أقلام حرة

علي علي: الأشد فتكا

حين سئل هتلر النازي عن أكثر الناس حقارة قابلهم في حياته أجاب: هم أولائك الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم.

تبيت شعوب كثيرة تقطن وجه المعمورة، على قلق وكوابيس لاتنتهي، ليصبحوا بعدها على وساوس، تأخذ دورها هي الأخرى بإكمال ما تركته كوابيس أمسهم، بسد منافذ الفرح وأبواب السعادة من جهاتهم جميعها. ولم يكن هذا الحال ليحدث لولا أرضيتهم القلقة التي يقفون عليها، إذ أنهم متمسكون بما تحت أقدامهم من رقعة جغرافية، والتي يطلق عليها وطن، وفي حقيقتها تجسيد مفصل للمنفى والمهجر، حيث الغربة بمعناها الأوسع، والضياع بمفرداته جميعها، وبذا هم يعيشون أيامهم برعب وتوجس أبعد مايكون عن الأمان، ومعلوم أن أول ما يمحق ماهية الوطن هو مصطلح الأمان.

سمعنا -ومازلنا نسمع- عن مافيات وعصابات وخارجين عن القانون، يقومون بأعمال لا تمت إلى الإنسانية بصلة، فقد دون المؤرخون ماتمر به بلدانهم من أحداث كثيرة، وبتصفح على عجالة لصفحات التاريخ يقوم بها أي منظر، يتبين له جليًا السبب الرئيس لتعثر تحقيق الأمان، لاسيما في دول تمتلك مؤهلات لوجستية، وطاقات فكرية، وإمكانيات مادية، ومواقع جغرافية، تُلزمها بنجاح مشروع تحقيق الأمان لشعوبها. والأمان متشعب المجالات، واستتبابه التام يجب أن يشمل المجالات كلها، إذ يبقى شعور المواطن بالغربة وهو في وطنه ملازما لتفاصيل يومه، ما لم يلمس ويرى بأم عينيه أمانا لحياته وحاضره ومستقبله. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أستشهد بالجانب الأمني وهو ركن أساس من إحلال الأمان، فقد سجل التاريخ في أسفاره أحداثا، تتضح فيها الرؤية وتنجلي الأسباب والمسببات، أمام الأعين والبصائر والأسماع، وتزول كل الشبهات في كيفية حدوث الخرق.

فسور الصين العظيم الذي يبلغ طوله 2400 كم، والذي يعد مشروعا دفاعيا عسكريا قديما بارزا ونادرا في التاريخ المعماري البشري، وهو ليس سورا فقط، بل هو مشروع دفاعي متكامل، يتكون من الجدران الدفاعية وأبراج المراقبة والممرات الاستراتيجية، ويضم ثكنات للجنود وأبراج للإنذار وغيرها من المنشآت الدفاعية. ويسيطر على هذا المشروع الدفاعي نظام قيادي عسكري متكامل. ولكن رغم كل الجهود والأموال التي بذلها الحكام الصينيون في بنائه، لم يقم السور بمهمته المطلوبة في الدفاع عن البلاد، ضد هجمات الشعوب البدوية (البرابرة). ولم يصد الغزوات التي قام بها أباطرة ملوك “تشنغ”. إذ تم اختراقه أكثر من مرة، والسر في هذا لم يكن لضعف في بنائه، او لقوة خيالية في المهاجمين عليه، بل هي الخيانة وحدها كانت السبب في اختراقه، ووحدها الخيانة هي التي فتحت الثغرات أمام العدو وسهلت مهامه. والخيانة أصناف، فهناك خيانة الضمير، وخيانة المال، وخيانة الشرف، وخيانة القَسَم، وخيانة الوطن.

إن ما يؤسف له أن نعيش في بلدنا العراق العريق، أحداثا غريبة بين الفينة والأخرى، كانت قد تسربت إلى مدننا الآمنة عنوة في غفلة من عين الزمن، رغم الإرث الاجتماعي الأصيل، والقيم النبيلة التي يتحلى بها شعبنا، ولعل الخيانة هي السبب الرئيس والمسبب الأبرز في غلغلة تلك الأحداث بيننا، فالخيانة هي التي هجّرت الآمنين في بيوتهم، والخيانة هي التي فجرت المؤسسات المحصنة والمنشآت المؤمنة، والخيانة هي التي هتكت الأعراض وسرقت المال الخاص والعام على حد سواء، والخيانة هي التي أسهمت بنشر الرشى.

فللحد من تداعي ماوصلنا اليه من قلق يحيقنا يقظة ومناما، قياما وقعودا وعلى جنوبنا، يجب قطع دابر الخيانة من أصله، كي لاتنمو لها فروع، ويكمل الخائنون حينها مسيرتهم في محو العرق والدين والثقافة والحضارة، وبغير هذا ستكون الحلول ترقيعية والعلاجات غير ناجعة، ولن تكون للرقية جدوى غير تبليغ السم في العروق، لاسيما والخونة بارعون باللدغ في المقتل على مدار الساعة.

***

علي علي – كاتب وصحفي عراقي

 

في المثقف اليوم