أقلام حرة

علي علي: شتان بين الخلاف والاختلاف

يعود تاريخ اختراع التلفاز بشكل بدائي إلى عام 1884، ثم أخذ يتطور تقنيا عقب الحرب العالمية الأولى، وشهد في بداية الخمسينيات طفرات نوعية حتى وصل إلى مانراه اليوم. وباختراع الأقمار الصناعية حدث ثورة الاتصالات الهائلة، وتعددت وسائل نقل الأخبار بصنوفها لعل أبرزها السوشيال ميديا، وصرنا نتابع ما يحلو لنا من برامج أنّى شئنا، وبما أن بلدنا يشهد تقلبات كثيرة على مدار الساعة تقريبا، لاسيما في الجانب السياسي، فإن وسائل التواصل سهلت متابعتها من قبل المواطن.

هو ليس تحليلا جديدا لحالة آخذة بالانتشار، بين جمهور يتابع وسائل الاتصالات أولا بأول، كما أنني لن أضيف بتناولها معلومة لأذهان متلقي مقالي هذا، ولا حق لي بنيل سبق صحفي في نشرها، تلك الحالة هي تعدد الإجابات وتذبذبها، على لسان مستضافين في برامج حوارية وتنظيرية تُعرض على شاشات التلفاز، مع أن السؤال المطروح عليهم واحد. وأكاد أجزم أن أغلب هذه الأسئلة لا تقبل إجابتين، وإن قبلت فمن باب اختلاف وجهات النظر وتعدد الآراء، وهذه حالة إيجابية تعزز هدف المحاورة أو التنظير، بإشباع رغبة الجمهور المتابع في الاطلاع على ما يمس مصلحته، أو تغطية حاجته في معرفة مايدور في بلده.

ولا تُنكر حاجة المواطن في الوقوف على كل كبيرة وصغيرة، للأحداث التي تغيب تفاصيل بعضها -بل أغلبها- عن تصوراته وتحليلاته، رغم أن مداركه وتوقعاته قد توسعت، وتعمقت قدرته على استقراء المستقبل، وفق معطيات الأحداث بما توفره له وسائل الاتصال الحديثة، ولا أبالغ حين أقول أنه لم تعد تنطلي عليه مخفية ومعلنة، أو شاردة واردة، أو همزة لمزة، وأصبح كما يقول مثلنا الدارج: (مفتّح باللبن). وكما أشرت أن الاختلاف حالة مشروعة في النقاشات، وتأتي أكله مع تنوع درجاته وأصنافه بالنافع والمفيد، ولا ضير في تشعبه وشموله مفاصل عدة، مادام الرأي السديد والتحليل المنطقي وقناعة الأطراف المختلفة، هي تحصيل حاصل يُدخل الطمأنينة إلى قلب متابع الحدث. غير أن الذي يعكر صفو الحوار أو المناظرة هو الخلاف، وشتان بين الخلاف والاختلاف، وما يزيد الطين بلة ويشوه الحقائق، هو تعنت المستضافين بآرائهم ومواقفهم، وعادة ما يكون أحدهم مصيبا، فيما يكون الثاني مجانبا للحق بعيدا عن الصواب، وله في هذا خلفية تحكمه وجهات تحدد مساحة طرحه، ويظل المستظافون يراوحون يمينا ويسارا ويتقافزون على الحقائق والدلائل، وينحسر هدف كل منهم في الانتصار على نده، مدعيا أنه الجانب الأحق والباقون كلهم باطل، وكأنه يجسد ما ينسب لإبي العتاهية (أو لغيره):

وكل يدعي وصلا بليلى

وليلى لا تقر له بذاك

ولطالما تحولت طاولة الحوار إلى حلبة مصارعة يضطرم فيها النزاع، فيبرز فيها كل ند عضلاته على الآخر، وغايتهم قطعا معروفة لدى المستمع، وهذا ما أدمنا رؤيته في أغلب البرامج، وفي الحقيقة أن من المعيب أن يبلغ الخلاف حدا، يتجاوز فيه المتحاورون دبلوماسية الحوار، وتختفي الكياسة المفترض توافرها فيهم، بل يتبجح بعضهم بـ (انعدام الأدب) أحيانا، فيطلقون العنان للألفاظ غير اللائقة بينهم بشكل مخزٍ، ولايقف خلافهم على التنابز وارتفاع الأصوات، بل يتفاقم إلى تشابك بالأيدي وباستخدام (السلاح الأبيض) في أحيان كثيرة، وهنا يفقد الحوار الهدف السامي لإجرائه، ويختلط حابل الحق مع نابل الباطل، ويحار الطرف المحق بأي الطرق يتحاور ليوصل صوته، وهكذا يضيع الحق كما "ضاع عقد على صدر خالصة".

***

علي علي

في المثقف اليوم