أوركسترا

أقدم مطبخ في العالم.. نظرة الى التاريخ الاجتماعي والثقافي

يعد المطبخ العراقي مطبخاً عريقاً متنوعاً جمع الطاف التاريخ القديم والحديث، حتى تجمعت كل فنونه وادواته ووصفاته فيما يسمى اكاديمياً ب (المطبخ البغدادي) الذي بلغ منتهى الظرف والذوق في العصر العباسي والذي تفرعت منه أغلب مطابخ المناطق المحيطة.

ويتفق جميع المختصين بهذا الشأن من الباحثين والمؤلفين ان اقدم مطبخ في العالم هو المطبخ العراقي.

انظر كتاب ؛ أقدم مطبخ في العالم: الطبخ في بلاد ما بين النهرين_ لمؤلفه جان بوتيرو.

ويعدالأهتمام المعتدل بالطعام وحسن إعداده والاهتمام بطعمه ومذاقه ونكهته من طيبة النفس واللطافة الشخصية الخالية من العقد والأمراض النفسية، ومن هؤلاء الكثير من العراقيين حتى درج القول عند تذوق طعاماً طيباً ان يقال عن معده ان (نفسه طيبة) ...

ويبرز في مجال الدراسات التاريخية المعاصرة الاهتمام بدراسة الأطعمة وآدابها في المجتمعات القديمة، التي تقدم نظرة جديدة للتاريخ الاجتماعي والثقافي للمجتمعات عبر التاريخ. وعلى حد تعبير أحد الباحثين فإن (عادات الطعام وأنواعه تخبرنا الكثير عن العصر، وعن قيمه والحياة الاجتماعية فيه).3499 المطبخ العراقي

تاريخ المطبخ العراقي

ورد ذكر الاطعمة وطريقة طهيها في الألواح البابلية ومن أشهر الاطعمة القديمة التي والتي ما زالت تطهى حتى اليوم هي المرق بأنواعه مثل مرق اللحم والمرق الأحمر والعديد من أنواع الأطعمة حيث ذكرت بالتفاصيل.

وكان سكان بلاد الرافدين أول من اكتشف العصائر والبيرة والعديد من الاطعمة التي انتقلت عبر الحضارات إلى الساسانيين وثم إلى العباسيين الذي شهد تطور سريع وتوسع في فن الطعام.

ولعل اشهر وليمة في التاريخ أشارت اليها الكتب والتاريخية وموسوعة غنيس للأرقام القياسية هي وليمة الملك اشور ناصر بال الثاني

حيث عثر في حملة التّنقيبات الّتي قامت بها “المدرسة البريطانية للآثار في العراق الّتي أشرف عليها ماكس مالوان Max Mallowane، زوج كاتبة الرّوايات البوليسية أجاثا كريستي، في عام 1951.the British School of Archaeology in Iraq” عام 1951 في نمرود (موقع مدينة كلحُ أو كلخُ القديمة) جنوب الموصل، على لوح من الحجر ارتفاعه متر و27 سنتم.، عليه نصّ بالكتابة المسمارية ب 154 سطر، يصف تشييد الملك آشورناصربال الثّاني (حكم من 883 إلى 859 ) لقصره الشّديد الفخامة والضّخامة في عاصمته الجديدة كلحُ.

ويفصّل نصّ النّقش عن وليمة تدشين القصر الّتي قدّمها آشورناصربال الثّاني لتكريم إلهه آشور وضيوفه. وقد نقش النّصّ على الحجر، ويصف الملك وليمته بام مجموع المدعوين: 574 69 الف (دعوتهم من كلّ أرجاء الدّنيا، ومن عاصمتي كلحُ”.

“ولمدّة عشرة أيّام كاملة، أطعمتهم وسقيتهم وأمرت أن يستحمّوا وأن يُمسح عليهم بالزّيوت المعطّرة، وأكرمتهم قبل أن أرجعهم إلى دورهم وبلادهم سالمين”).

ويفهم منه ان الضيوف تناولوا وجبتين فقط في اليوم، ولمدّة عشرة أيّام، أي أنّهم تناولوا أكثر من 000 400 1 (مليون وأربعمائة ألف وجبة أكلوا وشربوا ما مجموعه: 2000 من الثيران والعجول، و16 ألف من الأغنام والماعز، و10 آلاف حمامة، و10 آلاف قارورة جلدية من الخمر والأطباق الجانبية (البذور، براعم السمسم، والحمص المُحمص، المكسرات، الخبز، البصل الصغير، السفرجل، الزيتون، والفاكهة). وتظهر هذه الأطعمة في نصوص طهي قديمة أخرى، وفي ألواح المراسلات الإدارية للدولة وعلى تعاليم طقوس المعابد.....3498 المطبخ العراقي

الدولة الأخمينية

تبنّت الدولة الأخمينية "الفارسية"، التي حكمت العراق، ثقافة البلاط الآشوري في الطعام على نطاق واسع، ولاسيما من حيث استخدام أدوات المائدة، حتى أن الكُتاب الإغريق اشتكوا من حجم وتعقيدات الأعياد الملكية الأخمينية. لما دخل الإغريق فارس بعد انتصارهم في معركة "إسوس" أصابتهم الدهشة والارتباك، وتحديداً حين اقتحموا قصر الملك الأخميني داريوس الثالث (335 - 331 قبل الميلاد).

يخبرنا سمبسون بأنّ الإغريق جرّدوا محتويات قصر داريوس، وأرسل القائد بارمينو إلى الإسكندر الأكبر يقول:

وجدت 329 محظية تتقنّ الموسيقى، و46 رجلاً مختصين بنسج الأكاليل والتيجان، و277 طاهياً يطهون أكلات خيالية المذاق، و29 نادلاً لتقديم الطعام "سفرجي"، و13 مهمتهم صناعة أطباق الحليب، و17 نادلاً لتقديم الخمور، و70 رجلاً لعصر الخمور وصناعتها، و14 شخصاً يصنعون العطور.

وتوضح النقوش الأثرية موكباً من الخدم يجلب الطعام لمأدبة الملك الآشوري سنحاريب (705/704 - 681 قبل الميلاد)، يحملون عناقيد من التمر الطازج، وأكواماً من الرّمان والتفّاح وعناقيد العنب.

ذلك. ويسرد بوليانس الكاتب المقدوني الإغريقي في القرن الثاني الميلادي، بعض المكونات لما يسمى ب"عشاء الملك" التي نقشت على عامود من البرونز، وهي: الكمون، الهيل، اليانسون، والثوم والبصل -وهي مكونات نموذجية للطهي الحديث في الشرق الأوسط، وموجودة في نصوص بلاد ما بين النهرين السابقة. لكن بعض المكونات الأخرى مثل "زعفران المدائن، مشروب الرمان الحامض، و محلول الكبر المملح"، التي يصنعون منها "الصلصة الحامضة"، تشير إلى تقليد الطهي الحلو والحامضي النموذجي في المطبخ الإيراني، والتي أصبحت أكثر تطوراً في كتب الطبخ الساسانية والعباسية فيما بعد. في الفترة الأخمينية أصبح النبيذ هو مشروب الحالة الروحية، وكان يوضع في أوعية جميلة الشكل، ويسكب من خلال مصافٍ.

المطبخ في العصر الأموي

ومن الحكايات الشائعة في المصادر التاريخية، ما روي عن تزويج الوالي الأموي على العراق الحجاج، لابنه محمد، انه قال: لأطعمن في عرسه طعاماً لم يعمل أحدٌ من قبله ولا أحد بعده مثله.

فقيل له: أصلح الله الأمير، لو بعثت إلى من أدرك كسرى أبرويز فوصف لك شيئاً مما عمله في بعض أيامه على رسمه، فإن معهم المعرفة والسياسة.

فأرسل إلى شيخ ممن أدرك حكم الأكاسرة، وقال له: صف لي أطيب طعام عمله كسرى وأكثر وأشهر، فقال، نعم، أصفه لك بعلم، وقال: لما أراد كسرى أن يبتني (يتزوج) ابنه، بعث إلى عماله في مملكته كلها، فأشخص من كل بلد عالمه وكاتبه ورجلين من وجوه أهل البلد، فاجتمع عنده منهم أربعة آلاف رجل، فبسط لهم بساط الديباج المنسوجة بالذهب عليها وسائدها، ثم أتوا بأخاوينً الفضة، عليها صحاف الذهب فيها من كل غريب الطعام، فإذا فرغ كل رجل من طعامه أعطي مثقال مسك لغسل يده يصنع به ما شاء، فصنع ذلك بهم ثلاثة أيام، ثم قسمت بينهم الفرش والآنية، وأعطيت لهم الجوائز، ثم ردهم إلى بلدانهم.3500 المطبخ العراقي

المطبخ في العصر العباسي

تصور كتب التاريخ والتراث قصص الخلفاء والملوك في قصورهم العامرة بالطقوس الاحتفالية والغناء والموسيقى، وبموائد أسطورية في غناها وترفها. فماذا كان يأكل علية القوم أيام العصور الذهبية لتاريخ العرب؟ وهل تشبه ولائمهم موائدنا؟ وألا نزال نطبخ بعضاً من وصفاتهم؟

إن أقدم وأهم ما لدينا عن تاريخ الطعام والطبخ من تراثنا، هو مخطوطة من القرن العاشر (أي الرابع هجري)، من بغداد، عنوانها "كتاب الطبيخ" (أو اسمها الكامل: كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب). مؤلفها هو أبو محمد المظفر ابن نصر ابن سيار الوراق، الذي عاش في بغداد، وعمل مشرفاً على مطابخ دور الخلافة العباسية.

من أنواع الخبز وحده، يذكر الكتاب 15 نوعاً، ويفصل مواد وطريقة تحضير كل منها. للكثير من هذه الوصفات أسماء مختلفة عن الأسماء التي نعرفها اليوم، لكن بعضها ما زال مستخدماً، مع إدخال بعض التعديلات عليه. فيذكر الوراق أطباقاً تحضر بمرقة "الرخمين"، وهو قريب مما يستخدم اليوم في تحضير المنسف الأردني، ومثال آخر هو الحلوى المحشوة التي تشبه الكعك العراقي "كليتشا". وربما الأكثر رواجاً حينها كما هوالحال اليوم، أكلات اللحم المشوي. للمثال، ما يسميه ابن الوراق "السماقيات"، هو عبارة عن لحم غنم منقوع بعصير السماق قبل شيّه، والكباب و"الشرائح المشواة" والباذنجان المحشي، والنقانق والمحاشي، واللحوم المشواة في التنور أو "التنوريات"

هنالك أيضاً الأطباق النباتية، التي يسميها ابن الوراق "مزورات". ومن الحلوى، القطايف، التي لا تزال تحمل الاسم نفسه في بلاد الشام اليوم، وبعض المقبلات التي تقدم مع المشروب، أو كما يطلق عليها ابن الوراق ال"النقل"، لأن شارب الخمر يتسلى بأكلها ويتنقل بينها وبين خمره، ومنها المكسرات المملحة، والزبيب والفواكه كالرمان والتفاح. أما المشروبات فيذكر الوراق خصوصاً الجعة من دون كحول، والنبيذ الحلو أو المشروبات الحلوة التي كان يعتقد أنها تساعد على الهضم بعد الطعام ولا تشرب معه.

يتبع الكتاب مفهوم الصحة السائد في ذلك الوقت، والذي يعتمد على صيغة غالينوس اليوناني (الطبيب الذي عاش في القرن الثالث)، ونظريته عن الأركان الأربعة للكون: الماء والتراب والنار والهواء، الموجودة في كل مواد الطبيعة بدرجات متفاوتة، وبتمازجها تعطي الإنسان أربعة طبائع. في وصف الطبخ مراعاة لهذه المبادئ، ولكل وجبة تأثير خاص على الحالة النفسية لمن يتناولها.

ويكرّس الكتاب قسماً لآداب المائدة، ولأدوات المطبخ المناسبة لكل نوع، ولنصائح للتخلص من روائح الطعام بعد طهوه، ولتنظيف الأسنان بعد الطعام، والفوائد الصحية لكل نوع من الأطعمة، وتأثيرها على الصحة. وكان الوراق يؤكد على معايير صارمة للنظافة. ولعل أمتع أقسام الكتاب هو الأشعار والأمثال والنوادر، وكلها قصص من ليالي السهر والسمر في قصور الملوك. مثل قصة الخليفة المتوكل، الذي جذبته رائحة زكية حين كان يستجم على شط الفرات، والرائحة الطيبة التي كانت تهب عليه من طعام كان يعده طباخ على إحدى السفن، فطلب إحضاره وكانت شوربة "السكباجة"، فأحبها واستلذ بها حتى أنه أرسل القِدر الذي أعدت فيه إلى الطباخ مملوءاً نقوداً ذهبية.

كان يقال أيام الوراق إن ملذات الحياة هي: الطعام الشهي والجنس، وحلاوة الدنيا نتذوقها في وجبة طيبة وحديث ممتع. غنى المواد في الوصفات التي يشملها كتاب الطبيخ، يشهد على عصر كانت فيه بغداد عاصمة لامبراطورية بمر بها التجار الآتين من كل بقاع العالم، حتى أنها كانت توصف ب"أم الدنيا" و"صرة البلاد"، كما أن التفنن في تقنيات الطبخ كما يصفها، تعطي فكرة عن ترف الحياة الاجتماعية في قصور الخلفاء.

ويُقالُ إن مائدة الخليفة العباسي المأمون كانت تضم حوالي 300 صنف من الطعام، منها أطعمة صيفية وأخرى شتوية. وأنّ قصور الخلفاء العباسيين اشتهرت بتربية الطيور الداجنة على أطعمة مغذية، اعتقاداً بأن ذلك يجعل لحمها أكثر لذة وتغذية، فكانوا يعلفون الفراريج ب"اللوز المقشر" ويسقونها "اللبن/الحليب".

الصور المرفقة لايمكن ان تجدها في أي مكان في العالم سوى العراق ... اللهم الا إذا كان هناك مطعم عراقي او عوائل عراقية مقيمةتنقل الخير العراقي معها اينما حلت وارتحلت

***

فارس حامد عبد الكريم 

في المثقف اليوم