أقلام حرة

قَلِيلٌ مِن الاعْتِذَارِ خَشْيَةَ الاسْتِبْدَالِ

بليغ حمدي اسماعيلهذه الدنيا لا يمكن توصيفها سوى بأنها ثمة رموز غير استثنائية، يمر بها المرء منا في محاولة لفهمها وفك تلك الرموز حتى يصل في النهاية إلى تفسير حقيقي لذاته واستنطاق كنه وجوده، وهذه العلاقة بين الدنيا والمرء تكمن حالة الاختيار الحر الكامل للإرادة الإنسانية، وتتنوع رهانات الإنسان صوب شهوده الدنيوي، فبين إنسان يقرر أن يتحمل المسئولية الكاملة بتحرره من قيد المسئولية الأرضية بشهواتها وفتنتها، وبين آخر يدفع ثمن استلابه لشرور النفس كالحقد والحسد والسخرية والاضطهاد واستغلال الضعفاء تكمن الحقيقة ويستقر اليقين بأن الدنيا في كلتا الحالتين شواغل وعوارض، وطوق النجاة هو أن تفنى بذاتك قبل فنائك، وأن تعبر البحر لتصل إلى شاطئ بعيد عن النفس قريب من الروح، تجد فيه شخصاً واحداً بغير تعدد، هو أنت . وهذه الرحلة التي تسمى الدنيا مشحونة بمشاهد متباينة؛ مشهد يتسم بالفجور والغرور والذات الفاسدة، ومشهد مشحون بالتأمل والتدبر والتفكير، ومشهد ثالث وأخير ينتهي بك إلى يقين المعرفة ألا وهو التصوف، وهم أولئك الذين استحقوا عطاء الواجد باجتهاد بالموجود .

فأسرع طريقة لتحقيق غاية العلم وهي المعرفة طرح الأسئلة المباغتة التي تظل قابعة في الذهن بغير حراك لكن المرء على غوايته القديمة يأبى طوعاً تارة وكرهاً تارة أخرى في الدفع بها إلى الشهود والحضور، لذا فمن الأحرى مباغتتك أنت بأسئلة الدهشة . ماذا ستسطر في صفحتك الشخصية بكتاب التاريخ عن واقعك الإنساني الذي عاصرته؟ وكيف ستوصِّف ملامح الجيل الزمني الذي تنتمي إليه؟ وأخيراً هل أتاك حديث الحكمة؟  .

وبكثرة الأسئلة تستطيع أن تصل إلى يقين المعرفة، فحينما سئل عبد الله بن عباس: بأنى أصبت هذا العلم؟ قال: " بلسان سئول وقلب عقول "، وقد لا يعي كثيرون أن هناك ما يسمى بمقام اليقين، وهو مقام العابد الذي يفكر بعقل سديد مستنير خالٍ من هوس فتنة الدنيا، وبطش شواغلها الفانية، وهذا اليقين هو المقام الذي ينتقل بك سريعاً من حال الشك المتولد من طرق الأسئلة إلى برهان المعرفة الذي يتحقق عن طريق الثقة في الله وبالله التي لا يعتريها شك أو ظن سلبي، ثقة مفادها اطمئنان القلب مع الله، وهكذا كان حال الأنبياء والرسل مع الله تبارك وتعالى .

فنوح (عليه السلام) الذي استقر قلبه بالطمأنينة وهو يصنع الفلك ويأمر أهله بالتوحيد كان على موعد بالثقة مع الله عز وجل والنجاة والفلاح، وإبراهيم (عليه السلام) حينما أمر أن يأخذ زوجه وابنه إسماعيل (عليه السلام) إلى موضع غير ذي زرع ويتركهما فتكرر السيدة هاجر سؤالها مرات ثلاث: ألله يأمرك بهذا؟ فقال عليه السلام: " نعم "، فقالت: " إذاً لا يضيعنا ربك " . فكان إبراهيم وزوجه على موعد آخر مع الثقة بالله بطمأنينه أودعها الله بقلبيهما .

ورسولنا الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) يقول شارحاً دلالات اليقين بحديثه الشريف، يقول: " إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ "، إذا اليقين بالله يحتاج إلى نوع استثنائي وعظيم من الإيمان لا يتحقق إلا بالاجتهاد في الطاعات مع مساحات واسعة من الاطمئنان بقضاء الله وقدره . وعليه فإن المؤمن لابد وأن يعي بأن مقام اليقين هذا يتفضل الله به على من جاهدوا في سبيله، وقاموا جاهدين بتطهير نفوسهم من شرورها وشهواتها، وأخلصوا العبادة للواحد القهار، وتعلقت بالله هممهم .

وكل من اليقين والمعرفة والاطمئنان يتحقق لمن أنس بالله، يقول ذو النون المصري: " إذا أكرم الله عبداً ألهمه ذكره، وألزمه بابه، وآنسه به، يتعرف إليه بأكبر الفوائد، ويمده من عنده بالزوائد، ويصرف عنه أشغال الدنيا والبلايا، فيصير من خواص الله وأحبابه، فطوبى له حياً وميتاً، ولو علم أبناء الدنيا ما فاتهم من حظ المقربين، وتلذذ الذاكرين، وسرور المحبين: لماتوا كمداً " . وقال أيضا: " إذا صح اليقين في القلب صح الخوف منه ".

وروى بعض الصالحين أنه رأى جارية في البادية ليس معها أحد، فقال لها: إلى أين أنت ذاهبة؟ فقالت: إلى الحبيب . قال: فما تستوحشين وحدك هذه البادية؟، فرفعت صوتها قائلة: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) (سورة الحديد: 4) . ثم أردفت قائلة: من استأنس بالله، استوحش عمن سواه، ومن طلب رضاه، صبر على قضاه .

ووسط هذه اليوميات وغيرها من إحداثياتنا اليومية المكرورة والمتتابعة بكلل ونصب وصخب وضجيج، نقف أمام آي الذكر الحكيم بمساحات بعيدة وعريضة من الدهشة والتأمل، ونقول لأنفسنا ذات العبارة التي لا نمل من ذكرها وتبقى خير دليل على إعجاز النص القرآني وديمومته وبلاغته الاستثنائية ألا وهي وكأني أول مرة أقرأ هذه الآية ! . وهذه العبارة التي أصبحت من أبرز تعليقاتنا ونحن نقرأ القرآن الكريم بتمعن لاسيما في المناسبات الدينية كشهر رمضان الذي نتبارى فيه بختم القرآن دونما الاكتراث بتفسيره أو فهم معانيه الجليلة تعزز لدينا يقين أن القرآن بحق هو معجزة الإسلام الخالدة .

وكم من مرة ـ عزيزي القارئ الكريم ـ قرأت أو سمعت قول الله تعالى في كتابه العزيز لنبيه موسى عليه السلام (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى (لكنك لك تكترث بمسألة خلع النعلين التي وردت في الآية الكريمة . ولقد اجتهد كثيرون ولا يزالوا في اجتهادهم لتفسير هذه الآية التي وردت في سورة (طه) فمنهم من وقف عند حدود اللفظ اللغوي ولم يتعداه، ومنهم من أقرن النص بسياقه التاريخي الزمني قاصراً تفسيره عند موسى عليه السلام، ومنهم من أخذ بالتأويل وغاص في دلالات النص غير الظاهرة .

فالحسين بن مسعود البغوي في تفسيره يورد رأي عكرمة ومجاهد بأن الله تبارك وتعالى  أمر موسى بخلع النعلين ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدسة، فيناله بركتها لأنها قدست مرتين، فخلعهما موسى وألقاهما أما الشوكاني في تفسيره المعنون بـ " فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية " فيقول إن المعنى المراد من الآية أن سبحانه أمر موسى بخلع نعليه، لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب . وقيل: إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ، ويردف الشكوكاني قائلاً " ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال: إنك بالوادي المقدس طوى المقدس المطهر، والقدس الطهارة، والأرض المقدسة المطهرة، سميت بذلك لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين " .

وابن العربي في كتابه " أحكام القرآن " يرى أن في الآية الكريمة مسألتين ؛ الأولى ينقلها نقلاً عن سابقيه وهي كانت نعلا موسى من جلد حمار ميت، أما الثانية وهي رأي ابن العربي الشخصي: إن قلنا: إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما أجدره بالصحة، فقد استحق التنزيه عن النعل، واستحق الواطئ التبرك بالمباشرة، كما لا تدخل الكعبة بنعلين، وكما كان مالك لا يركب دابة بالمدينة، برا بتربتها المحتوية على الأعظم الشريفة، والجثة الكريمة .وإن قلنا برواية ابن مسعود، وإن لم تصح، فليس بممتنع أن يكون موسى أمر بخلع نعليه، وكان أول تعبد أحدث إليه، كما كان أول ما قيل لمحمد (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى (قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) . 

وإذا كانت التفاسير جميعها تكاد تتفق في أمر النعلين من خلال التوصيف المادي، فإن التوصيف المعنوي يحتاج إلى تدبر للمعنى الماورائي أو فوق المعرفي، فهناك من يرى أن النعلين هما النفس والجسد، والأهل والمال، والدنيا وفتنتها، ولربما أن طاعاتنا تبدو منتقصة بعض الشئ لأننا نذهب إلى الله تعالى ونحن أكثر انشغالاً بأمور الدنيا ومشاغلها ومطامحنا الشخصية التي لا تخرج عن فلك النفس والجسد، وما أقبح المرء ساعة ما يغدو إلى ربه طوعاً وهم محمل بهواجس النفس وشهوات الجسد فارغاً من روحه ويقينه . وهذا ما أراد به سعد بن عبدالله القمي الأشعري في تأويله للآية القرآنية أي نزع حب الأهل والمال من القلب وإخلاص المحبة لله وحده .

ومجمل اضطراباتنا النفسية وهمومنا اليومية أننا أصبحنا مكبلين بالنفس التي لا تشبع ولا ترتوي الطامعة والجامحة والمتمردة بطبيعتها، واستحلنا مسجونين تمام القيد بخواطرنا المهتزة والمتأرجحة بين الظهور والخفوت والارتفاع والهبوط .

والنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول في حديثه الشريف: " من يرد الله به خيراً يجعل له واعظاً من قلبه "، الأمر الذي يدفعنا أن نذهب إلى الله تبارك وتعالى مجردين من نفس خبيثة، وجسد لا يفكر إلا بمنطقه الضيق، ومسألة خلع النعلين قريبة الصلة بقول الله تعالى في سورة الحج (وجاهدوا في الله حق جهاده)، ومن هذا الجهاد جهاد النفس وهو المقصود بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ كما يقول الإمام الآلوسي في تفسيره، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه بالكونين، وجهاد الروح بإفناء الوجود .

والحسن بن علي (رضي الله عنهما) قال: أفضل الجهاد مخالفة الهوى . وإذا أردت أن تجاهد نفسك عليك أن تتحلى بالمكارم، وتتخلى عن الرذائل، وتسير على منهج خير المرسلين، والعمل بأحكام شريعة رب العالمين، فاخلع نعليك واقترب فإنك باليقين في طمأنينة بالقرب من ربك .

ويقول الله (تبارك وتعالى) في محكم التنزيل: )اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (سورة ص: 17)، وفي موضع آخر بذات السورة يقول تعالى:)وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (سورة ص:30) . ويذكر الله (سبحانه وتعالى) عن إبراهيم (عليه السلام) بأنه أواه حليم بقوله تبارك وتعالى:) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ((سورة التوبة /114) . فمن هم الأوابون؟ . يقول تعالى:)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ((سورة ق:32 ـ 33) .

الأواب في المعنى الاصطلاحي يعني العائد التائب الى الله والمطيع لربه على الاستدامة دون انقطاع، وهذا ما يفسره قوله تعالى عن نبيه (عليه السلام) سليمان:) إِنَّهُ أَوَّابٌ (، ولقد ذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أن أواباً تعني المطيع، وفيه ثناء على سليمان (عليه السلام) بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله (عز وجل) ، أما الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري فيرى كلمة أواب تعني أنه ـ سليمان ـ رجَّاع إلى طاعة الله تواب إليه مما يكره منه، وقيل إنه عُني به أنه كثير الذكر لله والصلاة  .

والأواب في المعنى اللغوي لفظة من آب بمعنى رجع، يقال: آب الرجل إلى أهله إذا رجع، والأواب أي الراجع عن الذنوب، وهو ما فسره يونس من قوله تعالى: ) إِنَّهُ أَوَّابٌ (يقول: إن داوود رجاع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه، تواب، والسدي وغيره يقول إن التواب هو المسبِّحُ، وهو ما يشير إليه قول الله تعالى:)وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(، قال ابن جرير الطبري: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أي كل له مطيع، وقال آخرون: معنى ذلك: كل ذلك لله مسبح  .

ولقد وردت كلمة أوّاب واشتقاقاتها أكثر من مرة وموضع في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى في سورة الإسراء:) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً(، قال قتادة للمطيعين أهل الصلاة، وعن ابن عباس المسبحين وفي رواية عنه المطيعين المحسنين، وقال بعضهم هم الذين يصلون بين العشاءين، وقال آخرون هم الذين يصلون الضحى . وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب في قوله:) فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (قال الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون ويصيبون الذنب ثم يتوبون .

وقال عطاء بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد أن الأوابون هم الراجعون إلى الخير، وقد قال مجاهد عن عبيد بن عمير في الآية هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها، ووافقه مجاهد في ذلك  . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله (ص) كان إذا رجع من سفر قال: " آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون " .

وهناك قول في تفسير هذه الآية الكريمة التي أشارت إلى الأوابين وهو ما أورده أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره المعنون بجامع البيان عن تأويل آي القرآن، حيث أشار الطبري إلى أن الأوابين هم التائبون بعد الهفوة فإن الله غفور لهم، وقال حبيب بن أبي ثابت: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤاخذ به  .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال الأواب هو التائب من الذنب، الراجع من معصية الله إلى طاعته، ومما يكرهه إلى ما يرضاه، لأن الأواب إنما هو فعَّال، من قول القائل: آب فلان من سفره إلى منزله، أو من حال إلى حال، كما قال عبيد بن الأبرص:

وكل ذي غيبة يئوب  وغائب الموت لا يئوب

ولقد ذكرت لفظة أواب أيضاً في موضع آخر من القرآن الكريم تحديداً في سورة (ق)، يقول الله تعالى:) وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ( (سورة ق:31 ـ 32) . قال قتادة في تأويل الآية الكريمة: هذا الذي توعدون أيها المتقون، أن تدخلوها وتسكنوها، وقوله:) لِكُلِّ أَوَّابٍ (يعني: لكل راجع من معصية الله إلى طاعته، تائب من ذنوبه، وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك كما يذكر الإمام الطبري في تفسيره، فقال بعضهم هو المسبح، وقال بعضهم هو التائب .

ويقول ابن جرير الطبري: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس، عن الأواب الحفيظ، قال: حُفظ ذنوبه حتى رجع عنها ، وقال آخرون: معناه: أنه حفيظ على فرائض الله وما ائتمنه عليه . وقال قتادة: حفيظ لما استودعه الله من حقه ونعمته .

ويذيل الإمام الطبري تعليقه بأن أولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره وصف هذا التائب الأواب بأنه حفيظ، ولم يحصر به على حفظ نوع من أنواع الطاعات دون نوع، فالواجب أن يعم كما عم جل ثناؤه، فيقال: هو حفيظ لكل ما قربه إلى ربه من الفرائض والطاعات والذنوب التي سلفت منه للتوبة منها والاستغفار.

ويذكر الإمام ابن قيم الجوزية  أن التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في البداية والنهاية ضرورية، يقول الله تبارك وتعالى:)وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة النور:31) .

والتأويب مرادف للتوبة، كما يعني التسبيح وهو ما أشار إليه الدكتور عبد الصبور مرزوق ، وكلاهما يعني رجوع العبد إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، وذلك لا يحدث إلا بهداية الله إلى الصراط المستقيم، ولا تحصل هدايته إلا بإعانته وتوحيده . ويشير الإمام ابن قيم الجوزية إلى لطائف أسرار التوبة في ثلاثة أشياء: أن ينظر الجناية التي قضاها الله عليه فيعرف مراد الله فيها، فإن الله (تبارك وتعالى) إنما خلى العبد والذنب لأجل معنيين ؛ أحدهما أن يعرف عزته في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه، وفضله في مغفرته . والثاني أن يقيم على عبده حجة عدله، فيعاقبه على ذنبه بحجته  .

أما اللطيفة الثانية من أسرار التوبة والرجوع إلى الله تعالى ففي أن يرى التائب قبح ما نهى الله عنه، وحسن ما أمر به، وأنه كان مفسداً حين ركب ما نهاه الله تعالى عنه، واللطيفة الثالثة التي أشار إليها ابن قيم الجوزية من أسرار التوبة التي يتضح فيها الحسن والقبح تقتضي رؤية الفرق بين محبة الله ورضاه، ومشيئته وإرادته الكونية، وعدم التسوية بينهما، أو اعتقاد تلازمهما .

وفي معرض الحديث عن دلالة كلمة أواب في القرآن الكريم وقرابة معناها للتوبة، حري بنا أن نشير على عجل إلى التوبة النصوح وحقيقتها، يقول تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(سورة التحريم /8)، والنصوح على وزن فعول المعدول به عن فاعل قصداً للمبالغة، كالشكور والصبور، وأصل مادة (نصح) خلاص الشئ من الغش والشوائب الغريبة، فالنصح في التوبة والعبادة والمشورة كما يذكر الإمام ابن قيم الجوزية تخليصها من كل غش ونقص وفساد، وإيقاعها على أكما الوجوه والنصح ضد الغش.

وقد قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): " التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه، كما لا يعود اللبن إلى الضرع "، قال الحسن البصري: " هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أن لا يعود فيه "، وقال الكلبي: " أن يستغفر باللسان، ويمسك بالبدن" .

هذه الدنيا لا يمكن توصيفها سوى بأنها ثمة رموز غير استثنائية، يمر بها المرء منا في محاولة لفهمها وفك تلك الرموز حتى يصل في النهاية إلى تفسير حقيقي لذاته واستنطاق كنه وجوده، وهذه العلاقة بين الدنيا والمرء تكمن حالة الاختيار الحر الكامل للإرادة الإنسانية، وتتنوع رهانات الإنسان صوب شهوده الدنيوي، فبين إنسان يقرر أن يتحمل المسئولية الكاملة بتحرره من قيد المسئولية الأرضية بشهواتها وفتنتها، وبين آخر يدفع ثمن استلابه لشرور النفس كالحقد والحسد والسخرية والاضطهاد واستغلال الضعفاء تكمن الحقيقة ويستقر اليقين بأن الدنيا في كلتا الحالتين شواغل وعوارض، وطوق النجاة هو أن تفنى بذاتك قبل فنائك، وأن تعبر البحر لتصل إلى شاطئ بعيد عن النفس قريب من الروح، تجد فيه شخصاً واحداً بغير تعدد، هو أنت . وهذه الرحلة التي تسمى الدنيا مشحونة بمشاهد متباينة ؛ مشهد يتسم بالفجور والغرور والذات الفاسدة، ومشهد مشحون بالتأمل والتدبر والتفكير، ومشهد ثالث وأخير ينتهي بك إلى يقين المعرفة ألا وهو التصوف، وهم أولئك الذين استحقوا عطاء الواجد باجتهاد بالموجود .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م).

ـ كلية التربية، جامعة المنيا، مصر.

 

 

في المثقف اليوم