أقلام حرة

صادق السامرائي: المستشفى والإنسان!!

في بعض دول الأمة يتواجد عدد كبير من الأطباء ولا تتوفر مؤسسات معاصرة تستوعبهم، مما يضطرهم للرحيل إلى دول أخرى تهتم بالرعاية الصحية، وتبني المستشفيات المعاصرة اللازمة لتقديم الخدمات العلاجية المهنية المتطورة.

فمؤسساتها الصحية دون مثيلاتها في الدول المجاورة، فعدد السكان يتزايد، وتدهور الخدمات الصحية يتزايد أيضا، ولا توجد مواكبة وتواصل مع معطيات التطورات العلمية، الكفيلة بالإرتقاء بها إلى مستوياتها المتعارف عليها وفقا للضوابط والمعايير العالمية.

وحتى في الدول الثرية هناك أمية صحية، فالعلاقة بين المريض والطبيب ليست على ما يرام، لفقدان خواص السلوك المهني والتفاعل النزيه بين الحالتين، فالطبيب متذمر والمريض يقاسي، ولا يستطيع الطبيب القيام بما يجب القيام به، لمحدودية الإمكانات، وفقدان الوسائل الضرورية المعاصرة للعناية بالمريض.

فمهما بلغ الطبيب من المهارة والمعرفة العلمية، إن لم يتواجد في المكان المناسب، فأنه سيكون مقيدا ومرهونا بالظروف التي تملي عليه ما يقوم به.

وقد بلغ بنا الأمر أن مرضانا صاروا يعالجون في الهند، بدلا من دولنا، لضعف مواصفات مستشفياتها وقصور الخدمات العلاجية.

أولا: المستشفيات؟!!

المستشفى موضع العلاج والجد والإجتهاد على راحة المريض ورعايته لتحقيق الشفاء، ومستشفيات دولنا ربما لا تقترب من المواصفات والمعايير المعمول بها في مستشفيات الدنيا، ولا تخضع للرقابة والتقييم الدوري، الذي يساهم في المحافظة على مستوى جهوزيتها، وعملها بما يتوافق مع الضوابط المقرة في لوائح منظمة الصحة العالمية، واللجنة المشتركة لتقييم عمل المستشفيات.

فالمستشفيات في بلداننا ربما لا تنطبق عليها تسمية المستشفى في الدول المتقدمة، فهي تفتقر للمعايير والضوابط التي بموجبها تستحق تسمية مستشفى.

ولا توجد في العديد من المدن مستشفى ذات قيمة علاجية وشفائية وتعليمية معاصرة، وهذا الواقع الصحي الغريب ناجم عن فقدان قيمة الإنسان، وضياع معناه ووجوده في الحياة، لتحوله إلى رقم أو شيئ، فلا داعي للإهتمام به وتوفير الرعاية الصحية اللازمة له.

والمسؤولون ربما لا يهتمون بنوعية الخدمات وكيفية تطويرها، وبمعايير يمكن إتباعها، وبمواصفات المستشفيات المتطورة، وينشغلون بموضوعات لا تنفع الرعاية الصحية، كالزيارات الميدانية الإستعراضية.

وبما أن المعايير والمقاييس غائبة، فالنظام الصحي لن يتقدم ويعاصر، فالمستشفيات بحاجة إلى حرية مهنية، ونزاهة خدمية، للوصول إلى مطابقة عملها مع المعايير الدولية المعمول بها في معظم دول العالم.

ويبدو أن منظمة الصحة العالمية لا تتفاعل بخصوص هذا الموضوع، ولا تُخضع مستشفيات دولنا للمراقبة والمتابعة والتقييم، وعليها أن تعيد النظر في نشاطاتها وتنطلق نحو توفير المستشفيات اللائقة بعلاج الإنسان في بلاده.

فهل أن مستشفياتنا تقترب من المعايير المعاصرة لمعنى المستشفى؟!!

ثانيا: المستشفيات وقيمة الإنسان!!

مستوى الرعاية الصحية ورقي المستشفيات يتناسب طرديا مع قيمة الإنسان في أي مجتمع، فكلما تطورت الخدمات الصحية، ووصلت المستشفيات إلى التوصيفات العالمية المعمول بها في الدنيا، إرتقت قيمة الإنسان في المجتمع.

فالمعادلة واضحة جلية، لا تحتاج لقلم أو لسان، ولا لتحليلات وتفسيرات وتعقيدات.

أنظر إلى مستشفيات أي مجتمع فستخبركَ عن قيمة الإنسان فيه.

المجتمعات المحترمَة، مستشفياتها معاصرة البنيان، وتقدم أرقى الخدمات.

وفي غيرها التي يتمنطق أبناؤها بالهذيان، فمستشفياتها لا تتطابق ومواصفاتها في الدول ذات الشأن والكيان، التي لها توصيفاتها اللائقة بالإنسان، وتخضع للضوابط والمتابعة الصارمة.

أما قي مجتمعات كان، فالإنسان رقم، والخدمات الصحية بهتان!!

فأين الإنسان، الذي خلقه بأحسن تقويم، ونحن نعمل بجد وإجتهاد ضده، ونجعله في أسفل سافلين، وفينا من العدوانية المتوحشة ما لا يطيقه التراب!!

فأين الرحمة والرأفة يا أمة أرحم الراحمين؟ّ!!

ثالثا: أول مستشفى في الإسلام!!

يمكن القول بثقة أن أول ما يمكن تسميته بمستشفى قد تأسس في السنة الخامسة للهجرة أثناء معركة الخندق، وبأمر من الرسول الكريم وفي المسجد النبوي بالمدينة، حيث أقيمت خيمة أشبه بالمستشفى بإدارة (رفيدة الأسلمية) أول ممرضة عربية ومسلمة، وربما في تأريح الإنسانية، لتطبيب الجرحى، وكان معاذ بن سعد أحد المصابين الذين عالجتهم فيها.

قد يعترض مَن يعترض، لكن الدلائل التأريخية وما موثق في الكتب يشير إلى ما تقدم، فالرسول الكريم هو الذي أطلق فكرة المشفى أو المستشفى، وربما بإيحاء من الممرضة والطبيبة الجراحة (رفيدة الأسلمية) بنت الطبيب (سعد الأسلمي) المعروف بطبابته في المدينة، ومنه تعلمت الطب والتمريض.

هذه الفكرة السبّاقة تعطينا مثلا على التنوير الإنساني الذي جاء به الإسلام، وكيف يتحقق التفاعل ما بين إرادة الحاجة والإختراع، وكيف تتلاقح العقول لتصنع ما هو أفضل ومعقول، بعيدا عن الإعتبارات الأخرى التي تقيّد الشروع بالمشروع.

فهذه إمرأة مسلمة تتولى إدارة مستشفى وتداوي الجرحى والمرضى وتعتني بهم، وتسهر على راحتهم وتطبيبهم، وتخفيف آلامهم.

وعندما نقارن هذا السلوك في مكانه وزمانه، وكيف كانت عليه البشرية آنذاك ندرك مدى التقدم والتنوير المعرفي الذي أطلقه القرآن في عقول الناس، وكيف أن الرسول الكريم كان قائدا إنسانيا تنويريا، يحمل مشاعل الأنوار الكونية للعالمين.

وفكرة المستشفى أو المشفى لم تخمد بل تطورت وتنامت، وأسس عليها القادة فيما بعد، وأول من إنتقل بها جادا إلى مراحل الإنجاز والتنفيذ العملي هو (الوليد بن عبد الملك) سنة (88) هجرية.

وبعده تكاثرت المستشفيات وتسابق الحكام والأمراء على بنائها وتطورت الخدمات فيها، وتسمى (البيمارستان)، وأصبحت هناك مستشفيات تخصصية بأمراض متنوعة، وحتى الأمراض العقلية والنفسية، وكانت العلاجات فيها تضاهي العديد من الرؤى والأفكار العلاجية السائدة اليوم!!

وهكذا نجد فكرة أملتها الحاجة وتفاعل عقل مستعد لتبنيها مع عقل أوحى بها، وإذا بها تتطور وتكون، ونحن اليوم نعتمد على الآخرين، ونحسب أن عقولنا عاطلة وقدراتنا خاوية!!

فهل من عودة إلى جوهر ذاتنا؟!!

رابعا: أيهما أوجب الجامع أم المستشفى؟!!

السؤال يبدو غريبا ومشاكسا، لكنه يطرح نفسه بعد أن تحولت المستشفيات في بعض المجتمعات إلى أقبية موت وعذاب للمريض، الذي عليه أن يتلقى العناية والرعاية العلاجية المعاصرة.

لماذا هذا السؤال العجيب؟

مستشفيات تحترق وغيرها تتدنى فيها الخدمات، في زمن تتطور فيه المستشفيات إلى منتجعات ذات عمارة راقية.

ودولة صغيرة تبني مستشفى بسعة 1200 سرير، وبكامل المرافق والمهابط المعاصرة، لتضاهي أضخم مستشفيات الدنيا، وكلفتها مليار دولار فقط، وفي بلادٍ ثرية تُسرق المليارات وتودع في البنوك الأجنبية، ويُشترى بها العمارات وغيرها في الخارج، والشعب يتضور ويفتقر لأبسط الخدمات، والدين يحكم والعمامة قائدة.

في مدينة من تلك البلاد هناك مستشفى يؤمّل إتمامها، ولا تزال دون إعمار منذ أكثر من عقد ونصف، وفي الصين يشيدون أكبر المستشفيات في غضون أسابيع قليلة.

إنها قيمة الإنسان بوصلة الحياة وبناء الأوطان، فعندما يفقد الإنسان قيمته يكون الكلام عن الرعاية الصحية والمستشفيات محض هراء.

فالعلاقة ما بين تقدم الخدمات الصحية في أي بلد وقيمة الإنسان علاقة طردية، أي كلما زادت قيمة الإنسان تقدمت الخدمات الصحية والعكس صحيح.

والمستشفى المعاصر المجهز بما يرعى الإنسان ويديم عافيته أوجب من الجامع البديع العمران، لأنها تضخ الجامع بالإنسان المعافى العزيز الكريم، الذي يشعر بقيمته وبتوفر الرعاية الصحية المتطورة له، فيزداد إيمانا وقوة على التعبير عن دينه.

وذلك يشير بوضوح ومأساة إلى فقدان الإنسان لقيمته، وضياع وجوده، وتمكن أعوان الشيطان منه، وإستلابه ومصادرة حقوقه الأساسية في الحياة.

فأين أدعياء حقوق الإنسان مما يحصل في بعض البلدان؟!!

خامسا: مستشفى سرَّ مَن رأى!!

هل كان في سرّ من رأى مستشفى عندما كانت عاصمة للدولة العباسية (222-279 ) هجرية؟

العقل يقول يجب أن تكون هناك مسنشفى، مثلما كانت مستشفيات في بغداد، لكن الوثائق التأريخية والحفريات لا تشير إلى ذلك، فهل كان المرضى يتطببون في مستشفيات بغداد، أم أن هناك مستشفى في سامراء علينا أن نكشف النقاب عنها؟

ولا يُعقل أن أشهر الأطباء في ذلك الوقت لم يكونوا قريبين من مركز الخلافة، فهل لنا أن نبحث بجدية عن المستشفى وموقعها؟!!

المشكلة في كتابة تأريخ سرَّ مَنْ رأى أن الكثير من المعلومات مشوّهة ومُضللة ومقصودة، بسبب ما تحقق من فوضى وإضطراب، وتمكن الأجانب من التحكم بمصير الخلافة، وصارت القوة هي الخصم والحكم ، فلا رأي إلا للسيف والنطع.

العقل يقول أن هناك تقدم علمي ومعرفي تشير إليه الثورة المعمارية التي لا يمكنها أن تتألق من غير تطور معرفي وعلمي يوازيها، وما دامت هناك ثورة عمرانية أصيلة، فلا بد من ثورة علمية ومعرفية متفقة معها، لكنها طمست، وتم تدوين ما هو سيئ للقول بأن سرّ من رأى قد تحولت إلى ساء من رأى!!

لكشف الحقائق نحتاج إلى جهود تنقيبية وبحثية نزيهة لتزيل التشويه والتحريف والتضليل، فالعقل لا يتفق وما يُروى وكان، في زمن كانت سامراء تضاهي مدن الأندلس بجمالها وبهاء عمرانها ونظام الحياة فيها.

فسلمويه بن بنان الطبيب الخاص للخليفة المعتصم، الذي ترجم أعمال جالينوس من اليونانية إلى العربية، ووثق به المعتصم وإعتمد عليه كثيرا، وكان يحترمه إحترام الإبن لأبيه، ويناديه "يا أبي"!!

ويقول عنه: "هذا عندي أكبر من قاضي القضاة، لأن هذا يحكم في مالي، وهذا يحكم في نفسي، ونفسي أشرف من مالي".

يقول إبن أصيبعة: " لما إستخلف أبو إسحاق محمد المعتصم بالله، وذلك في سنة 218 هجرية، إختار لنفسه سلمويه الطبيب، وأكرمه إكراما كثيرا يفوق الوصف، وكان يرد إلى الدواوين توقيعات المعتصم في السجلات وغيرها بخط سلمويه، وكل ما يرد على الأمراء والقواد من خروج أمر وتوقيع من حضرة أمير المؤمنين، بخط سلمويه، ومما زاد من جور سلموية بن بنان في بلاط المعتصم، أنه نجح في تولية أخيه إبراهيم بن بنان خزن بيوت الأموال في البلاد، وخاتمه مع خاتم أمير المؤمينن".

وكانت علاقته بالمعتصم قوية، وكأنه واهبه الحياة والمحافظ على كيانه البدني والنفسي، فعندما إعتل سلمويه عاده المعتصم وبكى عنده، كما بكى وصلى عند قبره بعد وفاته سنة 840 ميلادية، وربما دفن في سامراء ورافق المعتصم فيها، وتوفى المعتصم بعد وفاته بعشرين شهر!!

فهل يا ترى أن الطبيب سلمويه بن بنان كان طبيبا في العراء، وما حكاية أطباء باقي القادة والأمراء، فهل يُعقل أن لا توجد مستشفى في سامراء لمداواتهم وتطبيب جراحهم آنذاك؟!!

وهل يُقبل أن الذي خط المدينة وبناها غفل أن يبنيَ مستشفى فيها، ومن المعروف أن أباه قد بني مستشفى الرشيد، والمأمون إهتم بالأطباء وإعتنى بالبيمارستانات.

لا أظن المعتصم قد تجاهل بناء مستشفى، فالخراب الفتاك العدواني للمدينة محق آثارها السمقاء!!

وفي الختام، لكي نبني أنظمة ديمقراطية معاصرة علينا الإهتمام بقيمة الإنسان، فلا جدوى من دعوات الحرية المغرضة، وهي تسحق المواطن وتلقمه أفانين القهر والحرمان.

فلتكن مستشفياتنا أرقى البنايات في مدننا، ليتأكد إهتمامنا بالإنسان وتقديم الرعاية الصحية الراقية له.

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم