كتب واصدارات

الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي

صدر عن دار الخليج للنشر والتوزيع مؤلف جديد تحت عنوان الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي، وهو ثمرة تعاون بين مختبر الترجمة وحوار الثقافات وتكامل المعارف التابع لجامعة القاضي عياض، ومركز الكندي للترجمة والتدريب. والكتاب الذي يقع في حوالي 450 صفحة في حقيقته أبحاث قدمت ضمن الندوة الدولية التي عقدت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش يومي 24 و 25 نونبر 2021 تكريما للدكتور علي القاسمي، الغني عن التعريف، إذ هو أحد أعلام اللغة العربية ورائد من رواد الثقافة والترجمة والأدب المتميزين في العالم العربي، والعالم بأسره. أنه واحد ممن جمع بين المشرق والمغرب مقاما وأهلا، والشرق والغرب أدبا وعلما. وقد جمع المؤتمر باحثين وممارسين من جامعات مغربية ومن خارجها لمناقشة جميع الجوانب المتعلقة بدراسات الترجمة، والتواصل بين الثقافات، وتعليم اللغات الأجنبية، والتعدد اللغوي من أجل تعزيز تدريس الترجمة، وتبادل الخبرات في مجالات أبحاث الترجمة وتدريسها ضمن المناهج الأكاديمية، وتوعية الأكاديميين والمسؤولين بالدور المهم الذي تلعبه الترجمة في التواصل بين الثقافات ونشر المعرفة. وهكذا فقد عرف هذا المؤتمر مشاركات من بلجيكا، والمملكة العربية السعودية، وإسبانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى مشاركين من جل المدن المغربية مثل مكناس، وأكادير، والجديدة، وبني ملال، والرباط، والدار البيضاء، وطنجة. وقد اتسم المؤتمر بتواجد جمهور عريض من الباحثين والمتتبعين. وأقيم معرض لمؤلفات الدكتور علي القاسمي موازاة مع المؤتمر.

وجدير بالذكر في هذا السياق أن هذه الندوة التكريمية التي عقدت بمراكش هي الخامسة من نوعها التي عقدت تكريما للدكتور علي القاسمي اعترافا بإسهاماته المتميزة في المحاور الثلاثة المذكورة سابقا كما في غيرها. وهذا ما تعبر عنه الصورة الجميلة التي زينت الغلاف الخارجي للكتاب، وهي الصورة المعبرة التي تجمع بين صورة فوتوغرافية للدكتور علي القاسمي، ونماذج من مؤلفاته في المجالات التي هي محور الكتاب في تصميم توحي أن هذه اللآلئ من وحي هذا المفكر. وجدير بالذكر كذلك أن الدكتور علي القاسمي قد تولى اختار المؤلفات التي زينت صفحاتها الأولى الغلاف الخارجي للكتاب إذ أن مؤلفات الدكتور علي القاسمي تفوق الخمسين بكثير مما يجعل مسألة تضمينها جميعا في صورة الغلاف أمرا مستحيلا أو شبه مستحيل.

وقد جمع الكتاب بين دفتيه 23 مقالا باللغات العربية والانجليزية والفرنسية والاسبانية. وتتمحور هذه المقالات حول المواضيع الثلاث التي تطرقت لها الندوة، أي الترجمة وتعليم اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي، وهي مواضيع تتداخل فيما بينها تداخلا وثيقا، وتكتسي راهنية في الظروف الحالية على ضوء النقاشات المستمرة حول اللغة والهوية.

وغير خاف ما لهذه المواضيع من أهمية. فقد سال مداد كثير حول أهمية الترجمة ودورها في حياة الإنسان بشكل عام، وتطوير البحث العلمي، و التبادل الثقافي، و تقريب الثقافات، واللحاق بالتقدم العلمي، والنهوض بالفكر الإنساني بشكل خاص. وبتعبير آخر، تلعب الترجمة دورا بارزا في مدِّ جسور التواصل بين الذات والآخر على مستوى الأفراد والأمم. فللترجمة قصب السبق في نقل المعلومات والآداب بين الحضارات والتبادل العلمي والثقافي. ولقد ساهمت الترجمة على مر العصور في قيام النهضات الكبرى في العالم بأسره. ويمكن القول أن الأمم المتقدمة في العالم هي الأكثر نشاطا من حيث الترجمة. ويمكن قول نفس الشيء كذلك حول التعدد اللغوي، الذي لم يعد واقعا فقط، بل وأصبح مطلبا كذلك في كثير من الدول لتعزيز التنوع الثقافي، والانفتاح على الثقافات والمعارف الأجنبية. وهكذا يتضح أن الانفتاح على الآخر وثقافاته ومعارفه يتم عبر بوابتين مختلفتين: بوابة الترجمة وبوابة التعدد اللغوي، أي تعلم اللغات الأجنبية وتعليمها. فالترجمة في حقيقة الأمر لا تقصي التعدد اللغوي، إذ يعد الهدف واحدا وهو تحقيق هدف التنمية المستدامة. وطالما أن التعدد اللغوي قد أصبح حقيقة ومطلبا فإن تعليم اللغات الأجنبية يكتسي أهمية كبيرة كذلك. وهكذا فقد تناولت البحوث المنشورة بالكتاب تحليل الوضع الحالي لأبحاث الترجمة وطرق تدريسها في ما يتعلق بالقضايا ذات الصلة، ولاسيما تدريس اللغات الأجنبية والتعدد اللغوي.

ومن المقالات المتميزة التي جمعها الكتاب مقال للباحث الدكتور طلال الطاهر قطبي من جامعة الطائف بالمملكة العربية السعودية (الكلية الجامعية بتربة) حول معالم الترجمة واستراتيجياتها عند علي القاسمي تناول فيه الأنواع الأدبية المتعددة التي تناولها الدكتور علي القاسمي بالترجمة وكذلك عقبات الترجمة وتحدياتها كما ناقشها المترجم.

في حين ناقشت الأستاذة فتيحة غلام من جامعة الحسن الثاني (كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق - الدار البيضاء) موضوع "الفعل الترجمي الإبداعي ورهانات المثاقفة التعليمية: ترجمة علي القاسمي روايةَ الشيخ والبحر نموذجا". أما حكيمة خمار من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس − الرباط فقد ناقشت مسألة الترجمة البيداغوجية، إذ "تعد الترجمة البيداغوجية والاستعمال السليم للتكنولوجيا، وكذا خلق أنشطة مختلفة تعلمية وتعليمية من بين الطرق العلمية التي تتيح للمدرس أن يدرس اللغة العربية لغير الناطقين بها بشكل فعال لتحقيق أهداف معرفية وتواصلية". وتناولت الأستاذتان فاطمة اخدجو و سلوى الدهبي من كلية اللغة العربية (من جامعة القاضي عياض) مسألة إكراهات تدريس الترجمة: الكفاءة اللسانية نموذجا إذ "إن اختيار الطريقة المناسبة في الترجمة لتدريس نصوص مختلفة صرفيا وتركيبيا ودلاليا وأسلوبيا والحفاظ على كل القيم التي تحتويها يطرح تحديات جمة أمام المترجم. كما أن الوظيفة المعقدة لعملية الترجمة والمشاكل التي تطرحها يجعل تدريسها أمرا صعبا، خصوصا أن هناك مجموعة من الإشكالات تعترض تدريس الترجمة سواء أكانت معجمية، أم دلالية، أم نحوية، أم خطابية، أم تداولية، أم ثقافية."

وبحث الأستاذ عز الدين غازي من جامعة القاضي عياض – مراكش في الترجمة الآلية باستعمال منصة NooJ انطلاقا من ترجمة البناء للمجهول من العربية إلى الإنجليزية قصد التغلب على بعض الصعوبات العملية في الترجمة الآلية، والتي عادة ما تنجم عن اختلاف البنيات التركيبة، ولاسيما عند ترجمة البنيات المجهولة من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية. أما الدكتور عبد الرحمن السليمان من جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا فقد تحدث عن تجربته في ترجمة المجموعة القصصية أوان الرحيل إلى اللغة الهولندية ولاسيما من خلال قصة القادم المجهول. وما يجعل هذه المجموعة القصصية جديرة بالترجمة هو أن الكاتب استطاع حسب تعبير صاحب المقال " أن يغوص إلى أعماق الإنسان ... في لغته وحبكته وخياله وقدرته النفسانية غير المحدودة على سبر أغوار النفس البشرية التي جُبِلَت على ما جُبِلَت عليها من أسرارٍ وعُقَدٍ لا يستطيع إلا مَن أوتي مثلما أُوتِي الدكتور علي القاسمي أن يَحُلَّها ولأن هذه المجموعة القصصية بالذات تجعلك ترى الكابوسَ تلو لآخر بعد قراءتها وكأنك على موعد معه". لذلك فهذه المجموعة القصصية "جديرة بالترجمة إلى لغات الأرض، ليس لتعريف العالم بمبدع كالدكتور علي القاسمي فحسب، بل لتعليم ساكنيه كيف يتأملوا في النهايات بلا فزع، وكيف يتهيّؤون للرحيل بلا هلع، ولكن في أجزلِ لفظ، وأرقِّ عبارة، وأدقِّ حَبكةٍ وفي أروع لوحةٍ فنيةٍ رسمتها يدُ الأديب الذي يعرف الإنسان وخوابئَ نَفسِه أكثر من أي طبيب نفساني ماهر".

وقد تناول الأستاذان محمد ناجي وأنس ملموس (من جامعة مولاي إسماعيل – مكناس) بالبحث دور الترجمة في تعليم اللغة العربية لغة أجنبية باعتبارها " وسيلة أو طريقة تعليمية ناجعة في عملية تعليم اللغات الأجنبية بشكل عام، وتعليم اللغة العربية باعتبارها لغة أجنبية بشكل خاص ومحدد، فضلا عن كونها تعمل على إبراز الأهمية التي تحظى بها الترجمة في المساعدة على تبليغ المضامين والمحتويات التعليمية وإيصالهما للمتعلمين للغة العربية غير الناطقين بها.".

أما الأستاذة فاطمة سحام من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القاضي عياض – مراكش فقد طرحت الإشكالية التالية: هل الترجمة تواصل أم تثاقف ...؟ لتجيب عن الإشكالية من خلال دراسة مقارنة لمسرحية "فاوست" لكاتبها "غوته" بالترجمة العربية التي أنجزها أمين الريحاني تحت عنوان "رسالة الشيطان".

وقد تساءل الكاتب والمترجم مصطفى شقيب (المغرب): ماذا يريد أن يقول الدكتور علي القاسمي؟ ليتحدث عن رسالة هذا الأديب والناقد والمترجم.

ونجد من ضمن المقالات التي تضمنها الكتاب باللغات الأجنية مقالا للأستاذ حسن درير تناول فيه بالبحث مشكلات الترجمة واستراتيجياتها انطلاقا من المصطلحات المرتبطة بالثقافة في رواية الشيخ والبحر من خلال مفاهيم الغرابة (أو الإغراب) والاغتراس (أو الانغراس) الثقافي من جهة، أو التوطين والتغريب وغيرها من المفاهيم المستجدة في نظرية الترجمة من جهة أخرى. وعقد مقارنة بين 6 ترجمات عربية لهذه القصة. كما نجد مقالا للأستاذ نور الدين عزمي من المدرسة العليا للتجارة والتدبير التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش حول استعمال تمارين الترجمة في بيئة تعليمية لأهداف خاصة ومنفتحة على تكنولوجيا المعلومات على ضوء الأبحاث المستجدة والاهتمام المتجدد باستعمال تمارين الترجمة بصفتها وسيلة تعليمية في دروس تعليم اللغات الأجنبية. وتحدثت الأستاذة ماري إفلين لوبدر من جامعة غرناطة عن تجربتها في ترجمة رواية مرافئ الحب السبعة أو بالأحرى مراجعتها لها في علاقة مع مشكلات الترجمة الأدبية -ومن بينها مشكلة الإحالات الثقافية- إضافة إلى مقالات أخرى.

وقد توج هذا الكتاب بالكلمة الختامية التي ألقاها الدكتور علي القاسمي في الجلسة الختامية للمؤتمر. وتناول فيها بالبحث موضوع السعادة الذي يعد أهمُّ موضوع في الدراسات الإنسانية في الوقت الحاضر. وقد تطرق الدكتور المحتفى به في البداية لشروط السعادة. ومما ورد في كلمته بهذا الصدد أنه "في طليعة الصفات الواجب توافرها في الفرد لتحقيق السعادة عمليا التفكير الإيجابي الذي يتأتى....من محبة المكان الذي يقيم فيه الإنسان، ومحبة الناس الذين يعيش بينهم، ومحبة العمل الذي يزاوله. فبالحب ينفعل الوجود". وأضاف الدكتور علي القاسمي،" وهذا ما وفّره لي المغربُ العزيز بكل سخاء". ثم تطرق لتجربته في المغرب وعبر عن سعادته للتواجد في هذا البلد العزيز، وتقديره لكرم المغاربة. وله في ذلك طرائف ونوادر عجيبة يحسن العودة إليها في مضانها من الكتاب. ثم عرج الكاتب على شجاعة المغاربة، ولم ينس الإشادة بعلماء كبار من المغرب عاشرهم في مسيرته الطويلة.

وخلاصة القول أن الكتاب جدير بالمطالعة لأهمية المحاور التي يطرحها وراهنيتها وتنوعها. وعلاوة على ذلك فهو يشكل أول مرجع يجمع بين المحاور الثلاث، ويأتي بحق تكريما للدكتور علي القاسمي اعترافا بجهوده في المجالات المشار إليها.

***

تنسيق حسن درير وآخرين

في المثقف اليوم