أقلام حرة

شُذُوذُ الخُلَفَاءِ .. سًطُورٌ غَامِضَةٌ مِن تَارِيخِ الدَّوْلَةِ الإسْلامِيَّةِ

بليغ حمدي اسماعيللعل المستقرئ لهذا العنوان سيحمل بعض مشاعر الغضب والكراهية للموضوع أولاً، ثم لكاتبه بعد ذلك؛ لأنه سيظن للوهلة الأولى أنني سأتحدث عن الخلفاء الراشدين الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم أجمعين)، وهم في الأساس بشر يصيبون ويخطئون، لكني لا ولن أتعرض لهم بمقالي هذا، فالسطور القادمة ستقتصر على الحديث عن مثالب بعض الخلفاء في الدولة الإسلامية الذين حادوا عن طريق الإسلام المستقيم، فضلوا وفسدوا وأفسدوا، وكانوا أضل الناس حكماً وخلافةً وفقهاً وعملاً.

ولا أكاد أجزم أن معظم خلفاء الدولة الإسلامية تحديداً في القرن الرابع الهجري قد أخطأوا التقدير في إدارة الأمصار الإسلامية، وقد يظن القارئ أن تعرضنا لبعض أوجه القصور لدى هؤلاء الخلفاء لا يمت بصلة إلى واقعنا الحالي، لكني أرى ما صنعه هؤلاء الخلفاء هو التفسير المنطقي لشهوة الصمت والركود التي نحياها في مجتمعاتنا العربية.

ولعل القرن الرابع الهجري من أخصب قرون الخلافة الإسلامية جدلاً وإثارة، لا في أحداثها السياسية والدينية والفنية فقط، بل والاجتماعية أيضاً، فقد شهد هذا القرن تحولات خطيرة وجذرية في بنية الطبقة الاجتماعية وظهور حرف وصناعات جديدة ظهرت إرضاءً لأمزجة وهوس بعض الخلفاء.

ومن هؤلاء الخلفاء الخليفة المقتدر، وهو جعفر بن المعتضد الذي تولى الخلافة وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره، وحينما تم اختياره قيل عنه: هو صبي لا يدري أين هو وعامة سروره أن يصرف من المكتب. وأول ما فعله هذا الصبي هو ذبحه لأحد القضاة لأنه أطاع ضميره حين قالوا له: تبايع للمقتدر، فقال: هو صبي ولا تجوز المبايعة له.

ولأن الخليفة الإسلامي صبي صغير تحكمت فيه أمه ـ وهي امرأة رومية غير عربية ـ وفي دولته وفي مصير الخلافة الإسلامية كلها، والتجربة التاريخية أثبتت أن كثيراً من النزاعات السياسية في الدولة الإسلامية كان مصدرها أم الخليفة. فكانت تولي وتعزل وتسجن، والخليفة في غفلة من أمره .ولقد لبث هذا الخليفة على عرش خلافة الدولة الإسلامية العظيمة زهاء خمسة وعشرين عاماً تحت جناحي أمه، والأدهش أنه لم يخرج مع جيشه إلا مرة واحدة قتل فيها، ويعلل المؤرخون هذا إلى خوف أمه عليه من الخطر، كما أنه كان كثير الشراب. وأظنك عزيزي القارئ تتعجل نهايته ومصيره، فقد قامت الثورات ضده وضد خلافته التي لا تفيق، حتى ذبح بالسيف، وسلبت ثيابه وترك مكشوف العورة، إلى أن مر رجل من الأكرة به فستر عورته ببعض الحشائش.

ولأن الشعوب العربية مصابة بفقدان الذاكرة المستدام، ولوا من بعده أخاه القاهر، وبالطبع هم لم يولوه الحكم، بل سار إليه طوعاً أي بالفطرة، وكان سبب توليه الحكم أي منطق السدة أنه رجل طاعن في السن. ويكفينا فخراً وعجباً ودهشة أن يكون مبرر أجدادنا في تولي الرجال الحكم هو معيار السن والعمر. المهم أن القاهر كان أهوج، وشديد الإقدام على سفك الدماء من المسلمين والأقباط واليهود على السواء، محباً للمال لا لإنفاقه على فقراء الدولة الإسلامية بل لتبذيره وإنفاقه على المعاصي وقبائح الذنوب، وتخيل أن مؤرخي عصره كانوا يصفوه بأنه غير مفكر في عواقب الأمور، فمن الطبيعي جداً أن تسير خلافته إلى زوال قبيح، وكانت نهايته خلعه وسمل عينيه.

وأخيراً يجئ ذكر الحاكم بأمر الله، وهو شخصية نادرة متمايزة، ربما نراها في كثير من الحكام والملوك، وهو رجل غريب الأطوار، يجلس طويلاً في الظلمة ويوقد الشمع نهاراً، وأمر بقتل ما في مصر من الكلاب،لأنها كانت تنبح بالليل، فربما ظن الخليفة أن الكلاب لا تنبح إلا نهاراً، ومن الأمور الغريبة أنه إذا عين قائداً له مثل عين الخادم قطع يده،ثم قطع لسانه، ومع هذا أغدق عليه بالعطايا والأموال والهدايا.

إن ما ذكرناه من أمثلة لشذوذ بعض الخلفاء ليس نتفاً من التاريخ دون قصد أو علة، إنما جعل التاريخ والماضي أساساً للحاضر والمستقبل، والتاريخ ليس حكراً على رجاله وأساتذته ومقدمي البرامج الفضائية الفراغية فقط، فالتاريخ هو علم الشارع، وفقه العوام نستقي منه عبراً ودروساً لا تنقضي ولا تنفد. وعن حكايا هؤلاء الخلفاء مع أهل الذمة قصص ونوادر وطرائف، وحديث يأتي.

أما الخليفة عضد الدولة، فقد جسد صورة السيد الحاكم تجسيداً حقيقياً دون زيف، وهذا الخليفة أول من لقب بشاهنشاه أي ملك الملوك، وسنرى لاحقاً أنه يبدو مغرماً بمنطق أول من أنشأ، وأول من استخدم واستعمل، وأول من عين، وأول من أقام. ومما اتسم به هذا الخليفة الذي يطلق عليه مؤرخو عصره لقب السلطان، أنه كان حاكماً قاسياً، وما يدل على هذا أنه أول من استعمل الأفيال في القضاء على خصومه، وكانت الضحية الأولى بهذا السلاح الجديد وزيره ابن بقية.

وما بالك برجال بلغوا من الرهبة والخوف من بطش عضد الدولة فيقتلون أنفسهم بأيديهم، مثل ما فعله وزيره المطهر بن عبد الله الذي خرج من مدينة السلام لطلب أحد الخارجين على عضد الدولة، فالتبس عليه الأمر، وخاف تغير عضد الدولة عليه فقتل نفسه بقطع أوردته. وكان الوزير المطهر معروفاً بشراسته، وخبث أخلاقه، وسوء الفكر، لكن كل هذا هذه الصفات لم تشفع خوفه من عضد الدولة.

ومن نوادره أنه شغل بجارية حسناء، جميلة المشهد والمنظر، حتى كاد ينصرف عن تدبير أمور دولته، فأمر بإغراقها. واستطاع بفضل دهائه أن يوسع نطاق الجاسوسية في عصره، حتى قيل عنه أن أخبار الدنيا كلها عند قدميه، فكان يضع العيون لتأتيه الأخبار أولاً بأول حتى أن رجلاً من أهل مصر شتمه يوماً في مصر، فأرسل من يأتي به حتى أوقفه بين يديه ووبخه بما قال، فاحترز الناس في كلامهم حتى مع نسائهم وغلمانهم, وسرق غلام له بطيخة من أحد الفلاحين فضرب غلامه بالسيف فقطعه نصفين.

وبالتأكيد بفضل قوة نظامه التجسسي، وبلغتنا المعاصرة جهاز المخابرات العامة القضاء على اللصوص، وقطاع الطرق، ويحكى أنه دس على اللصوص في إحدى القوافل بغلاً يحمل حلوى ممتزجة بالسم، فأكلوا منها فهلكوا. وما يكفيه شرفاً أنه بنظامه الأمني الصارم استطاع أن يرفع ويمنع الإتاوة والجباية عن قوافل الحجاج.

ولأنه لا يوجد رجل مخرب بطبيعته، أو فاسد برمته، عمل على تحويل الخرابات المنتشرة ببغداد إلى حدائق مزهرة، بعد أن كانت مأوى مستداماً للكلاب والأقذار، ولأن المثل السائر يقول بأن الحلو لا يكتمل، فبرغم تجميله لشوارع بغداد إلا أنه كان كثير الازدراء لأهل بغداد حتى قال يوماً: ما وقعت عيني في هذا البلد على أحد يستحق اسم الفضل.

ويشير المؤرخون إلى أن عضد الدولة لم يكن أباً لرعيته، بل ظل نموذجاً للحاكم الغريب الأجنبي عنهم، وهو على حد وصف آدم متز كالراعي يحسن العناية بغنمه لينتفع منها بأكبر نصيب. وقد أحدث عضد الدولة في منصب الوزارة شيئين لم يكونا قبله، أولهما أنه اتخذ وزيرين معا (رئيس الوزارة بلغتنا المعاصرة)، والثاني أن أحد هذين الوزيرين وهو ابن منصور كان نصرانياً، وطبقاً للمثل الشعبي السائر المركب اللي فيها رئيسين بتغرق، فلم يكونا على وفاق أبداً، وكان كل واحد منهما يدبر المكائد لصاحبه.

ومن نوادر أيامه أنه قدم رجل إلى بغداد ومعه عقد يساوي ألف دينار، فأراد أن يبيعه فلم يتفق . فجاء إلى عطار موصوف بالخير والديانة، فأودع العقد عنده، وخرج حاجاً . ثم عاد إلى العطار فسلم عليه، فقال : من أنت ! ومن يعرفك ؟ فقال : أنا صاحب العقد . فلما كلمه رفسه وألقاه عن دكانه، فاجتمع الناس وقالوا : ويلك ! هذا رجل صالح، فما وجدت رجلاً تكذب عليه إلا هذا ! .

فتحير الحاج، وتردد عليه، فما زادوه إلا شتماً وضرباً، فقيل له : لو ذهبت إلى عضد الدولة لحصل لك من فراسته خيراً. فكتب قصته في رقعة ودفعها إلى عضد الدولة، فقال : ما شأنك ؟ فقص عليه القصة . فقال : اذهب غداً واجلس على دكان العطار ثلاثة أيام حتى أمرّ عليك في اليوم الرابع، فأقف واسلم عليك فلا ترد علي السلام، فإذا انصرفت فأعد عليه ذكر العقد ثم أعلمني بما يقول لك، ففعل الحاج ذلك.

فلما كان اليوم الرابع، جاء عضد الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الحاج وقف، وقال : سلام عليكم،فقال الحاج : وعليكم السلام . فقال : يا أخي تقدم من العراق ولا تأتينا، ولا تعرض علينا حوائجك ! فقال : ما اتفق هذا. ولم يزد على ذلك شيئاً، هذا والعسكر واقف بكماله، فاندهش العطار، وأيقن بالموت . فلما انصرف عضد الدولة، التفت العطار إلى الحاج، وقال له : يا أخي متى أودعتني هذا العقد ! وفي أي شيء ملفوف ؟ فذكرني لعلي أتذكر. فقال : من صفته كذا وكذا .

فقام وفتش، ثم فتح جراباً واخرج منه العقد . وقال : الله اعلم إنني كنت ناسياً، ولو لم تذكرني ما تذكرت . فأخذ الحاج عقده ومضى إلى عضد الدولة، فأعلمه، فبعث به مع الحاجب إلى دكان العطار، فعلقه على عنقه، وصلبه على باب دكانه ونودي عليه : هذا جزاء من استودع فجحد، ثم أخذ الحاج عقده ومضى إلى بلاده .

ومن غرائب قدر هذا الخليفة الذي استطاع أن يوحد بلاد العراق وفارس تحت حكمه، أنه أصيب بالصرع، حتى كان يصرخ في مرض موته طالباً الرحمة من الله، وظل يقرأ قوله تعالي (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) . وظل يرددها وهو يبكي حتى مات على هذه الحالة.

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

 

 

في المثقف اليوم