تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

علي علي: ضياع الملاح والشراع

نحتُ حتى رثى العدو لحالي

واعتراني من العويل بحاح

تركوني من الفراق أقاسي

ألماً ما تطيقه الأرواح

(الرصافي)

يتكلم كثيرون عن البحر وركوب أمواجه، وكيف أنه عالم خاص يتطلب رجالا -أو نساءً- بقابليات خاصة، قد يحملها بعضنا وقد يفتقر اليها بعضنا الآخر لأسباب عدة، وخصوصية عالم البحار هذه دفعت راكبيه الى التحلي بشمائل تختلف عن متوطني اليابسة، كذلك كونت قسوة العيش على أمواجه أفكارا ومبادئ تختلف عن قاطني بر الأمان. هناك مقولة يكررها أفراد طواقم السفن والباخرات والبوارج، لاسيما الذين يتنقلون في سفريات تستمر أسابيع أو أشهرا في المحيطات، تلك المقولة هي:

(البحر الهادئ لايصنع بحارا ماهرا)

وبذا تكون في البحر متلاطم الأمواج دروس وعِبَر لمن يركبه، فان كان ملاحا ستزيد الصعاب التي يواجهها من خبرته في قيادة السفن، وان كان سائحا فان مايمر به من ظروف على متن سفينة في بحر هائج ستقوي من رباطة جأشه، ومن جلادته في تحمل الظروف القاسية التي قد تحيق به وتحيطه من حيث يدري ولايدري، وستعلمه الصبر على المحن وبالتالي يتولد لديه انطباع ان لكل شدة أجلا في انتهائها، ولو كنت محله لتذكرت قول الشاعر:

اذا الحادثات بلغنَ النهى

وكـادت لهـنّ تـذوب المهـجْ

وحلّ البـلاء وقـلّ العزاء

فعند التناهي يكون الفرج

ما ذكرني بالبحر وهيجانه هو ماوصل اليه عراقنا اليوم، بعد سنين من الإبحار في سفينة حاملة على ظهرها أكثر من أربعين مليون نفر، جلـّهم لايطمحون أكثر من الوصول الى مرفأ الأمان، وبر يجدون فيه عيشا كريما يليق بمواطن له من جدوده حضارات، كانت فنارا تهتدي به أمم المغرب والمشرق. وبحكم من تسلطوا على رقاب هذا البلد، وبسياساتهم المدروسة والمغرضة، ضاعت أشياء كثيرة وتغيرت ثوابت عديدة، آلت بمركب البلد وأهله الى التأخر عن مركب الأمم والبلدان في التحضر والتقدم في مفاصل البلد جميعها، وكلما ولى عهد سيئ أقبل عهد أكثر سوءا، كذلك كلما استبدل حكامه بآخرين، كانت النتائج أكثر وبالا على أبناء البلد.

اليوم ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ترفل دول العالم بالعيش الرغيد، مهنئة شعبها بوسائل الحياة المرفهة تكنولوجيا وطبيا وتربويا وثقافيا، وما الى ذلك من وسائل العيش المطلوبة، وقد آن الأوان أن يلتفت ربابنة سفينة العراق الى مصلحة البلد، والعمل على كل ما من شأنه تقديم الأفضل والأنسب له، وفق المتطلبات والتطورات الزمانية والمكانية، وهذا بدوره يتطلب عمل طاقم هذه السفينة بكل أفراده بطاقتهم القصوى، وكل ضمن اختصاصه ليؤدي دوره في رفد عمليات بنائه، للحاق بركب الدول التي سبقته بالتطور العمراني والعلمي والتحضري في مجالات الحياة كافة.

وبعودة الى مقولة البحارة، أرى ان الذي مر به العراقيون كفيل بصناعة صابرين أشداء، وقد آن الآوان لتطبيق ماتعلمناه من الشدائد والمحن التي أغدقها علينا ساسة وحكام، لم يألوا جهدا في إذاقتنا فنون الاضطهاد والقمع والحرمان، من أبسط حقوق المواطنة المشروعة. كذلك هو واجب وطني ومهني وإنساني وأخلاقي، تقع مسؤوليته الأولى على كل من تسنم منصبا في هرم الدولة، وعليه أن يدير مامنوط اليه من واجبات على أتم حال وأحسن وجه، وعليهم جميعا أن يعوا أن المركب إن غرق، سيغرق ركابه جميعا، ولن تنفع حينها مهارة ملاح او اثنين او ثلاثة، او حتى عشرة، بل حينها سيكون الغرق حتميا بعد أن يكثر الملاحون، ولاأظننا بعد كل هذي السنين والتجارب، نكرر بيت شاعرنا الرصافي من القصيدة ذاتها التي ابتدأت بها مقالي هذا:

فأنا اليوم كالسفينة تجري

لاشراع لها ولا ملاح

***

علي علي

في المثقف اليوم