تقارير وتحقيقات

فلم عن ندوة يافا في الرواية الفلسطينية: صخرة نيرموندا وويافا أم الغريب

بكر السباتينكانت الدائرة الإعلامية في البيدر للثقافة المجتمعية والفنون، قد أعدت فلماً مبسطاً حول الندوة الثقافية "يافا في الرواية الفلسطينية" التي أقيمت في المنتدى العربي الثقافي من إعداد وتصوير الإعلامي زياد جيوسي.. وتحدث في الندوة التفاعلية آنذاك الروائيان الباحثان أسماء ناصر عايش، وبكر السباتين، فيما أدار الحوار الناقد والكاتب عبد الرحيم جداية، بتنسيق فني من الكاتبة ميرنا حتقوة، وذلك بحضور جمهور اكتظت بهم الساحة الخلفية الواقعة تحت الشرفة التي جلس فيها المشاركون.

وركزت عدسة المصور في الندوة على الوجوه التي كانت حاضرة وكأنه يستنطقها بما جاد به المتحدثون عن يافا، ودارت العدسة في المكان الذي جاء على نمط المباني العتيقة في يافا التي استحضرها المتحدثون بأزقتها المتعانقة وبيوتها الحجرية حول القلعة القديمة، وقد تصفحت عدسة التصوير من خلال الفلم الوجوه التي كانت حاضرة في الندوة، ولامست شغاف قلوبهم، حيث تماهت فيه أغاني يافا مع الوجوه المبتسمة في وجه المدينة التي اشتهرت بأم الغريب حيث احتضنت العمال العرب ذات يوم وعاملتهم كأبنائها وقد تشاركوا في بناء حاضرتها فاستلهم حامل العدسة ملامح مدينة آسرة في ذاكرة لا تبور، حتى الموسيقى كأنها عزفت على أوتار الحنين، فاستنهضت الأمل الرقراق المتدفق في المآقي كدموع الفرح التي يلج فيها السؤال.. من هنا كان لا بد من الدخول إلى الندوة من خلال هذا الفلم القصير الذي جاهد معده في تغطية الندوة بصرياً من خلال الصور الفوتوغرافية.

وفي الندوة تقلب الحوار في الذاكرة ليعيد المشاركون غرسها في الحاضر كأنها برتقال يافا؛ كي تورق في مستقبل الأجيال.

الندوة كانت ساحة ذكريات تجول خلالها الجمهور في شوارع يافا ومعالمها الجميلة وبياراتها وحواضرها المدهشة وأساطيرها الحية في عمق الحضارة الكنعانية (بعل، نيرموندا، عناة، إيل، طائر الفينيق الأسطوري) وعرفت الحضور ببلقيس وسعد الخبايا والباشا بطرس والأستاذ كنعان والبحار خطاف والطفلة عبير وطائر الوقواق العجيب، وقد أخذتهم التداعيات جميعاً إلى عمق النكبة التي ما زلنا نعيش نتائجها القاسية حتى اليوم، وذلك من خلال رواية "صخرة نيرموندا" على لسان كاتبها المتحدث الأول بكر السباتين.. وهي رواية أتحفت بعشرات الدراسات.

وتحمل الرواية رؤيةً إنسانية من خلال بطلها سعد الخبايا الذي دأب طوال حياته يبحث عن الحب المستحيل ليذوب في الموت عشقاً بحب يافا الفاتنة وأميرتها الأسطورية «نيرموندا»، التي أسرها الغزاة بربطها على صخرة حملت اسمها. فتمنحه طاقة الانبعاث لكي يتمسك بحبه الواقعي لبلقيس التي خرجت له من خبايا الأرض. وتبدأ رحلة البحث عن حبه من خلال تقصيه لحقيقة الطفلة عبير. تتشعب رحلة البحث هذه لتغرق بطل الرواية في هموم المدينة وتداعيات سقوطها في يد الصهاينة، وبخاصة أنه اتهم بثلاث جرائم. يمكن إدراج الرواية في خانة «الواقعية السحرية» نظراً إلى لغتها السردية المليئة بالصور واحتفائها بالأساطير والرموز الكنعانية واليهودية ذات الدلالات الإنسانية والتاريخية. ويوظف طائر الوقواق رمزياً لتحديد ملامح المحتل برؤية فنتازية، سهلت على الراوي التنقيب في الأعماق ووصف مدينة أعدمت ملامحها وتحولت إلى حيّ مهمل جنوب (تل أبيب).

بينما التقى الجمهور وجوه يافا واحتسى معهم قهوة المساء، وتألقت من بينهم شخصيات لا تنسى مثل مدرسة الأجيال المربية والشاعرة شهلا الكيالي من خلال رواية " يافا أم الغريب للمتحدثة الثانية الروائية أسماء عايش، والتي قال عنها د. أكرم البرغوثي: "هنا لا تكتب لا ترسم لا تستشهد بالصور إلا لتبقي ملامحها الذاتية حية ببرتقال يافا وبحر حيفا.. وتشرك هنا من الشواهد مجموعاً تسكنه يافا بأحيائها وبيوتها وبحرها وكل ملامحها..".. وقال زياد الجيوسي في سياق تغطيته للحدث:" ما بين تداعيات التجربة الشخصية في بيروت إثر حصار 1982، والشتات مرة أخرى من بيروت إلى الشام فالأردن فتونس قبل العودة للوطن، وما بين ذاكرة من عرفوا يافا وعاشوا بها، جالت بنا أسماء ونقلت لنا بأسلوب أدبي مدهش (الصدمة التي اعترت عقول محدّثيَّي حينما عادوا إلى بيوتهم غرباء وقد حل بها الأعداء!)، فتهمس لنا من أعماق روحها: إنها يافا أم الغريب"..

وعلى لسان صاحبتها أسماء عايش جاء أن "يافا أم الغريب هي حكاية أسماء وحكاية والدها وحكاية الشاعرة شهلا كيالي والفنانة تمام الأكحل ومثال القمبرجي ود. الفرد طوباسي وأنور السقا وسامي أبو عجوة، وحكايتنا جميعا من لم نعرف يافا ولكنها سكنتنا، فأعادت أسماء لذاكرتي الحنون جدي لأمي، حين أوصاني وأنا في المعتقل عام 1978 هامسا لي من خلف قضبان الزيارة: يا جدي إن رأيت يوما يافا فاقرأ على روحي الفاتحة على شاطئ العجمي، ورحل بعدها من عالمنا، وحين تمكنت من زيارة يافا مع أحد أصدقائي بمرور سريع لأني كنت لا أحمل تصريحا للزيارة، نفذت رغبة جدي ومسحت وجهي بمياه البحر هناك.. ولم أرى يافا بعدها، فزرعت أسماء كل مشاهد يافا من جديد في ذاكرتي وجددت الحلم. وحين عدت الى يافا مرة أخرى بعد 19 عام، بقيت يوما كاملا أوثق بعدستي كل الأبنية التراثية والحواري والأحياء والأزقة وجددت قراءة الفاتحة على روح جدي على شاطئ العجمي.

هي يافا كانت وستبقى وستعود ذات يوم، وأما أنا فسأهمس مع روح الشهيد محمود الأفغاني:

"يافا ترى يوما أراك بأعيني- أم يا ترى ألقاكِ بعد حِمامي

فلعلني بعد الممات أزورها- فيطيب فيها مرقدي ومقامي".

وتجدر الإشارة إلى أن الحوار كان عبارة عن أسئلة خجولة، طرقت الأبواب في زمن ألجمت في أتون صراعاته النواقيس، تدرجت في الدخول إلى يافا بتردد وحياء، تعانقت مع القلوب المشتاقة كأنها شقائق النعمان ليتدفق انثيالها على لسان مثقف موسوعي كبير أحب يافا إلى درجة الذوبان، الشاعر عبد الرحيم جداية، حيث أخذ بكل وعي يلج بأسئلته الحية كأنه يلظم كلماتها في خيط مسبحة عابد يتجلى في محراب الحقيقة، فيوزع من خلالها ابتسامات الحنين على الحضور، محرضاً يافا على نفض غبار النسيان كي ترتدي ثوب المحبة القشيب، فيلتقط الجمهور حلاوة المدينة وهو يستعيد حضورها البهي، فيستطعم الإجابات في سياق ما قيل عن يافا في هذه الندوة المدهشة.. والقطار اللاهث عبر مسيرة النكبة وتداعياتها في المنافي لم يكن يتوقف أمام معلم يافيّ جميل إلا ليلتقي بإحدى شخوصها التي ما فتئت حاضرة الوجدان بيننا، فكان التكامل اللافت بين روايتين نبضتا معا بيافا، واستجلبتا خلاصة الذاكرة التي انفتحت بدررها على المستقبل الغارق في الدجى المدلهم فيستيقظ النهار، وتبتهج القلوب الملوعة في حب كل المدن الفلسطينية، كأنها قصة الفينيق الكنعاني الذي يخرج من تحت رماد الذاكرة المهملة أشد عنفواناً. إنها ذاكرة الحق الفلسطيني المتوج بحق العودة الذي لا يميته التقادم.

 

 

في المثقف اليوم