أقلام حرة

علي فضيل العربي: المقامة الغزّاويّة (1)

حدّث أيوب بن أيّوب الغزّاوي، قال:

قررت أن أكتب للمجانين، لعلني أجد لديهم بعضا من التعقّل أو قبسا من الحكمة. ألم يقل أسلافنا: إنّ من الجنون لحكمة. لقد يئست من مخاطبة العقلاء ومناشدتهم في هذا العالم المنزوع الإنسانيّة. لم أجد فيهم من يفقه قولي، ويحلل عقدة العقلاء في هذا العالم. يا سادتي، هذه كلماتي المغموسة بدم الأطفال والشرفاء. أكتب إليكم بريشة مداد محبرتها دم ودموع ينزفان من قلب غزّة. أسألك أيّها العالم الغربيّ – بربّ السموات والأرض والخلق جميعهم - هل تروننا بشرا مثلكم؟ أم أنّنّا في نظركم ويقينكم لسنا من سلالة آدم؟ أم أنّنا بكل صراحة وحوش كما وصفنا أحد صهاينة حكومتهم الحربيّة؟

هل مازال في العالم الديمقراطيّ عقلاء، لهم قلوب تتألّم وجعا ، وعيون تدمع أسى، وآذانا تسمع صرخات الضحايا وأنين المكلومين والجرحى؟ هل مازال على هذا الكوكب الترابيّ الذي أكرم الله به آدم من له بصر وبصيرة؟ لا أظنّ أنّ العالم الديمقراطي يفقه ويأبه لمأساة الغزّاويّة.

لم تعد غزّة الجميلة آمنة. إنّ أعداءنا ماضون في إبادتنا، ومصرّون على إفنائنا. بينا أبناء عمومتنا وعقيدتنا صامتون، مشلولون، فاقدون للأسماع والأبصار والأفئدة. إنّ وابل القصف الجوّي والمدفعي على رؤوسنا لا يكاد يتوقف لحظة. إنّ أعداءنا وأبناء جلدتنا يحاصروننا منذ سبعة عشر سنة خلت، ومنذ سبعة عقود ونحن- الشعب الفلسطيني – نتجرّع سموم الصهيونيّة، ونرتحل من نكبة إلى نكبة، ومن نكسة إلى أخرى. إنّهم ماضون في تشييد المقابر الجماعيّة لنا، كما لو أنّهم مجدّون في قضاء شهواتهم ورغباتهم الجنسيّة. ماضون في إرسال أطنان من الأكفان، كي لا تزكم روائح أجسادنا وأشلائنا أنوفهم المعطّرة بالروائح المخمليّة، الباريسيّة.

نحن يا سادتي، بشر مثلكم، حقيق لنا أن نعيش أحرارا مثل بقيّة أحرار العالم. نحن لسنا وحوشا، كما وصفنا أعداؤنا. نحن بشر، لنا ما لكم ؛ لنا الحقّ - كلّ الحقّ - في الحياة والحريّة والكرامة. خلقنا الله لنعيش في كنف الأمن. لم يخلقنا لكي تقتلوننا. من خوّل لكم قتلنا؟ نحن لسنا متاعا لأحد. نحن عبيد الله وملكه. فلماذا تعتدون على نعم الله؟

أكتب لكم من فوق الركام ومن تحتي ومن حولي ركام، ركام بيتنا وبيوت الجيران المقصوفة بقنابل الحقد والوحشية والهمجية المطلقة، المرسلة من بلاد العم سام، حيث ينتصب تمثال الحريّة شامخا. لم يبق منه جدار ولا باب ولا نافذة ولا سقف الا اصابها الدمار. كانت القنابل ضخمة. حارقة. شديدة. (ما فش أكل ولا مياه وأي شيء من مقومات الحياة). لقد نفد الماء والغذاء والدواء. لم تبق أمامنا سوى أوراق الشجر وحبّات التراب.

أيّها الأعراب والعجم ، يا من تديرون العالم من فوهة مدفع، كأنّه تلسكوب فضائيّ. يا من تجلسون خلف الشاشات المرئيّة، وتعدّون ضحايانا من الأطفال والرضّع والنساء، وكأنّكم تعدّون أرباح أسهمكم في البورصات. نحن، هنا باقون ، فوق الثرى أو تحته، باقون لحما وعظما وروحا. لن نرحل عن مرابعنا إلاّ إلى السماء. لا معبر لنا سوى معبر السماء. أمّا معابركم في رفح وأبي كرم وغيرهما، فهي متروكة لكم أيّها الجبناء، وللغرباء عن غزّة كي يعودوا من حيث أتوا. أمّا نحن، فإنّنا هنا واقفون كأشجار بيّارات الزيتون والليمون، باقون هنا كبحر غزّة وأصدافه ورماله وأمواجه وزرقته السماويّة وشمس الشروق وآصائله. وإنّه لجهاد، نصر أو استشهاد.

لو قيل لي، سيأتي زمن من أزمان أمتي العربيّة والإسلاميّة، يقدم فيه الصهاينة وأعوانهم على إبادة أهل غزّة وفلسطين، تحت ظلّ الصمت الرهيب، لما صدّقت، بل لانتفضت غيظا واستنكارا، ولقلت هذا لن يكون أبدا، حتى يبيّض ريش الغراب. هذ افتراء وبهتان على خير أمّة أُخرجت للناس ـ تؤمن بالله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. أمّا وقد حدث، ويحدث اليوم في غزّة، وأمّة العرب والمسلمين ترى المأساة، ولا تحرّك ساكنا. وقد شُلّ عقلها، واعتُقل لسانها، وانكشفت سوآتها، ولم تجد ورقا أخضر أو يابسا تستر به عورتها. فقد صدق من قال فيها (يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم).

و ختم أيّوب بن أيّوب الغزّاوي، الكلام المباح في انتظار انبلاج الفجر، وطلوع الصباح قائلا:

طاب نومك يا أمّة المليار والنفط والغاز واللغو والصمت.

***

علي فضيل العربي – الجزئر

في المثقف اليوم