بأقلامهم (حول منجزه)

بتول فاروق: ماجد الغرباوي.. صانع الأسئلة والمحاور المعرفية الجديدة

لم ألتقيه ولم أحاوره وجها لوجه ولاعبر الهاتف، لكنني اشعر انه كان يحاورني على الدوام، بطريقة شفيفة وملهمة، يعيش خارج مدننا المتعبة وخارج أوطاننا التي سكنها التكلس المعرفي وان كانت تنتج كتبا ودراسات كثيرة نسبيا، البعيد بالوطن والقريب من هموم ابناء جلدته وأبناء وطنه، قرأت اسمه بالصدفة في كتابه (المرأة والقرآن)، الذي كان كتابا حواريا بين د. ماجدة غضبان وبينه، في قضية المرأة في القرآن الكريم، اقتنيته من احد معارض الكتب التي تقام في النجف قبل عشر سنوات تقريبا، كنت ومازلت أهتم بالكتابات التي تناقش وضعية المرأة في القرآن والحديث والفقه لمجال اختصاصي الفقهي ولكوني ارأس جمعية تعنى بقضايا المرأة، قرأته في يوم واحد، ان أهم ماوجدته في الكتاب أنه يعترف بوجود مشكلة في فهم قضية المرأة عند المسلمين، وأن ليس كل ماهو مطروح في الكتب التقليدية والعرف السائد هو يمثل حقيقة القرآن الكريم.

ثم فيما بعد اكتشفته من خلال منبره الثقافي الذي كان قد أسسه: المثقف، فكان منبرا لنا جميعا، من كل مشاربنا المتصارعة في بلادنا، كان الفضاء المتعالي الذي يليق بالمثقف الناطق والكاتب بالعربية، هذه المنبر لوحده يكشف عن نزعته التجديدية وانشغاله في خلق جو ثقافي محايد للكتّاب العرب. نشرتُ مقالات عدة فيه، فكانت مراسلاتي الرسمية عبر ايميل الموقع قد كشفت لي عن روح صاحبها الطافحة بالمودة والمحبة، تفيض على المتعاملين معه والناشرين في موقعه الالكتروني، فكان يشعرنا بأننا أصحاب الفضل على الموقع وليس العكس.

ثم فيما بعد تابعته عبر صفحته في الفيسبوك، فاكتشفت كاتبا ومحاورا من الطراز الرفيع في نقد التراث، وضرورة التعامل الوسطي معه، فهو لايركن التراث على جنب مهملا له بالمطلق، لكنه لايقدسه كما لو كان معصوما كله .

كتبه العديدة التي تعاقبت كشفت عن ولع معرفي نقدي بالتراث الاسلامي الذي صار متصلبا وجامدا وغير قادر على تقديم الحلول للجيل المعاصر ولايتماشى مع تطلعات أبناء الحضارة المعاصرة . كان يحرث في حقل ملغّم، يقدم رؤى حديثة ومتسامحة تتسم بالوسطية، ودعوة الى ربط الشريعة بالأخلاق، ومقتضيات الحكمة، بحثا عن منهج جديد يحل الإشكالية المعاصرة التي ترى ان الفقه الإسلامي لم يعد يواكب العصر ولايقدم حلولا ناجعة، فلماذا تبدو هذه الاحكام بعيدة عن الأخلاق؟ فكيف نبرر منهج العلاقة مع الآخر المخالف لنا في الدين؟ كيف تساق أحكام الردة واحكام غير المسلم اليوم؟

لماذا هي متعالية على النقد، ولماذا تقذف هكذا في وجوه المعاصرين دون ان تراعي الأخلاق في قضايا المرأة أيضا وجعلها تبدو كما لو كانت أداة لاروح فيها بيد هذه الأحكام القاسية التي تنتقص من كرامتها وإنسانيتها، مستبعدين كون الفقه جهدا بشريا قابلا لإعادة القراءة والإجتهاد، كما ان التجربة الدينية لاتعني حصرية الفقه هذا، بل هي تجربة روحية فردية خاضعة لعلاقة الإنسان وخالقه، فلايمكن سلب التدين عن الإنسان الذي لايطبق الشريعة كما يراها الفقهاء التقليديون.

إن إعادة الإجتهاد مسألة حيوية وضرورية في يومنا هذا، لابد ان تتظافر الجهود الكثيرة في إنجازها .

هو من الأصوات التي لاتجد صداها الافي قلوب عاشقة للحق الناصع غير المرمّز، صوت يكره الزيف والتصنع والمباهاة الفارغة . هو قلم يصدح بالجديد، لكن البيئة العربية بيئة غير قارئة وغير حاضنة للفكر المخالف للسائد، لايتلقف الجديد من الأفكار فتظل عالقة في الكتب، مع أن خلاص المجتمعات العربية يكمن في مثل هذه الأوراق وهذه السطور المكتوبة عبر تجربة غنية وقراءات فكرية كثيرة ناضجة .

تكشف كتابات الغرباوي إطلاعا واسعا على مختلف التراث الإسلامي الفقهي والقرآني والكلامي والفلسفي، مع إمتلاكه الحس النقدي المطلوب أثناء الكتابة والإطلاع.

يبدو أن الصمت يرافقه من خلال صورته التي تظهره صامتا بابتسامة هادئة، لكنه صاخب الفكر يحدثنا بغزارة منقطعة النظير في عمقها وسلاستها في آن واحد. انه يحمل قلما سهلا ممتنعا، مع ثقافة غزيرة مصبوبة بقوالب لغوية غير معقدة، ليستطيع ان ينهل من فكره كل طالب علم ومعرفة وكل متطلع ليفهم هذا التراث الذي مازال مؤثرا في حياتنا الى اليوم، وهذا مايؤرق الباحث الغرباوي؛ خطورة هذا التراث غير المنقح الذي أمكنه ان يشظّي العالم وجعل المسلمين يبدون كأرهابيين يخشاهم العالم الحر . إن تشعب القضايا بين المصالح السياسية والجماعات الإرهابية المسلمة جعلت من هذا الدين يبدو للآخرين دينا إرهابيا يدعو للقتل وانتهاك حياة الأبرياء ولايحترم حقوق الإنسان، ولذا يقع على عاتق المفكرين المسلمين وأصحاب القلم الواعي منهم؛ أن ينبروا للدفاع عما آمنوا به من دين يدعو للتسامح واحترام الإنسان بما هو إنسان . وهذا ماعمله السيد الباحث ماجد الغرباوي بوعي وثقة وحرص فوق العادة .

نسأل الباري تعالى ان يديم له الصحة والعافية ليتحف العالم الإسلامي بجديد علمه وفكره النير .

***

د بتول فاروق / استاذة الدراسات العليا في كلية الفقه / جامعة الكوفة

١٧/ ٢ / ٢٠٢٤ 

.................................

* مشاركة (6) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10