أقلام حرة
حميدة القحطاني: حين يصير الانتماء طريقًا إلى الذات والسماء

الانتماء حاجة فطرية، تميل إليها كل نفس، تمامًا كما تميل إلى الحفاظ على مسافتها الخاصة واستقلاليتها. كلاهما فطرة، ولا تناقض بينهما.
لكن ما لا أقبله، أن يُختزل الانتماء في التماهي الأعمى، كما في القول:
“وما أنا إلا من غزية إن غزت غزوت، وإن ترشد غزية أرشد”.
فالانتماء إن تحوّل إلى ذوبان، يصبح كفرًا بالذات، وتجاوزًا على العقل، وإساءة لتفرّد الروح وتوهّجها الخاص.
مررت بتجارب عديدة، وضعت نفسي فيها، وحاولت أن ألبسها ما يناسب روحي من صور وقيم ورغبات دفينة. لكنني كثيرًا ما شعرت أنني لا أشبه نفسي، ولا أنتمي لذاتي، فأبتعد بهدوء، وينقطع خيط الانتماء من تلقاء نفسه.
لم أنتمِ بعمق لأي عمل، رغم أن تجاربي فيه كانت طيبة، وأثري بقي حسنًا.
ولم أنتمِ لعائلة سوى عائلتي السابقة، حيث جمعتنا السجون، والألم، والقدر المشترك، والمصير الواحد آنذاك.
أما الأشخاص، فكان انتمائي لبعضهم بنسبة بسيطة، حين وجدت بينهم وبين روحي شيئًا من التقاطع، من الفكر، أو الوجدان.
وانتميت بصدق لفعل التدريب، وانتميت لأرواح الشباب الحرة التوّاقة للمعرفة والاكتشاف.
من هنا، اخترت التدريس عملًا أمضي به ما تبقى من عمري معهم، لعلّي أكون قيمة مضافة في بعض أيامهم، ولأني أتعلم منهم بقدر ما أعلّم.
في هذه المساحة، شعرت أن الانتماء يحمل طيفًا من المعنى، وملمسًا من الروح.
ومؤخرًا، أصبحت أحنّ إلى الانتماء للمطلق… إلى الخالق.
بل إنني، وبكل صدق، انتميت للطبيعة: للورد، وللأشجار، وللسماء الصافية…
أصبحت الطبيعة تجلّيات ترافق أيامي، كوسيلة تهديني وتوصلني إلى الله.
أمنيتي الكبرى اليوم أن أنتمي إلى الله.
أدعوه كثيرًا أن يهديني، وأن يلهمني كيف أسلك طريقه بوعي أصفى، وبصيرة متقدة، ونفس أكثر خفة ونقاء.
حتى مع أبنائي وبناتي…
فانتمائي لهم ليس امتلاكًا، بل امتدادٌ لرحمة الله في قلبي.
هم أفراد جاءوا من خلالي، لا إليّ. لكل منهم مساره، وقصته، وأقداره.
لا أتماهى بانتمائي إليهم، بل أحترم خصوصيتهم، وأقدّر المسافة التي تمنحهم حقهم كأرواح حرة.
أتوق إلى علاقة صداقة صادقة وعميقة معهم.
هم جيل أحدث مني، أتعلم منهم، ولا أبخل عليهم بخبرتي المتواضعة من عمرٍ سبقهم في الوجود.
حبي لهم أصبح غير مشروط.
ودعائي لهم دائم: بالبركة، والعافية، وسلام القلب.
أسأل الله أن يرضى عنهم، ويرضيهم، ولا يحمّلهم ما لا طاقة لهم به.
***
د. حميدة القحطاني