تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

منير لطفي: أصل الحكاية

في عام ٢٠٠٢، أي قبل أكثر من عقدين، شاهدتُ فيلما مؤثّرا عن جذور النكبة الفلسطينية التي مهّدت الطريق لأحد أطول وأبشع الاحتلالات التي عرفها التاريخ، وفي أكثر من مناسبة تالية حاولت العثور عليه مجدّدا ولم أستطع، ببساطة لأني لا أتذكّر عنوانه ولا تفاصيله الدقيقة، فقط فكرته ومضمونه.

وفي خضمّ حرب الإبادة الدائرة اليوم في غزة ٢٠٢٣، يشاء السميع العليم أن أعثر عليه وأشاهده، وكالمرّة السابقة؛ تألّم القلب وكان لا بد له أن يألم، ودمعَت العين وحقّ لها أن تدمع.

الفيلم عنوانه: (المتبقّي)، ويعرض المشاهد الأولى لقصة اغتصاب فلسطين في الفترة ما بين قرار الأمم المتحدة بإنشاء الكيان الغاصب في نوفمبر ١٩٤٧ وبين رحيل بريطانيا وإعلان قيام الدولة اللقيطة في مايو عام ١٩٤٨، وذلك من خلال سرد درامي لحياة أسرة فلسطينية صغيرة مكوَّنة من جدّة وأب وأم وطفلهما الصغير الذي اغتصبتْه أسرة بولونية مستوطِنة كما اغتصب الصهاينة فلسطين من أهلها، وقامت بتغيير اسمه أيضا من فرحان إلى موشي على طريقة الصهاينة في تغيير اسم فلسطين إلى إسرائيل، مع أنّ الأسماء لا تغيّر من الحق شيئا، وقلم التاريخ لا ممحاة له.

في وضح النهار، تنقضّ العصابات المسلَّحة الصهيونية على الأحياء العربية بالقرى والبلدات والمدن الفلسطينية الوادعة، فيشيعون فيها الرعب والهلع عبر زخّات الرصاص ونيران المتفجّرات ودويّ المدافع، ليسارع السكّان إلى فضّ الأسواق وإغلاق الحوانيت وإحكام الأبواب والتحديق من وراء النوافذ بعيون زائغة كالمساجين، يليه اقتحام هؤلاء الهمج البربر للبيوت وإخراج أهلها منها عنوة تحت فوّهات البنادق وحرابها، ليتم تهجيرهم وترحيلهم خالين الوفاض إلّا من مفتاح بيت أو سند ملكية لأرض طيّ ثيابهم، والمآل إمّا إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة أو دول الجوار ومخيمات الشتات، في مشهد سريالي أشبه بيوم الحشر، استعدادا لإحلال وتوطين المحتلّين الوافدين من أقاصي البلاد في هجرات جماعية متتالية مدفوعة الأجر، وكأنهم يستبدلون لوحة على جدار بأخرى، أو يقتلعون شجرة ويضعون مكانها أَصيصا!

ورغم تكرار هذا المشهد في نحو عشرين مدينة وأربعمائة قرية، وجنايته على أكثر من ٧٥٠ ألف فلسطيني آنذاك، إلّا أن الاحتلال البريطاني المسؤول عن إدارة فلسطين أيامئذ مثّل دور الأعمى والأصمّ، بل والداعم المباشر وغير المباشر، حسبما أشار المؤرّخ رشيد الخالدي في كتابه "حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة" إلى أن القوة العسكرية البريطانية على الأرض كانت بمثابة الجدار الحديدي  للمشروع الصهيوني، تماما مثلما كان وعد وزير خارجيتها جيمس بلفور عام ١٩١٧ هو الجدار السياسي لهذا المشروع الرامي -ضمن مرامي أخرى عدّة- إلى شطر جناحَي العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا، وبالتالي منع ظهور قوّة إسلامية كبرى تملأ فراغ الدولة العثمانية التي أجهزوا عليها عقب الحرب العالمية الأولى، ولا ننسى أن بريطانيا كانت القوّة الكبرى النافذة في العالم حينئذ.

الفيلم مقتبَس من رواية ذاع صيتها رغم صغر حجمها البالغ ثمانين صفحة، ومنها أيضا اقتُبس فيلم ثان ومسرحية ومسلسل، وهي رواية (عائد إلى حيفا) للأديب الفلسطيني غسان كنفاني الذي ذاق مرارة التهجير والتشرّد بين فلسطين وسوريا والكويت ولبنان التي اغتاله فيها الموساد عام ١٩٧٢ عبر تفجير سيارته وتمزيقه أشلاء بداخلها عن عمر لم يجاوز الستة والثلاثين عاما.

وعلى هذا النحو، وبمثل تلك الأفلام الجادة والروايات الهادفة، إن وُجدت، يجدر بنا العودة إلى أصل الحكاية وجذور القضية، ليس من قَبيل جلد الذات ولا نكْأ الجراح ولا توزيع الاتهامات واللعنات، ولكن لصياغة وعي حقيقي قائم على حقائق دامغة تستقر في وجدان الأجيال الجديدة التي لم تشهد بعينها ويُراد التغرير بها..فمعركة الوعي لا بد أن تسير جنبا إلى جنبا مع معركة الرمي، والحاكم العربي الذي يعترض مستشارُه على لفظ الكيان الغاصب ويطلب محوه من مضبطة برلمانه، لن يكتب تاريخا يُعوَّل عليه في بناء مثل هذا الوعي المنشود، وكما قيل: ما ضاع حقّ وراءه مُطالِب..شريطة أن يكون هذا المُطالِب صاحب حجّة وقوّة وإصرار.

***

بقلم: د. منير لطفي - مصر

طبيب وكاتب

في المثقف اليوم