مقاربات فنية وحضارية

قلبٌ بلا ملاذ.. آلام المنفى ولوعة الحنين إلى الوطن

82 منال ديب 1نظّم غاليري P 21 بلندن معرضًا شخصيًا للفنانة الفلسطينية منال ديب المقيمة في أميركا حاليًا. وقد ضمّ المعرض 32 لوحة، وأعمالاً فنية رقمية، إضافة إلى خمسة أعمال فيديوية وُزعت بطريقة أنيقة ومريحة على صالتي المعرض الكبيرتين نسبيًا، كما استثمرت داغمار بينتر، القيّمة على المعرض الممر الطويل الذي يربط بين الصالتين وزيّنته بالعديد من اللوحات المعبِّرة التي تستوقف الحضور العرب والأجانب المعنيين بالقضية الفلسطينية أو المتعاطفين معها.

قبل الولوج في تفاصيل الأعمال الفنيّة لابدّ من الإشارة إلى أنّ منال ديب وُلدت بمدينة رام الله في فلسطين، وأكملت دراستها الإعدادية هناك، ثم انتقلت إلى العاصمة الأميركية واشنطن، ودرست فنون الأستوديو في جامعة ألينوي بشيكاغو، وحصلت على درجة البكالوريوس في الدراسات متعددة التخصصات مع التركيز على علم نفس الفن من جامعة جورج مَيْسِن بفرجينيا، فلا غرابة أن تدخل الثيمة النفسية إلى العديد من أعمالها الفنية وخاصة تلك التي تعالج فيها موضوعات الهوية، والمنفى، والحنين إلى الوطن مع أنّ ثيماتها إنسانية ولا تنحصر في حدود الوطن المستباح لأنها معنيّة أصلاً بثقافات الشعوب، ومدّ الجسور بين الأديان السماوية الثلاثة، كما أنها تبحث عن أواصر التفاهم والتسامح بين الأقوام البشرية بغض النظر عن أعراقهم ودياناتهم وطوائفهم وربما يكون الفن التشكيلي هو الوسيلة المُثلى للتعاطي مع الكائن البشري في كل مكان من دون الحاجة إلى اللغة، فالفنون البصرية في كثير من الأحوال لا تحتاج إلى اللغة وإنما إلى تواصل المتلقي مع العمل الفني المعلّق أمامه.

82 منال ديب 2

ربما تكون ثيمة الذاكرة هي الأكثر هيمنة في هذا المعرض، فالفنانة منال ديب تتذكّر أيام طفولتها وصباها الأول في رام الله، كما تتذكّر القدس وبقية المدن الفلسطينية التي مرّت بها أو شاهدتها عبر الصور الفوتوغرافية والتلفازية والسينمائية فتسترجعها لتخلّدها  في أعمال فنية كما هو الحال في لوحة "إلى الأبد في عقولنا" حيث تتذكر الفنانة أفراد الأسرة برمتها، أو غيرها من الأُسَر الفلسطينية، فالدلالة قد تخرج من إطار الذات إلى الموضوع أو تتجاوز الخاص إلى ما هو أعمّ وأشمل.

لابد من الإشارة إلى تقنية منال ديب في تجسيد أعمالها الفنية، فهي، كما ذكرتْ داغمار بينتر، تقتفي آثار ثلاث فنانات فلسطينيات معروفات وهنّ زلفة السعدي، جوليانا سيرافيم ومنى حاطوم اللواتي رسمن الشخصيات الثقافية والتاريخية والشعبية إضافة إلى الطبيعة الصامتة، والمَشاهِد المستوحاة من الحياة الاجتماعية الفلسطينية لكن منال ديب اختطّت لنفسها طريقًا مغايرة حيث اتخذت من وجهها أو جسدها بالكامل خلفية لمعظم أعمالها الفنية، فهي ترسم ملامح وجهها بواقعية متقنة جدًا لا يجد المتلقي صعوبة في التعرّف عليها. كما أنها توظّف معطيات الخط العربي بطريقة تجريدية، فالمُشاهد لا يستطيع أن يلتقط كلمة واحدة من المناخ الحروفي الذي تُبدعه، فالهدف ليس قراءة كلمة ذات معنى، أو جملة مفيدة، أو صورة شعرية رسخت في الأذهان العربية، فمنال، كما نعرف، مولعة بالشعر العربي ولعلها تستشف من بعض القصائد موضوعات لأعمالها الفنية المتنوعة غير أن هدف المنحى الحروفي هو جمالي بالأساس ولعلّه يحيلنا أيضًا إلى عالمنا العربي بشكل خاص والإسلامي بشكلٍ أعمّ. أما العنصر الثالث والأخير فهو توظيفها للبُعد النفسي الذي يمكن تلمّسه بسهولة للمتلقي المُلِّم بتجربتها الفنية. ويكفي أن نشير هنا إلى لوحة "كتاتونيا" التي نفذّتها بالديجيتال على المعدن بقياس 50 x 75 سم، غير أن هذا النمط من اللوحات المعقدة يحتاج معرفة وإلمام بعلم النفس. فالكتاتونيا تعني "الجامود" أو "الإغماء التخشّبي" وهو "زيادة توتّر العضلات في وقت الراحة لكنه يزول بممارسة الحركات الإرادية". المتأمل لهذا العمل الفني يرى فيه أبعد من جمود العضلات أو توترها، فهو صورة إيروسية لكنها لا تقع في فخّ البورنوغراف الهابط. كما لعبت الألون المتناغمة دورًا مهمًا يقود المتلقي بالضرورة إلى الاسترخاء بعيدًا عن ذبذبات التوتر الذي يعاني منه الجسد الأنثوي الجميل الغارق في صمته ووجعه الداخلي.

82 منال ديب 3

تمرّ غالبية الأعمال الفنية لمنال ديب عبر الأنا الفردية المتواضعة التي لا تتعالى على الآخرين حتى أن صورتها الشخصية تكاد تكون العمود الفقري للعمل الفني الذي تريد أن تؤكد من خلاله أنها موجودة مثل وجود الوطن بطبيعته الأزلية التي لا تتلاشى أو تُبتلع مهما تغوّل الأعداء والطامعون بمهبط الرُسلِ والديانات. فالفلسطيني يظل مرابطًا في أرضه، وحارسًا أمينًا على قبة الصخرة التي أسمتْها في واحدة من لوحاتها بـ "قُبّة الأرواح" وهي استعارة بصرية شديدة التأثير على المتلقين الذين يتأملون هذه القُبّة المطوّقة بوجه الفنانة منال ديب التي أصبحت في هذا العمل الفني رمزًا لكل الفلسطينيين من دون استثناء، فإذا كانت منال، وهي البعيدة جسديًا عن القدس، وتقيم في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وتحتضن القبة في رأسها، فكيف بالناس الفلسطينيين المرابطين الذين يسوّرون القُبة بأجسادهم وأرواحهم، ويحيطونها بعقولهم وقلوبهم ليل نهار؟

تُعتَبر لوحة "باروك" من أقوى اللوحات التعبيرية التي حوّلت فيها الفنانة معالم وجهها إلى بناء أثري يذكرنا بكل المدن الفلسطينية العتيقة بأبوابها المستطيلة ونوافذها المشرَعة على العالم الخارجي. والغريب أن وجه الفنانة بات أكثر رقّة رغم صلادة الحجر الذي طغى على كل تفاصيله الدقيقة.

لوحات كثيرة في هذا المعرض تعزز فكرة البقاء، والمرابطة، والتشبث بالوطن والذكريات من بينها لوحة "الحنين" أو "أن تكون هناك"، ففي الأولى يجلس اللاجئ الفلسطيني الطاعن في السن منتظرًا تحقيق حلم العودة إلى الوطن، بينما تتأمل المرأة الفلسطينية في اللوحة الثانية المدى الواسع وكأنها تقرأ في كتاب مفتوح ما يخبئه الغد لها ولأبناء جلدتها.

82 منال ديب 4

لوحة "مخبأة" عمل بليغ يختصر الكثير من الكلام، إذ تتوارى الفنانة خلف التاريخ العريق والموغل في القِدم لكنها تطل علينا بعين واحدة مُترقِّبة وكأنها تقول للأعداء المغتصبين لأرضها: "أنني موجودة في هذا الفضاء الفلسطيني، ومتجذرة فيه"، ولعلها تحيلنا إلى لوحة أخرى تحمل عنوان "ثقافة" التي يتجلى فيها المعطى البصري الذي يُحيل إلى الأزياء الشعبية والتراثية التي رسمت عليها خارطة فلسطين على خلفية مفتوحة وكأن لسان حالها يقول بأن هذا البلد منسوج من أعصابنا وشراييننا قبل أن يُنسج على ثيانا وأرديتنا.

ربما تكون لوحة "الأرواح باقية" تحفة لونية تستقطب اهتمام الزائرين حيث يتعاضد الشكل مع المضمون، ويتناغم المبنى مع المعنى، فهي تستدعي الأرواح الفلسطينية التي رحلت منذ الأزمنة القديمة وحتى الوقت الحاضر ولكن طريقة الاستدعاء تُذكّرنا بالتقنية الميتاسردية التي تقرأ النص البصري قراءة مركبة بعيدًا عن الاستسهال والرؤية التبسيطية.

نختم المقال بلوحة "فلسطين الجديدة" وهي عمل فني رقمي لافت للانتباه في ثيمته الذكية، وألوانه المُبهرة، وخطوطه اللينة المرهفة، ففلسطين هذا البلد الجميل الذي ينزف دمًا هو أشبه بالغريق الذي يبحث عن خشبة النجاة ولا يستطيع العثور عليها في خضم الأمواج المتلاطمة العاتية. خلاصة القول إنّ معرض "قلب بلا ملاذ" هو إضافة نوعية لتجربة الفنانة منال ديب التي سوف تحفر اسمها بقوة في المشهد التشكيلي الفلسطيني الموزّع في المنافي الأوروبية والأميركية.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم