أقلام حرة
همام طه: الخسارة كفرصة

حين تُعيدنا كرة القدم إلى أسئلة الوطن الكبرى
الهزيمة ليست مجرد نتيجة
لم تكن خسارة المنتخب الوطني العراقي أمام نظيره الفلسطيني مجرد تعثر رياضي، بل لحظة تستدعي مراجعة شاملة لفكرة الوطنية نفسها، وللمفاهيم التي نعرّف بها النصر والهزيمة، الفخر والانكسار، النجاح والفشل، الربح والخسارة. إقالة المدرب الإسباني كاساس قد تبدو إجراءً فنياً بحتاً، لكن المسألة تتجاوز الرياضة إلى الثقافة السياسية لدى النخبة والجمهور، والمنطق الذي تُدار به مختلف الملفات، حيث تتحكم العقلية ذاتها في السياسة والاقتصاد والرياضة، فتجعل من أي أزمة فرصة للتخلص من شخص بدلاً من مواجهة المشكلة الحقيقية. ليس المنتخب الوطني سوى تعبير رمزي عن حال مجتمع بأكمله، حيث الانتصارات اللحظية كثيراً ما تُستخدم للهروب من مواجهة الواقع، والأزمات غالباً ما تُقابل بمعالجات سطحية سريعة بدلاً من مراجعات بنيوية عميقة.
ما وراء الإقالة: عقليات لا تُقيل نفسها
ربما تكون الوطنية الحقيقية، لا في الاحتفاء بالنتائج المؤقتة، بل في القدرة على تحويل الخسائر إلى لحظات وعي، حيث لا يصبح الألم مناسبة للندب، بل حافزاً لاكتشاف الذات بعيداً عن أوهام التفوق المريح. في بعض اللحظات، لا تكون خسارة مباراة كرة قدم مجرد نتيجة عابرة على لوح الترتيب، بل تصبح مرآة مكبّرة تعكس هشاشتنا الوطنية وأسئلتنا المؤجلة. الهزيمة، حين تمس مشاعر الجمهور، تكشف ما وراء اللعبة: طريقة تفكيرنا، علاقتنا بالنجاح، وهم الفخر الجماعي، نشوة الانتصارات المؤقتة، اختلال الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غياب الفكر التنموي والفلسفة النهضوية والرؤية الإصلاحية، البحث عن حلول ترقيعية لأزمات متجذرة، الإخفاق في إدراك الأزمات نفسها وتعريفها بصورة سليمة، وعجزنا عن التأمل في واقعنا والتخطيط لمستقبلنا.
في مواجهة المرايا: حين تكشفنا كرة القدم
الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية نحيا فوقها، بل هو وعي متجدّد يتشكل عبر التجارب والاختبارات الجماعية. في كل صدمة أو إحباط فرصة لاكتشاف الذات الوطنية بعيداً عن المبالغات العاطفية والانتصارات اللحظية. كيف يمكن للهزائم، حتى في ميدان الرياضة، أن تكون لحظة وعي، لا انكسار؟ وكيف يمكننا إعادة تعريف علاقتنا بالوطن من خلال مواجهة الحقيقة بدلاً من الهروب منها؟
جرح وطني نحتاجه
لأننا نحب أوطاننا، فمن الضروري أن نشكّ بين حين وآخر بالسرديات التقليدية التي ننسجها حولها. أن نعيد اختبار مسلّماتنا الوطنية، وأن نتعرّض لما يكسر غرورنا الجمعي ويهزّ قناعاتنا المريحة. الخسارات ليست مجرد إخفاقات، بل لحظات تُجبرنا على رؤية ما لا نريد رؤيته. كيف يمكن أن تتحول الهزيمة إلى نافذة نطل منها على حقيقتنا دون زيف؟ وكيف يمكن للجرح في كبريائنا الجماعية أن يكون فرصة للنجاة من الغرق في الوهم؟
لأني أحب العراق، فأنا أشعر بسعادة كلما خسر المنتخب الوطني إحدى مبارياته في منافسات كرة القدم. من الجيّد أن يتعرّض المجتمع لصدمة كي يعيد اكتشاف نفسه. بين الحين والآخر نحتاج إلى جرح نرجسي في الكبرياء الوطنية، هزّة وجدانية تستفز الوعي وتوقظ المجتمع من وهم التفوّق الزائف. الوطنية التي لا تحتمل الهزائم ليست إلا قناعاً هشاً، والمنتخب ليس أكثر من مرآة تكشف لنا واقعنا. كلما انخدعنا بأمجاد كروية مؤقتة، ازدادنا غرقاً في الكسل الجماعي، في الهروب من مواجهة أنفسنا. ومن وقت لآخر، لا بأس بجرح في الغرور الجمعي، علّه يجعلنا نتوقف عن العيش على فتات الانتصارات السطحية، ونفكر في بناء شيء يستحق الفخر فعلاً. وعندما نحقق شيئاً عظيماً حقاً، لن نكون بحاجة للفخر أو التفاخر أصلاً، لأن الإنجاز الحقيقي يمنح أصحابه الامتلاء النفسي والرضا الداخلي والثقة العميقة، ويغنيهم عن مشاعر التفوّق وادعاء الأفضلية.
من الهوس إلى الهواية: كيف نُعيد للرياضة معناها؟
هنا تبرز إشكالية عميقة: النهضة الوطنية الحقيقية لا يمكن اختزالها في قطاع الرياضة، ولا تختصر في منتخب قوي يحقق نتائج مرضية. فالتنمية الرياضية لا تعني فقط رفع كؤوس الفوز، بل تعني أيضاً كيف نوظف الرياضة في إعداد وتأهيل الشباب بدنياً وذهنياً وسلوكياً، كيف نحميهم من السقوط في مستنقعات الإدمان والفراغ واللامعنى. التحدي الحقيقي هو كيف نحول الرياضة من انفعال جماهيري إلى فعل فردي ومجتمعي لتطوير الذات وتحسين الصحة العامة، وكيف نحول كرة القدم من هوس شعبي إلى هواية صحية وثقافة عامة ونشاط يومي. والسؤال الأعمق: كيف نجعل الرياضة وسيلة لإثراء المجتمع لا لإلهائه، رافعة للتنمية لا مسكّناً للوهم؟
النجاح يبدأ من العقل
الهوية الوطنية الناضجة لا تُبنى على أوهام المجد اللحظي، بل على وعيٍ حقيقي يتجاوز نشوة الانتصارات الشكلية نحو إنجازات عميقة وأكثر استدامة. حين ندرك أن الفخر الحقيقي لا يكون بالميداليات والكؤوس بل ببناء وطنٍ قادر على هزيمة الفقر والأمية والتصدي لانعدام العدالة وغياب المساواة؛ في تلك اللحظة نكون قد تجاوزنا الحاجة إلى إثبات تفوقنا للآخرين، ووجدنا بدلاً من ذلك الرضا العميق بمعنى الانتماء ذاته.
النجاح لا يُستورد، ولا يُمنح، ولا يأتي صدفة. إنه فكرة تولد أولاً في العقل، وتُربى في المخيلة، وتُنحت في الوعي الجمعي. قبل أن نحقّق الانتصارات في الميدان، علينا أن ننتصر في أذهاننا، أن نحرّر العقل العراقي من عقدة النقص أو من وهم التفوّق الفارغ، من الكسل المزمن أو الفخر الزائف. لن يكون لدينا وطن منتج ما لم نؤمن أولاً أننا قادرون على الإنتاج. ولا يمكننا بناء قطاع رياضي ناضج ما لم نؤمن أن النجاح فيه ليس صدفة أو حظاً أو قراراً سياسياً، بل نتيجة منطقية لعقل يؤمن بالتخطيط والانضباط والاحترام الحقيقي للوقت والقوانين والكفاءة.
بين وهم الفوز ومواجهة الذات
حين يصبح النجاح عقيدة عقلية جماعية، سينعكس تلقائياً في كل القطاعات: من المدرسة إلى الملعب، من المصنع إلى المختبر، من البرلمان إلى الشارع. أما حين نظل نحتفل بالنجاحات المعلّبة، أو ننهار أمام أول خسارة، فإننا لا نعيش فعلاً في وطن، بل في حالة إنكار جماعية، نؤجل فيها كل أسئلتنا الحقيقية خلف ستار النتائج.
لا بأس بالخسارة… بشرط أن نفيق
في النهاية، ليس السؤال: لماذا نخسر؟ بل لماذا نحتاج إلى انتصار حتى نشعر بوجودنا؟ لماذا نبني هويتنا على لحظات مؤقتة بدل أن نخلق لها أساساً متيناً؟ ربما علينا أن نتعلم كيف نتحرر من حاجتنا الدائمة للتفاخر، لأن الامتلاء الحقيقي لا يحتاج إلى استعراض، ولأن الوطن لا يصبح وطناً إلا حين يكون أكثر من مجرد مرآة لغرورنا.
الوطن الذي لا يعرف إلا نشوة الفوز وطن هشّ، والوطن الذي يخشى النظر في مرآة الخسارة وطن خائف من مواجهة نفسه. لا بأس أن نخسر، لكن الأسوأ أن تمرّ الخسارة دون أن تترك أثراً، دون أن تصبح لحظة تأملٍ فيما نحن عليه. ربما تكون أعظم الانتصارات هي تلك التي تأتي بعد أن نتعلم كيف نخسر بوعي، وكيف نحوّل كل سقوط إلى خطوة في طريق طويل لا يفضي إلى مجد زائف، بل إلى وطن لا يحتاج إلى مرايا ولا إلى أوهام كي يرى نفسه.
***
همام طه