حوارات عامة

الشاعر العراقي سعد جاسم: المنفى مختبر ومتاهة

saad_jasem"أَنا العراقيُّ .. سليلُ المسلاّتِ والمِحَنْ.. المُمتَحَنْ.. بفكرةِ الخلودِ .. وجوهرِ الوطنْ .. هكذا .. أخذتْ حياتي تتهدمُ .. وأخذتْ اشيائي تتعطلُ" .. أبيات كتبها الشاعر العراقي سعد جاسم الذي  يعيش حاليا في كندا، بعيدا عن أرض الوطن ولكنه قريب من همومه الثقيلة . كتب يقول : " هارباً كنتُ .. من وجودي .. ومن بلادِ الأَلمْ .. طائراً كنتُ .. في الفراغِ .. ومعي .. شمسُ نصفِ الليل .. تنزفُ نهرَها .. في سديمِ العدمْ " . حاورته " محيط " خلال زيارته الأولى للقاهرة، وتطرق النقاش لرؤيته للشعر والغربة والأوضاع في العراق الاشكالي، وجاء الحوار على هامش مؤتمر صحفي عقد باتحاد كتاب مصر حول ملتقى قصيدة النثر العربية الأولى .

*  كيف تروي سيرتك مع الإبداع؟

-  ولدت على ضفاف الفرات 1959 في مدينة الديوانية العراقية، وبدأت علاقتي بالشعر مبكرا، وكانت جدتي شاعرة وهي التي أرضعتني الشعر، وقد نشرت منذ طفولتي أشعارا في صحف عراقية وعربية، ومنها صحيفة " طريق الشعب" العراقية، ثم انتقلت لبغداد لدراسة المسرح بمعهد الفنون الجميلة عام1977 وأثناء وجودي بالمعهد تعرفت على شخصيات شعرية ومسرحية اشعلت موهبتي مبكرا، فكنت شاعرا بالمسرح ومسرحيا بالشعر . في المعهد كتبت أهم نصوصي الشعرية ثم تخرجت وكنت من الأوائل على دورتي في الإخراج المسرحي وكانت أطروحتي هي (الإمبراطور جونز  ) للكاتب الامريكي يوجين اونيل، وكانت تجربة كبيرة تكونت من 40 ممثلا وحصلت بها على المرتبة المتقدمة بمشاركة زميلي الفنانين الكبيرين الآن د. إقبال نعيم والاستاذ كريم رشيد، ثم قبلت في المرحلة الجامعية الثانية لأنني كنت من المتفوقين وفي أكاديمية الفنون الجميلة تجلت موهبتي الشعرية بشكل لافت، وفي الأكاديمية أنجزت تجارب شعرية لافتة، وقد ساعدني ذلك لكوني مسرحيا في اكتساب أسلوب مميز بإنشاد الشعر  .

أفخر بأنني كنت من المؤسسين لتجربة مهمة في الثقافة العراقية وهي  تجربة " عربة الغجر" والتي امتزجت فيها كل أشكال الفنون من موسيقى ومسرح وشعر ورقص وقصة، وكنا نقدمها في  المنتديات والاتحادات والكليات والكاليرهات والمهرجانات الكبيرة مثل مهرجان المربد الشعري ومهرجان بابل الدولي، ثم انتقل زميلي الفنان المبدع  جبار الجنابي بالتجربة الى العاصمة الاردنية عمان .. ومن ثم الى كندا  وأصبحت الآن تجربة عالمية ولها مؤسسة تقدمها في كندا اسمها " آنو" .

صدر لي ديوان " طفل الكلام " عام 1990 وطبع على نفقتي الخاصة، وبعدها "موسيقى الكائن" 1995 عن اتحاد الأدباء والكتاب  العراقيين، ثم غادرت  الى مدينة عمّان وعملت ككاتب وصحفي ومحرر ثقافي، وأنشأت ملحقا ثقافيا للاطفال وقد لاقى نجاحا لافتا وأسس لتجربتي في حقل آخر هو ثقافة الطفل واسمه " قوس قزح"، وأنا أشعر بأنني طفل لا يقبل أن يكبر أبدا ..  والطفل الذي يسكنني لا يريد أن يشيخ مبكرا ومازلت أرعاه لأنه هو أنا ...  وفي الأردن صدر لي ديوان " طواويس الخراب" 2001، وكانت تجربة توهج وتجريب في قصيدة النثر التي اشتغلت عليها بوعي مختلف .

هاجرت بعد ذلك  الى كندا، وحاولت أن يظل صوتي الشعري متوهجا، فأنجزت أربع مجاميع شعرية هناك باللغة العربية،وكانت نصوصا عراقية خالصة وقد ترجمت الى اللغات الانجليزية والفرنسية والالمانية والاسبانية وغيرها، وأنا مخلص لبلادي لأنها جديرة بذلك فهي بلاد الحضارة والحب والجمال والإبداع الخلاق الذي له حضوره في الثقافة الكونية منذ حضارة بابل وللآن، ولدي نوستالوجيا (حنين) يجعلني دائما أرجع لينابيعي الأولى في بلادي، ومن المفارقات العجيبة انني حدث وان ارسلت  مخطوطة مجموعتي الشعرية لصديقي القاص والكاتب الدرامي الدكتور سلام حربة ..وقد فاجأءني صندوق بريدي في كندا ان مجموعتي  (قيامة البلاد) وصلتني مطبوعة ضمن اصدارات اتحاد ادباء بابل  .. ولااملك سوى ان اقول : شكرا لبابل العظيمة .. شكرا لخلي وصاحبي الابدي سلام حربة .

أكتب أيضا بالإنجليزية وترجمت أعمالي للألمانية والفرنسية والإنجليزية، ونشرت بالمجلات والصحف الأدبية الكندية ومواقع الإنترنت الثقافية المهمة مثل "جهة الشعر  وأدب وفن  والامبراطور والف اليوم  وكتابات والمثقف والناقد العراقي والصداقة والنور والهدف الثقافي والحوار المتمدن" وغيرها الكثير ..

اشتغالاتي الأخيرة ونصي الجديد هو نص مفتوح ويحدث تماهيا بين جميع الفنون ومن هذه النصوص نصي " عصافير ضارة" "وموسيقى الكائن" "عربات الأرقام" " ما وراء الألم" " بلاد  تحت الصفر" ومجموعة " أرميك كبذرة وأهطل عليك" ومنها نص " لا وقت إلا لابتكارك " و" عيناك تضيئان عتمة العالم" " أخاف عليك من البرابرة " .

*  كيف ينظر الكنديون لتدخل الآلة العسكرية الأمريكية في الدول العربية والإسلامية؟

-  من خلال معايشتي للكنديين، شعرت بأنهم شعب مسالم، لأنهم في الحقيقة مجموعة شعوب على أرض مشتركة، فمنهم ذوو اصول شرقية وافارقة وغير ذلك، ولديهم فهم لما يجري بالعراق وغيره من الدول العربية، وكثير منهم يدين السياسة الأمريكية، ولكن لا ننكر أن الوحدة السياسية والجغرافية بين كندا وأمريكا تؤثر في تعاطيهم للأحداث وتحليلهم لها، ولكن الكندي عموما يتمتع بجرأة وبحكم حقوقه كمواطن يعبر عن رأيه بحرية ودائما ينزع للسلام في العالم .

ما الذي يفعله المنفى و الغربة بشاعر عربي؟

المنفى بالنسبة لي هو مختبر ومتاهة في ذات الوقت، ويسير هكذا (مختبر .. منفى .. مختبر ... متاهة ..) فأنت إذا لم تواجه منفاك وتحاور الآخر ستذهب لمتاهة قد تحطمك، ولكن الشاعر والمثقف الحقيقي يحول المنفى لمختبر ويتماهى مع المجتمع الجديد بطريقة انتقائية ليحقق وجوده ويحاول أن ينهل من الثقافة الجديدة، وأنا لا أؤمن بالمثقف الهامشي، حيث ينبغي على للمثقف ان يؤكد حضوره في كل الوجود، وفي الشاعر تتخفى ينابيع الفعل، فالشاعر الحقيقي صاحب مشروع مستقبلي وهو مبتكر وخلاق دائما، أشبهه بطائر الفينيق الذي ينهض دائما من رماد  الخسارات والانكسارت، أرى نفسي كناقوس يطرق أينما ذهب، دائما تشغلني الحقيقة لا الوهم، والشعر في حقيقته قلق واختلاف، وقد جبلت على هذا الاختلاف الذي يدفعك لأن تصبح مغايرا حقا وتستحضر المسكوت عنه .

*  ما هي أبياتك التي تتذكرها دائما في الغربة ؟

كل منفى لعنتُه

كل منفى خراب

معنايَ ياوطني

فوق ذاكَ التراب

..

يالها من ميتةٍ مبتكرةْ

حجر فوق اليدين

حجر  في القدمين

حجر في الحنجرة

يا لها من ميتة مبتكرة

* ما هي  ملامح مشروعك الشعري؟

- أنا أعمل بعناد ومثابرة لتحقيق مشروعي  الشعري، وقد  تميزت تجربتي الشعرية  بالبدئي والطفلي والصافي  حتى أن أحد النقاد قال أنه إذا لم يقرأ توقيعي على أشعاري لعرف ان هذا هو نص سعد جاسم، وأنا معني بجمال اللغة وصفائها  ... وقصيدتي بسيطة  كالحياة والموت والعدم ...  ونصي يشبهني جدا في ذلك، وأنا شاعر سيروي وحياتي وميتا جمالي  و لا أكتب من خارج سيرتي وسيرة بلادي ووجودي في هذا العالم العجائبي، ان فهمي  للعملية الشعرية يجعلني واثقاً بتجربتي، ولدي تجربة كتابية في استحضار الرافديني  مع الحياتي وتقوم على سحب الأسطورة من مرجعيتها ورميها  الى هو مستقبلي، فأخرجت جلجامش  من أسطورته ورميته في شوارع وحانات المنفى وأركبته دراجة  هوائية وأرسلته للسوق وجعلته مشغولا بالحكي مع (شمخت) عبر الانترنت .. وانكيدو جعلته غاسلا للسيارات او عاملا في محظة للبانزين ... وهكذا ...

*  هل كان لك موقف واضح من نظام صدام حسين؟

- حينما كنت أعيش بالعراق كنت مشاكسا إلى حد كبير، ولست معارضا بالمفهوم التقليدي، وكنت مضادا للنظام السابق لأنني أدركت مبكرا دكتاتوريته  البشعة وأدواته القمعية، وقد كان لي ومنذ طفولتي رفضي الاستثنائي لهذا النظام ... وساعدني على ذلك نشوئي في بيئة ومدينة  معظم ابنائها رافضين وماركسيين وشيوعيين حقيقيين، وقد تجلى هذا الرفض مبكرا في نصوصي الشعرية ..  ويعرف هذا زملائي الشعراء والادباء وحتى  العاملين بالمؤسسات الثقافية العراقية، وتلقيت الكثير من التنبيهات بألن لا أظهر هذه المعارضة في كتاباتي ضد النظام، وكان نصي جريئا ومشاكسا حد الاتهام بالمباشرة والثورية  وقد وصف  نصي الشعري بانه نص اعتراضي  على النظام الذي جاء سهوا للحياة العراقية منذ وصوله  الى السلطة عام 1963 وكان نظاما ظلامياً  ووحشياً  وخارج التوصيف  .

.. ونقرأ  من مجموعته  " نصوص الألم والحقيقة" مقطعا بعنوان " مزرعةُ الحيوانات أيضاً" :

الخنزيرُ الأحمقُ

- الذي يُضحكُني غباؤهُ الأسودُ طويلاً -

لمْ يكتفِ بتصنيمِ أصدقاء توحشّهِ

وانتصاراتهِ الخاسرة

بلْ راحَ يوسّمُهم

بنياشينِ الأكذوبة

فاستحالوا قطيعاً

ترنُّ في رقابهم

أجراس الخديعةِ

وتتكسرُ تحتَ اظلافهم البدائيةِ

بوصلاتُ الهدايةِ

وقناديلُ العقل .

ومن نص "الفرح المسروق" نقرأ هذا المقطع :

لصوص الفرح

القادمونَ من الأَقاصي القاسيةِ

الخارجونَ من كهوفِ الوهمِ

والخديعةِ والأوبئةِ

الغزاةُ ..... الفرائسيونَ

ذوو العيونِ الفارغةِ

مهندسو الفتنِ والذرائع والوشاياتِ

المفخخونَ بالهلاكِ

والضغينةِ السوداءِ

برابرةُ الطوائفِ

الدمويونَ ....

الظلاميونَ....

الدهاقنةُ ....

الشياطينُ.....

هؤلاءِ......

اولائي

اولئك

همُ الذينَ سرقوا منّا الفرح

فمَنْ سيعيدُ لأَروحِنا

فرحَها المسروقَ

حاورتهُ في القاهرة: شيماء عيسى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1263 الاثنين 21/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم