كتب واصدارات

ميخائيل باختين ودراسات أخرى في الرواية للدكتور زهير ياسين شليبه.. عرض: عدنان المبارك

جمع هذا الكتاب بين التأليف والترجمة، والغرض هنا هو الأخذ بمهمتين: متابعة خط البحث لدى باختين والكشف الواضح المتميز بالسلاسة لفكر باختين النقدي، كذلك قام زهير شليبة بترجمة نص لعالم روسي آخر كان قد كرسه للرواية في آسيا وأفريقيا. وعلينا القول إن دراسة شليبة حول فكر باختين والتي سبق أن نشرها في عام 1985

كانت من أولى النصوص العربية التي تناولت منهجية هذا الباحث الروسي المعروف. ويلمس القاريء هنا تناولا جادا لأهم أبحاث باختين في الرواية وأنواع النثر الأخرى أيضا. ويلاحظ شليبة قصور النقد العربي في تناول آراء باختين الأساسية بسبب غياب ترجمة أعماله. ومعلوم أن من عوائق الترجمة صعوبة الأسلوب. وقد وجد شليبة أن الأخذ بمنهج العرض يسد لحد ملموس الفراغ الناشيء بسبب افتقاد التراجم. ويلتفت المؤلف بشكل خاص الى ما جاء به باختين من إبراز القيمة النظامية لأهم المفاهيم والمقولات النقدية الأمر الذي يميّزه عن المنظرين الأكاديميين الآخرين الذي قال باختين عنهم بأنهم يخشون، في أكثر الحالات، المغامرة النظرية...

يتناول زهير شليبة موقف باختين من إشكاليات جوهرية مثل أشكال الزمن والهرونوتوب والكلمة في الرواية كما يتناول مقولاته عن تأريخ الكلمة الروائية والملحمة والرواية ثم المنهجية في دراسة الرواية وابحاثه المعروفة عند تناوله أعمال رابلييه وغوغول والكلمة والثقافة الشعبية الساخرة. وفيها جميعا عالج باختين مسألتين وجدهما أساسيتين أي الرواية كصنف بالغ الخصوصية وأساسي في الأدب المعاصر، ومسألة الكلمة النثرية الأوربية. معلوم أن (الكلمة في الرواية) هو بحث كبير كان باختين قد كتبه في عام 1934 ولم ينشر الا في عام 1972. وكان باختين قد عاد الى هذا الموضوع في عام 1940، في محاضرة طويلة نشرت فيما بعد في كتابه المعروف (قضايا الأدب والجمال). ويرى زهير شليبة أن فكرة المقال الرئيسية هي تجاوز الهوة الكبيرة بين المدرسة الشكلية المجردة والأخرى الأيدولوجية المجردة أيضا عند دراسة الكلمة الفنية. فباختين مقتنع بأنه ينبغي فهم الكلمة كظاهرة إجتماعية في كل المجالات بدءا بالصورة الصوتية وإنتهاء بطبقات الصوت ذات المعنى الخاص. كما انتبه الى الظاهرة شبه الدائمة: تتم دراسة النبرات الذاتية والإتجاهية للأسلوب فقط بينما تترك النبرة الإجتماعية بعيدا عن اهتمام النقاد. وبرأيه ترتبط المصائر التأريخية للكلمة الفنية بمصائر الأنواع الأدبية وتختفي في المصائر الصغيرة للتغيرات الأسلوبية المرتبطة بالإتجاهات والكتاب الذاتويين. ولذلك فعلم أساليب الكلام يفتقر الى المنهج الفلسفي والسوسيولوجي عند معالجة مختلف جوانبه ولأن أكثر الدراسات مغرقة في الصغائر البلاغية ولا تقدر على الإحساس بمصائر الكلمة الفنية الكبيرة والمجهولة التي ظهرت كنتيجة للتحولات الذاتية والإتجاهية.

في ذات الوقت يبرز شليبة النقاط المهمة الأخرى في المقالة نفسها مثل إيضاح أن علم أساليب الكلام يعنى ببلاغة أسلوب الفنان ومهاراته المحددة ضمن مشغله، فهذا العلم لايعير أي أهمية الى الطابع الإجتماعي أو الحياة الإجتماعية للكلمة ونشاطها خارج مشغل الكاتب أي في الشارع والمدينة والقرية والجماعات والأجيال والعصور. ويرى باختين أن علم أسلوب الكلام لايملك صلة بالكلمة الحيّة بل بجهاز الهستولوجي (علم الأنسجة الحيّة) وبالكلمة اللغوية المجردة بينما تحصل النغمات الإضافية الذاتية والإتجاهية للأسلوب عن طرق حياة الكلمة الإجتماعية. وفي دراسته يتناول شليبة مقالة باختين (أشكال الزمان والمكان"الهرونوتوب"في الرواية) مشيرا الى أن المقالة هي في حقيقة الأمر قسم مأخوذ من دراسة كبيرة أعدها باختين عن رواية التربية الأوربية الا أنها فقدت ونشر ما تبقى منها تحت هذا العنوان الذي وضعه باختين نفسه. وفي الثلاثينات إعتبر هذا البحث أول بحث تطرق الى أهمية الزمكان. ويتوقف شليبة عند إشكالية الزمكان الروائي. يقول إن عملية إستيعاب ظرفي الزمان والمكان التأريخيين الحقيقيين وموقع الإنسان لم تنته بسهولة بل مرت بطريق وعر. لقد تم إستيعاب بعض جوانب الزمان والمكان التي حصلت في مرحلة معينة من تطور الإنسانية وأسست الأنواع الأدبية طرقها المناسبة لتصوير قضايا المجتمع وللصياغة الفنية لجوانب الواقع التي يدركها الفنان. ويجد زهير شليبة ضرورة إيراد التعرف الباختيني الكامل لهذا المصطلح أي العلاقة المتبادلة والملموسة بين المكان والزمان. يشير هنا الى إستخدام المصطلح في علم الرياضيات على يد آينشتاين في نظرية النسبية مثلا، كما أن الهرونوتوب يفهم كمقولة ضمنية شكلية للأدب، وفيه نلمس الإرتباط المتبادل بين العلاقات الزمانية والمكانية في الكل المدرك والملموس. ونلاحظ هنا أن الزمان يتكثف ويتقلص ويصبح ناضجا فنيا، أما المكان فيصبح بدوره قويا ويمتد حتى يصل الى حركة الزمان والمضمون والتأريخ. وهنا تتضح علامات الزمان في المكان. وفي الأخير يمكن إدراكه وقياسه بواسطة الزمان. وهكذا فالهرنوتوب، كما يقول شليبة موضحا طروحة باختين، يتسم بتقاطع مجموعة من العلامات وإتحاها، وله أهمية واضحة وملموسة في بناء الصنف الأدبي إذ يساعدنا على تحديد هويةهذا الصنف والأشكال المتفرعة منه، إضافة الى كون الزمان هو البداية الرئيسية في هرنوتوب الأدب. كذلك يوضح أن هذا الهرنوتوب بإعتباره مقولة شكلية - مضمونية يحدد الى درجة كبيرة صورة الإنسان في الأدب التي وجدها باختين موسومة بطابع هرنوتوبي. ومعلوم أن باختين تابع هرنوتوبه من خلال تطور مختلف أنواع الرواية الأوربية بدءا بما يسمى بالرواية اليونانية وإنتهاءا برواية ربلييه. وكان باختين قد اقترح بعض أنواع الهرنوتوب الذي وجده ما يحدد الوحدة الفنية للعمل الأدبي في علاقته مع الواقع، كذلك فكل التحديدات الزمكانية في الفن والأدب مترابطة فيما بينها وهي (ما يصبغ بصبغة عاطفية ذات قيمة). أما التفكير التجريدي فيستطيع التعامل مع الزمان والمكان منفصلين عن بعضهما. الا أن العمل الفني الحيوي لايفصل شيئا ولا يتجرد من أي شيء. إنه يحيط بالهرنوتوب بكل تكامله وتمامه الفني. وعامة فالأدب والفن مشبعان بالقيم الهرنوتوبية بمختلف الأحجام والأشكال والدرجات. وفي بحثه هذا يحدد باختين انواع الهرنوتوب مثل هرنوتوب اللقاء والطريق والافتراق وهرنوتوب الزمان الديني (ميستريون) والكرنفالي. ويجدر التوقف عند تناول زهير شليبة لمنهجية باختين فيما يخص إشكالية الهرنوتوب الذي يملك كل واحد منه سمته الخاصة، مثلا هرنوتوب اللقاء يتميز بصبغة زمانية وبمستو عال من الفاعلية العاطفية للقيم ولكن لدرجة أقل مما هي في هرنوتوب الوداع. وهرنوتوب الطريق ذو حجم واسع وكبير. فكل اللقاءات العابرة تحدث في الطريق وهو ما يوفر الفرص لحبك الأحداث، والزمان يصب هنا في المكان. ويذكر زهير شليبة نعوت باختين للطريق: (طريق الحياة)، (السير في طريق حياتي جديد) أو (طريق تأريخي). وأمثلة باختين هنا كثيرة بينها (ساتيريكون) بيتروني (والحمار الذهبي) لأبولو التي مرت أحداثها في الطرق اليونانية القديمة. بالطبع فالطريق كان مسرحا لمغامرات أبطال الفروسية في العصر الوسيط، ويصادف أن تجري كل أحداث هذا الشكل الروائي منذ البداية حتى النهاية في الطرقات (رواية"بارسيفال"لآشنباخ). كذلك فالطريق جدّد مضامين رواية المكر والخداع وقصص الشطار الإسبانية، وهناك (دون كيخوت) البطل النموذجي لهرنوتوب الطريق.. وفيما يخص هرنوتوب (الافتراق) يجده باختين مرتبطا، بوثوق، بباعث الإلتقاء الا أن رباطه أوثق بهرنوتوب الأزمة النفسية والإحباط وانكسار الأحلام، كما أنه يتسم بالرمزية والمجازية ويمارس حضوره في أعمال دوستوييفسكي بالذات. وفي (قضايا الأدب وعلم الجمال) يكتب باختين: عند دوستوييفسكي مثلا نرى أن عتبة الباب والسلالم والغرف المجاورة للدهاليز والشوارع والساحات أهم الأمكنة التي تمر بها الأحداث (الأزمات، السقوط، التعميد، التجديد، التكفير عن الذنوب، اتخاذ القرارات إلخ) أي التي تقرر حياة الإنسان كلها. وفي مثل هذا الهرنوتوب يمر الزمن كلمح البصر كما لو أنه لايمكن أن يكون طبيعيا بطيئا طويلا كما هو في حياة الإنسان الطبيعية. وتدخل هذه اللحظات السريعة الحاسمة عند دوستوييفسكي في هرنوتوبات كبيرة لأخرى خاصة بالإحتفالات الدينية والكرنفالية. وهذه الأزمنة تتداخل وتتشابك وتمارس حضورها سوية وبشكل متنوع في أعمال هذا الكاتب الروسي. ويذكر شليبة أنه سبق لباختين أن ميّز دوستوييفسكي عن تولستوي الذي اهتم بالهرنوتوب السيري(بكسر السين)، بأماكن سير النبلاء كالقصور والحدائق. كما لاحظ أن تولستوي لم يكن يهتم بما هو سريع وفجائي، ولهذا نادرا ما كان يستعمل كلمة (وفجأة) على العكس من دوستوييفسكي. ومن ملاحظات باختين الأخرى أن تولستوي ينسج أحداثه ببطء وهي كثيرا ما تجري في (الخارج): ظلال الأشجار وفي الغابات والحدائق بعكس أحداث دوستوييفسكي السريعة التي تمر في الدهاليز وأمام عتبات البيوت وغيرها. وينتبه زهير شليبة الى أن باختين أكد قبل غيره من الباحثين على النزعة الهجينية التي إتسمت بها الرواية اليونانية أي تآلف عناصر كثيرة لمختلف الأنواع النثرية الأخرى. و يلاحظ هو أنه إذا كان باختين قد أكد في مقاله المذكور على مكانة التجارب والإختبارات والإمتحانات الحياتية التي تجابه البطل الروائي في بناء الروايات اليونانية فإنه فعل الشيء نفسه فيما يتعلق برواية الفروسية، أي أن تجربة الأبطال ومجابهاتهم لصعاب الحياة بمثابة إمتحان عصيب تكشف فيه الشخصيات عن جوهرها وقدراتها بل أن باختين يعتقد أن لفكرة (إمتحان) الشخصيات أهمية كبيرة في بناء الرواية الحديثة. يورد شليبة هنا أن غائب طعمة فرمان ذكر مرة بأنه تناول في روايته (خمسة أصوات) خمس شخصيات تمثل عوالم روحية مختلفة، وكان (الفيضان) في الرواية خير امتحان واختبار لجوهرها. يجدر التنويه بأن شليبة كان قد أعد أول دراسة اكاديمية مكرسة لرائد الرواية الفنية العراقية هذا (د. زهير شليبة: غائب طعمة فرمان - دراسة مقارنة في الرواية العراقية، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1996 (.

يتناول شليبة منهجية باختين في بحث الرواية التي لمس فيها ثلاث سمات أساسية تميّزها عن بقية أنواع النثر الأدبي، وهي تعدد أساليب الرواية المرتبطة بالوعي المتنوع اللغات والمتحقق في الرواية ثم التغيير الجذري في إحداثيات الزمان للشخصية الأدبية في الرواية. والسمة الثالثة هي منطقة جديدة لبناء الشخصية الأدبية في الرواية وجدها مرتبطة الى أقصى حد بالزمن الحاضر، بالواقع المعاصر في لاتكامله.

وتشير السمة الأولى الى أن الرواية من زاوية الأسلوب تمثل عملا فنيا متنوع الأصوات والنغمات أي أنها تحوي أشكالا مختلفة للحديث اليومي، كأشكال التعبير اللغوية واللهجية والنبرات الإجتماعية لنفس اللغة القومية. ويلاحظ شليبة أن لهذه السمة بالغ الأهمية بالنسبة لدراسة الرواية العربية بالذات نظرا لسعة اللغة العربية الفصحى، وعمقها وتعدد أشكال التعبير اللغوية فيها، وكثرة المرادفات وتنوعها مما أدى الى تكوّن اللهجات التي ترجع في أغلب مفرداتها الى الفصحى.

يتوقف شليبة عند دراسة باختين المعروفة (رابلييه وغوغول) التي قارن فيها بين (الكتاب الرابع - رحلة بانتيغريول) و(نفوس ميتة). وقد وجد طابعا مشتركا تتسم به القصتان ألا وهو طابع الهزل بكامل نقائه. ويرى باختين ضرورة تحليل مؤلف غوغول (تحليلا دقيقا وشاملا لإستنباط كل أشكال الترحال الكرنفالي المرح في بلاد الموت الجهنمية). وكان باختين قد أوضح بأنه يدرس في أعمال غوغول، جانبا معيّنا حسب: كشف عناصر الثقافة الشعبية الهزلية في هذه الأعمال. ويكتب شليبة أن باختين إعتبر الرحلات الهزلية التي قام بها تشيتشيكوف بطل (النفوس الميتة) أساسا تقليديا عميقا لهذه القصة ومكتنزا بمعلومات كثيرة من نوع آخر وتقاليد أخرى، ومن هنا جاءت تعقيداته. وبالرغم من الطرح الموجز لآراء باختين بشأن علاقة عالم غوغول الإبداعي بالثقافة الشعبية الهزلية نجده يساعد على تكوين اساس نظري لدراسة كل المسائل المتأتية منه. فلقد اصبح بمكنة الباحث الإسترشاد بفكرة باختين عن إرتباط غوغول بالتراث مما يعمل على إيضاح الأشكال الملموسة للإتحاد والتفاعل بين الجديد والقديم، وبين عناصر التقاليد والتراث وبواعث تجديد أخرى مارست حضورها في (نفوس اميتة) بعد أن ألقت بتأثيرها على غوغول مما ظهر واضحا في أسلوبه. ويشير شليبة الى أن ظاهرة الهزل في التراث الشعبي والإبداع الأدبي على السواء تملك بالغ الأهمية مما إنعكس حتى في التفسير اللغوي لهذه الكلمة الذي قدّمه القاموسي والعالم اللغوي الروسي الشهير فلاديمير دال، حيث عرّفهما كما يأتي: لا حزن بلا فرح ولا فرح بلا حزن، ويقال أيضا (المضحك المبكي). إنه الضحك المبكي الذي يكون الأساس الفني لكل أعمال غوغول. وبرأي شليبة فإن الضحك عند غوغول يتبوأ مراكز الصدارة وينتصر على كل شيء يكون الى حدّ ما تطهيرا (كاثارسيس) من نوع خاص لتنقية جسم الإنسان من الخساسة على حد تعبير باختين. بهذه الأداة هدف غوغول الى مسك تناقضات مجتمع النفوس الميتة.

كذلك تطرق شليبة في بحثه الى الجانب المهم من جهود باختين أي دراسته المعروفة عن دوستوييفسكمي التي كرس لها أغلب قوته (أكثر من أربعين سنة). يذكرنا شليبة بمقولة باختين عن الحوار بإعتباره حدثا مهما في العلاقات الإنسانية، وفي هذا المكان يقدّم تفسيره للوحدة التامة في رواية دوستوييفسكي المتعددة الأصوات كحدث للعلاقات المتبادلة بين مختلف الإدراكات المتساوية فيما بينها والتي (لاتكتفي بالتفسير المضموني البراغماتي) أي أنه لايمكن للحدث الجمالي أن يتقوقع أو ينحصر ضمن أطر العمل الفني بل له امتدادات بعيدة خارج النص الأدبي، ولذلك، كمالاحظ شليبة، يتحدث باختين في بحثه عن سعة النشاط الجمالي و(طابعة القيّم) فيرى أن البطل وعالمه الداخلي يكونان مركزا قيّما للنشاط الجمالي ويمتلكان واقعيتهما المرنة، ولايمكن أن يخلقا بفضل نشاط الكاتب الابداعي فقط، كذلك لا يمكن لهما أن يصبحا بالنسبة له موضوعا ومادة حسب.

كان اهتمام باختين بعالم دوستوييفسكي الروائي قد بدأ في عام 1922، وفي عام 1929 نشركتابه (قضايا ابداع دوستوييفسكي) وأعيد طبعه في عامي 1963 و 1970. وكان الكتاب أول بحث يعتبر دوستوييفسكي مؤسسا للرواية المتعددة الأصوات (البوليفونية) وكونه من صمم العالم من جديد بأسلوب البوليفونيا والديالوغيا (الحوارية)، وكان باختين قد وضع أبطال دوستوييفسكي على قدم المساواة مع المؤلف نفسه واعتبرهم وجهات نظر متنوعة ومختلفة ومستقلة شأن دوستوييفسكي تماما. ويتوقف شليبة طويلا عند رودوالفعل من جانب النقد السوفييتي، وكانت مختلفة الا أن جزءا لا يستهان قد كشف عن صلابة تلك المسطرة الأيدولوجية بنتوءاتها الحادة التي صنعتها (الواقعية الإشتراكية) آنذاك. وكان ستالين قد حكم على باختين بالنفي للسنوات 1929 - 1936..

يكتب شليبة مقدمة لدراسة المستشرق الروسي بافيل غرينتسر بعنوان (عصر الرواية) والتي قام بترجمتها أيضا. وهذه الدراسة تخص مختلف جوانب نشأة الأداب في آسيا وأفريقيا وبواكير الأشكال الروائية في التراث وبضمنه العربي. فيما يتعلق بهذه المقدمة التي تملك بحد ذاتها مقومات البحث العلمي القصير نلقى في البدء ملاحظته حول افتقاد الرواية المعاصرة لنظريتها الكلاسية. فوجود مثل هذه النظرية يعني وجود ثوابت ومباديء متفق عليها من قبل علماء الأدب ومؤرخيه ونقاده. برأي شليبة يمثل باختين رد الفعل العنيف ضد هذه الحالة. واعتبر موقف باختين خطوة كبيرة على طريق تكوين نظرية مستقلة للرواية، ومن ناحية أخرى يرى باختين أنه بسبب حداثة العمر لم يتصلب عود الرواية بعد ومن الصعوبة التنبؤ بمستقبله..

يستعرض شليبة عبر لمحات سريعة تأريخ ظهور الرواية الذي بدأ في العصر الوسيط وبعدها إنتشرت الرواية وتكونت وترسخت في عصر النهضة وازدهرت بعد ظهور الطبقة المتوسطة. كذلك يشير الى سمة أخرى للرواية وهي المقارنة المطلقة بينها والملحمة أي مقابلة نوع أدبي حديث لنبوغ أدبي قديم. وكان جورج لوكاش قد وجد الرواية (شكلا ناقصا للملحمة). وكان أمرا طبيعيا ومتوقعا أن ينحاز النقد الماركسي الدوغمائي الى رأي مثل هذا المنظر المعترف به رسميا. وكان باختين قد كرس لهذه الإشكالية مقالته (الملحمة والرواية) كما تناولها في كتابه (أشكال الزمان والعلاقة الزمكانية في الرواية). ويذكر شليبة أن السمة التي لايختلف عليها أحد هي أن الرواية نوع أدبي هجين ومتفاعل مع كل الأنواع الأدبية التقليدية الأخرى.

في ما يتعلق بالبحث الآخر الذي ترجمه شليبة يكون بمثابة عرض سريع لما أنجز في هذا الصنف الأدبي في آسيا وأفريقيا. ويتفق كاتبه هنا مع أغلب علماء الأدب بأن الرواية ظهرت في الشرق بدون اي موروث لكنها كانت محملة بتقاليد نثرية غير متبلورة، وتقاليد قص محلية تطورت في أنواع أدبية أخرى. ويرى الباحث من ناحية أخرى أن الرواية الشرقية ومن بعدها الأفريقية ظهرت على الغالب بتأثير مباشر من الغرب. بالطبع لايعني هذا إنعدام الجذور في حالة الرواية الشرقية. ويطرح هنا الاجتهادات المتعلقة بظاهرة الرواية في المنظورين اللغوي والتاريخي قائلا إن هناك أصنافا أدبية قديمة تقترب تعاريفها من تعريف الرواية المعاصرة مثلا. كذلك ليس هناك من إمكانية للحصول على أي صنف من الرواية بشكله النقي الأمر الذي يدفعنا الى الحديث عن إتجاه التطور وليس الأصناف. ويتوقف الكاتب عند اللحظات الإنعطافية والظواهر الجوهرية في الخط التطوري للروايتين الآسيوية والأفريقية. وفيما يخص روايتنا العربية يأخذ الباحث بتقسيم معيّن. يذكر أن هناك روايات ظهرت في أساطير الجاهلية وبعدها في تقاليد العصر الوسيط وكلها تنتمي الى القسم الأول من التصنيف الذي يأخذ به الباحث الروسي. وفي القسم الثاني وجد أن سيرة الظاهر بيبرس خير نموذج هنا. برأيه جاءت المضامين بشكل مؤوّل وفنتازي مرتبط أشد الإرتباط بالبواعث الفولكلورية والإضافات التي لاتملك صلة بالحياة الحقيقية. ويقول إن هذه هي الأسباب التي تدفعنا الى عدم اعتبار هذه السير أو الروايات روايات تأريخية بالمعنى المعاصر للكلمة. كذلك تتجسد مغامرات الرواية العربية، في هذه الحالة، في نظام معروف، في الشكل البنائي للروايات اليونانية القديمة وروايات الفروسية والروايات السنسكريتية (الهندية). ويقول غرينتسر إن هناك أوجه شبه كثيرة بين السير العربية والرواية الأوربية القديمة ورواية العصر الوسيط نذكر منها الأسباب الغامضة التي تؤدي الى موت البطل والبطلة والهجوم على السفن وتلك الأحلام الكهنوتية إلخ، وجميعها من خصائص هذه السير. الا أن تسميتها بروايات تفتقر الى الدقة وسابقة لأوانها. أما أصل السير الشفاهي (الفولكلوري) فيكشف عن نفسه في غزارة الدوافع الملحمية الخالصة وفي شكل اللغة الملحمية. ومن الطبيعي أن الرويات العربية في العصر الوسيط ليست ملاحما، إذ لا نجد فيها لوحات ملحمية شاملة للعالم، وأن البطل الخاص العادي يحل مكان البطل الأسطوري، وأن السمة التشويقية تبقى من أهم سماتها بالنسبة لمؤلفيها وقاريئيها وسامعيها على حد سواء. يرى غينتسر أن هذه السير كغيرها من الروايات - الملاحم الصينية، كبيرة الشبه بروايات الفروسية بما فيها الرواية الجديدة (ديوما، سكوت) التي تقع، على حد تعبير باختين، على حافة الحدود بين الملحمة والرواية ولكنها مع ذلك تتجاوز هذه الحافة صوب الرواية. وينتبه الباحث الى عامل مهم في تشكيل أولى التجارب الهادفة تشكيل ملامح الرواية، العربية مثلا، الا وهو كل ما يرتبط بقضية الإختيار والتفضيل المقصودين من قبل الناقلين والمترجمين. ففي مصر وسوريا مثلا ترجمت في البداية (بول وفرجيني) و (الكوخ الهندي) و(مغامرات شيل بلاس) و(روبنصن كروزو) إضافة الى روايات لأكسندر ديوما وهيغو وسكوت وفيرن وسيو وبول دي كوك وروايات بوليسية وغيرها. وهذا يعني أن إهتمامات المترجمين توجهت كالعادة نحوروايات المغامرات العاطفية والمخاطرات بغض النظر عن الدور الحقيقي الذي لعبته سواء أكان ثانويا أم رئيسيا. وعن الرواية التاريخية من منتصف القرن التاسع عشر يقول بأنها لعبت دورا كبيرا في الأدب العربي. فهي من ناحية تكون شكلا شبه روائي لتسجيلات الرحلات التاريخية ووصفها مما يمت بصلة الى صنف (الرحلات) المنتشر في العصر الوسيط والذي إزدهر، بشكل خاص، في القرن السابع عشر. وعن سليم البستاني وجرجي زيدان يقول بإنهما اعتمدا في كتاباتهما على علم تدوين التأريخ العربي الذي ظهر وانتشر في القرون الوسطى وتأثرا عند إدخالهما القصص العاطفية بالتقاليد العربية المتجسدة في الرواية الشعبية. وبالرغم من إشارة الباحثين لأكثر من مرة الى تأثير ديوما وسكوت وفولتير على تصميم البناء المضموني والأسلوب اللغوي الا أننا نلمس أيضا سمات الكتابة التقليدية عند العرب. ويستشهد هنا برأي مستعربة روسية حول أن علاقة جرجي زيدان بالأدب التقليدي واضحة، إضافة الى قدرته على التوفيق بين العنصر التعليمي الوعظي والعناصر التشويقية. ويعتبر غينتسر أن نمط السرد في روايات زيدان ومضامينها تعد بحد ذاتها مرحلة من مراحل تطور النثر العربي الحديث لا بل الرواية الشرقية عامة، ومن هنا انتشارها في الشرق كله ومحاولات تقليدها في كل مكان بسبب تمشيها مع نزعات تطور النوع التأريخي حتى في الدول الشرقية الأخرى.

يلاحظ الباحث الروسي أن الرواية الإجتماعية - الحياتية الانتقادية في الشرق هي نوع جديد يختلف مبدأيا عن أنواع روايات القرون الوسطى التقليدية، إلا أن هذا لا يعني بأن الرواية الاجتماعية لم تكن منعزلة، في بدايتها، عن التقاليد القومية. ويفسر شيوع الرواية الوعظية التعليمية المباشرة بكونها قد قدّمت مثالا نموذجيا للسلوك. وعامة ظهرت الرواية في الآداب الشرقية كرد فعل سريع ثم حلت محلها الأخرى الاجتماعية ذات المضمون المعقد الذي يتسم في معظم الحالات بطابع الميلودراما، وعلى العكس من الرواية التقليدية التي تفضل الحدث على الصفات الشخصية، والخطة الخارجية على الداخلية في ظروف متغيرة باستمرار تصوّر في الحقيقة بطلا مثاليا. وفي الواقع فالروايتان الجديدة والقديمة تنتميان الى نوع أدبي واحد لكنهما تملكان أشكالا مختلفة وكثيرة. ويقول هنا: يصوّر هذا النوع فكرة اصطدام الإنسان (الخاص وليس العام) مع الظروف الملموسة لا الخيالية المأخوذة من الأساطير، أي أن فكرة الاختبار التي تتجسد في الرواية التقليدية في تصميم بنائي ثابت: افتراق - تضحيات ومآثر - لقاء. أما في الرواية الحديثة فإن هذه الفكرة تأخذ شكل البحث الروحي. بيد أن الرواية التقليدية كانت على الأغلب من طراز رواية المغامرات والمخاطرات التي ساعدت على تبلور أصناف روائية اخرى. وبالنتيجة هيأت الرواية التقليدية التأريخية الخيالية تربة خصبة لتطور الرواية التاريخية الحقيقية، أما رواية الحياة المسالمة فقد مهدت الطريق لظهور الرواية الساخرة.. ومعلوم أن الحد الفاصل بين الرواية التقليدية والأخرى الجديدة غير مرسوم بوضوح وهو كثيرا ما يكون مشروطا من الناحيتين النفسية والتسجيلية. ونقرأ في خاتمة البحث: إن هذا ما يميز بشكل خاص المرحلة الإنتقالية وبداية العصر الجديد في أوربا (رواية التسلية والرواية الاتساعية) وفي الشرق تستند الرواية على علاقتها المباشرة مع التقاليد القصصية ولكنها تبدو فيما بعد كما لو أنها تترك هذه التقاليد نهائيا وبدون أيّ خط رجعة. الا أن وحدة النوع تبقى تمارس حضورها في المستقبل ونادرا ما تجد نفسها كشبكة مترابطة من المضامين والموضوعات. والآن عندما نسمع من حين الى آخر تصريحات مثل:(أزمة الرواية) و(ماتت الرواية) و(مضى وقت الرواية) فإن هذه الأصوات هي في الحقيقة إن دلت على شيء فإنما تدل على نضج أشكال جديدة في تطور أصناف الرواية القديمة والمجرّبة.

أكيد أن كتاب زهير شليبة يقرّبنا بشكل ملموس من هذه النماذج لعلم الأدب في روسيا وبأسلوب يحقق قناعة الاثنين: القارىء غير المختص والآخر المختص.

***

عدنان المبارك

روائي وناقد ومترجم عراقي

مقيم في الدنمارك

................................

* صدر كتاب "ميخائيل باختين ودراسات أخرى في الرواية" للمؤلف والمترجم د. زهير شليبة عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق-2001

في المثقف اليوم