تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

بأقلامهم (حول منجزه)

انعام كمونة: العقل النقدي وسلطة التراث في المنجز الفكري لماجد الغرباوي

(نحن بحاجة إلى وعي يمزّق جدار الصمت، يفضح الكذب والتزوير، ويقول الحقيقة بصوت مرتفع).. الباحث ماجد الغرباوي

***

الباحث والمفكر الديني ماجد الغرباوي، شخصية فكرية معروفة. اصدر عددا من المؤلفات، تناول فيها قضايا فلسفية وفكرية وعقدية، ساعيا بمشروعه الى تحرير العقل من بنيته الأسطورية، وإعادة فهم الدين على أساس مركزية الإنسان في الحياة. كما جاء في سيرته. وأيضا يسعى جادا إلى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي. ويؤكد (ان فهم قضايا العصرمرتهنة بتجليات العقل الواعي). والغرباوي هو مؤسس مؤسسة وصحيف المثقف والمشرف عليهما. كتب عن منجزة عدد كبير من الكتاب، نشرت في المثقف وفي مواقع أخرى.

يسعى المفكر الإسلامي دائما الى تقديم اجابات، عن أسئلة تراودنا، حول قضايا عقائدية وميتافيزيقية. عن الحياة والموت وما بعد الموت، وعلاقة كل هذا ببعثة الرسل والأنبياء. أو ما يراودنا من شكوك حول وجود الله تعالى، وحقيقة اليوم الآخر. وكذلك اسئلة عن العدل الإلهي، ومعنى العذاب والخلود في النار. اضافة الى قضايا تخص حياتنا حول التسامح مع الآخرين، واحترام خصوصياتهم وعقائدهم. وما هو السبيل للعيش بسلام مهما اختلفت الاديان والقوميات.

نجد أجوبة الباحث الغرباوي على أسئلتنا وشكوكنا، واضحة وجلية، تزيل هاجس الحيرة وتداعيات الشك، فهو مفكر اتسمت كتاباته بالشفافية والوضوح، وأسلوب رائق بانسياب سلس وبسيط .

تناول الغرباوي قضايا مهمة كثيرة، وكانت له آراء يتفرد بها ربما حول تلك القضايا. كل ذلك ضمن مشروعه التنويري، فهو عندما يدعو لمراجعة التراث ونقد النصوص، لمواكبة الحاضر، يبرر ذلك بقوله: (إن نقد النص هو تعبير آخر عن سؤال الحقيقة، وهذه إحدى مهام الكتاب[1] وهو يلاحق مرجعيات التفكير الديني بحثا عن مضمراتها، لفرز ما هو نسبي، وفضح مراوغات النص وتقنياته في وجود الحقيقة، لاستعادة الوعي وإعادة تشكيل العقل وفق نظام معرفي يرتكز للدليل والبرهان في معارفة وعلومه، من أجل نهضة حضارية نستعيد بها إنسانيتنا، ونستنشق رحيق الحرية، بعيدا عن سطوة التراث، وأسطرة الرموز الدينية)[2]. فالغرباوي في مراجعاته النقدية للتراث لا يتوانى عن الغوص عميقا من أجل الوصول الى الحقيقة، والكشف عن الزيف في قضايا نعتبرها مسلمات، ولكنها ليست ذلك بعد البحث والتنقيب كما يفيد كلام الغرباوي:  لست مع متاهات التفكيك، غير أني أسعى لأقصى ممكنات الغوص في أعماق الظواهر الاجتماعية والدينية لإدراك الحقيقة، وتقديم قراءة موضوعية، تنأى عن المراكمة فوق ركام الخراب المعرفي ودوامة التخلّف. وأطمح لرؤية مغايرة وفق مبادئ عقلية متحررة من سطوة الخرافة واللامعقول وأوهام الحقيقة، ورهاب النص وقدسيته، من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأي نهوض حضاري، يساهم في ترسيخ قيم الحرية والتسامح والعدالة، في إطار مجتمع مدني خالٍ من العنف والتنابذ والاحتراب[3].

ولم تقتصر آراء الغرباوي على التراث ومراجعاته النقدية بل أن كتاباته حول قضايا أخرى كالمرأة والتجديد والتنوير كثيرة ومتعددة، وله حول التسامح كتاب مشهور بعنوان: التسامح ومنابع اللاتسامج... فرص التعايش بين الأديان والثقافات، كُتبت عنه مراجعات كثيرة. وهو من دعاة التسامح، يرفض كل قيم اللاتسامح والعداء والكراهية ونبذ الآخر، ويعتز بالتسامح أنه قيمة إنسانية ودينية نحن بحاجة ماسة له، خاصة الدولة المتعددة دينيا وثقافيا وقوميا. يؤكد في كلامه: (رغم ان التسامح مفهوم اسلامي غني في دلالاته غير ان القراءات المبتسرة للدين ونصوص الذكر الحكيم صورّت التسامح مخلوقا لا اسلاميا، او مفهوما مستوردا للاطاحة بقيم الدين الحنيف. وهي قراءات تشبث بها دعاة العنف والاحتراب، ممن اختزلوا القرآن في بضع آيات نزلت في ظل ظرف خاص، بينما أهملوا مصفوفات قرآنية كثيرة تدعو الى المحبة والوئام ونبذ العنف والدعوة الى الاسلام بالحكمة والموعظة الحسنة)[4].

- لم يكتف الغرباوي بموضوع التسامح، بل تناول منابع اللاتسامح في كتاب التسامح، وأيضا سلط الضوء، تحليلا ونقدا، على التطرف الديني وتوظيف الدين لمصالح أيديولوجية وسياسية وحزبية وحتى شخصية. والتطرف معضلة فكرية، جاءت نتيجة تراكمات الغلو العقائدي والفكري، والتعصب المقيت، تحت عناوين دينية، ما هي سوى مغالطات وقراءات خاطئة للنصوص الدينية. وهيمنة العقل التراثي، بمفاهيمه وتفسيراته للنصوص المقدسة وفق ولاءات عقدية. وقبليات طائفية. لذلك طالما حذر الغرباوي من القراءة الايديولوجية للتراث، وطالب بقراءات عقلانية موضوعية: (القراءة الأحادية للتراث، ضرب من الخداع، حينما تزور الحقائق، وتشوه الواقع، وتعكس لك صورة مثالية عن تاريخك ومقدساتك..هدم أسوار القداسة ونقد الموروث أول خطوات النهوض الحضاري وأثبات عدم تسويفها لمصالح فكرية أخرى). فهناك ضرورة لتقديم قراءات جديدة للتراث والعقل التراثي، ونقدهما لاكتشاف الحقيقة، وبيان ما هو زمني محدد بحدوده الزكانية وما هو مطلف، والتمييز بين ما هو بشري وما هو إلهي، كي لا تلبس الامور ويختلط المقدس بغيره، فهناك نظرة مقدسة للتراث لا تسمح بمراجعته فضلا عن نقده. خاصة القضايا العقائدية التي يبدي فيها الغرباوي حساسية فائقة، لخطورة ما يترتب عليها من التزامات دينية، ووعود أخروية، تغري المتلقي، فيندفع في تبني كل شيء، لا فرق عنده بين الصحيح والمزور، لا عمدا بل لأنه يثق برجل الدين، على صعيد الايمان يقول: (الإيمان يتأثر بمناشئه وصدقية العقيدة ترتهن لأدلتها وبراهينها، وبينهما بون كبير، فربما مناشئه مجرد أوهام الحقيقة أو مصفوفة خرافات لا دليل عليها سوى الوهم بتأثيره النفسي، وهذا مبرر موضوعي يسمح بنقدها ومراجعتها للكشف عن تاريخيتها وزيفها وحجم الوهم والمؤثرات الآيديولوجية والطائفية في صياغتها فيُخطئ من يؤمن بثبات العقيدة، أو ينفي تطورها وتاريخيتها)[5]. فهو يعالج في نقده للتراث قضايا ساهمت في انحراف العقيدة، وشكلت خطرا على مستقبل الدين والمسلمين، عندما استباحوا قتل الآخر، وسفك دماء الناس الابرياء. وساهموا في زرع الفرقة والتنابذ. والأعتداء على رموز ومقدسات الآخرين، والتجاوز أللا أخلاقي على حياتهم وخصوصياتهم، مما زرع الكراهية والضغينة بين الشعوب، خاصة بين المذاهب والطوائف الدينية في البلدان العربية، وهذا ما حدث في الفترة الأخيرة من اغتصاب قرى ومدن وتدمير معالم تاريخية تراثية، وقتل الأبرياء، والعُزل وسبي العوائل الآمنة في شمال العراق. لهذا يؤكد في كتاباته على نقد النص لاكتشاف حقيقته: (المطلوب فهم النص / الحكم، ضمن سياقه التاريخي، بعيداً عن التقديس. أو افتراض وجود ميتافيزيقي للحكم يحول دون إدارك ملاكاته. فربَ ظرف ما وراء صدوره، يمنع إطلاقه أو تعميمه. أو كان ثمة سبب لصدوره وقد انتفى موضوعه، فيفقد النص / الحكم فعليته. وما لم يؤخذ السياق في فهم النص تتغير جملة من الأحكام كالموقف الشرعي من الآخر وفقاً لفتاوى الفقهاء. والكلام عن النص الديني وخصوص النصوص التشريعية)[6].

ويراهن الغرباوي كثيرا على الوعي وسيلة لفهم الواقع، وتشخيص الأخطاء، دون خوف أو تردد، من اجل اكتشاف الحقيقة، وتشخيص الزيف والعودة الى قيم الدين والقيم الانسانية، وعليه نحن (بحاجة الى وعي يمزق جدار الصمت ويفضح الكتب والتزويرويقول الحقيقة بصوت مرتفع).

متمنية لكم الاستاذ القدير ماجد الغرباوي استمرار النجاح والتألق الفكري.

***

إنعام كمونة

......................

[1] - يقصد الباحث كتابه: النص وسؤال الحقيقة.

[2] - الغرباوي، ماجد، النص وسؤال الحقيقة.. نقد مرجعيات الفكر الديني، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2018م، ص 9.

[3] - المصدر نفسه

[4] - أنظر مقدمة الطبعة الأولى من كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح، فرص التعايش ين الأديان والثقافات، مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، 2006م، ص 5.

[5] - مدارات عقائدية ساخنة، حوار طارق الكناني مع ماجد الغرباوي، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، ط2، 20019، ص 22.

[6] - الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في الترشيع.. نحو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – استراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م، ص 309.

 .......................................

* مشاركة (37) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10