تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

صادق السامرائي: البدايات والإنحرافات!!

السلوك البشري سلسلة من التفاعلات المتشابكة المعقدة المتوالدة، الساعية نحو الإمتداد والإتساع والإصطراع، ويتجسد ذلك بوضوح وغموض في السلوك الجماعي.

ففي أي إنطلاقة، مهما كان نوعها وطبيعتها، تخطو بوقت واحد آليات إبتدائية وإنحرافية، فكل حركة تلد ما يشدّها للوراء حال تحركها.

وهذا ينطبق على الثورات والأحزاب والتنظيمات والأديان والسلوكيات الجماعية كافة، ويكاد يكون قانونا كونيا مطلقا.

فلا توجد حركة أو ثورة أو عقيدة بلا إنحرافات ترافقها منذ بدايتها.

الثورة الفرنسية إنطلقت بمبادئها وإنحرافاتها، وكذلك الأمريكية والروسية والصينية، والأحزاب بأنواعها، والأنظمة السياسية قاطبة، فلا نشاط مجرد من الإنحراف، إن كان فرديا أو جماعيا، فالإنحراف السلوكي متلازمة ذات تطلعات بقائية محكومة بقوانين الدوران.

العلاقات البشرية ترافقت مع إنحرافات متنوعة، وإنحرافها الرئيسي الجريمة، وكل علاقة ما بين البشر تكنز نوازع إنحرافية كامنة فيها.

وهذا ينطبق على الأديان، ولا يشذ عنها الإسلام، فمنذ بداياته ترافقت معه إرادات سامية وأخرى منحرفة، وكان من أبرز علاماتها، أبو جهل، وأبو لهب، وغيرهم من قادة المجابهة والداعين للإنحراف، وهم من أقرباء النبي المناهضين له.

وفي الواقع المعاصر هناك فهم أعوج وتضليل وتخريف ينتشر في المواقع والصحف والكتب ووسائل الإعلام، يُراد منه الإيهام على أن الإسلام ثورة أو حركة أو عقيدة مثالية جاءت للملائكة لا للبشر، وأن قادتها من المقدسين الذين لا ينحرفون.

الإسلام حركة بشرية وموجهة للبشر، ويقودها نبي بشر مثلهم ينقل رسالة ربه إلى الناس أجمعين، وما دامت الحالة بشرية فأنها حتما ستكون ذات تفاعلات معبأة بالتجاذبات والتنافرات، ولا يمكنها أن تكون مثالية، وأن البشر الذي إنطلق بها معصوم من الخطأ ومكتوب عليه الصواب وحسب.

وما يميز الإسلام أن نسبة الصواب فيه أكبر من الخطأ، وإن ترافق الصواب والخطأ في مسيرته، لكنه حقق بقاءً وإمتدادا وتواصلا متطورا، يتأكد في أن المسلمين ربع سكان الأرض وفي إزدياد، وهذا دليل دامغ على أن المسيرة بما حملته من إنحرافات وأخطاء، إنتصر فيها الصحيح على الخطأ وتأكد الصلاح.

والذين ينكرون هذه الحقيقة الصيروراتية الحضارية، يسعون إلى تدمير الإسلام والمسلمين، وتضليلهم بأن الإسلام يجب أن يكون مثاليا، ورموزه المقدسين المعصومين من الخطأ، ونبيّ الإسلام في القرآن يوصف بأنه بشر والبشر يخطأ، فكيف يصح بالأفهام أن يكون البشر الآخر لا يخطأ؟!!

هذه التوجهات تأخذ المسلمين إلى سلوكيات ذات تداعيات خطيرة، وتهدف لتدمير الإسلام وتحويله إلى حركة سياسية أو حزب سياسي، شأنه شأن باقي الأحزاب المحكومة بالخسران، فذات يوم سينتصر عليها ما تأسّن فيها من الإنحرافات القاتلة.

بينما لو تأملنا مسيرة الإسلام بدوله المتعاقبة، نرى أنه قد سمى بالوجود البشري إلى مستويات إنسانية راقية علميا وثقافيا وأخلاقيا وإعتقاديا وحضاريا، رغم ترافقه بإنحرافات متنوعة وتفاعلات سلبية متجددة في معظم مراحله ولا يزال، لكن أعداء الإسلام يؤكدون على الأخطاء والسلبيات التي رافقت مسيرته، وينكرون الإنجازات والتأثيرات الإيجابية على مسيرة البشرية.

وعندما إستلموا الحكم، حققوا أعظم درجات الفساد والإفساد، وسفكوا الدماء وخربوا البلاد، ولا يزالون يمعنون بالسلوكيات المناهضة لأبسط القيم والمعايير الإنسانية، لكنهم يلهجون بإسم الإسلام ويحسبون ما يقومون به الحق والصراط والمستقيم.

يقتلون ويفسدون ويشردون وينتهكون الحرمات ويظلمون ويقهرون، ويعذبون ويغتصبون الحقوق، ويسبّحون بإسم ربهم ويعلنون أنهم أصحاب الدين والغيارى عليه، وهم ألد أعدائه بأعمالهم وما يرتكبونه من خطايا وآثام وجرائم مرعبة بإسم الدين.

وهم في ذات الوقت من أشد أعداء المسيرة المنيرة، التي أخرجت البشرية في غرب الأرض وشرقها من الظلمات إلى النور العقلي والمعرفي والإبداعي الذي نتنعم بمعطياته اليوم، فلولا أنوارها العقلية والفكرية، لما خرجت أوربا من ظلمات عصورها، وإمتطت صهوة الثورات التنويرية والإشراق العلمي والمعرفي،  الذي لا تزال تقوده وترفده بالمستجدات الساطعة.

هؤلاء أما يجهلون الإسلام أو يعادونه ويحاولون التقنع به، فلا يمكن تفسير سلوكهم وما تخطه أقلامهم وتتمنطق به أعلامهم من التضليل والتشهير والتدمير لأبسط معاني الدين، وهي ترفع رايات الدين وتحسب نفسها السلطان الأمين على الدين، وعندما تسألها عما قدمته للدين، لا تجد إلا الفساد وإنتهاك الحرمات والعدوان المروّع على العباد.

إنهم يطعنون الإسلام بمدية الإسلام، ويُجهّلون المسلمين بالإسلام، بذرائع ما أنزل الله بها من سلطان، وتلك محنة الإسلام بالإسلام، وبلاء المسلمين بالمسلمين.

ولن ينجوَ الدين وأهله من هذه الورطة المبرمجة، إلا بالعودة للقرآن، والتخلص من أفك الذين يسمون أنفسهم (رجال الدين)، وهم من دعاة النفوس الأمّارة بالسوء والبغضاء . والعدوان على القيم والعقائد والأديان والعباد، والمخربين للنفوس والعقول والقلوب والبلاد.

فأين الدين يا أمة الرحمن الرحيم؟!!

***

د. ضادق السامرائي

في المثقف اليوم