روافد أدبية

مطبخنا القديم

MM80كلما تذكرت مطبخنا القديم شعرت بالرغبة الشديدة في البكاء والاحاسيس المختلفة تجتاح قلبي .. وحتى الأن وبعد كل هذا الزمن الطويل لا اعرف لماذا رسخت صورة المطبخ القديم في وجداني ولم ترد أن تغادر عقلي وقلبي؟ بينما انمحت تقريبا صورة منزلنا القديم تماما...

لا أزال أتذكره، واتذكر زجاج نافذته المهشم وأرضيته الاسمنتية، ففي ذلك الزمن قليل من كان يبلط أرضية الغرف بالكارلاج .. لا أزال أتذكر خزانتين كانتا تزيناه .. واحدة لوالدي بنية اللون .. واخرى صفراء لعمي الذي اختار الغربة في فرنسا .. تزينها رسومات جميلة لفراشات تطير سعيدة .. كان المطبخ مشتركا بين أبي

وماي الاثنين وتتكفل جدتي بادارته...

وما اجتمعت النساء الزائرات أبدا في صالة الضيوف انما يشتهين دائما الجلوس في المطبخ، وهن في الغالب من الجارات اللواتي مللن الوحدة فيرغبن في الثرثرة وتبادل أخبار النساء من زواج وطلاق وفضائح وقليل هي المرات التي سمعتهن يتحدثن في الشأن العام المتعلق بشؤون البلدية أو الأسعار...

وفي الجهة الخارجية من نافذة المطبخ كانت أمي تضع علبا حديدية صغيرة مملوءة بالتراب الأسود خصصتها لغرس النعناع والفليو ونبات عباد الشمس ...

وفي المطبخ كنا نتناول وجبات الغداء والعشاء مجتمعين، الا في شهر رمضان الكريم فعمي كان يفضل تناول الفطور في فناء البيت...

وما كان يعجبني ويهمني من أواني المطبخ هو علبة اسطوانية مصنوعة من الالمنيوم، مخصصة للسكر، فقطعة خبز محشوة بالسكر كانت أفضل الأكلات للأطفال مثلي، فمدينتنا الصغيرة القابعة بين الهضاب لم تكن قد غزتها الجبنة والزبادي والشيبس مثلما هو حادث اليوم .. وكان كل طفل يرفض أن يشرك صديقه في قطعة الخبز أو يعطيه قليلا منها فيهدده قائلا: اعطيني والا عذبك الله !   فيخاف الطفل عذاب الأخرة فيعطيه أو يقتسم معه...

كان خالي مسعود دائما يسخر مني قائلا: أمي أعطيني كسيرة وثكيرة... تصغير الكسرة والسكر .. زمن جميل ! أم أن الطفولة هي الجميلة ؟ دائما أسأل نفسي وأنا أنظر الى الاطفال يملؤون الدكاكين، يشترون الزبادي والشكولاطة والجبن والكاشير .. هل هم سعداء حقا بما يشترون مثلما كنت أنا أسعد بقطعة خبز وقليل من السكر؟ ما أنا متأكد منه أن طفولتنا كانت الأروع ، لأنها كانت نقية لم تفسدها الأحقاد بين الكبار وكثرة الفضائيات والنت والالعاب الالكترونية ! جزء كبير ومهم من حياة الأطفال تخربه الفضائيات والانترنت بدون أن يشعر لا الاطفال ولا ذويهم !

العلاقة بين الانسان والمطبخ تنشأ في زمن الطفولة، لأن أحب انسان للطفل هو أمه، والأم هي سيدة المطبخ وهي دائما في المطبخ...

لم تنشأ أي علاقة خاصة بيني وبين مطبخنا الجديد بل أني كنت أنفر منه دائما..

رغم أن ما قضيته في منزلنا القديم تسع سنوات، وفي منزلنا الجديد خمسة وعشرون سنة.. لم أستطع أن اتبين بالضبط السبب، ولا ادري في أي زمن تخليت عن الخبر والسكر متحولا الى القازوزة والبيض المسلوق والزبادي...

كانت قطعة خبز صغيرة تحشوها امهاتنا بالسكر كافية لا سكاتنا وجعلنا نتوقف عن الصراخ، أما أطفال اليوم فلا شيئ يوقف بكاءهم الحاد المستمر حتى ولو وضعت كل سلع الدكان بين أيديهم !

أي مفعول سحري كانت تتميز به قطعة خبر بالسكر.

 

عبد القادر رالة / الجزائر

 

في نصوص اليوم