أقلام حرة

قاسم حسين صالح: رواية شاهد عيان عن انتفاضة تشرين/ اكتوبر 2019 (2)

 (أن تكتب عن انتفاضة تشرين /اكتوبر 2019 وأنت في مكتبك، غير ما تكتب عنها وانت تعيش الحدث ميدانيا)

الخميس..  يوم الدم العراقي من بدء الانتفاضة في (الثلاثاء 1 تشرين/اكتوبر 2019) كان المتظاهرون قد طرحوا مطالب مشروعة: مكافحة الفساد، تأمين الخدمات، معالجة البطالة لاسيما الشباب الحاصلين على شهادات جامعية، تحقيق العدالة الاجتماعية....  واستمر الهدوء والأمن الى اليوم الثالث وفيه كانت بداية المجزرة التي اودت بحياة مئات الشباب.  كان يوم الخميس (الثالث من الأيام الخمسة الأولى للانتفاضة) هو الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين المحتجين والقوات الامنية، حيث امتدت التظاهرات التي تطالب برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب الى المدن الجنوبية ما استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم، وفرض حظر للتجول في عدد من المدن، وإغلاق العديد من الطرق المؤدية من الشمال والشمال الشرقي إلى العاصمة وإرسال تعزيزات إلى شرق بغداد، وقيام القوى الامنية وقوات مكافحة الشغب باستخدام الماء الحار والغاز المسيل للدموع والرصاص الحي..  كان نتيجته سقوط (63) قتيلا في بغداد و (21) في ذي قار تليهما: الديوانية، النجف، كربلاء، وديالى..  باستثناء البصرة التي لم تحدث فيها اصابات. وخلال خمسة أيام، وبحسب الآرقام الرسمية لوزارة الداخلية في 6 تشرين/اكتوبر فان عدد القتلى بلغ 110 فيما تجاوز عدد المصابين 6100 جريحا حتى الرابع عشر من تشرين اول. وفي مساء اليوم نفسه، الخميس (الثالث من تشرين أول)، توجّه رئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي، بخطاب متلفز بُثّ على وقع أصوات الطلقات الناريّة التي يُسمع دويّها في أنحاء بغداد، دافع فيه عن إنجازات حكومته وإدارته للأزمة الحاليّة، مطالبًا بمنحه فترة زمنيّة لتفيذ برنامجه، ووصف ما يجري بأنه (تدمير للدولة). ومع ان الحكومة اعلنت حظر التجوال وقطع خدمات الأنترنت فان المتظاهرين وصلوا العاصمة بغداد على متن شاحنات حاملين اعلاما عراقية واخرى دينية معظمها يحمل اسم الامام (الحسين) ويهتفون (بالروح بالدم نفديك يا عراق).  وبرغم هذا الرعب، وبرغم هذا البطش غير المسبوق في تاريخ العراق ضد متظاهرين سلميين يحملون علم العراق، فأن المحتجّين توجهوا نحو جسر الجمهوريّة حيث ضربت القوّات الأمنيّة طوقاً مشدّداً عليه خوفا من اقتحامهم الخضراء.  وفي يومها كتبنا مقالة نشرت في (المدى والحوار المتمدن) بعنوان (خمسة أيام هزت العراق)..  وثقنا ما حصل بقولنا: (ان ما حدث في (الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019) كان حدثا سياسيا وجماهيريا غير مسبوق في تاريخ العراق السياسي. ففي هذا اليوم انطلقت بالمحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات فاجأت السلطة والشعب والمحللين السياسيين الذين كانوا على يقين بأن الأحباط اوصل العراقيين الى اليأس والعجز من اصلاح الحال.  وفاجأت ايضا علماء النفس والأجتماع بما يدهشهم..  بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول: اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام..  فأطاح بها جميعها شباب ادهشوا العرب والعالم!. وأكدت الأحداث ان هذا الحراك كان عفويا، إذ لم يُعلن أيّ حزب أو زعيم سياسي أو ديني دعمه له، واعتبر سابقةً ما حدثت في تاريخ العراق السياسي..  من حيث زخمه وحجمه وما احدثه من رعب في السلطة اضطرها الى استخدام القوة المفرطة، ادانها الرأي العام العالمي في حينه).  ان التحليل السيكولوجي لجريمة الخميس الدامي يفيد بأن الحاكم الطائفي (قافل عقليا)..  لأنه يعتبر التظاهرات تحديا له، وهذا يدفعه الى ان يعطي لنفسه الحق في قمعها.  فمن متابعتنا للعملية السياسية في العراق بعد 2003 خلصنا الى ان العقل السياسي العراقي مصاب بالدوغماتية التي تعني الجمود العقائدي او الانغلاق الفكري، وان هذه الدوغماتية، برأي علماء النفس والاجتماع، هي احد اهم واخطر اسباب الازمات السياسية والاجتماعية التي غالبا ما تنتهي بحروب.  وقد اوصلتنا متابعتنا للعملية السياسية الى ابتكار مصطلح جديد في علم النفس اخذ طريقه الى علم النفس العربي اسميناه (الحول العقلي)..  ويعني ان المنتمي لجماعة، لطائفة، لقومية..  . ، يرى في جماعته الجوانب الايجابية ويضخمها، ويغمض عينيه عن سلبياتها، ويرى في الجماعة الأخرى سلبياتها ويضخمها، ويغمض عينيه عن ايجابياته، ويحّمل الجماعة الأخرى كلّ ما حصل من مشكلات وأزمات.  وكان هذا هو موقف حكّام الخضراء..  انهم يرون انفسهم على حق وأن المتظاهرين على باطل، وانهم،، بوصف رئيس حكومتهم عادل عبد المهدي يريدون (فناء الدولة)..  فنفذ في الخميس الدامي ما طلبوه وسفك دماء شباب ابرياء غادروا الدنيا فيما هو ظل، ومن جاءوا به، منعما مرفها..  في دنيا هم على يقين بأنها ستدوم لهم ما داموا يمتلكون القوة والمال.

يتبع

***

أ. د. قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم