كتب واصدارات

ضياء نافع: غوغول ممنون يا تحسين

اريد ان اسجّل – قبل كل شئ - شكري وامتناني وتقديري لدار المدى الرائدة في بغداد، لأنها قامت باصدار آخر كتاب في سلسلة مؤلفات نيقولاي غوغول و الموسوم – (مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) بترجمة المترجم العراقي الكبير د. تحسين رزاق عزيز عن الروسية، وارتباطا بهذا الاصدار المهم جدا - من وجهة نظري- اكتب هذه السطور عن الكتاب المذكور واهميته الاستثنائية الكبرى بالنسبة لابداع غوغول اولا، وبالنسبة لتاريخ الادب الروسي في القرن التاسع عشر بشكل عام، ثانيا.

اصدار هذا الكتاب في بغداد بالعربية يعني، ان مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة ستبدأ لدى القراء العرب (ونؤكد على القراء العرب بشكل عام وليس العراقيين فقط) باستيعاب و توضيح واحدة من القضايا (العالقة!) منذ اكثر من قرن ونصف في تاريخ الادب الروسي ومسيرته، عالقة في أذهان البعض من القراء العرب وافكارهم التبسيطية والساذجة حول (تقدميّة !) غوغول في بداية مسيرته الابداعية، ثم حول (رجعيته!) في نهاية تلك المسيرة. توضيح هذه القضية الفكرية الكبيرة بشكل موضوعي وصحيح، استنادا للوقائع والوثائق، وليس لاي شئ آخر، وهذه خطوة تعني تغييرا نوعيا في النظرة العامة الى الادب الروسي وموقع ومكانة غوغول واهميته الكبرى في هذا الادب خصوصا. والمرحلة التي نتحدث عنها هنا يمكن ان نطلق عليها مجازا تسمية - مرحلة اطلاق الاحكام الصارمة والحاسمة والنهائية دون الاطلاع بتاتا على اوليّات الامور، وانما نتيجة لما قاله فلان او رأيّ الجهة الفلانية حول الموضوع المحدد ليس الا، وكم عانينا من ذلك المفهوم التبسيطي الساذج و(الخطير  جدا بالطبع!) في كل مجالات الحياة (نعم، في مجالات الحياة كافة)، عندما كان الجميع مضطريّن ان يستمعوا صامتين الى تلك الاحكام النهائية ويوافقوا عليها (بالاجماع!!!) دون ان يمتلكوا الحق بمعارضتها، او مناقشتها او حتى الطلب بالاطلاع عليها ولو بشكل بسيط !!! وقضية الكاتب باسترناك وروايته الشهيرة (دكتور زيفاغو) ليست ببعيدة، واظن، انه لا يمكن ان ننسى قصيدة الشاعر العراقي  المشهور فلان الفلاني، الذي قال فيها (...فليخلقوا ألف زيفاغو...) دون ان يقرأ او يطلع على تلك الرواية اصلا !!!

أصدر غوغول هذا الكتاب (وهو آخر كتبه) عام 1847، اي قبل اكثر من قرن ونصف، وقد أثار الكتاب آنذاك ردود فعل كبيرة ومتباينة لدى القراء في روسيا، اذ انه لم يكن متوقعا بتاتا من مؤلف (امسيات عند قرية ديكانكا) و(الانف) و(المعطف) و (المفتش) و (الارواح الميتة)...الخ تلك الروائع الادبية، لم يكن متوقعا ان يصدر غوغول مثل هذا الكتاب، الذي يعكس افكاره في شؤون فكرية عديدة، ولهذا جاءت الآراء متنوعة جدا حول الكتاب، اذ قال البعض انه قمّة جديدة في ابداع غوغول الواقعي والغرائبي في آن، وانتقد البعض الآخر هذا الكتاب، وأشهر هؤلاء طبعا كان بيلينسكي، الذي كتب رسالته الشهيرة الصارمة والحادة ضد الكتاب، اذ ان  كتاب غوغول من وجهة نظر هذا الناقد، الذي كان يؤكّد على الجانب الاجتماعي للادب والفن قبل كل شئ وبعد كل شئ، ونتيجة لهذه الرسالة تبلورت المواقف تجاه الكتاب في الاوساط السوفيتية لاحقا، وانعكست طبعا على موقف هؤلاء القراء العرب ايضا، والحديث التفصيلي عن كل ذلك، حديث ذو شجون كما يقولون.

وعلى الرغم من ان معظم مؤلفات غوغول الاساسية قد تم ترجمتها الى العربية عن الروسية او عن لغات اخرى وسيطة، الا ان كتاب (مختارات من مراسلات مع الاصدقاء) لم يترجم الى العربية طوال هذه الفترة الطويلة من السنوات، وليس ذلك من باب الصدفة ابدا، اذ ان ترجمة هذا الكتاب كان يعني (خرق !) الحظر المفروض على هذا الكتاب المهم في تاريخ ابداع غوغول، هذا الحظر الذي لمسناه بشكل واضح حتى اثناء سنوات دراستنا في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن الماضي.

الآن، سيطّلع القارئ العربي على هذا الكتاب بترجمته الدقيقة والامينة، التي يتميّز بها المترجم الكبير د. تحسين رزاق عزيز، وسيجد فيه، انه كتاب فكري عميق وطريف، ويحمل كل سمات غوغول المفكّر وتأملاته حول مواضيع متنوعة جدا .

ختاما اريد ان احيي المترجم الشجاع د. تحسين رزاق عزيز على عمله الترجمي الرائد في مسيرة الادب الروسي بالعالم العربي، اذ انه هو الذي اختار هذا الكتاب وقرر ترجمته، وبذلك العمل، فقد أضاف الى منجزاته الترجمية انجازا نوعيا جديدا ورائعا، واريد ان اقول له، ان غوغول سيكون ممتنا له، لانه ترجم اخيرا هذا الكتاب (شبه المنبوذ !) للقراء العرب رغم انهم لم يطلعوا عليه، واريد ان اقول له، ان امتنان غوغول يكمن بالذات، في كونه  يستطيع الان ان يعلن لهؤلاء الذين كانوا يثرثرون عن (رجعيته وتقدميته!) وهو مبتسما – اطلعوا ايها السادة على الكتاب قبل ان تصدروا احكامكم بشأنه، ويستطيع غوغول الان ايضا ان يقول لهم ببساطة – كش ملك !

***

أ.د. ضياء نافع

في المثقف اليوم