مقاربات فنية وحضارية

جمال العتّابي: في الفن الفطري.. تكمن الأجوبة الصامتة

الفنان الفطري، هل له موقف ما من العالم ؟

هل يملك صوته الخاص أو لغته التعبيرية، وهل حاول من خلالهما تحديد موقفه أو موقعه من هذا الوجود؟

هذا الفنان البسيط المغمور، يرى العالم من خلال منظوره الخاص، وقد تلتبس عليه الرؤية إذا ما وجد أن وسائله التعبيرية لا تمنحه قدرة الوصول الى المقاييس الجمالية التقليدية المعروفة، فهل يحزن لهذه النتيجة أم أنه، داخلياً لا يريد أن يكون أسيراً لها؟.. أم أن اللعبة لا يعرفها أصلاً، وهو بالنتيجة لا يعرف أصولها.

الفطرية مفهوم قائم بذاته، متأثر بالرغبة في خلق شعور بالجمال البدائي، والتعبير التلقائي الخالي من أي تعقيد أو غموض، أو رقابة فنية أو فكرية، وهذا ما تجسد في فخاريات العراق القديم التي صنعها انسان تلك العصور.

ويشار الى الفن الفطري أحياناً باسم الفن البدائي، كما يتداخل مع ما يسمى بالفن الخارجي، أو مع الفن الفرنسي المتوحش، وهذا يشمل ما يرسمه الأطفال، أو ذوي الحاجات الخاصة، مثل، السجناء والمعاقين، والمصابين بامراض عقلية، على خلاف الفن الفولكلوري أو الشعبي، الذي يتبنى نهجاً تبسيطياً مشابهاً، وبالضرورة لايستند الفن الفطري  الى سياق ثقافي أو تقليد متميز، انما امتاز ببساطة التنفيذ، وميل نحو الألوان المشبعة اللامعة، مع غياب المنظور في أغلب الأعمال.3880 الفن الفطري

في العراق تبدو تجربة الفنان الفطري منعم فرات مثالاً للمعادلة الصعبة في العطاء باعتباره وجوداً استثنائياً، اذ دخل حيز الاسطورة ومجالها الواسع والحيوي من مكونه البيئي وتلنفسي، فهو خضع للمخزون المعرفي الشعبي، أي ان الرؤى المتحكمة في وعيه هي الحقيقة الشعبية التي انتجت مقاربات اسطورية تعيش في عالم لم نصل بعد اليه، على حد وصف النحات محمد غني حكمت، ومضى أحد المستشرقين الايطاليين أبعد من ذلك، في القول أنه يفضله على بيكاسو لانه شيئ نادر.

وهكذا يلتقي مع كل الفنون العفوية التي يبدعها الانسان، اعتباراً من فنون البدائيين حتى عفويات الفن الطفولي، ولكننا باستخدام الخيال، نستطيع أن نكون في ألفة عاطفية مع الأعمال التي ينجزها الفطريون، فالامتثال الهادىء لمخلوقاتهم الطيبة المستكينة، ستقودنا الى ينابيع أحلامهم، فأنت المتلقي، أنظر فقط، وكي لا تبدد ذلك السحر الذي ينتشر كالفرح حول هذه العذرية، اكتف بالتأمل في هذا الشيء المختل النسب، الصغير الكبير، الخارج على المقاييس الجمالية، البعيد والمباشر معاً، ثم انتقل معه الى عالم آخر هو غير عالم الجماليين، انك بذلك فقط، سترى كيف تكون الأيدي هي اللغة الكاملة بكل أصواتها، وان العيون تضيء بنور داخلي، والشفاه تخاطب على البعد أناساً غير منظورين، وان الابحار عبر هذه المخلوقات غير مأمون لمن يركب مركب الناقدين، ولهذا يغدو استذكار هذه العذريات أمراً في غاية الصعوبة، لأنها سرعان ما تغادر شبكية العين وتختفي في الداخل.

ثمة خيط سري غير منظور يوصل مابين الاعمال الفطرية، وبين ابطفولة التي ودعها كل متا وهاجر الى مرافئ لا سبيل للرجوع منها الى نقطة المبتدئ، إلا برؤية هذا الضرب من الفن، انه لون من ألوان التعزية لمن يعاودهم الحنين الى تلك المرافئ الجميلة إبحاراً بعين الخيال المظلمة.

في بحر الوجود تلتقي كل الأشرعة، غير أن من يزعم بأنه قادر على فهم هذا الفن بالتعريفات كمن يجازف بأن يجعل من النجمة حليةً لزوجته !

الجوهري المهم، ان في هذا الفن تكمن الأجوبة الصامتة لأسئلة محيرة كانت قد أفلتت من النفس بفعل الحيرة أمام روعة الوجود ذاته، وسيان أن تكون هذه الأجوبة في منطقة الضوء من أبصارنا، أم في منطقة الظل من بصائرنا، فهي على كل حال، كالأثمار المضيئة في أشجار غابية وهبتها الأرض دفق حليبها المغني، لتهب الوجود ثماراً دانية من دون إمنان.

ثمة من يفسر هذا الاثمار العفوي كشرعة من شرع الطبيعة، أوغلت في الوجود الانساني حتى كهوف "التاميرا"، وان يقظات زمنية ما، تلازم تاريخ الانسان تحدث فيه مثل هذا الانفعال، ليتبعه من بعد، التعبير عن الرؤية وما يوازيها من تأليف تشكيلي يوحي بالجانب الوجودي ذاته، وهنا تكمن قوة الفن الفطري، المبرأ من عقدة العلم، لانه أشبه ما يكون باشجار "سيزان" التي يصعب على المرء تسلقها، أو أن يأكل فاكهتها.

هؤلاء الفنانون يريدون التحدث بلغتهم الخاصة، وحين كان عليهم أن لا يلثغوا باصواتهم ومخارجها الصعبة أحياناً، والسهلة أحياناً أخرى، أخضعوها لقوانين نطق أشبه ما تكون بقوانين الطبيعة ذاتها، فولدت عفوية كأحجار الجبال التي تجرفها السيول الى أعماق الوديان، ما تستطيع أن تشفّ عنه دمية مرمرية من معان ٍ، هو تاريخ النفس التي تفجرت ينابيع، وهو السيرة الذاتية لفنان أراد أن يصبح حراً وعارياً كمولود جديد.

***

جمال العتّابي

في المثقف اليوم