كتب واصدارات

نبيل الربيعي: غالب العميدي مسيرة حافلة بالإبداع والعطاء

صدر عن دار الفرات للثقافة والاعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، كتابي الموسوم (غالب العميدي.. مسيرة حافلة بالابداع والعطاء). كُسِرَ الكتاب إلى سبعة فصول، وتضمن الفصل الأول السيرة الذاتية للفنان غالب العميدي، أما الفصل الثاني فبحث في بدايات العميدي في مجال المسرح، و الفصل الثالث دورهُ الريادي في نقابة الفنانين في بابل، والفصل الرابع دوره الريادي في النشاط المدرسي، والفصل الخامس تجربته في التأليف، أما الفصل السادس آراءَهُ حول المسرح العراقي، وتضمن الفصل السابع ما قالو في السيد العميدي من الأدباء والفنانين، وأخيراً ملحق الكتاب الذي شمل جدول يمثل الأعمال الفنية في التأليف والإعداد والإخراج في المسرح والإخراج في فن الأوبريت، والتمثيل في المسرح والأوبريت والسينما والتلفزيون والإذاعة.

اعتمدت في الكتاب على عدة مصادر من خلال اللقاءات وما زودني بها السيد العميدي من مؤلفاته في مجال المسرح والسيرة الذاتية. اتمنى أن يخرج الكتاب ليسد فراغاً في المدرسة العراقية والعربية في مجال المسرح. وأخيراً يطيب لي أن أقدم شكري الجزيل لكل الذين حاورتهم بشأن هذا الموضوع.

ونتأمل لكل ما يجري اليوم في العراق من تحسن وإعادة عجلة الحياة بجميع مفاصله إلى ما كان عليه، وما يصبوا إليه لمستقبل موهوم، وهو الشيء الذي يجعله من ألفه إلى يائه نفياً لتبرير الفساد المستشري الآن بمختلف الصيغ والأشكال. ومن ثم، فإننا نقرأ فيه مشاعرنا واحاسيسنا ونقمتنا ورؤيتنا ورغبتنا وأشياء أخرى نضمرها ونسعى إليها.

فالعراق ليس اسماً ومسمى، بل هو الأنا القابعة في كل فرد منا، وفي معرض تسليط الضوء على مسيرة الفنان المسرحي غالب العميدي الحافلة بالتأريخ الفني من خلال التمثيل والإخراج والتأليف، والعمل المهني في مجال نقابة الفنانين، نستعرض ملامح الأمل التي كثر فينا، والتفاؤل صوب إرساء أسس جديدة قادرة من حيث محتواها المعرفي واسلوبها الموضوعي والعلمي، على جذب الفنانين والأدباء والمثقفين من أجل تفجير الطاقات الفنية الكامنة والمكبوتة، بسبب العزلة الطويلة التي تعرض لها العراق بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003م، وهي عزلة ما زالت تطبع بآثارها الحزينة أفئدة الجميع وهمومهم، وهو الحزن الكامن في الروح العراقي وفيما يسعى إليه.

إننا نسمع ذلك الحزن في شكوى القصيدة وغناء الأمهات وحنين الصبايا والتضرع المعجون بالرغبة الصادقة في تقديم نذر للأسماء التي ترتقي إلى مصاف المقدس الذائب في الذكرى بعد عقود مريرة، مما جعلت العراق مهمشاً، وجعلت الفنان والأديب والمثقف مهمشاً أيضاً.

كان الأمل في أن ينهمك الأغلبية بعد عام 2003م بما يسمى عام التغيير في إعادة بنائه بوصفه عراقنا نحنُ، دون أن تقع بحبائل التفاؤل المزيفة لأحزاب السلطة، أو اليأس المتباكي من تعاسة الواقع.

نلاحظ بمنهجية الصبيان في تفننها البليد بتخريب كل ما لا يستجيب لذوقها، وكان ما كان للفن المسرحي والتشكيلي والفن النحتي من إساءة وإهمال، وهي حالة يمكن تفهمها حالما ننظر إلى المراهقين والصبيان.

من يتأمل ولو عن بعد ما في تاريخ العراق من حقائق أدبية وفنية تاريخية، فإنه سيرى روحهُ تتبختر وعقلهُ يمتحن أمام مهمة البحث عن حكمة في كل ما جرى ويجري، من خلال استقراء مدارسه الفنية وأفراحه وأتراحه وصعوده وهبوطه للَضّم خيوطه الجميلة. فمن يقرأ تأريخنا، فإنه يقف بالضرورة أمام الحقيقة القائلة: بأن هوية العراق المدنية أعرق وأوسع من كل ما قيل فيه.

فقد أنجب العراق العديد من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين، وعدداً هائلاً من المفكرين والمؤرخين والأبطال على مدار السنين، فهم الكوكبة التي رسمت ملامح العراق الكونية وهويته الخاصة، وجعلت منهُ عالم القدرة الدائمة على العطاء والإبداع، كما جعلت منهُ مكان المأساة التاريخية الكبرى الحديثة، وهي مأساة لم تتحول بعد إلى موضوع العلم التاريخي والإبداع الروحي والأدبي والفني.

إن مأساة العراق الحالية لا يمكن تأملها بمعايير البكاء على الأطلال، لأن العراق ليس أطلالاً، بل كوناً وكنزاً ولُغزاً. إننا بحاجة إلى أقلام تاريخية جبارة تفهم دروس الماضي، وتتأمل المستقبل بروية دون عجالة.

فإننا بحاجة إلى مشروع واقعي وعقلاني، وهي مهمة ومسؤولية وواجب بقدرٍ واحد بالنسبة لنخبة الفكر الكبيرة. فالعراق ما زال أرض الممكنات الكبرى وميدان حل اشكاليات الوجود الخالدة، والعراق غائر في ذاتنا وروحنا شأن النخيل الغائر في أجسادنا، وعراقتهُ تقترب من اللغز في أرواحنا.

فحقيقة العراق ليست جغرافيا، بل أكبر وأوسع وأعمق وأعرق، كما أنها ليست زمناً، بل تاريخاً. ومن خلال تتبع تاريخ العراق الثقافي والأدبي والفني والسياسي، نجد أن هناك تعثر استئثار العقل والفكر لنتأمل ما جرى ويجري من انحطاط مختلف مظاهر ومعالم الفقر العلمي والمعرفي اليوم بسبب الطائفية والعرقية. لكننا لا يمكن أن نعيش بهذه الأفكار السوداوية إذ علينا استحضار أرواح وحياة كل أولئك الذين وطئوا هذه الأرض المعطاء، ورسموا صورة الحضارة بأبهى اشكالها من خلال السجال الفكري والحضاري والفني الذي أثرى مكونات الحضارة العالية.

ويبدو لنا من خلال قراءة التاريخ، أن كل المسارح العريقة قد تعرضت لضغوط الكنيسة التي تحكمت فترة من الزمن في القرار السياسي، فقد تعرض المهرجون في روسيا والذين يشكلون البداية الحقيقية للمسرح الروسي لمثل هذه الضغوط من قبل رجال الكنيسة. ولكن مؤلماً لنا جميعاً أن بلادنا العربية قد عرفت المسرح بشكله الحديث مؤخراً.

أما في العراق فقد تأسس المسرح الديني على يد المدارس المسيحية في مدينة الموصل. وللصلة التي كانت تربط المدارس المسيحية بكنائس روما وباريس، حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة هناك. وذلك واضح من خلال المسرحيات التي كانوا يقدمونها وهي تمثيليات معربة عن الفرنسية والإنكليزية كما يقول الدكتور علي الزبيدي؛ وهي تحمل الأسماء ذاتها مثل آدم وحواء ويوسف الصديق، وهو النوع الديني الأخلاقي الذي انتشر في القرون الوسطى، ولكن وجود المسيحيين في بلد إسلامي وضمن أكثرية اجتماعية ودينية إسلامية في مدينة الموصل وحتى العاصمة بغداد لم يحقق الانتشار الذي حظي به المسرح في أوروبا، لأن التمثيليات الدينية التي كانت تقام في روما وباريس وغيرها كانت تقدم في الميادين العامة الكائنة أمام الكنائس، أما في العراق فانحصرت في الكنائس والمدارس الدينية الملحقة به.

ويبدو أن هذا النمط المسرحي الديني، والذي بقي حبيس الكنائس والمدارس العراقية، لم ينجح إلا حينما بادر المسرحيون إلى اختيار نصوص تاريخية تحاكي بها المشاعر القومية، ومثال على ذلك مسرحية بعنوان (الوطن) والتي قدمت عام 1908م، بينما عرضت على مسرح مدرسة الكلداني مسرحية بعنوان (نبوخذ نصر) عام 1889م لمؤلفها الخوري هرمز روسو المارديني، ومسرحية اجتماعية تربوية (لطيف وخوشابة) عام 1893م تأليف نعوم فتح الله سحار.

أما ولادة المسرح العراقي فقد: "ولد المسرح العراقي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، على مجموعة من الرهبان المسيحيين في محافظة الموصل، فكانت البداية مسرحيات وعظّية لها علاقة بالمسرحيات التي قدمتها الكنائس في العصور الوسطى، وذلك للعلاقة الوطيدة بين الكنائس في مدن الموصل وروما وباريس، حيث كان الرهبان يرسلون للدراسة ثم يعودون إلى العراق للعمل والتدريس في المدارس المسيحية العراقية.

وحين أسست الدولة العراقية عام 1921م وجد الفنانون العراقيون على قلتهم أن الاستعمار البريطاني يطوق عنق الوطن، فكان المسرح العراقي وطنياً. يقول الباحث والمخرج العراقي محمد سيف في حديثه عن وطنية المسرح العراقي "إن القدر العراقي قد خزن في أعماقه دراما لم تنجز، حتى أصبحت تراجيديا أسطورة قادرة على أن تنجز عملاً مسرحياً بمعناه الحقيقي، إن التراجيديا الأسطورية من وجهة نظري هي مكان أو بالأحرى عرض للعقيدة التي تتأرجح ما بين الواقع والخيال، فالمواجهة اختلاف يأخذ جذره من طقوس عاشوراء".

بعد اطلاعنا على ما أنجزه الفنان غالب العميدي الذي كان نموذج كتابنا هذا، استطيع القول إنه بحق يمكن أن يكون عينة المسرح العراقي بجدارة لما حققه خلال أربعة عقود أو أكثر من الزمن، من حضور وانجاز متواصل وإضافات نوعية سواء من خلال أعماله المسرحية التي وجدت طريقها للجمهور، أو عبر ما كتبه في مجال التأليف، أو ما شارك به من خلال الإخراج الذي كان بمثابة المختبر لتنضج داخلها تلك الأفكار، وتتطور مواهب الممثلين أو تتلاقح فيها خبرات الفنيين، وتتعمق العلاقة بين طرفي الأرسال والاستقبال, ومن خلال الأعمال الكثيرة والتي أصبحت اليوم تشكل رصيداً في مسيرة المسرح العراقي لا يمكن تجاهله.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي – الحلة

2022م

في المثقف اليوم