بأقلامهم (حول منجزه)

حكاية.. ماجد الغرباوي

إلتقيت بالدكتور عبدالجبار الرفاعي أواخر عام 2003 بعد سقوط نظام صدام، وغزو الأمريكان، قبل أن يحصل على الدكتوراه حينما عُرف بوصفه شيخ متفتح في الحوزة العلمية في قُم، وكنت فرحاً في التعرف به، فقد كانت مجلته "قضايا إسلامية" التي أنشأها مع الشيخ "مهدي العطار" صداها بين أوساط الإسلاميين قبل هذا التاريخ، وبعدها كان لمجلة "قضايا إسلامية مُعاصرة" التي ترأس تحريرها وأشرف عليها حضورها الفاعل في الأوساط الثقافية والأكاديمية العراقية.

كان للرفاعي وما يزال نشاطه المُلفت للإنتباه في النشر والكتابة وفي التعرف على شخصيات تمتلك رؤى نقدية وتجديدية لها تأثير وفاعلية في المشهد الفكري العام والمشهد الديني، بل وحتى الثقافي.

أصدر الرفاعي سلسلة كتاب "قضايا إسلامية مُعاصرة" وكان من ضمن كُتبه المُختارة كتاب "إشكالية التجديد" لماجد الغرباوي عام 2000م، ولم أكن قد سمعت عن هذا الكاتب من قبل، لتعتيم النظام على أغلب نتاج المُثقفين العراقيين المُعارضين في الغُربة، وبعد إطلاعي على كتابه هذا حاولت أن أعرف من هو هذا الكاتب، وبعد تقصٍ ليس بالطويل عرفت أنه رئيس تحرير سلسلة رواد الإصلاح التي صدر منها كتابه رقم (4) الشيخ النائيني مُنظّر الحركة الدستورية الصادرة عن مؤسسة الأعراف في عام 1999.

بعد تعرفي على الرفاعي،سألته عن الغرباوي، فتبين ليَ أنه من أقرب أصدقائه، بل هو صديق العمر، وهو من أبناء مدينته "قلعة سكر"، وقد عاشوا أيام الأفراح والأتراح معاً، ولربما يكونا هما تؤمان في الفكر.

مرت الأيام والسنون، وبعد تركي للنشر لأعوام في الصحف والمجلات الثقافية، نصحني أحد الأصدقاء المُقربين بضرورة نشر ما أكتب، وبعد تردد، لأنني لا أعتقد بجدوى الكتابة ولا أشعر بقيمة تأثيرها وفاعليتها بين وفي أوساط مجتمعاتنا، إلًا أنني رضخت لمطلبه، فنصحني بالنشر في صحيفة المُثقف التي تصدر عن مؤسسة المثقف في أستراليا بسدني، فأرسلت بعض المقالات لهذه الصحيفة وبمساعدة صديقي هذا (د.رائد جبار) تم نشرها في هذه الصحيفة، ولم أكن أعرف من هو المشرف على مؤسسة المثقف ولا رئيس تحرير الصحيفة، وبعد مدة من المُراسلة وفي حديث جانبي مع رئيس التحرير تبين ليَ أنه "ماجد الغرباوي" الذي أعرفه حق المعرفة ككاتب ومؤلف إسلامي له توجهاته النقدية التي أبان عنها في كتاباته الأولى، وهو صديق الرفاعي الذي أكن له كل الإحترام فكراً ومعرفةً، هو رئيس تحرير هذه الصحيفة الغراء.

كنت قبل ذلك أتحاور مع صديقي الأطيب "د.صائب عبدالحميد" المؤرخ المعروف عن كتابات وشخصية "ماجد الغرباوي"، فكان يُخبرني بحميمية العلاقة بينهما، وبمقدار ما يمتلكه الغرباوي من فائض الوعي النقدي، وهو ذات الأمر الذي أخبرني به الرفاعي.

وبرسائل عبر (الماسنجر)عرفته وعرفني وخبرته وخبرني، عرفت أنه مفكر لا يكل ولا يمل في البحث والتقصي عن الحقيقة وإن أخرجته عن بعض مُتبنياته العقائدية وفق ظن الساذجين ممن لم يعرفوه، وخبرته أنه ذو نفس زكية وروح صوفيه ألقها من ألق العارفين الذين تتجلى لهم المعرفة وفق تجليات الروح وتمظهرات العقل وفق الرؤية الهيجلية، فلا توجد حدود فاصلة بين تدين عقلي وآخر عرفاني "روحي" إلَا عبر تماهيهما مع الواقع، أي جعل الواقع روحاً ناطقة بتجليات الروح.

حوارتنا لها معنى وتجلٍ عبر توافق وتواصل يفصل الانطباع المُسبَق عن رفض وقبول. إنه حوار عن مُشتركات العقل الفلسفي بنزوعه المدني في قبول التعددية والإختلاف والتنوع الثقافي بوصفه من تمظهرات الوعي االمُختلف الرافض لمنطق "المُطابقة" و "التشابه" المُغاير للتوتاليتارية الدينية "الشمولية" بوجهها الإقصائي للكشف عن نزوع لاهوتي مُزيف، ليكتب "مدارات عقائدية" ينقد بها كل هذا الزيف الموروث من الماضي أو الذي يكتنف حاضرنا، في محاولة منه لتوصيف "تحديات العُنف" عبر إستنطاقه وتأويله للنصوص القرآنية، ومحاولة تفسيرها تفسيراً عصرياً ينقد الحركات الإسلامية "الراديكالية" ونقد فكرتي "الحاكمية" عند الأخوان المسلمين، و "ولاية الفقيه" عند أحزاب الإسلام الشيعي، وكلاهما وقعا ضحية رثاثة التفكير الديني، وخطاب التكفير، وإساءة فهم مفهوم الشهادة، والتعبئة المُستمرة ضد الغرب وعدم الفصل بين السياسة الغربية الأنكلوسكسونية وبين الحضارة الأنكلوسكسونية بكل ما فيها من قيمة أخلاقية وعلمية وتقنية. فضلاً عن الغباء المُفرط والجهل والأمية، والخلط بين المُقدس وغير المُقدس، وكراهية الحياة، وهجاء الدُنيا، وتمجيد الموت، ونسيانها وتغييبها عبر الطاعة لرجل الدين حتى وإن كان جهلاً لا يفقه من أمور الدين سوى التباكي وإتقان الإيقاع والنغم الحزين في البُكاء على الحُسين.

في حواراته فيما أسماه "مدارات عقائدية" إخترق الخطوط الحُمر، لينقر على ناقوس التطرف الديني، يُهدي كتابه إلى كل من علمه "أن يكون مُحباً لكُل الأديان والطوائف".

تجاوز الغرباوي في كتابه هذا كل "الخطوط الحُمر" فعلاً لا تجوزاً، فقد تناول بالنقد مفهوم الإنتظار في الفكر الشيعي، ومفهوم الخلاص، والشفاعة، ونقد فكرة "ولاية الفقيه" والربط بين الولاية والإستبداد، ونقد فكرة الخلافة التكوينية في الفكر الشيعي الذي خلص إلى أن الكون كله وضع تحت تصرف النبي والأئمة، رغم أنهم بشر، والنبي ذاته يقول "ما أنا إلَا بشر مثلكم"، والإمام في الفكر الشيعي يؤثر في الكون ويُمكنه التصرف به بإعتباره أحد علله.

لذلك يذهب الغرباوي إلى القول:" لا يُمكننا التصديق بمفاد أي رواية تُخالف القرآن والعقل أو الصحيح من السيرة بدليل قطعي السند والدلالة. كما أن "المُمتع عقلاً، لا يُحتمل وقوعه خارجاً، سواء كان الإمتناع ذاتياً، كشريك الباري، أو لعدم تحقق شروطه، كإقتراب النار من الورقة شرط لإحتراقها، أو لطبيعة الشيء وتكوينه، كامتناع صدور المُعجزات والخوارق الكونية على يد الإنسان حسب طبيعة تكوينه، وما أكد القرآن وقوعه، يُقتصر فيه على مورده". فالإنسان بطبيعته لا يُمكنه التصرف بالكون خارج نظامه القانوني، وهي قوانين ذاتية، وليست خارجية، وتختلف ذاتها عن الإرادة البشرية. فإرادة الإنسان ليست قانوناً كقانون العلية والسببية الذي هو ركيزة القوانين وترابطها الذاتي مثلاً.

هو ذا الغرباوي يستفز العقل السكوني والغيبي "المُستقيل" ليكشف عن عوراته وهناته الضامرة في طبيعة وجوده.

إنني فرح في التحاور والصداقة مع عقل "إشكالي" مثل عقل "ماجد الغرباوي"، وهو إضافة معرفية ليَ ولكل من يبتغي الخلاص من بديهيات العقل التقديسي والطقوسي.

في حواراته المنشورة في صحيفة "المثقف" تجاوز التابو، وإخترق "الخطوط الحمراء" و "الصفراء" فاختط بقلمه إن لم يكن بروحه بياضاً ينثره على بقايا الألم في عراقنا الملتهب بصرعات التمذهب، ليخترق شفق الصراع المذهبي وغلوّنا الراكس في غياهب عقلنا السكوني "المُستقيل"، سُنياً كان أم شيعياً، ليستنطق المسكوت عنه، كي يُخرجه أقحواناً في لوحة التشكيل الفسيفسائي العراقي، ليُعيد إنتاج الهوية الوطنية المفقودة في حواراتنا المتأزمة.  

 

د. علي المرهج  - استاذ فلسفة

جامعة المستنصرية - بغداد

.....................

للاطلاع على صفحة ماجد الغرباوي في المثقف

http://www.almothaqaf.com/k/majedalgharbawi