليسر عن كرمٍ وسخاءٍ ويقال سمح له بحاجة يسَّرها له. و(سَمُحَ) سَمَاحَةً وسُمُوحَةً صار من أهل السّماحة فهو سَمْحٌ وسَمِيحٌ. وسَامَحَهُ بكذا وفيه أي وافقه على مطلوبه. [1]

مرّ التشكل المفهومي لهذا المصطلح بمرحلتين: تمثلت مرحلته الأولى في الجانب اللّغوي لهذا المفهوم ثمّ اكتسب في مرحلة ثانية بعدًا اصطلاحيا مع التنظير الفلسفي له في البيئة الغربيّة. ويمكن تحديد الفترة التاريخيّة لبروز هذا المصطلح وتشكله في الفكر الغربي منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر ففكرة التسامح الغربيّة الحديثة قد ارتبطت في بدايات تشكلها بالمسألة اللاّهوتيّة مع الفيلسوف والمفكر جون لوك "الذي كان ينظر إليها بوصفها "الحلّ العقلاني" لمشكلة الخلافات التي نشأت داخل المسيحيّة أنذاك".[2] ابان العصور الوسطى ولتفادي تلك التداعيات والصراعات المذهبية والطائفيّة والأنساق الفلسفيّة من أجل التوصل الى اتفاق وتوافق بين هذه الصيغ المختلفة والمتعارضة ورتق الفتق الحاصل بينها.

 لا بد من تشكل صيغ جديدة تضمن الوفاق والتسامح بين هذه الاتجاهات المتصارعة تضمن حقوق الإنسان وحرية التعبير لكل الأفراد على السواسيّة دون قيود أو تقديم تنازلات، إلى أن أصبح هذا المفهوم "التسامح" من المفاهيم الأساسية والمركزية في مواثيق حقوق الإنسان، مع صدورإعلان سنة 1948 والذي تَمَّ بموجبه التنصيص على حرية المعتقد والرأي والتعبير، كما بدأ العمل لتفعيله في المنظمات الدولية، إذ أصدرت منظمة اليونيسكو إعلان مبادئ التسامح لسنة 1995 وتبنَّته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بتاريخ 16 نوفمبر 1995 بباريس.[3]

 

2. موقف الأديان من التسامح:

"نسمع أصواتا قوية منذ قرن من أهل الغيرة على الإسلام في شتى أقطاره، وتنادي لنعد إلى الإسلام وهي صيحة كريمة جديرة بالاستماع، وإنها لتنتشر وتشتد على مرّ السنين من الغيورين والمتظاهرين بالغيرة على الإسلام ولعل هناك صيحة أجدر منها بالاستماع هي لِنُعِدْ إلينا الإسلام وبين الصيحتين فرق يفقهه من قدر عليه"[4] ولابراز البناء الصحيح للإسلام لابد من أن ننزع عنه الطبقة المتحجرة الخبيثة التي رنت على أسسه بنوع من التغييب للأصل وتغيير حقائقه من رفق وحلم وعفو رحمة وتعايش سلمي وتسامح وتكافل وغيرها من السمات الإنسانيّة والأخلاقيّة...

 فالخواء الروحي ليطبق على العالم في عنف والأمم تضطرب في كل مكان والنظم القديمة كلها تتصدع عن قصد وعن غير قصد وأصحابها يخربونها بأيديهم وبأيدي غيرهم ويظهر أنّ البشرية تتقارب وتتجه نحو الوحدة العامة.. فما لم تتقدم رسالة روحيّة من الرسالات القديمة لسدّ هذا الخواء متحفظة بجوهرها الصحيح الملائم للفطرة الإنسانية منسلخة من قشورها وأعراضها البالية ولن تكون هذه الرسالة إلا الإسلام – فلابد من ميلاد رسالة جديدة تلائم الوحدة العالمية المنتظرة، وإنها لعلى الأبواب فما هذه الاضطرابات من حروب ونحوها إلّا أعراض حمل الإنسانيّة لهذه الرسالة وإنّ تتبعها المحموم لأظهر أعراض المخاض وما أسرع الطلق فيخرج الوليد الموعود."[5] لتاريخنا المعاصر الذي شهد ويشهد تغيرات شتى ومستجدات عدة متسارعة النسق مضطربة ومتخبطة المسار.

 إنه إشكال التجديد، أمام ما يشهد به العالم اليوم من مظاهرَ للعنف والاحتراب الذي يستدعي منا جميعا ضرورة العودةَ إلى الذّات لمراجعتها ونقدها في أسسها وثوابتها الداخليّة، والوقوف على مواضع الخلّل فيها لتقويمها وتصحيحها ومعالجتها، ثم الارتكاز إلى قيّم جديدة تستبعد بعض مظاهر الكراهيّة والشرور النفسيّة المتفشية بين الجماعات الإنسانيّة وبين الأمم والشعوب، لتنفتح على قيّم أخرى إنسانيّة والدينيّة كونيّة. وإنّ هذا الغرض والغاية لبلوغها ونيل شرف مرتبتها وقطف طيب ثمارها قد يتطلب منا وجميعا على حد سواء الغوص في أعماق فكرنا وعقيدتنا بحثًا عن الجذور المشكلة بيننا كإنسان.

 إذ لم يعد أمام الشعوب الإسلاميّة خيارٌ للحدِّ من هذه العدوانيّة، عدوانية ثقافة الموت والاحتراب والعداء والإقصاء المتفشيّة في كلِّ مكان في الأمصار العربيّة الإسلاميّة سوى خيار وحيد هو تبنِّي قيّم التسامح والعفو والتصالح والمغفرة والرحمّة والأخوّة والسلام، فعمق الحاجة إلية اليوم مع تصاعد وتيرة العنف والإرهاب أصبح مطلبا ملحا لتأخذ فيما بعد وبصفة تدريجيّة أشكال الدعوة إلية صورا مختلفة من التساوق وحوار الحضارات والثقافات وتواصل الأديان "لنزع فتيل التوتر وتحويل نقاط الخلاف إلى مساحة للحوار والتفاهم، بدل الاقتتال والتناحر. وهو عمل صعب يستدعي جهودًا يتضافر فيها الخطابُ الإعلامي مع الخطاب الثقافي والديني والسياسي والتربوي، ويتطلب تعاوُنَ الفرد مع المجتمع، والشعب مع القانون، والدولة مع الدستور.

 إنه عمل جذري يستهدف البُنى الفكرية والعقائديّة والثوابت والأعراف للمجتمع، لإعادة صياغتها صياغة عقليّة تضع أمامها الأولويات والوعي، وتقديم فهم عصريٍّ للدين والرسالة والهدف الأسمى تحقيقه، دونما أن تتجاهل الجانب النقدي المهم والبناء للمفاهيم والقيم والسلوك البشري، لرسم مستقبل أفضل ونوعي لفرد جديد والشعب متكافل مترابط الأوصال والوطن مزدهر ينعم بالسلام. قراءة متفهمّة للتراث ومستوعبة لأدق تفاصيل التاريخ، وعودة إلى القرآن والعقل، لتحقيق فهم آخر للحياة والعمل الإنساني

فالتسامح ليس نسقا فكريا مجتمعي بل هو نسق فكري وثقافي وعقيدي. فالتسامح ليس مجرد مفهوم يراد استنباته ضمن النسق القيّمي للمجتمع وإنما هو نسق ثقافي وعقيدي مغاير له أليته في العمل وأسلوبه في التأثير ومنهجه في التفكير وطريقته في الاشتغال فلا يمكن سيادة قيّم التسامح ما لم تكتمل جميع مقدماته.[6]

بالتركيز على الدين الإسلامي كمرجع في صياغة انساق التسامح محاولة لاستنطاق النّص المؤسس والنصوص الحواف في جهودها التفسيريّة مع مراعات المرحليّة التاريخية والظروف الحافة بها عبر التاريخ. كما أراد من خلاله ماجد الغرباوي أن يسافر عبر حقبات التاريخ مع النصّ والتفاسير التي تعاقبت عليه بنوعيها الحرفيّة منها والتجديديّة العقليّة من أجل التوّصل إلى منظومة مفاهيميّة يمكن توظيفها في صياغة النسق الفكري والعقيدي للتسامح الإنساني على إختلاف أجناسه وأطيافه المكوّنة له. فالتسامح لا يمكن أن يكون إلا قيمة دينيّة قبل أن يكون قيمة أو سمّة إنسانيّة.

 الدراسة ركز صاحبها فيها على أهم أسباب وأشكال التعصّب ومنابع اللاتسامح العقدي والسياسي والطائفي والقبلي في المجتمع وقد اعتمد العراق كنموذج للتعدد القومي والديني والمذهبي والطائفي والعِرْقِيّ. محاولة أو أملا في البحث عن صيغ جديدة وأطر جديدة للتعايش المجتمعي تستوعب تلك التناقضات وهذا التنّوع.

 إننا اليوم أمام إشكال كيف ننقي هذه القيمة الدينيّة من الشوائب الثقافيّة التي فرضتها التراكمات من المواقف الشخصيّة أحيانا عبر التاريخ من اجتهادات شخصيّة وحماية لمصالح استبداديّة سياسيّة التي تحولت مع مرور الزمن إلى أنساق عقائدية ومعرفية تمارس سلطتها على العقل وتتحكم في سلوكات الأفراد والجماعات.

لابد لنا اليوم من التركيز أساسا على أهمية دور المراجعة وإعادة قراءة تراثنا ومعارفنا لإكتشاف مراكز القوة ومواطن الضعف والخوّر بعيدا عن القراءات الأحادية للنّص المؤسس والحذر من القراءات التي تنادي بالوسطيّة ظاهرا والتعصب باطنا والمتجذرة في العقل الفقهي أساسا فهل يمكن للعقل الفقهي أن يكون وسطيا موضوعيا بالشكل السوي للمفهوم؟

"على هذا فإن الوسطيّة التي يدّعيها بعض فقهاء العصر كالقرضاوي لا صلّة لها بمفهوم التسامح والاعتدال المتداول في الحقل الدلالي لأدبيات عصرنا الراهن والحديث فكريا وثقافيا وسياسيا بل هي "وسطية" الوقوف في الوسط بين الاعتدال والتطرّف أي النوسان بينهما وفق المصلحة التكتيكية و(الأهواء والمصالح السياسيّة)، مصلحة اللّحظة الراهنة والموقع فيتخطّر بين الضفتين فإذا كان وضع الحركة الإسلاميّة لا يسمح باستخدام سيف العنف فإنه يلجأ إلى استخدام سيف التسامح وهو في كلتا الحالتين لا يتجاوز "حدّ مفهوم السيف" فكلاهما غزو في الخطاب الفقهي العنف والتسامح أو الحب والسيف بحسب حسن البنا، فإذا كان الوضع يتطلّب التسامح فإن الأمر في غاية البساطة إذ ما علينا سوى أن ننبش في كيس التراث حتى نستحضر ما تيسر لنا من محفوظات مناسبة لحالة التسامح. ففي السنّة النبويّة يواجهونك مباشرة بذلك الأعرابي الذي بال في المسجد وهمّ به أصحاب النبيّ ليمنعوه فأمرهم أن لا يقطعوا عليه بولته وأن يصبوا عليه ذنوبا من ماء قائلا: "إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسرين."

 تواجهك هذه الواقعة عشرات المرات في كتب القرضاوي (خطابنا الإسلامي في عصر العولمة ص 143) وآلاف المرات في كتب الفقه (ككلمات في الوسطية الإسلاميّة ومعالمها وكتابه الإسلام والعنف، نظرات تأصيليّة) التي تنقل عن بعضها لبعض حتى يكاد أن يكون هذا الأعرابي أشهر "بوّال" في التاريخ."[7] وكأن بهذه الحادثة قد مثلت أفضل أنواع التسامح وأشرفها في التاريخ الإسلامي. أمام هذه المغالطات لابد لنا اليوم من أن نعي جيد أنّ علم الأصول يستدعي الانطلاق من القرآن نحو السنة وليس العكس لتقديم وعي جديد للحقيقة الدينية وللأسس الأخلاقيّة الإسلامية.

 afaf2

3. أسس التسامح وأثرها في التعايش الإنساني:

التسامح سلم من الدرجات المتنوعة يبدأ من الديني ثم السياسي ليتشكل في مظهر اجتماعي بين الأفراد والمجموعات والأمم التي تحترم حقوق المواطنة وتضمن سيادة القانون والإعتراف بالتعددية المرجعيّة من أجل إعادة تشكيل قيم التفاضل بينها إن وجد خلل فيها حسبما تقتضيه الحاجة الإنسانيّة لمبدأ التعايش في الوجود، ولأن الوعي بسياسة العنف التي هي سبيل لخلق اللاتسامح والتعصّب القبلي أو السياسي في المجتمع ليكون العنف كعقل وخطاب وثقافة داخل مجتمع ما.

 لهذا قدّم الغرباوي طرحا جديدا للمسألة يقوم على ضرورة التحوّل في مفاهيم القيّم وطرح التفكير كبديل للتكفير، بوضع استفهامات ضرورية لتجاوز هذه الأحداث والظواهر التي فتكت بالمجتمعات الإنسانيّة. هو سؤال كيف نجتث ثقافة العنف؟ تكون بعدة أشكال منها: الولاء للوطن بمعنى الاخلاص الشامل. أما سؤال كيف يعاد تشكيل العقل الإنساني بشكل يرفض فيه العنف فإن جوابه يتطلب الحاجة إلى "منظومة قيميّة تحلّ محلّ النسق القيّمي القديم السائد". الذي ولّد خطر أن يتحول العنف إلى منهج في تفسير التاريخ وقراءة الأحداث وبذلك يتحوّل إلى عامل ضروري وأساسي في صناعة التاريخ وأسلوبا فريدا في حل الأزمات و تسوية الخلافات. وإنّ واجب المثقف النوعي وعلماء الأمة الأكفاء اليوم أن يولوا وجوههم تجاه البحث عن أصول العلاقات التي ترتبط الظواهر التاريخيّة للعنف بالتسامح وتجديد القراءات وتفسيرات لقيم الدين التي تشرع ممارسة العنف ضد الآخر.

لقد كشفت رؤية الغرباوي النقدية حجم المعاناة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية. مما استوجب في نظره تقديم قراءة متأنيّة وجذريّة لأسس التسامح السائدة في واقعنا العربي المتورّم .. قراءة مبنية متماسكة الجوانب تقوم على دراسة شاملة لتشكل قفزة نوعيّة في محاولة منه لإخراج المجتمع العربي الإسلامي من أزماته ونكباته المُتراكمة المتتاليّة. وهذه الموقف ليس بالجديد عليه إذ دعا في بحوثه ولقاءاته الصحفية المنشورة في المواقع والصحف الإلكترونية وبصفة خاصة كتابه الذي نتناوله بالشرح والتعليق في بعض مسائله إلى ضرورة فهم الظواهر التاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأنساق الفكريّة المتأزمة ومربكة لإستقرار اللأرضيّة العربيّة، كاشفا من خلاله محاولاته لتفسيرها والوقوف على أهم أسبابها وظروف تشكلها في الواقع والتراث محاولا قدر المستطاع تبيّن موطن الداء وخلق الترياق المناسب لمعالجتها معالجة شاملة بوسائل ومناهج قانونيّة دستوريّة شرعيّة بالمعنى السياسي لا بالمعنى الفقهي الشرعي وبما يتلائم مع الأعراف الاجتماعيّة العامّة والخاصة، التي لا تتعارض وسماحة قيّم الإسلام، لايجاد حلول لمشكلات حياة الإنسان والمجتمع العربي وانتشاله من سقط الواقع المتأزم الذي يعيشه.

كما دعا أيضا إلى ضرورة الإستفادة من التجارب البشريّة المتنوّعة عبر التاريخ، وتحري الموضوعيّة والمصداقيّة في البحث عن وسائط وأنساق جديدة بديلة ترفع من مستواه السلوكي في مستوى الكم والنوع، وهو ما سيساعد على تطوّر فكره الاجتماعي وتنمي شعوره الديني والمذهبي نحو أفق أشمل وأوسع هو أفق الكونيّة الأرحب لتزيد من نسب التعايش كأفراد مختلفين في مجتمع ورقعة جغرافية واحدة كان التاريخ عاملا في استمرارية تلك الوحدة التي يتوق اللإنسان إلى أن تكون أكثر صلابة واصرارا على اعتناقها وكسب ملكيتها. من خلال بلورة حديثة لتلك الأسس الرخوة وإعادة بنائها بانسجام وحذر لتساهم في خلق مجتمع أكثر تناغم وتعايش، يحتقر ماضيه في زواياه المظلمة ويداوي جراحه بعقاقير ملائمة لأورام زمانه ويلملم شتاته بهمَّة وعقلانيّة، ليتطلع بثبات نحو مستقبل أفضل وإنهاء موجبات العنف والاقصاء والهيمنة والقوّة المباشرة وغير المباشرة. لخلق تصوّر صحيح عن أسباب القريبة والبعيدة لظاهرة اللاتسامح.

 "فما يعيشه العالم العربي من انفجار لهوياته الفرعيّة وتشظيه بعناوين طائفية ومذهبية وقبلية وجهوية، هو نتاج طبيعي لبعض الخيارات السياسية والاجتماعية التي سادت في العالم العربي، وعملت عبر وسائل قهرية لتغييب حقيقة التعدديّة الموجودة في المنطقة العربيّة..."[8] "فالذي يفجر الكنائس في العراق أو مصر أو أي بلد عربي آخر، ليس هو الأجنبي، وإنما هو التيار العنفي – التكفيري الذي بدأ بالبروز في العالم العربي" وإن اختلفت حقيقة الأيادي التي تقف وراءه وتحركه نحو أهدافها العدوانيّة المرضيّة."[9] رغم أنّ البحث في الأسس الأولى للمناهج الثقافية والدينية التي خلقت هذه الظاهرة "الهجينة" وأقول هجينة لأنها لا ترتبط بأسس دينيّة عقيديّة صحيحة بل هي وليدة تفسيرات وتحليلات دينيّة تاريخيّة تساير السياسات التي كفلت مشروعيتها التي عملت في مشروعها على تغييب واقصاء ثنائية : "نحن وهم"

حقيقة لا مناص منها أنّ واقع المجتمعات العربيّة اليوم لا زال مفتقرا إلى المعرفة الدقيقة والواقعيّة لمصطلح أو مفردة التسامح رغم أنّها دُشِّنَت في مطلع هذا القرن في السجال الذي حصل بين فرح أنطون ومحمدعبده، في المعارك الفكريّة والسياسيّة التي تطالب اليوم وأكثر من أي وقت مضى بفتح باب الاجتهاد، في مجال دراسة الموروث الديني والثقافي، فهل نستطيع القول اليوم إنّ هذه المعركة التي لابد منها لم تعد قابلة للتأجيل أو التأخير أو محاولات الطمس والتغييب على العقل العربي؟ مع أنّ معطيات متعددة في الواقع العربي الراهن تقتضي منّا بلورة اجتهادات جديدة تمكِّننا من إعادة استثمار الدلالة الجامدة والسطحيّة السابقة بدلالة رمزيّة ومفتوحة للمفهوم؟

لكن يبقى السؤال الأهم: هل يوجد في عالمنا تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري أم أنّ غيابه اليوم يدعونا لتنظيم ندوات علميّة للتذكير بجوهر مبادئه في بعض السطور المكتوبة لتلقى في ندواتنا ومؤتمراتنا وملتقياتنا وتنسى أو تنتهي بانتهائها أم أنّ الوعي بخطورة الوضع العالمي اليوم تحتم علينا ضرورة مراجعة ذواتنا ومعاملاتنا تجاه أنفسنا وتجاه الأخر في نطاق مبادئنا الصحيحة التي وضعها لنا الإسلام الأول وأقصد بمصطلح الإسلام الأول الإسلام الذي دعا إليه سيد الخلق سيدنا محمّد صلّ الله عليه وسلّم وليس إسلام التأويلات والقراءات الذي تعيشه بعض الفئات المتطرفة دينيا في العراق وسوريا وليبيا والتي أحدثت في الأرض فسادا عميقا نسأل الله السلامة من شرّ ما يحدثون.

التسامح ومنابع اللاتسامح، الضد النوعي للاستبداد، تحديات العنف، وغيرها، بحوث جلها إنبثقت ضمن مشروع وهدف أعمق وأبعد هناك تخطيط واضح في الأفق تلحقه محاولات للتأسيس، هناك هدف أكبر وأسمى من المفكر العراقي ماجد الغرباوي وسعي حثيث وملموس لمشروع ثقافيّ حضاريّ مؤسس. أي أن هناك شيئا لا يستطيع القارئ معرفة ماهيته تحديداً، أكثر من كونه حتى يأخذ مكانه التربوي في الساحة الإجتماعية والوطنيّة ودوره الطبيعي في مجالس العلم وساحات الفكر والمعرفة ليساهم من قريب أو بعيد إن قليلا أو كثيرا في خلق تطوّر ثقافي جديد جميع المجالات الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة.

يتبع القسم الثاني

 afaf5