روافد أدبية
رنا خالد: عصفور في مملكة الماء

كان عصفورا من أولئك الذين لا يكتفون بالتحليق، بل يكتبون على الهواء بأجنحتهم الناعمة رسائل شوق لا يقرؤها أحد.
وكان قلبه، منذ خلق، يخفق بحرارة لكل ما هو بعيد.
ذات يوم، وبينما كان يطير فوق جدول رقراق يمر وسط المدينة، لمحت عيناه شيئا لم يعرف له وصفا... كانت سمكة.
لكنها لم تكن كأي سمكة.
كانت تتحرك في الماء كأنها قصيدة تسبح، وكل التفاتة من زعنفتها تشبه رعشة حب.
مِن أول نظرة، انقلبت وجهته.
صار يعود كل يوم إلى نفس الموعد: ساعة من الغروب، ومكان لا يزوره سواه.
جلس على صخرة مطلّة على مجرى الماء.
وفي البدء، كان يراقبها صامتا.
ثم صار يحدثها، لا بصوته، بل بعينيه.
وكانت تنظر إليه، تلك النظرة الغامضة التي لا تقول نعم ولا لا، لكنها تفتح بابا واسعا للأمل.
كان يسأل نفسه بصمت:
كيف أحبها؟ ولماذا؟
أهي رقة حركتها؟ أم هدوء عينيها؟
أم لأنها من عالمٍ لا يستطيع بلوغه، مما يجعلها أثمن من كل الطيور؟
أحبها حدّ الانقلاب على ذاته.
لم تعد السماء موطنه، بل صار الجدول وطنا مؤقتا.
وكلما اقترب منها أكثر، كلما ازداد إحساسه بأنه لا يملك الكلمات المناسبة ليبوح.
قال لنفسه ذات مرة:
"كيف يمكنني أن أخبرها بأنكِ غيرت مجرى حياتي، يا من لا تعرفين لغة الطيران؟
كيف أقول لها إنكِ أصبحتِ عالمي الحقيقي، رغم أننا من عالمين؟"
كانت مياه الفرات شاهدة على هذا اللقاء المستحيل،
هناك، فقط، في لحظة عابرة، تلاقت الأرواح، وإن لم تتعانق الأيدي.
وأمام تلك المياه ذاتها، وفي مساء مطير، جلسا سوية.
كانت تلك اللحظات تمطر... والمطر يفضح أحيانا أعمق المشاعر.
هي تبتسم بلطف، وهو يحاول أن يحبس قلبه داخل صدره، لكنه يفشل.
كانت تلمس خده بكلمة، وترجه بنظرة، دون أن تدري.
ثم انتهى كل شيء بسرعة.
وعاد العصفور إلى حيث كان.
لكنه لم يستطع العودة بروحه.
ظل قلبه هناك، يسبح معها في الماء.
وبعد أسابيع، قرر أن يكسر صمته.
أن يقول، بصدق ووضوح: "أحبكِ... بكل التناقض، وبكل المستحيل."
قرر أن يراها وجها لوجه من جديد.
وحين التقيا، لم يكن شيء قد تغير في عينيها،
إلا شيء واحد فقط...
رمقت عيناه يدها، فرأى ما خنقه:
خاتم زواج في يدها اليسرى، يتلألأ مثل برق جاء ليحرق حقله الأخضر.
صمت.
ولم يقل شيئًا.
فهم الآن... أنها كانت تبتسم دون أن تدرك،
تتودد بحسن نية، تعطف عليه كما تعطف النسمة على غصن مكسور، دون أن تدري أن الغصن كان يبني في الهواء بيتا لها.
رجع العصفور إلى سمائه.
لكنّ السماء لم تعد كما كانت.صار الطيران مرّا، والريش ثقيلاً، وكل غيمةٍ تذكره بعينيها.
قال لنفسه وهو يعلو وحيدا:
"لو لا قوانين الحياة... لو لا أقدارها المحكمة... لربما كانت السمكة ستطير، أو كنت سأغوص إليها."
لكن الحقيقة المؤلمة هي أن الحب،كالموت، لا يحتاج إلى موافقة أحد.
وأن العشق من طرف واحد، هو موتٌ بلا قضية،
وصوت لا يرد عليه أحد.
ومع ذلك... كان ممتنا.
لأنها جعلته يعرف كم يمكن لقلب صغير أن يحتمل،
وكم يمكن لحلم مستحيل أن يمنح الحياة معنى ولو لم يتحقق
***
رنا خالد