حوارات عامة

نعيم عبد مهلهل يحاور الكاتب والاديب د. كريم الوئلي

من اقوال الدكتور كريم الوائلي:

- التصوف تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق….

- التعميد على ضفاف الأنهار، والسير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة تهدف الى الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز.

- الصوفـي يتوحد مع اللاهوت.. والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق.

- ان الخليفة المتوكل لا يزال يحكم العالم الاسلامي وهو في قبره.. إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في المجتمع حتى الآن!!

- بين المفكر والدولة تعارض دائم، وبين المثقف والسلطة تعارض مستمر.

- ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون.

نعيم عبد مهلهل: يشتغل الدكتور كريم الوائلي في مسافة معرفية، تنساق الى دهشة من الجدية والتنوع وابتكار الرؤى في المساحة الروحية لثقافة الاشتغال لديه، حتى أنك تحسه يضع العبارة في اشتياق المعنى المجسد في صورة ما يقصدها قائلها، ويرمي اليها. لهذ انَّ كريم الوائلي باحث وناثر يمثل جهدا فكريا ولغويا استثنائيا في عصامية المبدع، لجعل حياته نقطة التحول في مسيرة الكيان المعرفي لدينه ولامته ووطنه، وعبر محطات هذا الاستقصاء الجغرافي في ذاكرة الوائلي ومحطاته المتعددة نجد أنه يمتلك صيرورة الجد والاجتهاد والخلق بمستوى التنظير والتأليف والمحاكاة لهذا فأنه يطور بالفعل والتحليل والمحاكاة داخل النص المحقق أو المؤلف أو الذي يسير فيه، على وفق منظور الرؤية بدلالة العلم أو التخيل، وتلك الرؤية محددة الاتجاه في نمط الاشتغال، ولكن تأثيرها يتسع بين مذاهب الادب ومنابع الفكر وتشخيصات العلم في المحتوى الاخلاقي والفلسفي والفقهي اتجاه الكثير من الظواهر الحضارية التي لمعت في مسيرة التاريخ العربي ومنها الصوفية ونباهة المعتزلة ورؤيا القصة ومسيرة القصيدة وصناعها الماهرين.

جسد صورة المتشابهات الحسية التي تسكنه منذ بواكير وعييه مع حدس التقصي والقراءة المبكرة التي سكنته وأعطى لهاجسه البعد الزمني والهدف المنشود عندما قرر ان يكون اكاديميا وباحثا مرموقا ثم صانعا لمهارة تخيل النص والابداع في ماهية كشوفاته وهي في حسابات القراءة المتأملة والمتأنية لنتاجه صورة للأبداع اللوني لما تختزله الذاكرة المتحمسة والواعية في جسد هذا الكيان الادبي اللامع.

من يقرأ بحوث يسكنه نوع من التجلي والانبهار في مساحة الدقة النافذة التي يسكن اليها الباحث في تفسير المعنى ودلالته، ويقينا سيعجب تماما بذلك الغور المتأني في خفايا النص ودلالته وحتما سيجد القارئ انه امام نمط جديد من الحداثة النقدية حتى عندما تركن الى الاسلوب الكلاسيكي في البحث والتحليل والاستقصاء غير انَّ المميز في هاجس الوائلي قدرته على تفتيت العبارة وتسليط الفهم والرؤى على محتوى العبارة بما تحمله من تحفيز وقصد وضوء والنية المفترضة والمشار اليها في قصد كاتب النص.

اما في رؤاه الاخرى المتسعة في اشتغالات مثيرة للجدل في مستوى الفقه والادب والمناظرة كما في دراساته عن المعتزلة والمتصوفة فأن كريم الوائلي يركن الى سعي مبتكر في خلط الرؤية وسعة الحلم فيها مع نظرة العلم في طبيعته الكونية. ولكنه ايضا يبقى ممسكا بالرؤيا الاستقرائية بجانبها الروحي والجدلي لهذا نراه يحلل وفق المنظور الاجتهادي فيما يتوفر لديه من مناخات التاريخ وبراهينه.

د. كريم الوائلي، باحثا وناقدا وتدريسيا ورجل ادارة مؤسساتي. نلتقيه اليوم في هذا الحوار الفكري الذي لا يهم د. كريم الوائلي في تتبع ما ابدع وما انجز به جعلناه حوارا فكريا موسوعيا بمرادفة الاستعانة بمنجزه:

سؤال: هل للمتصوفة اليوم مكان في هذا العالم. خذنا اليهم في قرين الحياة الحالية. عالم الانترنيت وفوضى الربيع العربي والفضائيات ….والبحث عن فسحة لسماع السياب أو مشاهدة هاملت؟

د. كريم الوائلي: لا أحسب انَّ التصوف مجرد طقوس يؤديها أفراد في عزلة عن الواقع.. بل إنها تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق، أما بنزول اللاهوت إلى الناسوت.. أو باتحاد الناسوت باللاهوت والحلول به ومعه..

إن فهما ً خاطئاً يجعل التصوف مجرد ظاهرة عابرة في التراث العربي الإسلامي وعلى يد مجموعة من المتصوفة، كالحلاج المصلوب والسهرودي المقتول.. واضرابهما، وليس الأمر كذلك فالتصوف ليس حكرا ً على حضارة أو دين أو مذهب.. بل تنتشر أنساقه في العالم كله.. انَّ التصوف ضرورة في المجتمع وتجلياته تمتد عمقا ً في حفريات المعرفة تمتد من بكائيات العراقيات على عودة تموز من العالم السفلي إلى الحياة كي تدب الحياة من جديد ومرورا ً ببكائيات معاصرة تمتد جذورها إلى قرون في انتظار المنقذ والمخلص..

إننا دون شك نلتقي بنزوعات صوفية نجدها في حضارات أخرى.. وديانات متعددة.. ونأخذ هذه النزوعات ملامح تأدية الطقوس الجمعية.. بمعنى إنها ليست مجرد طقوس فردية

لاحظ معي طقوس التعميد على ضفاف الأنهار.. ترمز لحركة صوفية تمتد في جذورها إلى أعماق التاريخ.. وكذلك السير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة

وشكل من أشكال اتحاد الجموع للتوحد بالمنقذ والمخلص كما أشرت.. وكل هذا يتدفق ويتلفع بروح إنسانية مشبعة بوجع الخلق وتمتد آثاره نحو الآتي.

جماعات تريد الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز.. تتوحد بالمطلق عبر فك أسر القيد الذي تصنعه معيقات الحياة.. والتماهي مع الذات المطلقة.

إن الديانات السماوية كلها تمتح من روح التصوف بطرائق مختلفة وتعبر عنها بطقوس حسية ظاهرة ليست هي المقصودة

وإنما المقصود الباطن العميق، خذ مثلا ً طقوس التعميد تبدو في الظاهر طقوسا ً شكلية ولكنها ذات أبعاد باطنية ورمزية عميقة.. ومن الغريب انَّ المتصوف يحاول أن يعبر عن اللاهوت بأدوات الناسوت.. وهذا مشكل.. ومن المؤكد أن يعجز لأن اللغة محدودة لا تستطيع حمل عبء التعبير عن المطلق.. وبذلك فإن المتصوف أمام أحد أمرين: أما الصمت وهو الغالب.. ومن ثم يحافظ

على حياته، وأما الشطح.. بمعنى (الفعل) الذي يقوده إلى النبذ أو التكفير.. أو القتل!!

وإني لأعجب كيف لا يكون السياب متصوفا ً من الطراز الأول من حيث حياته المحزنة وعذاباته المتكررة وانعتاقه عبر الموت نحو آفاق المطلق.. وبذلك كان السياب والصوفـي يمتحان من معين واحد لا ينضب من الأعماق.. ويحفران معا ً تذوقا ً في حد الموت، السياب (يشعر) كما (يشعر) الصوفـي، ويتحول شعورهما وجدا ً عبر الكلمة العاجزة، فيستعين الصوفـي بالشطحات وبتعالي الناسوت نحو اللاهوت، ويستعين السياب هو والبياتي و أدونيس بالتقنع للتعويض عن شطحات الصوفـي..

الصوفـي يتوحد مع اللاهوت.. والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق عبر فتح من أعماق الداخل، وكذلك كانت اللغة عاجزة من الإبانة عن هذه الأعماق لديهم حميما ً.. بوطنهم متصوفة كبار.

إن حركة الجموع على ضفاف الأنهار للتعميد.. أو المشي على الأقدام نحو أضرحة الأولياء تشبه تماما ً انساق وجدان أدونيس.. توحد الجموع مع الآتي.. الكائن في رحم الماضي.. وتوحد أدونيس مع (علي) في ديوانه مفرد بصيغة الجمع.. الآتي من عمق التاريخ (علي) هو الإمام.. الولي.. الفرد / بصيغة الجمع، يتماهى مع الشاعر أدونيس، وأسمه (علي).. فكأن (علي الإمام) الماضي / المستقبل، هو علي / أدونيس المستقبل المضمخ بعبق الماضي، وقد جمع أدونيس بين الصوفية والسريالية إذ إن كليهما يتوجه نحو الخلاص دينياً عن الصوفية وتجاوز الإبحار عند السريالية.. فالجذور واحدة وإن كانت الوسائل والنتائج متباينة.

سؤال: ما الجديد الذي يمكنك أن تجده في قصيدة كتبها البحتري قبل مئات السنين.. أقصد ضد تفاسير وأنت تبحث في القديم من أجل الجديد؟.

د. كريم الوائلي: ليست هنالك حداثة واحدة، وانما هناك حداثات بحسب اختلاف المكان والزمان والانسان، فحداثة باريس غير حداثة موسكو، وهكذا.. وهناك حداثة معاصرة نعيشها.. وهناك حداثات في أزمان سابقة.

وفي القرنين الثاني والثالث الهجريين كانت هناك حداثة، وشعراء محدثون ونقاد كذلك.. فكر ومؤسسات اجتماعية، ويعارضها اللاحداثيون.. سلطة وطبقات اجتماعية وفكر وشعراء.

ونلتقي بمرجعيتين معرفيتين في القرون الثلاثة الأولى.. المرجعية المعرفية العقلية والمرجعية المعرفية النقلية.. ولكل مرجعية أدواتها وأنصارها.

ولم يكن البحتري من أهل الحداثة، ولكنه من خصومها.. وجاء مع الزمن المعارض للحداثة مع مجيء جعفر المتوكل (الخليفة العباسي) الذي أحدث تغيرا ً على المستوى الفكري بإقصاء لاعتزال وأهل العقل والمنطق وأحل محلهم أهل الأثر، وعلى المستوى الفني تبنى مصطلح (الطبع) الذي يعبر عن اللاحداثة!! في معارضة لمصطلح (الصنعة) المعبر عن الحداثة.

ان المتوكل – في تصوري – لا يزال يحكم العالم الاسلامي وهو في قبره.. إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في لمجتمع حتى الآن!!

ولقد شغلتني حقيقة بنية القصيدة في كلا الاتجاهين.. وعلى الرغم من انحيازي للحداثة في التراث وانحيازي لمنجزاتها كان لا بد لي أن أتأمل منهجيا ً البنية العميقة التي تحكم بنية القصيدة عند اللاحداثيين، وهي عادة تتكون من وحدتين، أو ثلاث وحدت، يكون الغزل أو التشبيب أولها.. ثم يكون المرح الهدف الذي تسعى اليه.

ولم أكن مقتنعا ً بالتفسيرات الكثيرة التي قدمها النقاد، قدامى كابن قتيبة، ومعاصرون غربيون مثل: فالتر براونه ومعاصرون عرب مثل: عز الدين اسماعيل – مثلا ً – وكان لابد من الكشف عن البنية العميقة..

ويتبدى امكان دراسة قصائد البحتري في ضوء محورين، أحدهما يحاول الكشف عن التجليات المتعددة التي تشتمل عليها قصيدة المدح، يحاول الآخر إرجاع تلك التجليات المتعددة إلى بنية عميقة تحكمها، ولما كانت الأغلبية الساحقة من قصائد المدح عند البحتري تنقسم إلى مقطعين: مقطع المحبوبة، ومقطع الممدوح، فإن البحث سيركز على هذا المنحى بشكل عام، والتطبيق على بعض نماذجه.

إن البنية العميقة التي تحكم تجليات قصيدة المدح تتمثل في التعارض بين السلب والإيجاب بين مقطعي المحبوبة والممدوح، ويمثل هذا التعارض إطارا عاما تقع تحت شموليته أنماط متعددة من تجليات متعارضة عديدة

إن مقطع المحبوبة يمثل الموجة السالبة في القصيدة، في حين يمثل مقطع الممدوح الموجة الموجبة، فإذا كانت المحبوبة تبعث على السقم والهزال والجدب، وأنها حسناء سيئة الصنيع، فإن الخليفة يتميز بحسن المحيا من ناحية، وحسن الفعل من ناحية أخرى، ولذلك جعل الشمس والقمر دالين على جماله وبهائه، ويرتبط هذا في اغلب الأحوال بملامح دينية ترجع إلى الرسول صلى الله عليه و اله وسلم، لأن الممدوح ـ الخليفة ـ هو امتداد للنبي، كما أن أفعاله تحيي الإسلام، وتدافع عن الرعية

أن هنا تعارضا من نوع آخر بين المحبوبة والممدوح، إذ تمثل المحبوبة مفردا مؤنثا تحدث عنه الشاعر بصيغة المذكر، وأن فعلها لا يتجاوزها ولا يتجاوز الشاعر، أما الممدوح فإنه يمثل المفرد المذكر الخارق، الذي يتميز بخصائص تقترب من الملامح القدسية بفعل الصفات الدينية التي خلعها عليه الشاعر وتقابله الجماعة، ويتجلى في فعل الممدوح تعارض من نوع آخر، حيث يكون الممدوح سببا في بعث الخصب في الحياة والحيوية في الجماعة المناصرة له، والموت الدمار في الجماعة المعارضة له، فعلى مستوى الجماعة المناصرة له

دلالات التعارض المكاني والزماني:

المحبوبة:

امرأة: انوثة ـ ضعف ولين

امرأة: ظاهرها جميل، وباطنها قبيح

امرأة: محدودة الخصائص، لا علاقة لها بالمطلق

امرأة: تتسم بالعقم

امرأة: تبعث السقم والهزال في الشاعر

امرأة: لا تحقق التواصل

امرأة: عالمها تخيلي متوهم

الممدوح (الخليفة غالبا)

رجل: ذكورة ـ قوة وخصب

رجل: ظاهره حسن، وباطنه حسن

رجل: جزء من حركة المطلق، هو امتداد للنبي، ومن ثم مرتبط بالمطلق.

رجل: ولود

رجل: يبعث الخصب والنماء في الشاعر

عالم الممدوح: حقيقي واقعي

مكان المحبوبة وزمانها:

المكان: مكان مجدب لا حياة فيه « طلل »

الزمن: زمن ماض وحركته بطيئة

الحالة: التلاشي والهشاشة

المستوى الحضاري: البداوة

مكان الممدوح وزمانه:

المكان: مكان خصب، قصور وحدائق ومياه.

الزمن: زمن الحاضر والمستقبل، وحركته متسارعة

الحالة: الخصب والنماء

المستوى الحضاري: المدينة

ويسعى البحتري إلى التنقل والتحرك من الطلل إلى القصر، والحركة هذه تعني نفيا للمكان وخصوصيته الثبوتية، ورمزا لانعتاق الإنسان وتحرره، ولذلك فإنه يفر من الأولى إلى الثانية، فلا يعطي المقطع الأول مساحة اكبر، ثم ينتقل إلى المقطع الثاني الذي يتوقف عنده طويلا، مساحة وحضورا، بمعنى: إلغاء للطل، وتثبيت للقصر، وانحراف عن البداوة وانحياز إلى المدنية.

سؤال: من يضع المنهج المفكر أو الدولة. هل سكنت مثل هذا الشعور وانت الذي كلفت لوضع مناهج لكتب دراسية عديدة؟

د. كريم الوائلي: بين المفكر والدولة تعارض دائم، وبين المثقف والسلطة تعارض مستمر.. ترى من يضع المنهج!!.

أعتقد إن خللا ً مفاده إن الدولة لا تمتلك رؤية بالمعنى الصوفـي لوضع المنهج، وليس المثقف بقادر على إستلهام رؤاه.. ولذلك كان العجز لا المعجزة..

ويختلف منزعا المثقف والسياسي من حيث طبيعة عمليهما ووظائف تفكيرهما، بين من يمارس الفعل في الواقـع (السياسي) وبين من يتعالى عليه (المثقف)، وهذا يعني ان السياســي تحكمه حركة الآني وما هو كائــن، في حين يتجاوز المثقف ذلك الى الآتي وما ينبغي أن يكون، وتتحكم في سلوكية السياسي نزعة برغماتية تجنح في كثير من الاحيان نحو ميكانيكية تبريرية، في حين يميل المثقف الى نزعة ترقى الى المثالية التي تهدف الى صياغة الواقع على وفق معطيات معرفية جديدة، بمعنى الإنتقال من الثابت الذي يصر السيــاسي على وجوده، الى المتغير الذي ينشـــده المثقف، لأن الثابت (المعروف) يبقي السياسي الحاكم في سلطتـــه أما المتغيــر (المجهول) فإنه يحدث خلخلة في الواقع وتغيرا يخشاه السياسي ويفر منه.

ويبلغ التعارض الضدي اقصى مدياته بين المثقف والسياسي في أحد أبرز المتون الثقافية (الف ليلة وليلة)، إذ يتجلى بوضوح بين شهرزاد المثقفة العارفة المطلعة على الكتب والمصنفات والتي حفظت الأخبار، واطلعت على الفنون، فضلا عن امتلاكها القدرة على التأثير في القص والأداء، ويقابلها السياسي / الحاكم شهريار الذي جعل الشك وسوء الظن وتعميم الأحكام غايته ووسيلته على السواء، واستخدم البطش ببشاعة فائقة، وليس من قبيل المصادفة أن يكون التعارض قائما بين السياسي والمثقف بل أنه اشتمل على تعارض ضدي آخر يقوم على أساس الجنس بين الرجل والمرأة، وكأنه يشير ضمنا الى تعارض ثقافي ذكوري وانثوي.

وإذا كانت شهرزاد قد تمكنت من ترويض الحاكم وشفته من عقده المرضية النفسية المركبة، وتمكنت من إعادته الى حالته الطبيعية، فأن عبداللّه بن المقفع قدم حياته ثمنا لنصائحه الرمزية للحاكم في كتابه (كليــلة ودمنة)، ويتبدى التعارض بين الحاكم والفيلسوف (بيدبا ودبشليــم) إذ يمثل الأول كما يقول أستاذنا الدكتور جابر عصفور تمثيلا رمزيا لنموذج الحكيم العاقل ويمثل الثاني الحاكم الباطش، وتبدو كليلة ودمنة أقنعة للمرامي على مستوى التعارض الرمزي بين السيف والقلم، في تلك العلاقة المتوترة التي دفعت عبداللّه بن المقفع الى القول صراحة (إن الملوك أحوج الى الكتاب من الكتاب الى الملوك) وكما قال ابن المقفع: (إن الحكماء أغنياء عن الملوك بالعلم، وليس الملوك أغنياء عن الحكماء بالمال (!!.

إن المنهج ليس تأليف كتاب.. إنما هو يشبه عمل الرسالة والنبوة مع فارق المثل، طريقة وآليات وتدريب وأدوات.. إن الدولة لا تتدخل ما دام السطح الذي تطالعه لا يتعارض مع التوجهات العامة.. لكنها مهما بلغت تبقى تجهل البنى العميقة التي ارتكزت عليها طبيعة النصوص..

في تعاملي مع تأليف كتب المطالعة من الصف الأول المتوسط إلى السادس الثانوي.. كنت أدرك جيدا ً النصوص التي يتم اختيارها من الماضي أو من الآخر، لها سياقاتها التاريخية والاجتماعية والمعرفية ولذلك فإن الجزء الحقيقي هو الذي يختفي تحت الماء من جبل الثلج.. وما تراه هو الجانب المرئي.!!

قد لا أكون مبالغا ً إن لكل نص ظاهرا ً وباطنا ً، الدولة لا ترى إلا الظاهر وربما السطحي، أما المؤلف المثقف صاحب الرؤية بالمعنى الصوفـي يمتلك انساقا ً عميقة لبنيات تحتية وثيرة.. إنها المسكوت عنه.. ولو عدنا إلى التراث لأدركنا إن هناك الكثير ممن كتبوا.. وجعلوا المسكوت عنه يبحر بين السطور وإلا.. لو أدرك الآخرون طبيعة المسكوت عنه لنحروا من قاله نحرا!!

اشترك معي – أساسا ً – في التأليف شخصان انتقلا إلى رحمة الله – زاهد في حياته بروح الصوفـي الدمث –(تركي الراوي) وآخر مثقف مستقبلي قتلته أياد خبيثة بعد أن اختطفته.. (علي عبد الحسين مخيف) تماما ً مثل الحلاج والسهروردي.

كنا نضع نصب أعيننا أن تكون كتب المطالعة تشكل رؤية التلميذ بحيث يكون قادرا ً على تذوق وتأمل النصوص وأن تفتح أمامه آفاقا ً معرفية عديدة، كان لابد أن يطلع على جوانب ثرية من التراث.. وبخاصة في الجوانب التنويرية.. هذا فضلا ً عن نصوص قرآنية وأحاديث نبوية.

ففي تعاملنا مع النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة اعتمدنا منهجا ً يقوم على شرح وتفسير وتحليل هذه النصوص في الصفوف الأولى والثانية والثالثة المتوسطة، ولكننا في الصفوف الرابعة والخامسة والسادسة الإعدادية اعتمدنا طريقة أخرى بحيث نزود الطالب بتأملات التراثيين للقرآن الكريم.. ولذلك اخترنا الرماني والباقلاني والشريف المرتضى يتعاملون مع النصوص القرآنية وهم من مدارس فكرية مختلفة.

وكان جل اهتمامنا أن يطلع التلميذ على جرعات مختلفة ومتنوعة من الأدب والفكر والثقافة، وجعلنا الأولوية للأدب والفكر والثقافة العراقية، ثم تليها الثقافة العربية والعالمية ولقد زودنا التلميذ بنصوص عربية مختلفة ونصوص أجنبية من الأدب الإنكليزي والروسي والفرنسي وحتى الصيني!!

وتنوعت النصوص بين شعرية ونثرية ومعرفية يمتح جزء منها من التراث، وكلها يهدف إلى الارتقاء بالذائقة الأدبية والمعرفية واستجلاء جوانب جديدة ذات طوابع تنويرية.

وكنت أدرك تماما ً إن الثقافة العراقية المعاصرة تتميز بالتنوع والتعدد والتباين وكنت أدرك أيضا ً إن هذه الثقافة ليست كتلة مصمتة ومعلقة في الفراغ وإنما هي عجينة لدنة قابلة للتشكيل والتحوير والتغيير.. فهي تماما ً كالواقع لا تعرف الثبات والاستقرار بل هي في صيرورة دائمة.

سؤال: في رؤاك عن الصوفية في منهجها الرومانسي طورت كثيرا من حداثة الفهم فيها عندما عصرنتها والبستها رؤى الفلسفي المعاصر في مقال لك الرومانسية الصوفية في قصيدة صلاح عبد الصبور. أما كان السياب اقرب الى هذا الفهم أو البياتي؟

د. كريم الوائلي: ليس بالإمكان تلخيص التصوف أو الرومانسية بكلمة واحدة أو تعريف محدد، إذ ان لكل منهما خصائصه الذاتية والعامة بحسب كل متصوف أو رومانسي، ولذلك فان تصوف الحلاج يختلف عن تصوف ابن عربي، ويختلف تصوف ابن الفارض عن تصوف السهروردي المقتول.. كما أن الرومانسية نفسها يصدق عليها ما يصدق على التصوف.. فرومانسية كيتس تختلف عن رومانسية كولردج وان رومانسية جبران خليل جبران تختلف عن رومانسية أبي القاسم الشابي..

ويمكن التحدث عن سمات مشتركة بين التصوف والرومانسية تلك التي تتصل بــ:

1. التذوق الفردي / الخاص للعالم والمجتمع والانسان، لدى كل من المتصوف والرومانسي.

2. خصوصية الخيال والتخيل الذي يصل الى درجة النبوة عند المتصوف، والخيال الابداعي لدى كولردج مثلا ً..

3. التجربة الذاتية لكل من المتصوف الرومانسي.

وحين تأملت ابداع (صلاح عبد الصبور) الشعري ألفيته يعيش في أجواء الرومانسية / الصوفية..، بمعنى أنه يتماهى رومانسيا ً بالتصوف..

ومن الجدير بالذكر ان صلاح عبد الصبور كان متأثرا ً بـجبران خليل جبران، الذي كان هو الآخر يعيش رومانسية مثالية متلفعة بكثير من ملامح الصوفية.. وقد أكد صلاح عبد الصبور تأثره به لدرجة العبادة قال (استعبدني جبران طوال سنوات المراهقة الأولى وكان هو قائد رحلتي بشكل ما..)

ولذلك كانت مسرحية (مأساة الحلاج) واحدة من أبرز تماهياته مع التصوف، والتي تمثل على المستوى السياسي صراعا ً بين (المثقف / الصوفي) ضد السلطة القمعية، في زمن حكمت فيه الأيديولوجيا القومية في مصر..

ان الحلاج قناع يتكئ عليه صلاح عبد الصبور ليعبر من خلاله عن تجربته الانسانية والسياسية.. ولا ننسى ان عبد الصبور كان يعيش قدرا ً من تجارب الصوفية منذ نعومة أظفاره.. يقول: (كنت في صباي الأول متدينا ً أعمق التدين حتى أنني أذكر ذات مرة أنني أخذت أصلي ليلة كاملة، طمعا ً في أن أصل الى المرتبة التي تحدث عنها بعض الصالحين حين تخلو قلوبهم من كل شيء إلا بذكر الله.. وما زلت أصلي حتى كدت أتهالك اعياء ودفع بي الاعياء والتركيز الى حالة من الوجد حتى أنني زعمت لنفسي أنني رأيت الله.. وأذكر ان بعض أهلي أدركوني حتى لا يصيبني الجنون (.

ولا ريب ان استعباد الرومانسية وتجلي العبادة وخوف الجنون كلها تنتج من تجربة واحدة ذاتية تتداخل فيها العناصر والمكونات لتخلق هذه التجربة المزدوجة التي يفيض بها الشاعر نحو الكون والوجود.. وتتحول لغته الى أداة يشعر بعجزها عما يختلج في داخل الانسان.

ولذلك يخاطب عبد الصبور الآخر وهو يتقنع بشخصية الصوفي بشر الحافي.

ولأنك لا تدري معنى الألفاظ

فأنت تناجزني بالألفاظ

اللفظ حـَجــَرْ

اللفظ منيـه ْ

فاذا ركبت كلاما ً فوق كلام..

لرأيت الدنيا مولودا ً بشعا ً

وتمنيته المـوت ْ..

أرجوك..

الصمت َ

الصمت..

عجز اللغة (الحجر / المنية) وان تركيب الحجر بالمنية يولد كلاما ً يقود الى الموت.. فالمنقذ أن تصمت

هكذا هم المتصوفة!! وهذه هي تجربة صلاح عبد الصبور الذي يستذكر بشر الحافي.. ويكتب عن مذكراته أو بالأحرى هي ليست مذكرات بشر الحافي وانما هي مذكرات صلاح عبد الصبور..

قال عبد الصبور عن بشر الحافي:

(كان قد طلب العلم.. ثم مال الى التصوف، ومشى يوما ً في السوق فأفزعه الناس، فخلع نعليه، ووضعهما تحت أبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء، فلم يدركه أحد)..

وهذا يتضمن دلالات رمزية كثيرة. والأمر نفسه مع (مأساة الحلاج) إذ يتخذ صلاح عبد الصبور من الحلاج قناعا ً يعبر من خلاله عن تجربته.. فيحضر الماضي الذي يقع (هناك) يحضره الى الحاضر (هنا) ويتماهى الشاعر / المعاصر (عبد الصبور) مع الشاعر / الماضي المتصوف (الحلاج) وأكثر من هذا يتماهى

الواقعان (العباسي والحديث) …

هناك قمع في الواقع العباسي حيث كان يعيش الحلاج، وهناك قمع في خمسينيات وستينيات القرن العشرين قمع في الزمن الحاضر.. واقع سيء في كلتا الحالتين. ومثقف متمرد في كلا الأمرين. ذلك صُلِب في الماضي (الحلاج) وهذا ينتظر من يصلبه الآن (عبد الصبور) ومن الجدير بالإشارة ان هذا يمثل هما ً مشتركا ً بين الأدباء ففي الوقت الذي كتب فيه صلاح عبد الصبور مسرحيته (مأساة الحلاج) سنة 1964 كتب عبد الوهاب البياتي قصيدته (عذاب الحلاج) في السنة نفسها. وفي ضوء هذا ان هناك تداخلا ً واضحا ً بين الرومانسية والتصوف، لأن الرومانسية في الفن تعني وحدة الوجود في اللاهوت بحسب (فيرشيلد).. فالرومانسيون ينكرون الوصول الى الحقيقة عن طريق الخيال وليس عن طريق العقل.. وكذا المتصوفة فلقد كان للخيال أهمية كبرى في الاتصال والاتحاد والحلول بين الناسوت واللاهوت.

ولذلك يجمع صلاح عبد الصبور في جوانحه بين الرومانسية والتصوف على حد سواء ويضع الذات محور الابداع، ويجعل (الفرد) مركز الكون والمجتمع، اذ يرى عبد الصبور: (إذ يرى أن « معرفة النفس » تحولا في مسار الإنسانية، ومن ثم فإن الإنسان الفرد هو المعبر هذه الذات، ولذلك تحددت في ضوئها طبيعة المجتمع وحركة التاريخ، وماهية الفن، لأنه حين تتناغم آحاد الإنسان يتكون المجتمع وتتشكل حركة التاريخ من حراكه، ويتولد الفن من لحظات نشوته.

ولم يكن الإنسان أساسا لتحديد طبيعة المجتمع والتاريخ والفن فحسب، بل انه مركز الكون أيضا، لأن الكون « قوة عمياء … والإنسان هو عقله ووعيه، وعظمة ذلك العقل انه يستطيع ان يعقل ذاته »، ويتميز الإنسان ـ هنا ـ بقدرته الفائقة على وعي ذاته ووعي العالم الذي يعيش فيه، أو على حد تعبير عبد الصبور « انه يجعل من نفسه ذاتا وموضوعا في نفس الآونة، ناظرا ومنظورا إليه، ومرآة ينقسم ويلتئم في لحظة واحدة »

إن الإدراك لا يتحدد بانعكاس صور الأشياء في الذهن، أو تجادلهما معا، بمعنى أنه ليس تأملا فيما يقع خارج الذات الإنسانية، بل على العكس من ذلك، إن الإدراك لديه ينشأ من خلال النظر إلى الذات ومهما يتحقق الوعي، ولذلك فإن « نظر الإنسان في ذاته هو التحول الأكبر في الإدراك البشري لأنه يحيل هذا الإدراك من إدراك ساكن فاتر إلى إدراك متحرك متجاوز »، وليس الإدراك هنا مجرد انكباب على النفس وانطواء عليها، ولكن الذات تصبح مركز للكون ومحورا لصوره وأشيائه، ويتحدد الإدراك في ضوء ثلاثية أخرى ولعلها تمثل الوجه الآخر لثلاثية الإنسان التي حددت حركة المجتمع والتاريخ والفن، وتنحصر هذه الثلاثية ـ هذه المرة ـ في ثلاثة أركان تمثل الذات ركنيها الأساسيين، وتمثل الأشياء الركن الثالث، فالمعرفة والوعي يتحددان عند عبد الصبور في نوع من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة، وذاته المنظورة، والأشياء، بمعنى أنه يجعل من ذاته ذاتا وموضوعا في آن، ويتبادلان المواقع، إضافة إلى الموضوع المحدد في الأشياء الكائنة خارج الذات المدركة.

ويتحدد تخليق القصيدة في المرحلة اللاواعية عبر خطوتين، تمثل الخطوة الأولى ما أيطلق عليه « الوارد » الذي حدده مرة « بخاطرة » « هابطة من منبع متعال عن البشر » وكونها « تفد إلى الذهن » أو « تبزغ فجأة مثل لوامع البرق »،

ـ توصيفات طبيعية أو ذاتية، فهي « تهبط » كالإلهام، أو وحي من «منبع » متعال عن البشر، وفي كل الأحوال لا وجود للجهد الإنساني في تشكيل القصيدة، أو تخليقها، لأنها متأتية من مكان آخر إلهامي، وتنحدر في هبوطها من أعلى غامض إلى أدنى في الذات الإنسانية، أو انها متدفقة من منبع، وهو توصيف يذكرنا بالنبع الذي يتدفق من داخل الأرض، ويحمل كل سمات الداخل، ويستكمل عبد الصبور توصيفها بحدوثه فجأة، ويستخدم توصيفا طبيعيا وذلك لم بحدوثها فجأة، فالوارد ـ هنا ـ خاطرة تبزغ فجأة مثل لوامع البرق والبزوغ المفاجئ، وكونها لامعا يؤكد المعنى السابق في أن عملية الإبداع لا تتأتى بفعل الجهد الإنساني قدر ما هي هبة تقد من مكان آخر، وتلد فجأة ومضا أو برقا تأكيدا لمثالية الإبداع ووجدانيته المطلقة

اما الشاعر جودت القزويني فان نزوعه الصوفي يأخذ منحى اخر ففي قصيدته فناء في سجون الغربة يستوحي من التراث تجربة فريدة لثائر وشاعر، وهو لا يحافظ على خصائص هذا الثائر الشاعر، وإنما يجرد شخصيته من بعض ملامحها المعروفة ليضفي عليها ملامح جديدة، فهو من هذه الناحية يحكم تجربة الثائر القديم ويحكم شاعريته أيضاً في سياق تجربته المعاصرة الخاصة.. ومن ثم يحاول إعادة الماضي في ضوء الحاضر، أو إعادة الثائر والشاعر القديم الذي تمرد على القيم والتقاليد ويحاول إعادة في تجربته الخاصة ثائراً على قيم وتقاليد أخرى.

وكان جودت القزويني يعي أن الحلاج ثائر ومتمرد ضد ضبابية الوعي والسعي نحو نور اليقين، ويعي أيضاً تمرده ضد السجون: سجون الغربة، وسجون الضياع، ولذلك اتخذ من الحلاج قناعاً يتحدث فيه عن تجربته الخاصة ومعاناته في واقع مليء بالمآسي، وقد اسعفه الحلاج في تأدية وظيفته هذه لثراء في شخصيته ومواقفه وشاعريته. إن هناك تماثلاً بين الشاعر والحلاج، كلاهما متمرد، وكلاهما شاعر، هذا يفنى في سجون غربة الحاضر، وذاك قد عانى من سجون الغربة فأفنى ذاته في انعتاق من الجسد، فالحلاج لدى جودت القزويني ـ لو استعرنا لغة إليوت ومصطلحاته ـ « المعادل الموضوعي ». اذن فهو يعيد تجربة الحلاج بوصفه « قناعاً » يعبر عن تجربة حديثة.

إن تجربة الشاعر تتكئ على مفردات الضياع، سواء أكانت ضياعاً في سجن، أم ضياعاً في ضبابية الوعي، ولكنها على كل حال ترجع الحلاج القديم في صورة الشاعر الحديث لتزج به من جديد بالسجن، وكأن الثائر المتمرد نمط متكرر يعيد التاريخ إحداثه، ولابد أن تكبل يداه بالحديد، وكأن هذه سنة تاريخية يتحتم حدوثها في كل مكان وزمان:

السجون.. الضباب.. السجون

وحفنة من التراب في العيون

وتستهوي الشاعر حالة التوحد والانفصام بقناعه، فهو يوهم المتلقي أنه يتحدث عن (القناع) أي عن الأخر، ولكنه يوظف الأخر تعبيراً عن الأنا، وتتجلى صور التوحد والانفصام في تضمين الشاعر لبيت الحلاج لتعبر عن حالة التوحد المطلقة بـ «الحلاج ـ القناع » فيتكئ على الموروث الصوفي في بعض مفرداته وغموض تجربته، فتشف تجربة الشاعر، وتتعالى في غموض المفردات والتراكيب، ويسبق هذا سؤال عن ماهية الأنا، مرتين، ـ أي سؤال عن وعي الذات ـ ماهية: « الأنا ـ الشاعر » وماهية « الأنا ـ القناع » في اطار الحديث عن الأنا والآخر، فبعد أن عرفنا أن الحلاج الاستاذ قد علّم تلميذه الوعي والمعرفة وأن التلميذ قد وعى الدرس وطبقه، يثور التلميذ على القناع ويرجع فيتحد به، يسأله عن ماهيته بوصفه « أنا » ويسأله عن ماهيته بوصفه « الآخر »، وتتدفق المفردات تحت تأثير تجربة شعرية صوفية، ويتحول السجن الى واحدة من هذه المفردات التي تتجلى فيها الثنائيات الضدية: الزمان والمكان قيدان يحيقان بالإنسان ووعيه وتجربته، ثم التطرق لأخر التجارب الصوفية « الفناء »:

يا حلاج من تكون؟

من اكون..

سؤال: من يجيد كتابة القصة القصيرة اليوم بمستواها التاريخي كرسالة وكمتحدثة حقيقية للحياة الارضية على مستواها الحكائي.. القاص أم متغير الواقع.. ام الحدث ومبرراته المجتمعية.؟

د. كريم الوائلي: كنت شغفاً بالنقد الأدبي وبجذوره الفلسفية ولذلك أسست قراءة نقد القصة على ثنائية: الذات / الموضوع، وهي ثنائية كان لها حضورها الفلسفي بقوة لقرون، وأسهمت في النقد العربي الحديث بشكل جلي.

ومن الغريب ان باحثا ً عراقيا ً ينفي أن تكون هناك مدارس نقدية واضحة الملامح والحدود في العراق.. وإنما كان هناك أدباء يكتبون انطباعاتهم النقدية.. غير إن هذا التصور لا يصمد أمام النقاش وأمام النصوص الكثيرة التي تدحضه وتقدم نقيضه..

لم تكن قراءتي للقصة القصيرة في العراق ولنقدها نابعة من أفكار ومناهج مفروضة عليها وإنما كانت نابعة من النصوص نفسها.

ولذلك كنت اعتقد أنَّ الأديب والناقد يصدران عن تصورات سابقة تحكم رؤيتهما للعالم والإنسان، ومن الطبيعي أنْ تتغاير هذه التصورات فردية وعامة، ومن الطبيعي أيضاً أنْ تنعكس آثارها على النصوص الأدبية من حيث تحديد وظائفها، وماهياتها، وبنائها، وأداتها، فالناقد الذي يرى في الأدب صورة حرفية للواقع، بمعنى مراقبة الواقع وتسجيل أحداثه، يضاد الناقد الذي يرى فيه تعبيراً عن الانفعال أو تصويراً له، ففي حين يركز الأول جهده على العالم الخارجي، يركزه الثاني على العالم الداخلي، ويختلف عنهما ناقد آخر يوفق بين العالمين بطريقة ما، في أثناء تحليله، وهذا يعني أنَّ هناك بنية تختفي وراء هذه التصورات، وكان ينبغي أن يتجه الدرس النقدي ليكشف عنها، ويحدد عناصرها، ما دام النقد عملاً ذهنياً واعياً.

وفـي ضوء هذا تجلت المدارس النقدية على أساس ثنائية الذات والموضوع فهناك رؤية تغلب الموضوع على الذات، وتجعل العقل متحكماً في إبداع النص وفي كيفية نقده، أطلقت عليها «الرؤية التقليدية«، وتضادها رؤية تغلب الذات على الموضوع، وتجعل الذات مصدرها في الوعيين الفني والمعرفي على السواء، وتنعكس آثارها ـ بالضرورة ـ على إبداع النص ونقده، أطلقت عليها « الرؤية الرومانسية »، وهناك مجموعة من الرؤى حاولت الانفلات من الرومانسية من ناحية، وسعت إلى التوفيق بين الذات والموضوع، مع تغاير كيفي في طبيعة هذا التوفيق من ناحية أخرى، كما أنها تزامنت في مرحلة تاريخية معينة، وتنحصر هذه الرؤى: بالوجودية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية.

سؤال: من لك في هذا العالم غير الوطن وبيتك والكتاب الذي تنوي تأليفه ـ، وهل الوطنية أن تكون منتجا …وتكتب وتؤلف وتحاضر وتقول تلك هي مهمتي وكفى؟

د. كريم الوائلي: الوطنية: كلمة فضفاضة.. تعني كل شيء حينا ً ولا شيء أحيانا ً أخرى، يمتطيها كثير من الناس المتسلقون والمنافقون.. واستخدمها الطواغيت في كل العصور شعارا ً وأداة للفتك بالمعارضين، وسبيلا ً للتنكيل بالمخلصين.

أحسب.. إن للوطنية دلالة من السماء ودلالة من الأرض

أما دلالتها من السماء فتوحي بها الآية الكريمة (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم)

إذ جعلت الآية القرآنية الكريمة التمايز بين الناس لا على أساس العرق أو الدين أو الطائفة، وإنما جعلت التمايز يقوم على أساس العمل (” إن أكرمكم عند الله اتقاكم ”) والتقوى عمل!!

اما الدلالة الأرضية، أن يكون عملك من أجل الوطن كالعبادة!!.. وربما تراني هنا فقيها ً أو عرفانيا ً ولكن أعتقد إن الوطنية هكذا، تعمل بإخلاص.. في كل شيء.. حين نكتب / حين نحاضر /.. حين نؤلف، .. مؤكدا ً إن الكتابة هنا.. جهد إنساني، وربما يكون سؤالك إن الكتابة في جانبها البرج عاجي لا تعني الالتصاق بالواقع، أقول لك أمرا ً ً منذ نعومة أظفاري وأنا أعمل لا من أجل فهم الواقع فهذا جزء من المشكلة ولكن أعمل من أجل تغيير الواقع ودفعت بسبب ذلك ضريبة غالية في غربتي ومعاناتي..

كان المعيار الأساسي هو كيف تحقق كرامة الإنسان الفرد.. بغض النظر عن كل الاعتبارات.. وأسعى لتحقيق قدر من التوازن الاجتماعي بين طبقات المجتمع وأنا طبعا ً دائما ً ومطلقا ً مع الطبقات الفقيرة المسحوقة.

المثقف يحلم.. ويسعى لتحقيق حلمه..

إن مهمتي الأساسية هي إحداث التحول والتغيير في الواقع الاجتماعي.. ولذلك أحسب إنني كنت وما زلت أمارس دوري في معارضة إيجابية.. تعتمد الحوار والتعايش من أجل إعادة صياغة العقل العراقي على أسس سليمة.. وأن يحصل كل مواطن على حقوقه كاملة. بغض النظر عن كل الاعتبارات.. العدل.. هو الغاية والمعيار في آن!!

سؤال: وأنت تدرس المعتزلة في جانب المقياس الشعري، ماذا تشعرك رهبة الولوج اليهم من هذه البوابة الحرجة والخطرة. وهل صفا فيك الذهن كما عندهم تشتغل في الجدل الذي اقاموه ولم يقعدوه حتى اللحظة في تحريك الذهب بمستوى السؤال واجابته …هل شاركت الرؤى الصوفية في جدل قراءة المعتزلة للشعر. وهل شعرت بتعامل وضعي أو سماوي مميز في رؤاهم عن القصيدة؟

د. كريم الوائلي: قراءة الذات، وقراءة الواقع، وجهان لعملة واحدة، ففي الوقت الذي تعمد فيه الى قراءة النص انما تستجلي في الوقت نفسه قراءة الواقع، إذ لا ريب ان هناك أسئلة ملحة يطرحها علينا الواقع ولا نجد لها اجابات مقنعه، نتوجه بفزعنا الى التراث المخزون الذهني والوجداني لعله يسعفنا في الاجابة عن مشكلات الحاضر واستشرافات المستقبل.

ولا ريب اننا حين ننطلق لتوجيه أسئلتنا للتراث لا ننطلق ونحن صفحة بيضاء.. بل نعبر عن مواقف فكرية محددة.. وفي ضوء هذا لا وجود لموضوعية مطلقة أبدا ً لقراءة التراث، وليست هنالك قراءة بريئة أو محايدة إذ كل قراءة انما هي منحازة على نحو من الأنحاء.

وأحسب من زاوية أخرى ان هنالك تقابلا ً واضحا ً بين النص والواقع، ونحن في حقيقة الأمر لسنا سوى تناصات مختلفة ومتعددة للنصوص المقروءة الحاضرة والماضية، وفي الوقت نفسه تناصات لأحداث في الواقع، صحيح ان هذه التناصات للواقع وللنصوص ليست متماهية معها تماما ً، بمعنى ان الذات القارئة لا تستقبل النصوص والواقع استقبالا ً سلبيا ً بحيث تستسلم لهما دون فرز أو مناقشة رفض أو حوار تقبل وترفض.. وفي مجمل هذه العملية.. يتكون الانسان.

ولذلك فالإنسان العربي يتم تشكيله بكيفية تختلف تمام الاختلاف عن الانسان الياباني عن الأوروبي بسبب اختلاف النصوص واختلاف الواقع..

وفي الوقت الذي كنت أقرأ فيه المعتزلة لم أكن أقرأها منفصلة عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية. نعم ان للمعتزلة وجودا حقيقيا هناك في التاريخ والواقع الاجتماعي العباسي، وأنا أحاول احضارهم من ذلك الوجود لا تحاور معهم وانا هنا في تاريخ آخر و واقع اجتماعي مختلف. وأطرح عليهم أسئلة ملحة ومحرجة في الوقت نفسه.

وليس من المخاتلة انك حين تقرأ المعتزلة لا تستدعي الوجود الفكري المصاحب مؤيدا ً أو معارضا ً الأمر الذي كان يستحضر معه الشيعة، والأشاعرة والفلاسفة.. الخ، وتستحضر في الوقت نفسه مؤسسات دينية واجتماعية سياسية كثيرة..،

واستحضر المحن التي تعرض لها المفكرون.. محنة خلق القرآن.. وما عانى منها الناس، ومن ثم محنة التخلف التي أرساها المتوكل… والتي لا تزال تعصف حتى الآن.. بكل محاولات التطور والتقدم.. لدرجة أنني أقول ان المتوكل لا يزال يحكم العالم الإسلامي وهو في قبره.

ولقد كنت في حالة انفصال عن الذات واتصال..،

انفصال عنه كونه يبتعد عنى وجودا ً (بالمعنى الاجتماعي والتاريخي) واتصال به كون النص له وجود مادي اتفاعل معه،

ويحدث حوار ونقاش وجدل.. وكنت أجد في التراث الاعتزالي قيما ً تجاوزت عصرنا من حيث العمق والأصالة والابتكار.. بل أنني استطيع القول أننا متأخرون قرونا ً عن الفكر الاعتزالي على كافة المستويات المعرفية والفكرية والاجتماعية..

ولذلك كنت أؤكد ان القراءة مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم والنص، ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء، فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجودا، ويصبح بعد القراءة موجودا آخر، لأن القراءة ليست نقلا للمقروء، أو إحضارا له، وإنما يضفي القارئ على المقروء رؤيته، وذاته، وخصوصيته، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد، ليس هو المقروء تماما، وليس هو القارئ بما هو عليه، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة، ولذلك تتفاوت القراءات لاختلاف القراء، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته.

ويمكن القول تجاوزا أن النص قبل القراءة يعرف استقرارا نسبيا في دلالته ومعانيه، ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم، إذ لا وجود حقيقي للنص إلا في أثناء قراءته، نعم هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات الإنسانية ـ متمثلا في الكتب ـ التي أنتجته، أو تقرأه، ولكنه وجود هامد، ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته.

وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص دلالاتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خلالها، وهناك قراءة غير ممكنة، لعدم احتمال النص دلالتها، وبخاصة القراءة الإسقاطية.

وكنت أتبنى القراءة الفاعلة التي تؤكد أهمية تاريخية المقروء، بمعنى أنها تنفي المعايير والأحكام المسبقة القائمة على أساس ديني، أو مذهبي، ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي، أي قراءة النص بوصفه موجودا هناك في الماضي، وأن وجوده محكوم بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية، وان اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة له..

إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل، وجزء من منظومة، وينبغي فهمه في إطار منظومته، وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخلا لطبيعته وماهيته.

إن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي لا يعني بالضرورة أنه منفصل عن القارئ إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دلالاته.

نفي القراءة الانطباعية الانفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على الأشياء وتقيم قراءة تتأسس على عقلانية منهجية تؤكد أهمية النظر، وتعلي من شأن التحليل والتعليل.

وليست هناك أسئلة تلح علي فحسب وانما كانت هناك طموحات ورؤى وأماني كنت أتمنى حدوثها أو تحقيقها.. لعل أبرزها كيف يمكن ان تستثمر هذا التراث العقلاني في حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية على المستوى الأمثل..

وكيف ننتقل من الأحكام المسبقة القائمة على نفي الآخر ذهنيا ً وجسديا ً، الى أحكام عقلية منهجية تقبل الآخر وتتحاور معه.. تماما ً كما كانت في الماضي.. حيث يتعايش ويتحاور أصحاب الملل والأفكار.. حتى الملاحدة كان لهم حضور في المشهد الثقافي، ولذلك ألف ابن الخياط المعتزلي كتابا ً في الرد على ابن الراوندي الملحد!!

ولعل مفهوم الصرفة الذي أرساه ابراهيم بن سيار النظام المعتزلي هو واحد من أكثر الأفكار جرأة وجسارة في كيفية النظر لإعجاز القرآن!! سواء اتفقنا معه أم اختلفنا وإياه.

وأخيرا ً كيف يمكن استبدال المعايير الانطباعية التي تحكم الحركة النقدية الى أحكام منضبطة يمكن الاتفاق عليها..

صحيح ان هذا يمثل حلما ً.. لا يمكن له أن يتحقق أبدا ً حتى لدى الأسلوبية الاحصائية.. كون الخصائص الفردية تؤثر في تحديد المعايير وكيفية توظيفها فضلا ً عن الاختلاف الحضاري.. حتى ولو أصبح العالم قرية.. وهو كذلك الآن.

سؤال: يقال أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الرواية بامتياز. انا وانت قرأنا رواية موسم الهجرة الى الشمال جيدا. وانت بحثت فيها وجعلت من المتغير الحضاري والبيئي بين شخصياتها سبرا بأغوار بطلها (مصطفى سعيد) في مواسمه المتعددة. هل ترى ان صراع الحضارات وتباين المفاهيم المجتمعية والثقافية سببا لجعل الرواية المتصدي والمؤثر في المشهد الادبي الاممي؟

د. كريم الوائلي: عشت شكلا ً من كراهية الآخر الغربي منذ نعومة أظفاري، في أسرة تنظر للأجنبي (الغربي) بنظرة من الريبة والشك.. وتتحدث عن أمجاد من حاربوه كونه كافرا ً، وناصروا العثماني (التركي) كونه مسلما ً.. ولم أكن أدرك في حينها إن القضية أكبر من ذلك وأكثر شمولا ً.. قبل معرفتي نهاية العالم لــ فوكوياما، وصدام الحضارات لــ هنتغتون.

وتأملت طرفا ً، ولكن من زاوية أخرى، هذا الجانب من الصراع حين درستنا أستاذتنا الجليلة المرحومة الدكتورة سهير القلماوي (نظرية الرواية) في أثناء السنة التمهيدية للماجستير عام 1978 وكانت التطبيقات على رواية الصراع الحضاري من المنظور العربي.

ولم أكن أدري، أول الأمر وإن الصراع يمكن أن يتلفع بأساليب وطرائق متعددة.. ربما يصل إلى حد العنف، وينطوي على قدر كبير من الكراهية.. على مستوى الفكر والفن والأدب.

تفاوتت وجهتا نظر الصراع وبحسب الزاوية التي تصدر عنها كل حضارة.. بمعنى إن هناك صراعا ً حضاريا ً غربيا ً ضد الحضارة العربية الإسلامية، وصراع الحضارة العربية ضد الحضارة الغربية.. فعلى سبيل المثال في (الكوميديا الإلهية) يضع الأديب الإيطالي دانتي رموزا ً إسلامية كبيرة الأهمية والقيمة في جحيمه.. الأمر الذي يؤكد حدة الكراهية ومدى قساوتها.. دون الأخذ بعين الاعتبار إن هذه الشخصيات الرسول محمد (ص) والإمام علي (ع) من الرموز التي لا يمكن التقليل من قيمتها إنسانيا ً فضلا ً عن التقليل

منها إسلاميا ً.

ويتجلى الصراع جليا ً في رواية (الغريب) الروائي الفرنسي.. البير كامو الأديب الوجودي.. والوجودية كما هو معروف تدعو إلى تحرر الإنسان.. ولكن اللاوعي يتحكم – هنا – إلى حد كبير في سلوك الإنسان.. وإذا كان دانتي قد عبر عن كراهيته بقدر كبير من الوعي بمعنى إنه كان قاصدا ً لذلك ومخططا ً له..

فإن البير كامو عبر عن كراهيته بالوعي واللاوعي معا ً عن كراهيته على طريقة الإقصاء الحضاري التي تذكرنا بصدام الحضارات كما أرساها لاحقا ً المفكر الأمريكي هنتغتون.

إن (ميرسو) بطل رواية (الغريب) لكامو يقتل المواطن العربي الجزائري لأن الأخير يحمل سكينا ً، وبمجرد أن تلمع السكين في الشمس وتنعكس على عيني (ميرسو) يبادر فورا ً إلى مسدسه ويقتل الجزائري!! لأن السكين والشمس يرمزان للسيف العربي والحضارة العربية.. هنا.. تكمن المشكلة.. اللاوعي هو الذي حرك كوامن الإقصاء والكراهية الحادة.. إلى درجة العنف.. القتل..

وفي الأدب العربي الحديث تعرضت روايات عديدة للصراع الحضاري بين الشرق والغرب، لعل أقدمها (أديب) لــ طه حسين، ثم (عصفور من الشرق) لــ توفيق الحكيم، و(قنديل أم هاشم) لــ يحيى حقي، و (الحي اللاتيني) لــ سهيل إدريس ورائعة الطيب الصالح (موسم الهجرة إلى الشمال).. ومن ثم ثلاثية

أحمد الفقيه التي كتبت بلغة شعرية ساحرة.

كان في رواية الطيب الصالح دوال عديدة.. كانت ولادته

سنة 1898 الوقت الذي بدأت فيه القوات البريطانية تجتاح السودان.. وحين ذهب الى لندن كانت لندن خارجة من الحرب.. ولذلك تم تقسيم الأجيال من وجهة نظري بحسب هذه الحرب..، وتبين أن الأجيال السابقة للحرب واللاحقة لها لم تكن تعرف أو تفكر إلا بالسلام وتنشد التصالح.. هكذا تبدو في أوربيين يعيشون في بلاد العرب أو عرب يذهبون الى أوروبا.. وحتى رواية الطيب الصالح لأنها نتاج ما بعد الحرب فان رؤية كاتبها التصالح مع الآخر وليس الاصطدام معه.. في حين كان بطل روايته (مصطفى سعيد) وهو من جيل الحرب جيل صِدامي لا يعرف الا تصفية الآخر والانتقام منه.. وكذا جين مورس الأوروبية التي ترى في هذا العربي (عطيل) لابد من تصفيته!!

ونظرا ً لظني واعتقادي ان المجتمع السوداني مجتمع يتنفس الصوفية والتصوف وكأني بالطيب الصالح يستبطن الآية القرآنية (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر ٍ وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) بمعنى أن (التعارف) هو البؤرة المركزية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الحضارات، وليس صِدام الحضارات كما يذهب الى ذلك هنتغتون..

وكان مصطفى سعيد بطل رواية موسم الهجرة الى الشمال يحمل في أعماقه جرثومة الصِدام الكبرى.. كان العالم الغربي – بريطانيا – قد غزت السودان..

وذهب هو ليغزو العالم الغربي بطريقته الخاصة.. ومن الطريف في هذا السياق ان مصطفى سعيد يمثل الحضارة العربية وهو ذكر وكانت جين مورس تمثل الحضارة الغربية وهي أنثى!!

ومن المعروف ان جميع ممثلي الصراع الحضاري في الرواية العربية هم ذكور ذهبوا للدراسة في أوروبا وكان يقابلهم في الصراع أنثى!!

ومن الطريف أنني لاحظت جانبا ً صوفيا ً في رواية موسم الهجرة للشمال ينجلي في شخصيته (جد الراوي) الذي كان يحمل رائحة فريدة هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع!!.. وان الجد يعرف السر

كما ان رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم تنحوا المنحى نفسه، فلقد أهدى روايته الى السيدة زينب هكذا الى حاميتي الطاهرة السيدة زينب..

ولكن بعد سنوات عديدة تأملت (قنديل أم هاشم) فوجدتها غارقة في الصوفية، حتى كان عنوان الدراسة: الولي طبيب والمقام عيادة!! وقد نشرت في مجلة الناقد اللندنية.

وتحكي فكرة الولي ان هناك انسانا ً تجد فكرة «الولي » وكراماته الخارقة ذيوعاً وانتشاراً في المجتمعات الزراعية، وفي الشرائح الاجتماعية المنحدرة منها الى المدن. ويكشف الإيمان بالولي وبكراماته عن تصور فكري واجتماعي يحكم علاقة الانسان بالمطلق من ناحية، وبالواقع من ناحية أخرى، وبكيفية إحداث التغير في الواقع الاجتماعي من ناحية ثالثة. وتحكي فكرة «الولي » أنَّ هناك انساناً ما رجلاً أو امرأة امتلك بفعل تقواه قدرات خارقة وكرامات متعددة، تتناقلها الأجيال، وتتضخم صفاتها في الوجدان الشعبي، وتصبح للولي عادة قيمة كبرى بعد وفاته، ويتحول قبره الى ضريح يؤمه الزائرون، يتبركون بالمكان، وينتظرون منه تحقيق المعجزة في تلبية دعواتهم، ويتحول المكان أي قبر الولي الى مركز له قيمة و قدسية، ويصبح مركزاً لجذب اجتماعي وفكري وثقافي.

وترافق فكرة الايمان بالولي تقاليد وطقوس ذات ملامح دينية، يقدسها المجتمع، ويتباهى الكبار والصغار في تقديسها وحمايتها، لدرجة يعد من يخرج عليها مارقاً على الدين وقيمه، وهذا يعني أنّ «الولي» سواء أكان انساناً حياً، أو مكاناً تؤمه الناس بالزيارة والتقديس، انما يشتمل على فكرة خلعها المجتمع عليه لأنَّ المجتمع يجد فيه منقذاً ومخلصاً، يساعده على تحقيق أحلامه التي عجز عن تأديتها في الواقع.

إنّ «الولاية» فكرة تتجسد في الانسان الفرد، ومن ثم يتحول قبره الى مكان تتجسد فيه روح الفكرة التي يؤمها الناس، وفكرة «الولاية» بحد ذاتها من صنع المجتمعات التي تبحث عن المطلق القادر على صنع المعجزات الخارقة، ولما كانت المجتمعات الزراعية متدينة بطبعها، فقد خلعت على بعض الأفراد المتميزين بالتقوى والإيمان، فكرة الولاية، وأضفت عليه كرامات أخذت تنمو وتتبلور وتتطور بفعل شوق الوجدان الاجتماعي إلى المعجزة.

إن «الولاية» فكرةً، وانساناً، ومكاناً، تنبئ عن تصورات اجتماعية معينة، يمثل فيها المجتمع كتلة ذات طبيعة واحدة متماسكة، وتخضع لقوانين صارمة غير قابلة للتغير والتفاوت. وتتولد فكرة «الولاية» من حالات القهر الاجتماعي التي تعيشها المجتمعات الزراعية بخاصة، إذ تجد في انسان ما فكرتها، حين يكون حياً، وتخلع على قبره قدسية ما حين يكون ميتاً. وبهذا يكون المجتمع كله في ناحية، والولي في ناحية أخرى، جماعة يقابلها فرد، أو جماعة عاجزة يقابلها فرد اسطوري خارق قادر على خلق الفعل وإحداث التغير. وهي صفة، أو كرامة، تخلعها الجماعة عليه. ومن ثم فإنَّ الاتصال بالمطلق قد يهب الفرد في المجتمع شيئا من كرامته فتحل به البركة، ولذا كانت زيادة الأولياء أحياء من الأمور النادرة، اما الى القبور فهي الغالبة من أجل أن تحل البركة بالإنسان. أما فعل الولي فهو لا يخضع لقانون اجتماعي، وانما هو مطلق قدري اسطوري، خارق للعادة، وللناموس أيضاً.

إنّ المجتمع الذي يؤمن بفكرة الولي مجتمع تحكمه قوانين صارمة، وهو غير قابل للتغير والتطور بسهولة، وفيه درجة عالية من التماسك والثبات. وتعطل في هذا المجتمع قدرات الانسان الفرد، ويعلى من شأن حركة الجماعة. فلا بد من الرضوخ لقيم الجماعة وتقاليدها. ولا بد من التسليم بطقوس الجماعة التي تؤدي بشكل جماعي، ولذا فإنَّ على الانسان الفرد أن يسلم بأفكار الجماعة ومعطياتها. اما محاولة التغير في الواقع، وهو حلم يطمح اليه الانسان المقهور، فهي لا تتم بوعي قوانين الواقع الاجتماعي، وإحداث التغير فيها بفعل الانسان، وانما يتم ذلك بالتوسل بالولي، انساناً، وفكرةً، وضريحاً، لأحداث هذا التغير. وهو يتم بقوة خفية غامضة. وتفسر أحداث المجتمع سلباً وايجاباً في ضوء هذا الفهم. ولئن لم تؤت الدعوات التي ينثرها زائرو الأولياء والنذور التي يقدمونها أكلها، فلأنَّ خللاً ما في الانسان يحول دون تحقيق معجزة الولي فيه.

ونخلص من هذا الى أن «الولاية» مفهوم تخلعه الجماعة على الانسان الفرد الذي يتميز بخصائص فردية معينة. فوجود الولي قرين بعدين: أحدهما: فردي تضخمه الجماعة بمرور الزمن بسمات اسطورية خارقة. وثانيهما: الجماعة التي تجد في الولي محط أحلامها وطموحها وأمانيها، إذ تجد فيه الانسان الكامل الخارق، فهو المنقذ والمخلص الذي تخلقه الجماعة بسبب احباطها في حركة الواقع القاسية..

ويمثل ضريح السيدة زينب لأسرة بطل القصة مركز الحياة، فالأسرة كلها تعيش في رحاب السيدة زينب وفي حماها، وان أعياد السيدة زينب ومواسمها إنما هي أعياد الأسرة ومواسمها، وأن حركة الحياة في البيت تابعة للضريح والمسجد، فمؤذن المسجد ساعة الأسرة.

وتمثل السيدة زينب لأسرة بطل القصة المنقذ الروحي الذي تلوذ به. وانّ كراماتها تعم المكان، وتوسع الرزق، وتحرس الأبناء، فاتساع متجر جد البطل من كراماتها، وان «اسماعيل» بطل القصة نشأ في «حراسة الله ثم أم هاشم» وإن ضريح السيدة خير كله، يزوره التقي والآثم

إنّ اسماعيل فرد واحد تصنعه الجماعة وتسهر وتشقى وتفنى من أجل صنعه وخلقه. إنّ المنقذ لا ينأى بعيداً عن الجماعة، فهي التي تدور في فلكه، تصنعه، ثم تقدسه. فهو فرد بإزاء الجماعة. والجماعة تسقط أحلامها عليه. والبطل «خبير بكل ركن وشبر وجحر، لا يفاجئه نداء بائع ولا ينبهم عليه مكانه. تلفه الجموع فيلتف معها كقطرة المطر يلقمها المحيط. صورة متكررة متشابهة اعتادها فلا تجد في روحة أقل مجاوبه. لا يتطلع ولا يمل، لا يعرف الرضا ولا الغضب، إنه ليس منفصلاً عن الجمع حتى تتبينه عينه »

إنّ الأسرة التي كانت تهيء «أسماعيل» ليؤدي دوره منقذاً ومخلصا، كانت ترى أن العلم هو الطريق الجديد للتقدم. واذا كان هناك منقذ ومخلص قديم يتنفس في أجواء التراث وينهل من روح التصوف، فإن المنقذ الجديد تصنعه الجماعة أيضاً، وتمهد الطريق له للاغتراف من العلم، وبخاصة في رحلة الى عالم العلم الحديث في الغرب، وكان لا بد من التضحية باللقمة والمال، كي يرحل «اسماعيل» لتلقي العلم في الغرب، ولكل رحلة مخاوفها ومخاطرها، تماما كرحلات السندباد، تكتنفها العجائب والغموض والأهوال. وكانت فاطمة النبوية ابنة عم اسماعيل أول من استشعر الخطر، فهي تخشى من هذه الرحلة لأنها تسمع « انّ نساء أوروبا يسرن شبه عاريات، وكلهن بارعات في الفتنة والإغراء، فاذا سافر اسماعيل فلا تدري كيف يعود إن عاد

سؤال: من يستطيع أن يحلم ليكتشف. الجائع أم العالم أم الكاهن؟ في الجانب المهني بحياتك …كيف ترى الحياة تربوية في العراق من خلال نمط الاشتغال المؤسساتي في رسالتها الجديد. كم نحتاج من الوقت لنقترب من الحضارة الحديثة تربويا ولو بالقدر الذي يجعلنا مطمئنين على اجيالنا؟

د. كريم الوائلي: تتم الإجابة عن هذا السؤال بطريقتين: الأولى: طريقة الموظف المرتبط بوزارته، وهذا إجابته جاهزة معروفة، لا ضرورة لذكرها أو التعرض إليها، لأنها محاطة بالمكاره!!

والطريقة الثانية: إجابة مثقف، والمثقف بحسب جان بول سارتر معارض ومزعج للسلطة..، وعندها سيكون الحديث مختلفا ً.

ويمكن للمثقف أن يجيب عن هذا السؤال بالمقارنة بين المنجز التربوي في العراق، والمنطقة والعالم.. ولا أريد أن أتحدث عن استراتيجيات التربية والتعليم في بريطانيا وألمانيا واليابان فإن بيننا بونا ً شاسعا ً، ولكن يمكن تأمل الاستراتيجية التربوية في دول عربية، وعلى سبيل المثال الاستراتيجية المصرية للتربية التي تعنى بثلاث مراحل 1 – مرحلة الوصف 2 – مرحلة التخطيط 3 – مرحلة التنفيذ.

أي بين ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون.. وتأسس الاستراتيجية على معايير علمية ومهنية وأكاديمية.

وفي تقديري الشخصي إن النظام التربوي لا يزال يراوح بين آليات وأفكار واستراتيجيات أنظمة تربوية سابقة، ويراوح بين محاولات للتغيير فيها قدر من الجدة، ولكن لا ينتظمها سلك!! وتعاني من نواقص يتصل بعضها بحداثية التطوير ونقص في الأموال والأنفس.

اعتقد اننا في ظروف تفرض علينا استشراق الحديث والحداثة.. ولكننا ما زلنا نعاني من تكرار القديم والمألوف لكونه قديما ً ومألوفا ً.. ولعلنا نكرر قول

الشاعر: (ما أرانا نقول إلا معارا ً أو معادا ً من قولنا مكرورا ً)

أحسب أن الحديث والحداثة وجهان لعملة واحدة سواء أكان ذلك في التربية أم في الصناعة أم في الآداب..

ويبدو أننا نعيش قدرا ً من التعارض والتناقض بين واقع سلفي تقليدي وأفكار حداثية، انني أكرر ما سبق أن قلته في كتابي تناقضات الحداثة العربية.. ان الحداثة العربية لما تأت ِ بعد

***

حاوره: نعيم عبد مهلهل

.................................. 

* الصورة للدكتور كريم الوائلي

في المثقف اليوم