شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

تحيل كلمتي اليوم، في هذه اللحظة التي تجسد قيمة سلوكية واعتبارية خاصة، والتي أسجلها دون الوقوف على معيارية أو أي مقياس تقييمي خارج المألوف، إلى ما يشبه حالة انضباط أو مصدر إلهام يتمثل صفات القدوة والإسوة التي يتسنن بها، في عالم يتعرى من كل شيء، ويلفظ كل شيء ويسترخص كل شيء.

فالحديث عن سيدة من طينة الدكتورة فاطمة حسيني، لا يمكن تنظيره من زاوية التحديد أو الارتهان على الاستعارة الكلامية وتوتير العبارات والانفعال معها وبها، بل يقتضي من ضمن ما تقتضيه الأدبيات العامة من الإخلاص للمنجز العلمي والثقافي والإنساني، وتحويط كل ذلك بما يرى من مسائل السلوك، وقيمتها الأخلاقية، وتعدد تصريفها في المجتمع المعرفي، وفهمها ورؤيتها للعالم.

وأعتقد جازما أن قلمي لن يسعفني أبدا، في تعميق هذه التنويعات البرهانية، والمؤسسات الواجبية، بسبب ضيق الوقت، ومفاجأتي بتحديد موعد لقاء التكريم هذا، في ظروف تستهلك الطاقة وروح قتالية الطقس، وأشياء أخرى، لن تمنعني على الأقل، في:

أولا: تثمين هذه المبادرة النبيلة، التي جعلت من لحظة الاحتفاء بشخصية عظيمة، تكرس لدى المنظمين، العقل الأخلاقي العالم المقتدر، بقوتها المنطقية الهادئة، وروحها المنظورة التي تعتمد على الحس السليم، والرغبة الصادقة في بلوغ الصنعة القولية والبحثية من دون تعقيد أو ادعاء، وحضور نسقها مؤثرًا، ومحط اهتمام أهل التخصص في التربية والبيداغوجيا وعلوم اللغة ومتجاوراتها في الفكر والثقافة.

ثانيا: تتسق مبادرة الاحتفاء بتجربة الدكتورة فاطمة حسيني الرائدة، مع منهجيتها في توظيف دراسة علوم اللغة من منظور مساهماتها في القضايا التربوية وعلاقتها باللغة والتحيزات الثقافية، والتي تتطلب التفكير في الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها للتعليم نفسه والعمل في هذا المجال أن "يستحضر" اللغة، وهي قدرة بشرية بامتياز، وتحقيقها في لغة الضاد إحدى أهم مقوماتها. كما هو الحال بالنسبة للتمييز بين المعرفة التي أنتجتها علوم اللغة والتي تسمح لإلقاء الضوء على الظواهر والعمليات التعليمية، والتطورات النظرية التي يمكن أن تكون بمثابة مؤطرات مرجعية للبحوث التربوية أو للتجديدات المنهجية والتعليمية داخل برامج التدريس؛ وهو ما دأبت الدكتورة حسيني على مطارحته واستئثار أسئلته، موطنة لقولها الصريح، أنه لا يزال من الضروري التمييز بين الأشياء التي تم بناؤها والعمل عليها من خلال علوم اللغة مثل اكتساب اللغات الأجنبية والقراءة والتهجئة.

ثالثا: تنبثق فكرة العطاء لدى الدكتورة حسيني، من كونها تعبر جسر كونية اللغة، عبر فعل يسمو إلى قيمة "المنح الظاهرة"، تماما كما أوردها ابن عربي في "فصوص الحكم"، أنها تأتي " على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في مُعين وعن سؤال غير مُعين. ومنها ما لا يكون عن سؤال. سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية". وحري بنا هنا، أن نغرف من معرفة هذه المنح الظاهرة، الذاتي والأسمائية، كليهما ينفذان في جوهر ما تسعى إليه مكرمتنا، في استنهاض الهمم وحشدها واستنفارها، من أجل التعبئة لنصرة اللغة العربية، بتعليمها ونشرها خارج أوطانها، وبذل الوكد وغاية الجهد من أجل تمكينها على الخارطة اللغوية الوطنية الدولية، واستعمالها على أوسع نطاق، واستشراف مستقبلها في هذا العالم المتحول الذي نعيشه.

وهذا لعمري من أبلغ وأجود العلوم وأرقاها، وأنجعها في بناء الحضارة والعمران، وتكريم وتقدير الإنسان.

رابعا: يجود الزمان بمثل درر هذا الجيل الذهبي، من علماء اللغة العربية ومباهج تعليمها ومناهجها المعاصرة ومساراتها المعرفية المتعددة، وانبثاقها عن وعي راهني يستقصي أسئلتها ويفكك تجاويفها وامتداداتها، ويستحضر مثلها وأثرها في الذائقة والوجدان، ويقاوم أخابيل وأحابيل تشكيمها وإذلالها وتطويعها فيما لا أصل ولا فصل.

والباحثة المقتدرة فاطمة حسيني، تحارب على أكثر من واجهة، في هذا المرصد الاستراتيجي تحديدا، واجهة البحث العلمي والأكاديمي، وقد حققت فيه نبوغا لافتا وامتدادا تنويريا رائدا وتوسعا فكريا متواصلا. وواجهة العمل الجمعوي التطوعي، الذي تستنصر فيه الدكتورة حسيني، قوامة النحث على الصخر، والمواكبة الصيرورية لقضايا اللغة العربية وأسئلتها الحرجة، والجرأة في مطارحة البدائل والتأسيسات الميدانية لحلول النص والعقل ومنطق العمل.

وقد خبرت معدنها عن قرب وبصيرة، حيث عملنا ولا زلنا نعمل معا، داخل مؤسستين استراتيجيتين هامتين: الأولى وطنية وهي الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، التي تعد مرجعا ثقافيا وسوسيولوجيا مهما داخل مشهدنا الثقافي واللغوي الوطني بتقاطعاته المؤسساتية واستتتباعاته الفلسفية والسياسية والاجتماعية.

والمؤسسة الثانية، هو المجلس الأعلى للغة العربية بأفريقيا، الذي نفتخر بالانتماء إلى هيئته الإدارية العامة والذي يوجد مقره بأنجامينا بدولة تشاد، والذي يعد إطارا قاريا مهما للتعريف باللغة العربية ونشرها وتعليمها وتطوير أدوات الاشتغال بمنظوماتها ومناهجها المتحولة.

لا أريد أن ازيد على كل ما ذكرت، سوى أن مناسبة الاحتفاء بالدكتور فاطمة حسيني، كإحدى أهم عالمات الحقل التربوي واللغوي ببلادنا، هي مناسبة لاستعادة زخم ثقافة المحبة والاحترام الذي ما اانفكت عراه المقطوعة تنزف في مجتمع شارد منحول، ولعل الذي يفعله رواد الناقد في هذه الكوة النورانية الضيقة، لمثال يحتذى به في تصحيح التاريخ وتأسيس الموقف وتبليغه لمن في قلبه شيء من حتى .

***

د مصطفى غَلــــمان

..................

* نص الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الدكتورة فاطمة حسيني، خلال الندوة العلمية الوطنية التي نظمها مركز الناقد بكلية اللغة العربية في موضوع "تعليم اللغة العربية وتعلمها لغة ثانية في ضوء المستجدات الحديثة" يوم السبت 21 يونيو 2025.

أحتفظ في ذاكرتي، كما لو كانت صندوقًا سريًّا قديمًا، بمجموعة من الحكايات التي تسكنها القداسة. كانت تُروى لي ولإخوتي بصوتٍ مشحونٍ بالفخر، يتردد على لسان والديّ، عن ابن عمّتيهما حسين، الرجل الذي لم يكن شخصًا عابرًا في الحياة، بل ملحمة نضال تمشي على قدمين… حسين أحمد الموسوي، المعروف بين رفاقه باسمٍ خلّده التاريخ: سلام عادل*.

لم يكن سلام عادل بطلاً بمقاييس العاديين، بل تجسيدًا لحكمة الشجاعة ومكر الذكاء في آن. رجل يتقن فنّ التخفي كما يتقنه الضباب حين يلامس عيون الناظرين، ثم يتوارى كأن لم يكن. كان سيد الأقنعة، يُبدّل ملامحه ببراعة ساحرٍ من وقت لآخر، فلا تعرفه عين، ولا تلتقطه ذاكرة. هو الشخص الذي يظهر في كل مرة بهيئة جديدة: راعٍ بسيط، بدويّ حافٍ، شيخ أحدب، متسول أبكم، أو حتى أعرج مبتلى… وكان لكل هيئةٍ اسمٌ سريٌّ تتداوله الأسرة خفية، وكان "المعيدي" أكثر الأسماء شيوعًا حين يُبشّرون والدته بقدومه وخاصة حين لا تكون في البيت او عند الجيران.

أتذكر كيف كانت والدتي وهي تسرد لنا ذكرياتها، باعتزاز يعتصره الحنين، أن حسين طرق بابهم ذات مساء، في، هيئة متسوّل أنهكه الجوع وأذلّه العطش، بثياب بالية ونظرات تائهة لا يكاد يُعرف لها ملامح. رقّ له قلبهم، فأطعموه ما تيسّر من زاد، وسقوه من ماء الكرامة ما يُذهب الظمأ ويُنعش القلب، دون أن يدروا أنهم أمام فلذة كبدهم. وحين امتلأ جوفه وشكرهم بصوت خفيض، بدأ ينزع أردية التخفي، قطعةً تلو الأخرى، وإذا بالدهشة تنفجر في المكان كبرقٍ مباغت... لقد كان هو، حسينهم.

تواصل والدتي ذكرياتها عن ابن العمة، وهي التي كانت ابنة العاشرة آنذاك، كيف كانت بتكليفٍ وارشاد منه تمرّ بين حشود رجال الأمن، تخفي الرسائل في أرغفة الخبز، أو تخبئ المناشير تحت عباءتها السوداء ماضية بخطى الطفولة الجريئة وبراءتها حاجبة عن أعين الرقباء مهمتها لتنفيذ وإيصال ما كلفت به، ولتعود بعدها باسمة العينين.. وهي ترى ابتسامة ابن عمتها الرضية والمشجعة، وهي لم تكن تدري يومها أن خطواتها الصغيرة تلك، كانت تسهم في بناء حلمٍ كبير.

أما والدي، فكان يستعيد، بابتسامةٍ ممزوجة بالحنين، كيف كلّفه حسين بمهامٍ بسيطة لا تثير الشبهات. كان يروي لنا، بفخر، حادثة وقعت في أحد أيام الصيف الملتهبة في سوق السراي بالنجف الأشرف. لم يكن عليه سوى أن يصرخ بجملة واحدة: "يسقط الاستعمار"، ثم يدخل محل عمله بهدوء. لم تكن الجملة عادية، بل كانت شيفرة الانفجار. وما إن نطق بها، حتى امتلأ السوق والطرقات من حوله بأكبر تظاهرة شهدتها المدينة.

ان أكثر ما خلّده ابن عمتهما حسين/ سلام عادل في ذاكرتهما، تلك الحادثة التي لا تنسى والتي حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد.. تلك الحادثة في زقاق ضيّق لا منفذ له، حين اجتمع سلام عادل برفاقه لأمر حزبيّ عاجل، فحاصرهم رجال الأمن بعد وشاية مؤكدة بمكانهم. لم يكن ثمّة مخرج، لكن عبقريّ التخفي لم يَخذله حدسه. خلع ملابسه، عفرها بتراب البيت وأوساخه، ثم ارتداها مجددًا كمن خرج من قاع البؤس، يترنح كمتسول اخرق. تقدّم نحو رجال الأمن، يمدّ يده المرتجفة طلبًا للصدقة، لينهره أحدهم قائلاً: "ابتعد من هنا أيها المجنون!"… دون ان يعلموا أنهم قد طردوا للتوّ ذات الرجل الذي جاؤوا لاعتقاله.

وفي مرةٍ أخرى، سمعت والدي يروي كيف تنكّر في زيّ عجوز ضرير، وجلس عند مدخل الجامع الكبير، يمسك مسبحة ويهز رأسه كأنه غارق في الذكر. لم يكن هناك ليتعبد، بل ليراقب مداخل الحي ويوصل رسائل خفية تحت عتبات الأبواب. أتى رجال الأمن مرارًا يفتّشون الأزقة، ووقف أحدهم فوق رأسه يحدّق فيه طويلاً، قبل أن يهزّ كتفيه ويمضي. بعد أيام، وصلت الأخبار: لقد نجا خمسة من رفاقه من كمين محكم، فقط لأن حسين كان عينهم المبصرة، وهم لا يعلمون.

وذات مساء، انتشر خبر عن "أحد أخطر الشيوعيين" المتخفّين في كربلاء، وكانت الحملة الأمنية على أشدّها للإيقاع به بأي ثمن. خرج حسين من أحد البيوت، مرتديًا زيّ "مُلّه" معمّم، وقد شدّ على خصره حزامًا عريضا من القماش يخبّئ بين طياته المنشورات وآخر التوجيهات للرفاق. دخل وسط حشدٍ من المعزين في مجلس عزاء، وجلس بقرب رجل دين معروف، وأخذ يردّد الأدعية كأنه وُلد في هذا الثوب. في اليوم التالي، انتشرت المنشورات في كربلاء كما لو أن الهواء نفسه كان يوزّعها، وانسحب حسين كما جاء، دون أثر.

ومن ملامح أسطورته أيضًا، أنه حضر باسمه وهويته، بلا قناع ولا تمويه، إحدى المؤتمرات الشيوعية الدولية في موسكو. لاحظ أن أحد المصوّرين يُصرّ على تركيز عدسته عليه دون سواه، فاقترب منه بهدوء وقال له: "أنا أيضًا أريد أن أجرّب التصوير، دعني أراك من عدستك." أخذ الكاميرا، فتحها أمام الجميع، أخرج الفيلم، ثم أعادها إليه قائلاً: "أعرف جيدًا ما غرضك… والآن، عد إلى أسيادك.

 كان حسين يعرف متى يصبح ظلًّا، ومتى يتحوّل إلى ضوء. لم يكن يهرب، بل يختفي ليعود أقوى، أنشط وأذكى. في كل مرة يتوارى، كان يخلق فرصةً جديدة للنضال، وكل مراوغة كانت فخًا يُنصب للعدو، لا خلاصًا فرديًّا.

هكذا كان سلام عادل، رجلًا يتنقّل بين الظلّ والضوء، يبني مجدًا في صمت، ويحترف المراوغة بعبقرية لا تمنحها إلا التجربة والولاء. في نظر والديَّ، لم يكن مجرد اخ او ابن عمة، بل كان الوعد المتحقق، والقصيدة التي كُتبت بالدم لا بالحبر، والأسطورة التي لم تنتهِ بانتهاء فصولها، بل بقيت متقدة في الذاكرة، حيّة في الوجدان، تتردّد كلما ذُكر الوطن أو النضال أو المعنى الحقيقي للبطولة.

في زمنٍ تُختزل فيه البطولات في الكلمات، يبقى سلام عادل شاهدًا على بطولةٍ لا تتطلّب منبرًا، بل تتجلّى في فعلٍ حقيقيّ، في ذكاءٍ نادر، في شجاعةٍ لا تعرف الانكسار، وفي حكاياتٍ رواها والدان بسيطان، لكنهما حملا إرثًا من المجد لا يبهت. وكأن البطولة لا تعرف الموت ما دام هنالك من يرويها.

سلام عادل… لم يكن مجرّد رجل. بل كان سؤالًا كبيرًا عن الحرية، عن الشجاعة، عن معنى أن تحيا مقاتلًا، وتموت واقفًا حتى الرمق الأخير.

في زمنٍ تهاوت فيه المعاني، سيبقى هو… المعنى.

***

سعاد الراعي

............................

* عمة والديَّ "مكية"/ ام سلام عادل

* اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده 

قراءة في عقل مفكر التحرر من الاستبداد

انجب الوسط الديني والمعرفي الشيعي شخصيات مهمة وفاعلة وصانعة للتاريخ، وقد حفل كل عصر بنموذج خاص له إنجازه التاريخي ومن ذلك – للمثال فقط – العلامة ابن المطهر الحلي(726هج) والشيخ محمد اكمل البهبهاني (1206)الذي اسقط الخيار الاخباري والاتجاه السلفي الشيعي فقد خلص الفكر الشيعي من أي نزعة سلفية واذا حصلت فهي لاتحمل في ثنياها عنفا تكفيريا

والخراساني من هؤلاء الافذاذ الذين افرزتهم التجربة الشيعية وهو من اصل أفغاني من هرات ولد عام 1839 م في مدينة مشهد الإيرانية وفيها درس المقدمات الأولى للعلوم الشرعية وبعد اتمامها توجه الى النجف الاشرف حاضرة التشيع التاريخية الكبرى عام 1861 م وانخرط في حلقات درسها ثم انتقل الى سامراء وبقي فيها وتتلمذ على افذاذ كثيرون مثل العالم المميز هادي السبزواري ومحمد حسن الشيرازي ومرتضى الانصاري وغيرهم من العلماء المجددين

وبعد وفاة استاذه الشيرازي – صاحب فتوى التنباك – تسلم كرسي التدريس وتفوق في حقل دراسات المنهج – أصول الفقه – وقد قام بالتدريس أربعين عاما وتخرج من تحت يده عشرات الفقهاء والمجتهدين ومن أبرزهم: المنظر الكبير محمد حسين النائيني، وأبو الحسن الأصفهاني، وضياء الدين العراقي، وعبد الكريم الحائري اليزدي، وحسين الطباطبائي البروجردي، ومحمد حسين كاشف الغطاء. ومحسن الحكيم ومحمد جواد البلاغي ومحمد حسين الاصفهاني ومحسن الأمين العاملي واخرون كلهم ذو شان وقد كتب متنا درسيا اسماه كفاية الأصول – وصار متنا للتدريس في حلقات االاجتهاد وتمتعت الكفاية بعدة شروح وعلق عليها عدد اكبر من الشراح ولايزال كتاب الكفاية متنا درسيا ومقررا علميا لا ينافسه كتاب وكانت الكفاية الى جانب كتب أخرى كلها مهمة منها

 حواشي على "الرسائل" و"المكاسب" للشيخ الأنصاري، وعلى "الأسفار" و"المنظومة" للعلامة الشيرازي والسبزواري على التوالي. ومن مؤلفاته "تكملة التبصرة" و"رسالة في الطلاق" و"رسالة في العدالة" و"رسالة في الوقف" و"رسالة في الرضاع" و"روح المعاني في تلخيص نجاة العباد" و"روح الحياة في تلخيص نجاة العباد" و"اللمعات النيرة في شرح تكملة التبصرة" و"الفوائد الأصولية والفقهية". وقد تقلد مهام المرجعية الشيعية كان الآخوند حامياً البلاد الاسلامية من الغزو الاجبني الاستعماري، ففي عام 1911م أصدر فتوى بالجهاد ضد الجيوش الايطالية الزاحفة على طرابلس الغرب وحينما اقتحمت القوات الروسية ولاية خراسان (مشهد) إنتفض الخراساني في وجه الغزاة فأبرق قائلاً: " لئن لم تنسحب جيوشكم من خراسان لأصرخن في العالم الإسلامي صرخة" .وما أن وصلت هذه البرقية إلى الغزاة حتى سحب الروس جيوشهم من خراسان.

  ويعد الشيخ الخراساني اصلب من دافع عن إقامة الدولة الدستورية البرلمانية (المشروطة) ولا يعاب على من يقول بانه المفكر المؤسس للمدرسة الفقهية المميزة في مجال الفقه السياسي الذي كان مغيبا لقرون ومؤسس مدرسة أصولية لها منهجها وتلاميذها الذي صاروا فيما بعد مراجع تقليد ومجتهدون بارزون لكن المؤسف انه وتلاميذه لم ينظموا اراءه على وفق سياق فكري ممنهج وربما ساعد على ضياع بعض جهده موقف المحافظين من الحركة الدستورية وتمكن الاستبداد وذلك فاني اعتقد بانه لا يمكن ان نفهم الثورة الدستورية في الفقه الشيعي والاحاطة بها من دون التعرف على مدرسة الخراساني الأصولية والفكرية

بعض اراء الخراساني

1-  يرى الخراساني ان الولاية العامة المطلقة لله فقط اما ولاية النبي والائمة فهي مقيدة بالكليات، وسيرتهم تنبيء انهم جميعا كانوا يراعون دوما الحدود الشرعية ومن ذلك شانهم الشخصي وهذا يعني ان الحاكمية للتصور الإسلامي للسلطة وضرورة الالتزام بالقواعد القرانية الدستورية (1) بخلاف الانصاري الذي يقر بالولاية المطلقة للنبي والائمة ولا يرى استقلال غيرهم بها الا باذنهم ولكن الاذن يجب ان يكون بدليل قطعي وقد تابعه النائيني مخافا استاذه الخراساني

2-  وعليه فان أي حكومة بعد حكومة النبي والامام علي لم تكن حكومة شرعية بحكومة بعد الائمة فان شرط الشرعية العدالة وعنده ان العدالة تتحقق بالعقل الجمعي والرقابة وفصل السلطات

3-  لا يرى الخراساني اية مشروعية اصلية او تنزلية للمتغلب ذي الشوكة ولو اذن له الفقيه وهنا يخالفه تلميذه النائيني

4-  لا يرى ترتب اثر على الخبر الواحد ليس فقط في القضايا الشرعية الكلية انما حتى في القضايا التاريخية

5- اعطى تنظيرا في جواز الجمع بين القيادة المجتمعية والامامه الفقهية

6-  حصر التقليد بالمرجع الحي

7-  أجاز منهجية الجمع بين العقل والعرفان وطالب ان يدرس الفقه من خلال الفلسفة وعرفانيات الايمان

8-  شجع الاهتمام بالمسائل الاجتماعية واهم شرط للمقلد ان يفهم في القضايا المعاصرة ولديه القدرة للإفادة من عموم المعرفة

9-  المجتهد اذا بذل جهده ولم يصل الى نتيجة فعليه التوقف

10- ان الشهرة الفتوائية ليست حجة مستقلة بل هي قرينة على دليل معتبر

11- اختار في مجال التعارض التخيير فيما لم يقم دليل على الراجح

12- الاجماع المنقول ليس حجة مستقلة بل هو أيضا قرينة معززة

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

نحو الذكرى الثلاثين بعد المئة لميلاده

لو ذهب أحدنا إلى أي شارع بأي مدينة في روسيا وسأل أحد المارة: من هو أحبّ الشعراء لديك، لأجاب دون تردد: سيرغي يسينين. نعم سيرغي يسينين بفضل أشعاره التي تلامس الروح، يعتبر أقرب الشعراء والكتاب إلى قلوب القراء الروس، بين الذين تركوا إرثا عظيما لأبناء هذا المجتمع، في القرن العشرين، من الشعراء والكتاب في روسيا.

في أواخر شهر أيلول وبداية شهر أكتوبر من كل عام يحتفل المجتمع الروسي على المستويين الشعبي والأكاديمي بعيد ميلاد سيرغي يسينين، حيث تعقد الندوات، وتقام المنتديات، والمُسابقات في الوسط الأكاديمي، إلى جانب حفلات الموسيقى والفن الشعبي في كل من ريازان، وكونستانتينوفو وموسكو العاصمة، وباقي المدن الروسية. ولد الولد سيرغي في أسرة الرجل الفلاح الكساندر، في بلدة كونستاتينوفو التابعة لمحافظة ريازان، وذلك في 21 أيلول عام 1895 حسب التقويم القديم (أي في الثالث من أكتوبر لذلك العام حسب التقويم الجديد)، وتوفاه الله في 28 كانون أول عام 1925

ورغم قصر عمر الشاعر الشاب في مفهومنا المعاصر، إلا أنه قد ترك إرثا أدبيا كبيرا للمكتبة الروسية، وللأدب العالمي، وللمكتبات العالمية. من هنا جاء اهتمام الباحثين والدارسين بتركة هذا الرجل، لا غرابة أن يقوم زملاء لنا محترمون بترجمة العديد من أشعاره وقصصه، نذكر منهم حسب الشيخ جعفر، وثائر زين الدين، وعبدالله عيسى، وأيمن أبو الشعر، وزهير ياسين شليبة. نحن اليوم لا نقدم دراسة عن نتاج هذا الشاعر الفذ، بل نقدم مجموعة من أشعاره، التي اتصفت بالجمال، والرقة، والرومانسية، وخاصة في وصف الطبيعة الروسية، والبيئة الروسية، إذ نشارك أبناء المجتمع الروسي بهذا الاحتفال العظيم بمناسبة ولادة قامة محترمة، وشخصية فذة. سوف يقام مؤتمر أكاديمي عالمي بهذه المناسبة، المؤتمر سوف يعقد جلساته بدءا من الخامس عشر من أكتوبر- وحتى الثامن عشر من نفس الشهر، وعلى مراحل − اليوم الأول في موسكو، والثاني في ريازان، والثالث في كونستانتينوفو، والرابع في موقع المدرسة التي درس فيها سيرغي يسينين. نالني الشرف أنني منذ عدة أعوام أشارك بهذه الفعالية، وهذه السنة ليست استثناء.

إليكم هذه المجموعة من أشعار يسينين، قمت بنقلها الى العربية من النص الروسي.

«Вот уж вечер. Роса…»

ها قد حَلَّ المَساء

ها قد حل المَساء. قطرات ُالندى

تلتمع فوقَ نباتِ القرّاصْ

أقفُ قرَب َ الطريق،

متكئا الى صَفصافةٍ .

**

ضوءُ القمر يَسطعُ كالنهار

أراهُ يُضيء َسَطحَ بَيتِنا.

غناءُ البُلبُل ِ يُدغدِغ مَسامِعي

تصِلُ نغماتهُ من بَعيدْ.

**

غبطة، ودفء ٌ،

كأني جالس قربَ الموقِدِ في الشتاء.

أما شجراتُ البتولا

أراها تنتصِبُ كشموع كبيرةٍ .

**

هناك في البعد خلفََ النهر،

عندَ حُدودِ الغابةِ،

يتراءى لي حارسٌ هَدّهُ النعاسْ،

ينقرُ بعصا خشبية قاسية.

***

1910

Ночь

«Усталый день склонился к ночи …»

" الليلُ "

هذا هو النهارُ التعبُ يَميلُ نحو الغروب،

فقد هدأت تلك الموجَة الضّجوجْ،

والشّمسُ قد انطفأتْ، وفوق العالم

يَسبَح قمَرٌ غارقٌ في أفكاره.

وهذا هو الوادي الهادي ينصِت ُ

لخرير الجَدوَل ِ المُسالم.

أما أشجارُ الغابةِ المُعتمة فقد انحنتْ بنوم خفيفْ

بينما العَندليبُ يُهدهِدُها بصوتِهِ الناعِم.

والنهرُ يُصدر رقرقة ناعمة،

وُيوَشوشُ مداعِبا ضفتيه.

ومن فوق مياهِ النهر تسمَع ُ

خشخشة ُسيقان القصَبِ الهادئةِ، المَرحة.

***

1912-    1910

Ночь «Тихо дремлет река…»

ها هو الليلُ قد هجع

النهرُ يغفو بنومه الهادي،

والغابة المعتمة قد لفها الصَّمتْ.

العندليبُ توقفَ عن الغِناء،

و(طائرُ المرعة) لا يرسِلُ صيحاتِه العجيبة.

**

ها هو الليلُ قد هجع، وعمَّ السّكون

لا يُسمَعُ سوى خرير الجَدوَل ِ

أما القمرُ

فراحَ يُلوّن هذا العالم بنورهِ اللجَينيّ.

**

الجداولُ تزيّنت بلونها الفضي

والنهرُ عقدٌ جميلٌ، رائعْ

أمّا وُرَيقاتُ العشبِ فتعكسُ ذلك الضوءَ

في تلكَ السّهوب الرّيانة.

**

ها هو الليلُ قد هَجَعْ وعمَّ السّكونْ.

ما أروعَكِ أيتها الطبيعة النائمة،

فالقمرُ لا يتوقفُ

عن نثر جواهره الثمينة .

***

1911 - 1912

С добрым утром!

نهارُكم سَعيدْ

وَسِنَتِ النجومُ ذاتُ اللون الذهبي

واهتزّت مِرآة ُ الماء في خور النهر

وانبلج َ الصّبحُ وأضاءَ ذلك الخليج

واحمرّ الأفقُ الجَميلُ في السّماءْ.

**

أشجارُ البتولا النعسانة بابتِِسامَة ٍ تعانِقُ الصّباحْ

وتلوّحُ بضفائرَ من حَريرْ

ويُسمَعُ صَوتُ عَراجينها الخضراء ْ

وتلتمعُ حَبات ُ الندى ذاتُ اللون الفِضي .

**

هناكَ عِندَ السّياج اعشوشبَ المَكانُ بنباتاتِ القرّاص

هاهي تزينت بثوبها الجَميل بلون الصّدَف

وراحتْ تتمايَلُ وَهي توشوشُ بخفة:

" نهارُكُم سَعيد ْ " .

***

1914

«Прощай родная пуща…»

وداعاً يا غابتي الغالية

وداعاً يا غابتي الغالية،

أعذرني أيها النبع الذهبي.

تندفعُ وتسبحُ الغيومُ.

آه أيها الشعاعُ، الذي يشبه سكة المِحراث.

**

تألق أيها اليومُ الصّافي،

أما أنا فيملأ قلبيَ الحزنُ.

سوف لا أحملُ بعدَ اليوم

في جزمتي خنجرا.

**

ولن أنامَ في العَراء برفقةِ مُهري

في الليالي القاسيَة ِ الباردة،

ولن تسمَعَ صوتي الضّاحكَ

تلكَ السّماواتُ في الغاباتْ.

**

لا أحدٌ يتفادى العاصِفة،

ولا أحدٌ لا ينالهُ ألمُ الفقدان،

كي يَدقّ أبوابَ السّماء المَجهولة

في تلك الزّرقة ِ اللازورديّة.

***

1916

«Гаснут красные крылья заката…»

انطفأتْ أجنِحَة الغروبِ

ها هي أجنِحَة ُ الغروبِ الحَمراءُ قد انطفأتْ،

والسياجُ يغفو في ظلّ هذا الضّبابْ.

لا تحزني يا عزبتي البَيضاءُ،

بسَبَبِ هِجرَةِ المَحبوبِ .

**

ها هو الهلالُ يُنظفُ أطرافه ُ التي غطتها الزرقة ُ

على جوانِبِ سَطح ِ بيتِنا المَصنوع ِ من القش.

لم أركضْ خلفها، لم أخرجْ لوداعِها،

ولم أرافقها حتى الكداديس ِ العاليةِ.

**

أعرف ُ أن السّنينَ سَتمحو هذا القلقْ.

وهذا الألمُ سَيزولُ معَ الأيامْ .

إنها تحتفظُ بثغرها و روحِها البريئة ِ

لأجل ِ ذلكَ الرّجل الغريب .ْ

**

ليسَ من سِماتِ الرّجال ِ اللهاثُ خلفَ السّعادَةِ،

إنّ أصحابَ النفوسِ ِ الأبية يَعيشون َ لأنهم أقوياءْ.

أمّا ذاكَ الغريبُ فسَوفَ يَعجُنها ويرميها،

مثلما ترمى الكدانة ُالتي أكلتها الرّطوبَة .

**

لستُ مُتشائما تجاه ما هو قادم من الأيام،

سوف تأتي الثلجاتُ القاسِيَة ْ.

وتعودُ حينها إلى دِيارنا

كي تجدَ مكاناً دافِئا لطفلِها الصّغيرْ.

**

عندَها سَتخلعُ فروتها وتحلُ شالها،

وتجلِسُ جانبي قربَ الموقدِ.

وتقولُ بصوتٍ لطيفٍ وهادي:

هذا الوَليدُ يُشبِهُك َ.

***

1916

«Разбуди меня завтра рано…»

أيقظيني غداً باكرًا

أيقظيني غداً باكرًا،

يا أمّي الصّبورْ،

سوف أذهَبُ إلى ما بَعدَ التلةِ قربَ الطريقْ

كي أستقبلَ ضَيفنا الغالي.

**

لقد رأيتُ اليومَ في الغابَة ِ

أثرَعَجَلاتٍ عَريضة ٍ تركتْ بصماتِها على المرج.

وتحتَ قبة ٍ من الغمام

كانت الريحُ تلاعِبُ قوسَ عَرَبتهِ الذهبيّ.

**

عندَ الفجر غدًا سَيَجيءُ إلينا مُسرعاً

وَ سَيَختفي حينها القمَرُ مثلما تخبأ قبّعة تحتَ شُجَيرَة ٍ،

ومُهرتهُ الشقرا بهذا السّهل

ستلوّحُ بذيلها الأحْمَرْ .

**

أيقظيني غدًا باكرًا،

واشعلي الضّوءَ في الغرفة ِ الوسطى،

يقولون بأنّي قريبًا

سَأصبحُ شاعرًا روسيًا مشهورًا.

**

سوفَ تتغنى بك وبالضيف أشعاري،

سأذكرُ الدّيك َ والمدفأة َوَسَقفَ بيتِنا الغالي ...

وسَينسَكِبُ حَليبُ بَقرتِكِ الشقرا

على كلماتي وأوراقي وأفكاري.

***

1917

***

بقلم الدكتور إسماعيل مكارم

........................

هوامش ومصادر:

1.Есенин С. А. Собрание сочинений в двух томах.

Том 2. – Москва.1990. −384 с.

2.Есенин С. А. Собрание сочинений в двух томах.

Том 1. – Москва.1991. −480 с.

بقلم: أ. ي. هوتشنر

ترجمة: صالح الرزوق

***

في بدايات حزيران عام 1961، وفي طريق عودتي من هوليوود إلى نيويورك، استقليت طائرة توقفت في مينابوليس. ومن هناك استأجرت سيارة وقدتها مسافة تسعين ميلا إلى مستشفى القديسة ماري في روشيستر. كان صديقي المقرب أرنست همنغواي، للمرة الثانية، مريضا في قسم الصحة النفسية، وبرعاية دكاترة من مصحة مايو المجاورة. وكنت قد زرته في السابق خلال أول احتجاز له، وأنا في طريقي إلى هوليوود، قبل عدة أسابيع. كان غير مسموح لأرنست في الأسابيع الست الماضية إجراء أو استلام مخابرات هاتفية، أو الاجتماع بالزوار، ولا حتى ماري زوجته، لأنه كان عرضة للعلاج بسلسلة الصدمات الكهربائية ECT. والآن هو في وقت الاستراحة قبل مواصلة سلسلة أخرى منها. ولذلك سمح له أطباء مصحة مايو بإجراء المكالمات وأتاحوا له وقتا للزيارة. لم يكن في مصحة مايو تجهيزات لنقول إنها مستشفى. ولكن هناك جناح في مستشفى القديسة ماري الكائن في روشيستر، وتديره راهبات قديرات، تسمحن لأطباء المصحة بمعالجة المرضى الذين تستقبلهن للعلاج. حينها كانت الصدمة الكهربائية تستعمل دون رادع، ويتم إسقاط التيار الكهربائي على دماغ المريض بدون الاستفادة من أي مخدر، باستثناء قطعة من الخشب توضع بين أسنانه حينما يصارع الألم الفظيع. حدد أطباء مايو أن أرنست يعاني منالسأم، ووصفوا له ECT في محاولة لتصحيح وضعه.

توجد عدة تفسيرات غير موثوقة لتدهور حالته في تلك الأوقات: أنه مصاب بسرطان حاد أو مشاكل مالية. وأنه تشاحن مع ماري. وكلها ليست صحيحة. وكما يعلم أصدقاؤه المقربون كان يعاني من الكآبة والبارانويا لعدة سنوات مضت من حياته. ولكن لم يتم التعرف على جذور هذه المعاناة، لو أنه بالإمكان التعرف عليها. وبمحاولة لإعادته إلى توازنه عمدت إلى مساعدته في التغلب على أشكال الرهاب التي تخنقه، ولكن كلما تقدمنا قليلا يتبين أنه خداع مؤقت. وكذلك بذلت جهدي لأنقذه من البيئة الهدامة ورتبت رحلة سياحية طويلة لكل أماكن صيد السمك في أرجاء العالم والتي كان يهواها، ولكنه تراجع في ليلة المغادرة. وحينما ألحت عليه ماري لزيارة طبيب نفسي قال: يا للجحيم. كلا. فقد كان لديه طبيبه النفسي، وهو طابعة كورونا.

كنت أقابل أرنست مرارا وتكرارا لمدة ثلاثين عاما هي عمر صداقتنا. وقمت بتحويل العديد من قصصه ورواياته إلى تمثيليات تلفزيونية خاصة، وللمسرح والسينما. وقمنا بمغامرات مشتركة في فرنسا وإيطاليا وكوبا والمكسيك وإسبانيا. وفي الصيف الذي سبق بداية هلوساته استمتعنا معا بسياحة شملت ساحات مصارعة الثيران المشهورة في عدة مدن إسبانية. وهناك انعقدت منافسات ثنائية بين أهم مصارعي الثيران في إسبانيا ومنهم أسماء عظماء- منهم الأقارب أنتونيو أوردينيز ولويس ميغيل دومينيغان - (كانت المصارعة المميتة بين متنافسين وليس كالمعتاد ثلاثة)، وكان أرنست هو المدير. في واحدة من تلك المدن، وهي كويداد ريل، ألبسني أنتونيو أحد ثيابه الخاصة بالمصارعة، وأعطاني اسم إلبيكاس (ذو النمش). وحضني أرنست للدخول إلى حلقة الثيران كمرجح (الماتادور الثالث الذي يقاتل الثور فقط إذا تعرض المصارعان المشاركان لجرح وعجز)، ولأشارك مع المصارعين العظيمين. وبما أنه كان مديري توجب علي، كبانديريرو، تقديم عرض إجباري أمام الجمهور، ولكن أخبرني أرنست أن لا أبتعد عن أنتونيو، والذي ساعدني سرا في جر الثور للهجوم عليه.

كانت حماسة أرنست للحياة معدية. في تموز عام 1959 احتفلنا في شوريانا، قرية في التلال فوق مالقة، بعيد ميلاد أرنست الستين، وأقمنا حفلة رائعة، استمرت ليومين. بذلت ماري جهدها في الحفلة. فقد شعرت أن أعياد ميلاد أرنست السابقة، وبسبب عدم تعاونه، كانت تبدو مثل استراحة وليس احتفالا، وقررت أن تعوض بهذه الحفلة كل ما سبقها. ونجحت بذلك.

أحضرت الشامبانيا من باريس، والطعام الصيني من لندن، والبكالو أ لا فيسكانيا (حساء سمك القد بطريقة الباسك) من مدريد، والألعاب النارية من كرنفال متجول، وخبير الألعاب النارية من فلنسيا (قلعة الألعاب النارية)، وراقصي فلامنغو من مالقة، وموسيقيين من تورمولينوس. جاء المحتفلون من كل مكان، ومن بينهم مهراجا جينبور ومعه قرينته وأبناؤه، ومهراجا كوش بيهار وزوجته، والجنرال سي بي “بيوك” لانهام من واشنطن العاصة (كان يقود الجيش في معركة هورتيغين فوريست، وقد انضم إليهم أرنست بأعمال مكتبية في الحرب العالمية الثانية)، السفير والسيدة دافيد بروس، القادم بالطائرة من بون، وعدد من نبلاء مدريد، وعدد من رفاق أرنست الذين كانوا برفقته قديما في باريس. أبهج أرنست نفسه كثيرا. وفي كوخ إطلاق النار، استعمل بارودة قديمة بالية ليطلق على أعقاب سجائر من فم مهراجا كوش بيهار وأنتونيو أوردونيز، ماتادور إسبانيا الأول. عبر من فوق خط متعرج وأسعده فتح كومة من الهدايا وهو يرفعها عاليا ليراها الجميع.

وظهرت أخبار الحفلة حينما أطلق المشرف على الألعاب النارية، القادم من فلنسيا، تيارا من المقذوفات العملاقة، التي سقطت على قمة شجرة نخيل ملكية قرب البيت، فأشعلت النار بالشجرة. استنفر قسم الإطفاء في مالقة. وكانت سيارة الإطفاء تشبه فقرة من كوميديا لاك سينيت، ومثلها رجال الإطفاء الذين أحاطوا بالشجرة، وأطفأوا النار، وعلى الفور ضمهم أرنست إلى الحفلة. وطيلة بقية الليلة، ارتدى أرنست خوذة قائد فرقة الإطفاء المعدنية، وشغل أنتونيو محرك سيارة الإطفاء وقادها حول المكان، وكان أرنست بجانبه بينما البوق يصفر.

تصادفت نهاية ذلك الصيف مع آخر الأوقات الطيبة.

في السنة التالية لاحظت تبدلات حادة ومبهمة في هيئة أرنست. نها عجزه المهين في كتابة “الصيف الخطير” لمجلة لايف، ولأول مرة بعد وجوده هناك، لم يشارك بصيد الحبارى السنوي قرب بيته في كيتشوم، أيداهو. وإ صراره المفاجئ أن تلك الحقول التي يصطاد فيها دائما أصبحت مغلقة. وبتطور هذه البارانويا أصبح مقتنعا أن سيارته وبيته تحت رقابة الإف بي آي وأن عملاء آي آر إس <خدمة الاستثمارات الدولية> يراقبون حسابه المصرفي.

وفي آخر زيارة لي إلى كيشتوم، وقبل أن أغادر، رافقت ماري وأرنست ليلا إلى العشاء. وكان يبدو أنه يستمتع بوقته، وفجأة توتر وأملى علينا همسا بضرورة مغادرة المطعم فورا. سألته ماري عن الدواعي.

قال: عميلان من الإف بي آي في البار، هذه هي الدواعي.

استوقفتني ماري لاحقا في تلك الليلة. كانت مشتتة كثيرا. كان أرنست ينفق يوميا ساعات طويلة مع مخطوطة في محاولة لإعادة كتابة نتاجه الباريسي، ولكنه كان عاجزا. يقلب الصفحات فقط. وأشار عدة مرات أنه ينوي إلحاق الضرر بنفسه وأحيانا كان يقف قرب خزانة البواريد وبيده إحدى بنادقه وهو يحدق من النافذة. وبعد عدة فحوص نصحه طبيبه في كيتشوم بالدخول في قسم الصحة النفسية لمصحة القديسة ماري، باسم مستعار، وهناك أجرى عليه أطباء مايو سلسلة فحوصات ECT. ثم خابرني من صالة الهاتف وكانت أمام غرفته. كان يبدو متحكما بنفسه، ولكن فهمت من صوته أنه لا ينتمي لذلك لمكان وإن لم يعبر عن رأيه. لكن لم تتغير أوهامه ولم تخف: برأيه أن غرفته مراقبة، وهاتفه عرضة للتجسس ويشك أن أحد الموجودين عميل فدرالي. وأملت أن علاجه سيقلل من إحساسه بالظلم، ولكن لسوء الحظ، أكدت المكالمة، إن أكدت أي شيء، أن حالته تتفاقم. وبعد عدة فحوصات ECT، وعدة مقابلات مع الأطباء النفسيين، قمت بزيارته لأول مرة، وأنا في طريقي إلى هوليوود، آملا ثانية أنه أقل تأثرا بأوهامه، ولكن، كلا، كانت نفس الهلاوس تتقمصه.

ولم أستوعب كيف قرر أطباء مايو إطلاق أرنست سريعا بعد زيارتي. فقد كالمني وأنا في هوليوود قائلا إنه مسرور بعودته إلى كيشتوم وإلى عمله. وقال إنه خرج للصيد في اليوم التالي لعودته، والآن يوجد ثماني بطات برية، وبطتا صليب، معلقات فوق كومة الحطب، أمام نافذته في كيتشوم. لكن حياته المنزلية كانت قصيرة. في الواقع سرعان ما عاودته مخاوفه وبدرجة أسوأ. وحاول الانتحار مرتين ببارودة من خزانة بواريده، ولم يتوقف إلا بعد استعمال القوة معه. وخلال رحلة العودة بالطائرة إلى مصحة القديسة ماري، ومع أنه كان تحت التخدير، حاول القفز من الطائرة. وحينما توقفوا في كاسبر، في وايومنغ، للصيانة، حاول أن يقترب من مروحة دافعة وهي تدور.

**

حين وصلت إلى مشارف روشيستر بسيارة الشيفي المستأجرة في ذلك اليوم من حزيران عام 1961، كان القلق قد بلغ ذروته على حالة أرنست. وأملت أن يكون الرهاب قد تلاشى، أو على الأقل خفت قبضته، بعد آخر جولة علاج بالصدمة ECT بالإضافة للجلسات المتسارعة مع طاقم مايو للصحة النفسية. حجزت غرفة في فندقي، وتوجهت مباشرة إلى المستشفى. فتحت رئيسة الممرضات باب غرفة أرنست بمفتاحها، شيء مروع. كانت الغرفة صغيرة، ولكن مزودة بنافذة كبيرة سمحت بدخول شلال غزير من الضوء. لا توجد زهور والجدران عارية. وعلى طاولة بجانب السرير ثلاث كتب مكومة. وبعد الطاولة كرسي معدني بمسند ظهر مستقيم. وعلى النافذة قضبان معدنية أفقية. كان أرنست يواجه النافذة، ظهره للباب، ويقف أمام طاولة المستشفى المرفوعة لتحل محل منضدة الكتابة. وكان يرتدي ثوب حمامه الأحمر الصوفي (عمدته ماري باسم “ثوب الإمبراطور”). وكان مثبتا بحزام جلدي متهالك، وله قفل كبير حمل عبارة بالألمانية تقول “الله معنا”، وهو حزام انتشله من جندي ألماني ميت أثناء معركة دارت داخل غابة هورتغن في الحرب العالمية الثانية. وكان يرتدي نعلا هنديا مفضلا لديه، ويضع على عينيه عصابة تنس بيضاء مغبرة. وكانت لحيته مشعثة وفقد قدرا مهما من وزنه.

قالت الممرضة: سيد همنغواي. وصل ضيفك.

التفت أرنست. استمرت النظرة المصدومة على وجهه لدقيقة ثم تلاشت بابتسامة عريضة تدل على تواصله معي. وجاء ليحييني. تخلص من كمامته. وتشابكت أذرعنا بتحية إسبانية. ووضع كل منا إبهامه على ظهر الآخر. كان سعيدا تماما بمجيئي. وبدا أنه منسجم، كما لو أن الرجل الذي اختفى والرجل الواقف أمامي هو مجرد علامة تشير لما كان عليه من قبل.

قال: حسنا. هوتش. أهلا بك إلى الأرض المجهولة. حيث يسجنونك ويغلقون الباب عليك ولا يملكون مثقال ذرة من الثقة بك.

كانت الممرضة واقفة في مدخل الباب.

قدمني أرنست بقوله: يا ممرضة سوزان. هذا هو ألبيكاس. مصارع الثيران المشهور. ويا بيكاس. هذه سوزان التي تمسك بيدها مفتاح قلبي.

ضحك كلانا.

قدمت لها علبة كافيار أتيت بها من أجل أرنست، لتضعها في الثلاجة. جلست أنا وأرنست لبعض الوقت، هو على السرير، وأنا على الكرسي، وفي البداية توقعت أنه يقف على أرض صلبة، ولكن روعني بعودته لتكرار بؤسه السابق متوهما أن الغرفة مراقبة. والهاتف وراء الباب. وأضاف شكاوى الجوع. واتهم مصرفه، ومحاميه، وطبيبه في كيشتوم، وكل الولكلاء الذين مروا عليه في حياته. ثم انتقل إلى الشكوى من سوء الثياب المقدمة له، والتطرف بضرائب يتخيلها. وكان هناك الكثير من التكرار.

نهضت. وفي ذهني تخليصه من هذه الفجائع التي عاودته منذ زرته في عزلته السابقة. من الواضح أن العلاج بالصدمات ECT لم يؤثر به. ذهبت إلى المنضدة وسألته ماذا كان يكتب.

قال: “باريس”.

وكان يشير إلى انطباعاته عن باريس، وبعض الأشخاص، الذين التقى بهم، حينما كان يعيش هناك برفقة هادلي أولى زوجاته. وذلك في بواكير العشرينات.

سألته: “وكيف ترى ما تكتب؟”.

“هذا أسوأ ما لدي. لا يمكنني الانتهاء من الكتاب. لا أستطيع. كنت وراء هذه الطاولة اللعينة يوما بعد يوم بإثر يوم. وكل ما أحتاج له.... ربما جملة. ربما أكثر. لا أعلم. ولكن لا يمكنني إنجازه. ولا أي جزء منه. هل تفهمني؟. كاتبت سكريبنر من أجل الكتاب. وهو في برنامج الخريف. ولكن لا يمكنني خربشة المزيد”.

سألته إن كانت هذه مخطوطات دونها في ريتز، الفقرات التي سبق لي وأن قرأتها. قال هي بعينها. بالإضافة لمقطوعة جديدة وهي تعنيه أكثر من سواها. قلت له: ولكن تلك المخطوطات عن باريس رائعة ويأمل كل كاتب بتدوين مثلها.

في إحدى رحلاتنا إلى باريس، حينما كنا نقيم في ريتز (حينما فازت نقابتنا هيمهوتش في سباق قفز على الحواجز في أتويل والذي بلغت جوائزه 27 - 1). وفي أحد الأيام تناولنا الغداء مع شارلز ريتز، الذي حل محل والده سيزار. شارلز أخبر أرنست أنه في أثناء ترميم المستودع، اكتشفوا خزانة من طراز لويس فيتون. وكان أرنست قد أودعها هناك منذ الثلاثينات. وهي خزانة صنعها فيتون نفسه لأجل أرنست، وسره أن تعود إليه. فتحناها في مكتب شارلز، وبين عدة أشياء مدفونة فيها، وجدنا عددا من دفاتر مدرسية كتب فيها أرنست عن باريس في العشرينات وعن أشخاص تعرف عليهم في سنوات مبكرة له هناك. وقد أعطاني أرنست بعض المقطوعات للقراءة: وكانت رائعة، وشاعرية، ومؤثرة، وجريئة، وخالدة ولم يكتب أحد مثلها عن باريس، ولا عن مجتمع فترة الثلاثينات البديعة الذين عاصروا أرنست.

بعد نقرات على الباب دخلت الممرضة سوزان، وأخبرت أرنست أن الأطباء يطلبونه لإجرء فحوصات لن تستغرق طويلا. حمل أرنست طرحية من الورق من بين الأوراق التي ارتجلها على المنضدة، وقدمها لي لأقرأها ريثما يعود. وقال لي إنني لم أطلع على هذا الفصل، وهو آخر فصل في الكتاب. الفصل المعول عليه.

**

سحبت الكرسي نحو النافذة لقراءة المخطوطة المدونة بخط اليد والتي تركها أرنست معي. العنوان “لا نهاية لباريس على الإطلاق”. وكانت مختلفة عن بقية التدوينات التي قرأتها في ريتز، والتي ركزت على أحياء باريسية وعن الأشخاص الذين تعرف عليهم أرنست في حينه: ومن بينهم غيرترود شتاين، سيلفيا بيش (بائعة كتب وناشرة أمريكية)، فورد مادوكس فورد، عزرا باوند، سكوت فيتزجرالد.

هذه الفقرة التي كنت اقرأها كانت هي الخاتمة المأمولة: وما جعلها مختلفة أنها مكتوبة كتذكير بأيام كفاحه المبكر ولكن الرائعة في باريس ومرثية للطريقة التي انتهت بها، وأسبابها. وإجمالا كانت إعلانا حماسيا عن حبه لزوجته الأولى، هاردلي، وذكرياته عنها حينما كانا في الطابق الرابع في منطقة رو كاردينال ليمون، ثم ذكرياتها في المكان الذي أقاما فيه مع ابنهما الرضيع، بومبي، في 113 رو نوتردام دي شامب، في الطابق الثاني، فوق منشرة الباحة، وكيف كانت هاردلي د تعزف بالبيانو القديم، الذي استأجره أرنست لأجلها، وهي ملفوفة بالبلوزة، وذلك في قبو خانق من متجر حلويات محلي.

في التدوينة كشف أرنست أيضا عن مغامرات التزلج مع هاردلي: في سكورن التابعة لفورالبيرغ النمساوية. وهناك تعلم كلاهما التزلج. حيث كان لغرف فندق توبي نوافذ كبيرة، وأسرة كبيرة، مع أغطية جيدة، وملاءات من الريش. هذا غير الفطور الرائع الذي يشمل أكواب قهوة كبيرة، وخبزا طازجا، وفواكه محفوظة، وبيضا، وشرائح خنزير ممتازة. ثم انتقل إلى فندق مادلين إيرهوس، الفندق القديم الجميل حيث كانا ينامان متجاورين معا في سرير عريض تحت لحاف من الريش، والنافذة مفتوحة، والنجوم قريبة.

وفي منتصف التدوينة، توقف أرنست عند السنوات الرومنسية المبكرة برفقة هاردلي، حين كانا فقيرين جدا، ولكن بمنتهى السعادة. ووصف ما يحدث لحياتهما المثالية كلما يظهر الأغنياء بالصورة، فيطاردون سمك الغزالة. ولكنه لم يسهب بتعريف لا الأغنياء ولا السمكة. وكتب أرنست يقول: حينما يوجد اثنان عاشقان ينجذب الناس لهم، ولكنه هو وهاردلي كانا ساذجين ولا يعرفان كيف يحميان نفسيهما. اعترف أرنست المفتون بهؤلاء الأغنياء، أنه كان غبيا مثل كلب الصيد الذي يرافق أي شخص لديه بارودة.

والأهم كان هناك امرأة عازبة غنية، وقد أعجبت بأرنست، وصاحبت هاردلي، وتغلغلت في حياتهما حتى حصل الطلاق. واعترف أرنست أنه وقع تحت تأثير إغراء هاتين المرأتين بنفس الوقت، وأنه حالفه الحظ السيء لأنه وقع بحب الاثنتين.

وقبل أن ينهي حياته، كان يهمه أن تفسر كلماته الأخيرة الألم الذي تسبب به لنفسه لأنه سمح للحب الوحيد الحقيقي في حياته أن يضيع من يده. و قد شيطنه طيلة حياته، تراجيديا حب اثنتين في وقت واحد. وبعد أن اقترب من موته في حادث سقوط طائرة قرر أن يعيش مجددا فترة العشرينات الضارة التي استهلكته وأفنت قواه. فسافر أولا إلى باريس، وخفف من متعة نشر أولى رواياته “الشمس تشرق أيضا”. وعاش أرنست تلك السنوات كلما وصفها لي، وأخبرني عنها، وهكذا وجد شيئا للخاتمة. ولكن هناك سنوات من حياته، لا يمكن أن تعكس فيها التراجيديا،د، وكأنها تراجيديا لا يسعنا تجاوزها، ليس بالشهرة ولا بالتكرار ولا بمكاسب العبقرية.

قرأت الفصل مرتين، وتركته كي يستقر في ذهني، بينما أرنست مشغول بمقابلة الطبيب. لتلخيص سنواته في باريس - الناس والأماكن والخسارات والانتصارات والانجازات وخيبات الأمل - وذكرياته المتبادلة مع هادلي - أدهشني أنه حذف الكثير من الحكايات الضرورية، مثل تعليق زواجه لمائة يوم، والذي أخبرني عنه في إحدى المناسبات. ربما كان هذا من فعل ذهنه الشكاك وكفاحه المستميت لكتابة تفاصيل كاملة وقسرية، أو ربما كان ينوي أن أكون الشاهد على تفاصيل حبه التراجيدي لامرأتين بوقت واحد، وهي مشكلة لم يتمكن من تخليص نفسه منها.

***

.........................

أرون إدوارد هوشنر A E Hotchner كاتب ومحرر وناشر ومسرحي أمريكي. له عدة مؤلفات عن صديقه أرنست همنغواي. منها: بابا همنغواي 1966، بابا همنغواي: البهجة والأحزان 1983، همنغواي وعالمه 1989، همنغواي عاشقا 2015.....

لا يخفى لمن يواكب الإعلام المرئي في العصر الراهن، ما يشهدُهُ من تنامٍ واسع للقنوات الفضائية المختلفة في توجّهاتها السياسية والثقافية، وليكن الكلام منحصرًا عن الإعلام المرئي العراقي، بوصفهِ أنموذجًا عن الإعلام المرئي العربي بصورة عامة، ولأن الكاتب ينتمي إلى العراق، فمن الطبيعي أن يشدّ اهتمامه إعلام بلده بالدرجة الأساس؛ لقرب اهتمامات هذا الإعلام من اهتمامات الكاتب لهذه المقالة، بما يتداوله من قضايا وإشكالات تخصُّ الشأن العراقي اليومي في مختلف المجالات.

وإذا اقتربنا من الإعلام المرئي العراقي، وجدناه - بغضِّ النظر عن التوجّهات التي تدير دفّة تلكم القنوات، لا يصل إلينا، إلا عبر الإعلاميين/ الإعلاميات فيه، وهنا يتفاوت أداؤهم من حيث التأثير في المتلقي، بما يملكونه من خبراتٍ تؤهِّلُهم لأن يكونوا مُؤثِّرين في نسبة المشاهدة لقناة دون أخرى، بما أدّى إلى تفاوت أجورهم بحسب ما يُحققه بعضهم من (شهرةٍ/ طشَّةٍ) للقناة التي يعملون فيها، أو انتقال بعضهم من قناةٍ لأخرى بحسب ما له من ثقلٍ يتمثّل بتأثيره - بغضِّ النظر عن نوع ذلك التأثير أو السبب الذي يدفع ذلك الإعلامي للانتقال - على المتلقّي، فيتابعه من قناةٍ لأخرى، بالضبط مثلما نسمع أن اللاعب الفلاني المشهور بأدائه المميز، انتقل من فريق كُروي إلى فريقٍ آخر بحسب العقد المغري الذي أبرمه مع مديري ذلك الفريق، وبما يأملُه كادر هذا الفريق من تحقيق نجاحاتٍ على يد هذا اللاعب. وكلا الأمرين مقرونان بنجاح ذلك المُؤثِّر وتميُّزِهِ عن أقرانه. وبما أن حديثنا عن الإعلام المرئي العراقي بخاصّة والعربي بعامّة، وجدنا ثمّة طريقين يؤدِّي كُلٌّ منهما إلى الشُهرة: الأوّل، حين يكون الإعلاميُّ هادفًا/ مُحلِّقًا في محتواه: السياسي، الثقافي، الرياضي، الترفيهي... الخ والآخر، حين يكون الإعلاميُّ هابطًا في محتواه أيًّا كان مضمونُ ذلك المُحتوى. ومعلومٌ أن التحليق أو الهبوط صفتان نسبيّتان يُقرِّرهما الذوقُ العُرفيُّ العام لمجتمع من المجتمعات، بمعنى أنه لا حاجة بنا إلى أن نُشخِّص - بالتفصيلِ المُمِلِّ - ما هو المُحلِّق الهادفِ من المحتوى عن الهابطِ منه، ومن هذه النقطة أستطيع القول بكل ثقة: إنَّ ما يُقدِّمُهُ "علي وجيه" وثلّةٌ قليلةٌ من الإعلاميين العراقيّين في بعض القنوات الفضائية، يُصنَّفُ ضمن الإعلام الهادف الذي يُراعي الذوق العام، بل يرتفعُ به لما هو أفضل، بما يُقدِّمُهُ من مادّةٍ ثقافيّةٍ غزيرةٍ أجدُ في بعض جُرعاتها قد لا يُطيقُهُ الكثير من المُتلقّين ذي الثقافة المتوسِّطة، أو الذين انبنت ثقافتهم من البيئة المحيطة بهم، وما تلقَّفوه من معارف أوّلية في المدارس والثانويات، ولا يخفى أن أكثر المناهج الدراسية - سواءٌ أكانت في زمن النظام السابق أم كانت في النظام الحالي - تُراعي المستوى العُمري، فلا تجد إلا الصورة التي تتّفق ورؤية واضعي تلك المناهج ومن ورائهم إرادة النظام السياسي الذي يُدير دفّة العملية التعليمية برُمّتها، الأمر الذي أتاح لكثيرٍ من منتقدي "علي وجيه" أنْ ينالوا منه بأساليب تختلف وثقافة كلٍّ منهم، ساعدهم على ذلك الانتقاد ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من حريةٍ في النشر والتعليق آلت إلى ما يشبه الفوضى غير الخلّاقة، تلك التي قال عنها السيميائي الإيطالي "أمبرتو إيكو" قبيل وفاته وهو يشهد هذه الظاهرة في العالم أجمع، "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالقٍ من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء" مع أنّه في أكثر ما يُدليه من آراء إنما يستمدُّها من مصادر متنوّعة سواءٌ أكانت كتبًا لتلكم الشخصيات الثقافية التي يتحدث عنها، أو لمُجايليهم من نُقّاد أو باحثين أو شعراء وثّقوا تلك الأحداث والمواقف، أم كانت صحفًا، أو غيرها من الوثائق التي يعود إليها، وهذا جيِّدٌ بالنسبةِ لإعلاميٍّ يعيشُ عصر الاستسهال بكلِّ معانيه، إذ لم ينجرف مثل غيره من إعلاميين يستسهلون التقاط المعلومة من هنا وهناك، بما يُدلِّل على تميُّزه، ناهيك عن استشعاره مسؤولية الإعلام الثقافيِّ المُحايد، وأثره الفاعلِ في بناء وعي المجتمع على ثوابت صحيحة بعيدة عمّا يُمليه إعلام السلطة من إرادات تنأى بالحيادية في نقل المعلومة، أو توجِّهه بما يتّفق وقناعتها.

لم يكن "علي وجيه" إعلاميًّا فحسب، بل شاعرا أيضًا، وابنُ شاعرٍ وإعلاميٍّ أيضًا، وهو الأديب والمقالي "وجيه عباس" المميّز بكتاباته الساخرة، فضلا عما صدر له من كتابات تخص العروض أو التصوّف، والابن كما قيل: "على سرِّ أبيه" بل يمكن أن أزعم أنّه فاقه في تنوّع الاهتمامات الثقافيّة، وقد كنتُ متابعًا لما ينشرُهُ على صفحته الشخصية على منصّة الفيسبوك، منذ أكثر من عشرة سنوات، لم ينشر خلالها - ما عدا الأمور الشخصية من طريفةٍ عابرة، أو رثاءٍ موجعٍ لصديق، أو مداعبةٍ إخوانيةٍ لأحد المقرّبين منه، أو.. أو .. الخ من شؤون شخصية - إلا المحتوى الثقافيِّ الهادف من إشادةٍ بشاعرٍ مهمٍّ وقوفًا على مكامن الجمال في هذا النصِّ الشعريِّ أو ذلك اللفظ من تلك القصيدة، أو مُعرِّفًا بشاعرٍ يافعٍ من الشباب؛ لما وجد في نصوصهِ من أماراتٍ إبداعيّةٍ تدلّ على تميُّزِهِ المُستحقِّ، والحال نفسه مع القُصّاص والروائيين، وقوفًا على متونهم السرديّةِ، مؤشِّرا فيها مواطن الجمال بما استحسنه من أسلوبٍ عن آخر تميّزَ به هذا القاصُّ أو ذلك الروائيُّ - والكلام في المورد السابق وهنا أيضًا ينطبق على النساء منهنّ - أو يُشمِّر عن ساعدِهِ حين يُعلَن عن وفاةِ أحد الذين أُعجِبَ فيهم من أهل الفن والأدب والثقافة والفكر، إذ تكون لديه تلك الوفاة مناسبةً لإطلاق عنان قلمه في الحديث عن أدبه ومكانته في المشهد الأدبي بعامّة، مع شيءٍ من الذكريات التي كانت له مع صاحب الذكرى.. ولعل اهتمامه بفنونٍ تشكيليةٍ أخرى يقف "الرسم" في أوّل قائمة اهتماماته، بالحديث عن أعلامه وخصوصيّة كل مدرسة عن الأخرى، رافق ذلك محاولاته في هذا الميدان، بما دفعه في السنوات الأخيرة أن يُصمِّمَ بعض أغلفة مجموعاته النثرية، وصولا إلى افتتاح معرضه الشخصي قبل سنةٍ أو أكثر. ومع ذلك كلّه كان لا يكلُّ بالتعريف عن الكتب المهمّة في مختلف المجالات الثقافية، بيانًا لقيمة محتواها وفرادته، أو لتميز كتّابها في ذلك الفن، أو ذلك المجال الذي طرقوه، أو مُعرِّفًا بطبعات مهمة من هذا الكتاب أو ذلك الديوان؛ لما فيها من إضافات، أو استدراكات، أو تعليقات من قبل المحقق أو المؤلف، كلُّ ذلك وغيرُهُ كثيرٌ يجدُهُ المتصفِّح على صفحته عبر هذه المنصّة الافتراضية، بما يُضيف معلومةً، أو يُصحّح ما قرَّ من أفكار أو معلومات عن هذا النص أو ذلك الشاعر أو ذلك الفنّان، بما يجعل صفحته منبرًا ثقافيًّا مهمًّا بهذا التنوّعِ الموزائيكي الذي تميّز فيه "علي وجيه" عن أقرانه من الشعراء، وقد لا يفوتنا اهتمامُهُ أيضًا بالفلكلور الشعبي، والوقوف على كلمات اغنية، أو لحن من الألحان، أو مقامٍ من المقامات، أو زيٍّ من الأزياء، أو شاعرٍ من شعراء اللهجة المحكيّة "الدارجة" بما يكسر نمطَ الرتابةِ فيها عبر هذه الخلطة الثقافية من نخبويٍ ارستقراطيٍّ إلى شعبويٍّ عموميٍّ في مرجعياته، تنصهر كلُّها في بودقة صفحته عاكسةً لنا مدى ثرائه الثقافي والمعرفي الذي لا أجد نصفه أو ربعه عند بعض من يحمل شهادة الدكتوراه..! ناهيك عن مناشطه الثقافية التي يعلن عنها من خلال صفحته، ومشاركاته في بعض المهرجانات أو الملتقيات الأدبية، بقراءة لنصوصه الشعرية، أو تقديمه لأحد الأدباء والحديث عن تجربته، أو حتى في مشاركته مجموعةً من المثقفين بتصوير بعض الكتب الثقافية المفقودة ورفعها على بعض المواقع لإتاحتها للقراءة من قبل من لا يستطيع العثور عليها.

تابعتُ برنامجًا له قبل أكثر من خمس سنوات، على أحد القنوات الفضائية، كاسرًا فيه نمط الرتابة، بخروجه عن "نسق الاستوديو" في جلوسه على طاولة من مقهىً قريب من أحد الشوارع، يضع عليها حزمةً من الكتب لمُؤلِّفٍ عراقي في كل حلقة، متناولاً جهده الإبداعي المتنوِّع في كل كتابٍ من تلك الكتب التي ألّفها، ففي حلقةٍ من الحلَقات تحدّث فيها عن الشاعر العراقي فوزي كريم، وهكذا في كل حلقةٍ يسلّط الضوء على شخصية مبدعة من الوسط الثقافي معرِّفًا بمنجزها، وهي فكرةٌ لم أجد من سبقه إليها؛ لكونها تتطلّب درايةً وإلمامًا من صاحبها يؤهِّلهُ للحديث عن منجز فلان أو فلان من الأدباء أو المفكرين، بما يُحسبُ له من تميُّزٍ بين لِداتهِ وأقرانه من مُقدِّمي البرامج، ممن يفتقر إلى هذه الموسوعيّة في الاهتمامات الثقافية، بله قد لا تجد سواهم أيضًا ممّن تضطمُّ جوانحُهُم على مختلف هذه الاهتمامات، وكاتبُ هذه السطور - على سبيل المثال - يشدُّ اهتمامَهُ من منجز فوزي كريم شعرُهُ ونقدُهُ ومذكّراتُهُ عن جيل الستّينات، أما ما كتبه في الموسيقا أو الرسم، فهذا ما لا ينشدُّ إليه؛ لفقرِ مؤهِّلاته في تينك المجالين.

وفي برنامجٍ له قبل سنةٍ أو أكثر، ظهر لنا في برنامج "صالون علي وجيه" منتقيًا أسماءً مهمّة في مختلف المجالات الثقافية والفكريّة في استضافته لهم، والحوار معهم عن منجزهم أو سيرتهم، قد لا يتّفق البعض مع ما طرحه بعض أولئك الضيوف، وهذا الأمر يكشف تنوّع الاهتمامات لا عند الإعلامي مقدِّم البرنامج، بل عند المتلقّي الذي ينبغي مراعاة ذائقة الجميع؛ لأجل أن يشد مثل ذلك البرنامج اهتمام مختلف التوجّهات والاهتمامات، وبهذا يبرهن على تميّزه بمشاهداته الكثير، مثلما نسمع في بعض المواقع الثقافية حديثًا عن الكتاب الأكثر مقروئية.

أما في برنامج "كتاب مسموع" فكان "علي وجيه" ضيفًا فيه، وهي ليست المرة الأولى التي يُستضاف فيها في برنامج على قناة فضائية أو "بودكاست" على يوتيوب، ولكن ما يميز هذا البرنامج على غيره من البرامج التي استضافَ فيها أو استُضيف فيها، أنه استمرّ على حلقات، على نسق برنامج "شاهد على العصر" الشهير على قناة الجزيرة يستضيف فيها الإعلامي "أحمد منصور" شخصيات مؤثِّرةً عملت في الشأن السياسي. وهنا كان للضيف "علي وجيه" أن يستعرض مسيرة الثقافة العراقية في قرنٍ كامل، ومعلومٌ أنه مهما توسَّعَ في إيراد التفاصيل وذكر الشواهد، والتلبُّث وقوفًا على بعض الأسماء المهمّة في المشهد الثقافي العراقي في العقودِ المُنصرمة منه، تبقى هنالك تفاصيل قد لا يسع الضيفُ الحديثَ عنها، أو لم يُحِط بها خُبرًا، فمثل هذه الإحاطة الكاملة قد لا نجدُها في موسوعاتٍ أعدّها مُتخصِّصون، بل أكثر من ذلك أن الإحاطةَ بمُنجز شاعرٍ مثل الجواهري وما له علاقة بشخصه من مواقف وآراء وأحداث، لا يمكن أن نجدها عند الذين كتبوا عن الجواهري كتبًا ودراسات، فمن الطبيعي جدًّا أنْ نتقبّلَ ما يطرحه "علي وجيه" من حديثٍ حول الجواهري قد يشوب بعضًا منه القصور في بيان ما يستحقه من تسويغٍ له في موقف صدر عن الشاعر، أو بيان الظرف الموضوعي الذي صدر عنه مثل ذلك الموقف أو تلك القصيدة، وهكذا الحال ينطبق في تطرّقه للحديث عن الرُّصافيِّ أو السيّاب أو عبد الرزاق عبد الواحد أو غيرهم من شعراء توقّف عندهم، أو تشكيليين تحدّثَ عن منجزهم وأثره في المشهد الثقافي العراقي، في الحلقات الأخيرة من هذا البرنامج، وهذا لا يعني ذلك إدانة هذا الجهد الذي يُبذل في سبيل إشاعة المعرفة وتقزيم شأن باذلِ ذلك الجهد، أو انتهاك خصوصيته الأُسريّة في الإساءة لوالده، أو لأرحامه من قريبٍ أو بعيد، في الوقت نفسه لا بأس من بيان ما لم يُذكر من معلومات، أو ما أغفله الضيف عن غير قصد، فقد أشار في أوّل حلقةٍ من ذلك البرنامج، أنّه يُخاطب الشباب ممّن لم يشهدوا تلك التفاصيل التي تخصّ الثقافة العراقية وما طرأ عليها من تحوّلات خلال قرنٍ كامل، مستفيدًا من المصادر والمراجع التي اطّلع عليها، وإلا فهي أحداث لم يشهدها بنفسه، وهذا لعمري سبيل النقد الهادف والبناء في تقويمه جهد الآخرين، ومن قرأ ما كتبه الراحل د. علي جواد الطاهر في كتابه "فوات المؤلِّفين" وملاحقاته لمؤلِّفين أعلام أغفلوا عن جهل أو قصد بعض ما لا يمكن السكوت عليه، يتأكّد أن للنقد لغتَه وأساليبَه وأهله المتخصِّصين فيه، بوصفه علمًا غايته الدِقّة وتصويب الأخطاء، وليس النيل والطعن بمن وقعَ في تلكم الأخطاء أو الأوهام.

وهنا من باب الإنصاف أن يُشيد كلُّ مثقفٍ بالجهد المبذول من قبل الإعلامي والشاعر والفنان "علي وجيه" بلحاظ - وهذا التعبير مستفاد من مدوّنات أصول الفقه - ما نشاهدُهُ من سطوةٍ لا أشَدَّ منها للإعلام الهابط ومُموِّليه، والمتهافتين على أعتابه، واللاهثين وراء مشاهدة مقاطعه التي لا تبُثُّ غير السُموم الطائفية، أو القيم البعيدة عن ثقافة هذا المجتمع، التي من شأنها تسويغ انتهاكها فيما بعد، أو الخوض فيما لا نفع فيه للمُشاهد من تفاهات ورقاعات، وإلا فوضعُ العصيِّ في عجلات الإعلام الهادف، لا يعني إلا تشجيعًا للإعلام الهابط بطريقةٍ غير مباشرة..

***

د. وسام حسين العبيدي

السرقات في مجتمعنا لم تكن مقصورة على الاموال كما يحدث الان لاموال الدولة التي يغرف منها من هب ودب ليصبح بين ليلة وضحاها غنيا يملك ثروة طائلة فيتحول من مفلس نكرة الى صاحب عمارة وتجارة يعرفه القاصي والداني .

هناك سرقات من نوع آخر، سرقات أدبية فيما مضى من عصور ومازالت مستمرة حتى اليوم في غياب قوانين تحمي الحقوق الفكرية وحقوق النشر للفنانين والادباء والشعراء ممن لايستطيعون كسب لقمة الخبز من نتاجهم الفكري وابداعهم لان المشرع القانوني في ديارنا لا يستطيع رؤية ما في الفكر من جوهر مادي، وبسبب جهله لا يفقه في الخيال والافكار وانما يفقه في الشعير والخيار، فيحكم على من يخالف او من يسرق ما تطاله يده، ويجيز قطع يد السارق، او صلم أذن من يتجاوز على لصوص البلاد من قطط سمان وكلاب، ويترك عقاب من يسرق الافكار والابداع .

من بين السرقات الادبية الشهيرة سرقة صندوق الشاعر الشيخ محمد علي اليعقوبي صاحب كتاب البابليات*.

نشرالاديب توفيق الفكيكي مقالا في جريدة الهاتف / النجف عدد 139 سنة 1357هجرية بعنوان صندوق اليعقوبي، ذكر فيه ان الصندوق يحوي مجموعة من المخطوطات النفيسة والدواوين الشعرية الرائعة غير المطبوعة. وشبه هذا الصندوق بالمقبرة لتلك الطائفة من رجال الادب الذين منع اليعقوبي تراجمهم وآثارهم من أن تـتـنشق الهواء النقي وتنعم بالحرية .(1)

ثم نشر مقالا ثانيا حول الموضوع واحتكم الى الاديب الشيخ جعفر النقدي ليحكم على اليعقوبي حكما ادبيا جزاء حجزه لهؤلاء الاعلام والتعتيم على ابداعهم.

كما نشر في جريدة الهاتف مقالا ثالثا تحدث فيه عن الصندوق والكنوز الشعرية التي تعود لما يقرب من مائة شاعر من بينهم صفي الدين الحلي وشعراء آل القزويني وابن بطريق وابن جيا وعدد كبير من فحول الشعراء .

دخل على الموضوع جعفر الخليلي - صاحب جريدة الهاتف - فنشر مقالا افتتاحيا علق فيه على مقال الفكيكي وطالب اليعقوبي ان يُخرج كنوزه من الصندوق، وأن لم يتمكن من نشره في كتاب فلينشرها على حلقات في الجرائد.

ونشر الاستاذ محمد الخليل مقالا في جريدة الهاتف أيضا حول صندوق اليعقوبي وعلل عدم نشر اليعقوبي لمحتويات صندوقه لكساد سوق الادب وعدم دعم الموسرين للمشاريع الادبية.

اليعقوبي1565 yaghobi

ولد في النجف الاشرف في منتصف شهر رمضان عام 1313 هـ وبسبب انتقال اسرته الى الحلة الفيحاء نشأ محمد علي في مدينة الحلة وتعلم في الكتاب قراءة القرآن الكريم كما تعلم الكتابة ونسخ الخط و درس النحو والصرف والمعاني والبديع ...على يد والده وزاد اهتمامه بالادب فأخذ يختلف الى محافل العلماء واندية الادباء ورعاه السيد محمد القزويني وغمره بعطفه بعد أن رحل والده الى الدنيا الآخرة سنة 1329 هـ .

كتب عنه العلامة نور الدين شرف الدين في مجلة العرفان التي تصدر في صيدا لبنان، في العدد السابع / حزيران 1951 : "الشيخ محمد علي اليعقوبي عميد الرابطة الادبية في النجف الاشرف، أديب لامع، وخطيب من خطباء المنبر الحسيني المبرزين يحتل مكانة سامية عند الخاصة والعامة."

البابليات

البابليات كتاب يؤرخ لشعراء الحلة، جاء في مقدمته للكتاب " رتبنا الكتاب على حسب القرون . فابتدأنا بذكر شعراء الحلة الفيحاء في اوائل القرن السادس - مبدأ تأسيسها- وماشينا القرون التي تليه بالتسلسل، وهو يقع في ثلاثة اجزاء يضم في اولها ترجمة ستين شاعرا الى نهاية القرن الثاني عشر، والجزآن الاخران يحتويان على تراجم القرنين الثالث عشر والرابع عشر و أفردنا لكل منهما جزءا يضم الادباء الذين نبغوا فيه، وجل القسم الثالث ممن ادركنا عصرهم، وأخذنا تاريخ حياتهم منهم."

صندوق اليعقوبي شعرا

نظم الشيخ محمد حسن حيدر قصيدة رائعة حول الصندوق نشرها في جريدة الهاتف. ونشر الشيخ النقدي مقالا مسهبا في جريدة الهاتف تعرض فيه الى قضية صندوق اليعقوبي والاحتكام اليه بامر الصندوق الذي اخفاه اليعقوبي، وبين الشيخ النقدي وجوب احضار اليعقوبي ومثوله امامه لسماع دفاعه قبل الحكم عليه، فاجتمع به وتعهد اليعقوبي بنشر ما في الصندوق على صفحات الصحف، وارتجل اليعقوبي شعرا :

قالوا أذاع الذي ما زلت تخبؤه // " توفيق" قلت لهم من حسن توفيقي

قد جاء يبحث عن "صندوق" مكتبتي // وإن في الصدر عندي ألف " صندوق"

فازاح اليعقوبي الستار عن صندوقه وبدأ بنشر ما يحويه من فرائد .

وكان الفكيكي قد نسخ بعض المواد من صندوق اليعقوبي باجازة منه، وأخذ من البابليات ما أراد، ويقول زارني الاديب على الخاقاني (علي الشرقي) وطلب أن يستعير ما لدي من البابليات ليلة واحدة، ورغم اني اخذت عليه المواثيق أن لا ينسخها الا انه نكث العهد ونشر ترجمة ابن عوض في مجلته "البيان " فوجدته مطابقا لما عندي من الذي نسخته من صندوق اليعقوبي .

واستغرب الاستاذ دعبل صاحب جريدة النبأ هذه السرقة فنشر مقالا في العدد الصادر في 8 /1/ 1951يستنكر فيه انتحال الخاقاني هذا، ثم يعجب من كون القوانين لاتضع عقابا لهذه الجرائم التي لا تقل عن جريمة سراق المال " سراق الدمى والحلل.

نموذج من البابليات

من قصيدة للاديب السيد جعفر كمال الدين الحلي النجفي

أدر المدامة وابتدي برفاقي // بوركت يا ساقي الطلا من ساقي

فاشرب وعانقني عناق مودة // لاخير في شرب بغير عناق

لله مجلسـنا ونـحـن بـلـذة  // في خير ندمان وخير رفاق

اخوان صدق للمنادمة التقوا // لاشـيـب ذياك اللـقا بفراق

والورد عبق نشره فحسبته // أنفاس (هاد) طيب الاخلاق (2)

***

د. مؤيد عبد الستار

..................

* اليعقوبي، محمد علي، البابليات، المجلد الثاني، دار البيان، 1373 هـ

1- البابليات ص 234

2-البابليات ص 19

في غيابٍ يشبه اكتمال القصيدة، رحل نغوجي واثيونغو. لم يغادرنا كجسد، بل كأسطورةٍ تقرأ علينا وصيتها الأخيرة، لا بالحزن، بل بالحروف التي لم تتعب يومًا من حمل المعنى على أكتافها.

رحل من لا يليق به الرثاء الذي يُعفي اللغة من وجعها، رحل من يستحق أن يُكتب عنه كما تُكتب ملحمةُ مقاومةٍ خرجت من رحم اللغة الأم، وسكنت التاريخ حتى صارت جزءًا من جغرافيا الضمير.

ثمة جائزة لم تكن له، لكنها لن تفلت من ظله أبدًا. جائزة يُمنحها العالم لأولئك الذين تعلّموا كيف يكتبون، لا لأولئك الذين يُخضِعون الكتابة لفعلٍ يعيد تشكيل التوازن بين السلطة والمعنى.

نغوجي واثيونغو، الكاتب الكيني الذي لم يحصل على جائزة نوبل، لأنه ببساطة لم يكن “لطيفًا بما يكفي مع الاستعمار”، لم يُتقن لعبة الأبواب الخلفية، ولا ارتدى البدلات ذات الطابع السويدي.

ظلّ يكتب بلغته الأم، ويُعلن أن اللغة نفسها حقلُ معركة وفعل مقاومة، وأن الحرف حين يُستعار من سجّانه، لا يحرّر.

واثيونغو لم يكن مرشحًا لجائزة نوبل. بل كان امتحانًا لها.

في كل عام، كانت تمرّ الجائزة من أمام اسمه كما تمرّ جحافل المارينز من فوق جثث الأطفال: بنظرة غير مُكترثة. لكن السؤال لا يزال قائمًا وسيظل: ماذا لو كانت لجنة نوبل هي من تحتاج إلى واثيونغو لتنال شرف الأخلاق؟

وفي عمق المشهد، لا يتعلق الأمر بجائزة أدبية، بل بجهاز رمزي للهيمنة.

إن نوبل ليست محض تكريم، بل شكل ناعم من “تأميم العبقرية” باسم التوافق الغربي.

نعم، لقد مُنحت جائزة نوبل أحيانًا لمن يستحقها، كغابرييل غارسيا ماركيز، وكنزابورو أوي، لكن ذلك لم يكن سوى محاولة لتجميل اختلال المعايير بطلاء أخلاقي شفاف.

فقد جاءت بعض الجوائز وكأنها اعتذار غير معلن لمن تم استثناؤهم سابقًا، لا بوصفها تكريمًا لكتابةٍ تقلب البنية، بل بوصفها آلية لتخفيف الضغط عن سرديةٍ بدأت تتصدّع.

لقد كانت الجائزة، أحيانًا، تُمنح لا لمن تُبهر كتابته، بل لمن صار تجاهله أكثر فداحة من منحه.

وهكذا، لم تكن بعض التكريمات احتفاءً بذروة الإبداع، بل سترًا ضروريًا لفشل المؤسسة في إقصاء من لم يخضعوا لمنطقها.

فهي مؤسسة تصنع الكُتّاب الذين يمكن أن يُسَوّقوا كجزء من سردية الإنسان العالمي، بينما تُقصي أولئك الذين يجرحون هذه السردية بلغتهم، بتاريخهم، بمراراتهم الحارقة.

لم تكن أعنف إدانة لجائزة نوبل صادرة عن المنفيين من قائمتها، بل عن أحد الذين كُتب اسمهم عليها ورفض أن يُوقّع.

حين رفض جان بول سارتر الجائزة عام 1964، لم يكن يتهرّب من التكريم، بل كان يقاومه بوصفه شكلًا ناعمًا من الهيمنة الرمزية.

كان يعرف أن الاعتراف، حين يأتي من بنيةٍ هو ذاته يُسائلها، يتحوّل إلى فخّ أخلاقي: يصير التتويج تجميلًا، وأن الكاتب، حين يقبل التتويج، يسلّم بسلطة المؤسسة، رفضها سارتر، وظلّ وفيًا لدوره: كاتب يكتب من خارج النسق، لا من أعلاه.

وفي امتداد لهذا الرفض، لم يكن واثيونغو مرشّحًا، بل شاهدًا على هشاشة ما لا يُمنح.

واثيونغو لم يكن يتقن لعبة التسويق، بل كان يعيد بناء المعنى من شظايا الاستعمار.

إنه ابن الأرض التي خُنقت مرارًا تحت خيمة الإمبراطورية، لكنه ظلّ يكتب كما يُكتب الأمل في مذكرات الأسرى.

لم يقايض المنفى بالمصافحة، ولا المقصلة بالتصفيق. ظلّ يجرّ لغته من فم المستعمر، ثم يعيد تركيبها لتقول ما لا يقال: “الكتابة ليست هواية، بل ساحة حرب تُخاض ضد الجهل والاستلاب”.

في روايته “تويجات الدم”، لم يكن يصنع شخصيات بل يُعرّي أنظمة.

مدينته الروائية، "إل مورج"، ليست مدينة خيالية، بل صدىً لما تبقى من كينيا المُعاد استعمارها بالعابرة للقارات….، وتحوّلت فيها الأحلام إلى مقابر بيضاء تُدار من مكاتب النخبة.

“من السهل أن تُخرس صوت رجل. لكن الأصعب أن تخرس صدى صوته حين يمتزج بصوت الأرض.”

وحين كتب “شيطان على الصليب”، لم يكن يستعير المجاز، بل يزرعه في صدر كل قارئ.

جعل من بطلاته نساءً لا يشبهن أيقونات التحرّر الغربي، وإنما نساءً ينهضن من قعر الألم، يركضن عكس الاتجاه، ويصرخن بلغتهن الأم: “لن نُباع مرتين، لا للبيض ولا لنسخهم السمراء.”

كل شيء في سيرة واثيونغو يشي بعظمة بلا تزييف.

هو الرجل الذي سُجن لأنه كتب مسرحية بلغة الكيكويو، فحوّل السجن إلى فصل من فصول المقاومة.

وحين نُفي، لم يهجر بلاده، بل حملها معه في لغته. وهو القائل:

“المنفى ليس أن تغادر الأرض، بل أن تغادرك اللغة.”

قال عنه المؤلف والمفكر الجنوب أفريقي مبوليليو مزاماني: إن نغوجي “أعاد تعريف ما تعنيه الكتابة في زمن ما بعد الاستعمار… لقد كسر هيبة اللغة الإنجليزية حين جعل من كيكويو مرآة للفكر النقدي، لا للفولكلور.”

أما تشيماماندا أديتشي، فاعتبرته “الأب الروحي للكتابة المناضلة في إفريقيا… الذي فهم مبكرًا أن الرواية ليست مكانًا لعرض الأزياء، بل لعرض الجراح.”

حتى الكاتب البريطاني جون بيرغر قال عنه: “نغوجي لا يكتب ضد الغرب، بل يكتب من موقع آخر كليًا… موقعٍ لا يعترف بأن المركز هو أوروبا.”

فهل تحتاج نوبل إلى واثيونغو لتتطهّر؟

أم أن واثيونغو أكبر من أن تُمنَح له جائزة تستمدّ قيمتها من النظام الذي حارب وجوده؟

إنها المفارقة التي لا تهدأ: رجلٌ يكتب كما يُكتب اللهب، ويُمنح الآخرون الجوائز لأنهم كتبوا كما تُكتب البلاغات الخالية من الألم، المصممة لإرضاء العابرين.

ولأننا أبناء اللغات الجريحة، نعرف جيدًا أن واثيونغو لا ينتظر جائزة.

ينتظر فقط أن تُقرأ كتبه لا على موائد النخبة، بل في فصولٍ مدرسية، على ألواحٍ خشبية، حيث لم تُمحَ آثار المستعمر بعد، لكن الأمل لا يزال يتهجّى الكلمات الجديدة.

في النهاية، لا نُكرم واثيونغو بمنحه جائزة نوبل. بل نُكرم نوبل لو أنها منحته.

وهو، في كل الأحوال، قد كتب اسمه في التاريخ بطريقة أعظم من التصفيق: كتبه بالنار.

رحل نغوجي واثيونغو… وبقيت كتبه تحفر في وعي القارئ ما لم تقدر عليه لجان التحكيم.

***

إبراهيم برسي

كنت قد قلت أن النجف هي "خدّ العذراء" و"شقائق النعمان" و"الغري"، وهي موسوعة غنية ومتنوّعة تحكي الحضارة والثقافة والتاريخ والفلسفة والدين والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وفوق كلّ ذلك الجمال والحسن والخيلاء.

كلّ شيء في النجف مثل كتاب له تاريخ وله فلسفة وله أسلوب وله معنى. والنجف دائمًا ما تتكلّم، تنطق وتقول. رأيها مسموع حتى وإن كان مقموعًا، وحين تسكت وتضطرّ إلى كظم غيظها، فهي تتحدّث وتعاند، ليس بالمجاهرة فحسب، بل بالصمت أيضًا.

المدينة على الرغم من عروبتها الباهرة ولغتها العربية الفاتنة، هي في الآن ذاته ملتقى لغات وجنسيات وأعراق وأعراف وتقاليد وأزياء، اجتمعت لتشكّل هارموني يعزف سيمفونية الحياة المائزة الرائزة. إنها موزائيك ملوّن لفسيفساء اجتماعية بهندسة محبّبة أقرب إلى التجانس والائتلاف، بقدر ما تحمل من تعارضات وتناقضات.

والنجف مدينة حانية، ليس على أبنائها فحسب، حتى وإن عقّوا قليلًا، بل على سكانها وقاطنيها، فكثير من أعيانها ومرجعياتها الدينية، ومن أقاموا فيها، اعتبروا أنفسهم ينتمون إليها ولم يُعرفوا بغيرها. وهكذا كانت معهم متسامحة، إلّا على من أراد امتهان كرامتها، فسيكون غضبها كالإعصار، دون انتقام أو ثأر أو كيدية.

إنها مدينة جامعة يتجاور فيها الأضداد، القديم والجديد، الريف والمدينة، البادية والحضر، القدامة والحداثة، الأصالة والمعاصرة، وباستعارة من السيد مصطفى جمال الدين في كتابه "الديوان": إنها مدينة الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق. ولعلّ الجواهري الكبير كان قد شخّص هذه الحالة في قصيدته البائية التي يعتبر التناقض من طبيعة الأشياء وفيه تنبجس الحقيقة:

ولم أر في الضدائد من نقيضٍ / إلى ضدٍ نقيضٍ من ضريبِ

يا عودةً للدار ما أقساها

حاولت أن أفهم المدينة بعد عودتي من المنفى. هي كبرت واتّسعت وازدحمت وتنوّعت واختلفت، وأنا كبرت وتعبت وشغلتني الهموم وتبخّرت الكثير من أحلامي، بل وجدْت بعضها على قارعة الطريق يعبث فيها من لا يستحق.

توقّفت طويلًا عند جمال النجف الحزين، استعدت ذاكرتها وذاكرتي، تلك التي كانت تتشكّل مثل طبقات أركيولوجية لدرجة يمكنك لمسها وتحسّسها بقدر ما يمكنك تخيّلها وتصوّرها. خاطبت نفسي قائلًا: النجف هي كلّ ما ترَكتهُ روحك أو في روحك من ذاكرة وذكرى واستذكار، لذلك بقيت أردّد مع الشاعر أحمد الصافي النجفي:

يا عودةً للدار ما أقساها / أسمع بغداد ولا أراها

وهو ما كنت أفكّر فيه دائمًا، فما ينطبق على بغداد ينطبق بدرجة أكبر على النجف بالنسبة لي.

حسبتُ أن النجف واحدة موحدة بمحلاتها الأربعة: العمارة، الحويش، البراق والمشراق، كما اكتنزتها ذاكرتي، وإذا بها تصبح مدينة شاسعة مترامية الأطراف بعد أن كانت تضمّ ما داخل السور، فأصبحت تضمّ ما خارجه، ممتدّةً إلى الكوفة وما بعدها وإلى الحيرة وأبو صخير وما بعدهما، دون أن ننسى توسعها باتجاه الصحراء. هكذا شكّلت النجف مجتمعًا جاذبًا من داخل العراق ومن خارجه، وإن بقيت ثمة حدود بين الأصلاء والمقيمين وأهل المدينة والوافدين، لكن الجميع امتزجوا في بوتقة النجف.

السور العتيد

أتذكّر سور النجف الجميل، حيث كنتُ يوميًا وعلى مدار ست سنوات أمشي بجواره، ذهابًا وإيابًا إلى مدرستي السلام قادمًا من عگد السلام، وبعدها حين كنّا نمارس هواية لعبة كرة القدم خلف السور متجاوزين مقبرة الغري الشهيرة، بعد انتقالنا من الطارات قرب بحر النجف، وهي أكبر مقبرة في العالم، لينفتح عالمنا الخاص ليس رياضيًا فحسب، بل عالم الشعر والأدب، حيث اعتدنا على ممارسة هواية تقريظ الشعر أو المطاردات الشعرية.

ولسور النجف حكاية استذكرتها بعد مناقشة حامية مع ابنتي المحامية سوسن في مساء أحد الأيام، بعد وضع اليد على أموال المودعين في بنوك بيروت العام 2019، وقد جاءت عليها في مداخلتها عني عند تكريمي في الكويت / أربيل من جانب الشاعرة المبدعة سعاد الصباح (2024)، بقولها: فإذا بأبي يستيقظ صباحًا ليردّد وهو في مرح غامر ومزاج رائق ما كان يسمعه من أحد معارفه في السور العتيد "I am happy I am poor ...مفلس وقاعد بالسور..." هكذا قالت: أراد والدي أن نجد الفرح في كل المواقف مهما كانت غير سارة، بل وحزينة، وأن ننظر إلى الجانب المشرق من الأشياء.

وأستكمل حكايتي عن سور النجف، الذي كان درعًا لحماية المدينة من هجمات "الغزاة" و"الغرباء"، فقد ظلّت علاقتي به وطيدة كلّ فترة فتوّتي، وإن تهدّم أغلبه حينها، ففي الخمسينيات انخرطنا كأشبال، كما كان يُطلق علينا، في فريق الاتحاد "اليساري"، الذي ترأسه عبد الرضا فياض، قبل أن يُحكم عليه بالسجن لمدّة عام بتهمة الشيوعية، وقضى بعدها عامًا تحت المراقبة (1957)، والطريف أنه أصبح لاحقًا ممثلًا لتيار السيّد مقتدى الصدر في ديالى، وكان أصدقاء لنا من القوميين يمارسون ذات الهوايات في فريق فيصل، حيث نتبادل الأدوار أحيانًا وندخل في مسابقات كرة القدم، وهي أقرب إلى الجدالات الفكرية والسياسية، فإذا انتصر فريق الاتحاد ونحن أشباله اعتبرناه انتصارًا لليسار، وإذا انتصر فريق فيصل كان يعني انتصارًا للقوميين. كان ذلك قبل أن تفرّق ثورة 14 تموز / يوليو 1958 الناس وتقسّم المجتمع العراقي إلى معسكرات متناحرة، حيث أصبح العنف المقيّد، وفيما بعد العنف المبدّد، مهيمنًا عليه.

كان للجمال معنى ومبنى وهويّة، وهو ما كنت أراه في النجف القديمة، ويا حسرتاه، فقد خرّبها الجهل والأذواق البدائية والمصالح الأنانية، حيث جرى تهديم الكثير من المباني التراثية والتاريخية، وأقيم بدلًا عنها البنايات الإسمنتية الخالية من أية روح بحجة الحداثة والتقدّم، ولا علاقة لها بذلك، فالبساطة والدفء والمحبة كانت سمة المدينة وأسواقها وحاراتها وأزقتها ومدارسها، حيث يتوسّطها الصحن الشريف، رئة المدينة بأبوابه الأربعة، باب القبلة وباب العمارة وباب الطوسي وباب الساعة، ويقتسمها السوق الكبير ابتداءً من الميدان وحتى الصحن الشريف.

النجف لا تمنح الطمأنينة والصفاء الروحي لسكانها فحسب، بل تمنحه للقادمين والزائرين، كلّ ذلك دون منّة أو فضل، وإنما تفعل ذلك بكرم أخلاقي ومروءة إنسانية اعتزازًا بشموخها وكبريائها، مثلما هو علو منائرها وزهو قبتها الذهبية.

في النجف تحتشد عوالم وأزمنة متعدّدة ومتنوّعة، وثمة رمزية تروي سردية زمن مضى بحيوات أهله، لكنه ما يزال شاخصًا على الرغم من محاولات تجريفه وجعله لا مرئيًا، لكن الجدل ظلّ واحدًا من مكوّناتها الأساسية، ويشكّل مصدر حيويّتها بتناقضاته المتعارضة والمؤتلفة.

كل تلك النجف، التي احتفت بي واحتفيت بها، كانت حاضرة في المجلس الثقافي والاجتماعي لآل سميسم في يوم رمضاني روحاني ربيعي (5 آذار / مارس 2025) قُبيل عيد ميلادي الثمانين (21 آذار / مارس)، مثلما كان الحضور معطرًا وزاهرًا ومتنوعًا، شمل الحوزة العلمية والمراجع الدينية وشيوخ العشائر ووجهاء النجف ومثقفيها ونخبة لامعة من خيرة مثقفي العراق وأدبائه وصحفيّيه وأكاديمييه من العرب والكرد ومن داخل العراق وخارجه.

***

عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

في الثامن والعشرين مايو (أيار) 2025 م انطفأت شمعة أدبيّة من شموع النضال الإفريقي بعيدا عن وطنه (كينيا) ومسقط رأسه، فقدت الساحة الإفريقيّة وفُجعت الإنسانيّة بغياب قلم مناضل إفريقيّ وإنسانيّ، لم يرتدّ له طرف يوما من أجل رفع راية الثقافة الإفريقيّة، إنّه الأديب العالمي والروائي الكبير والمناضل الإفريقي، نغوغي واثيونغو (من مواليد 5 يناير1938 م) بعد عقود زاخرة بالنضال والكفاح والمقاومة، خاضها الكاتب الكيني في بلده، ضدّ الاحتلال البريطاني، وضدّ الاستبداد، بحثا عن حريّة الرأي والكلمة الحرّة، لقد خلّف وراءه فراغا نعته ابنته قبل أيام بعبارات عبّرت فيها عن فخرها واعتزازها بأبيها، قائلة: (عاش حياة زاخرة بالعطاء، وخاض معركته بشجاعة وإباء، وكما كانت رغبته الأخيرة، فلنحتفل بحياته وأعماله التي تركها إرثا خالدا، بفرح وحزن، نحن فخورون)،

لقد استطاع، وكان له الشرف، أن يسخّر قلمه الحرّ من أجل تحرير العقل الإفريقي من هيمنة الثقافة الغربية والمركزيّة الأوروبيّة، ومواجهة العولمة الثقافيّة وفضح النخب الحاكمة، رغم فصول حياته المتأرجحة بين السجن في وطنه، والغربة في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة الأمريكية،

لم يكن الأديب نغوغي واثيونغو، مجرّد كاتب يبحث عن موضع قدم بين الأدباء المرموقين في إفريقيا والعالم لنيل حظا من الشهرة، بل كان يحمل عقلا حرّا ومفكّرا ونيّرا وساعيا إلى التغيير والانعتاق من الجهل والتخلّف اللذين خلّفهما المستدمر البريطاني في بلده كينيا وقارته إفريقيا، بدءا من الدؤوب إلى استرجاع لغته الأم " الكيكويونية " التي حلّت محلها اللغة الانجليزية – من أجل المحافظة على الذاكرة القومية والهويّة الثقافية ، ورأى أنّ الاستعمار اللغوي، لا يقلّ خطورة وبشاعة عن استعمار الأرض، حيث قال: (إنّ استعمار إفريقيا بدأ بسرقة الأرض، ثم سرقة الذاكرة عبر اللغة)،

لقد سخّرالكاتب الكبير نغومي واثيونغو قلمه وفكره ونضاله من أجل تحرير العقل الإفريقي وتصفية استعمار العقل، بإبراز دور المثقف الإفريقي ووضعه أمام مسؤولياته التاريخية والثقافيّة، كما وقف بحزم في وجه النخب الإفريقيّة التي قلّدت النموذج الغربي، ودعا، دون هوادة طوال مسيرته الإبداعيّة إلى وجوب إزاحة الهيمنة الفكرية الغربيّة من مركزيّة التاريخ والثقافة، ووجوب تفكيك فكرة تفوّق الثقافة الأوروبية عبر نقد نظريات كانط وهيغل، ورغم معاناته من غياهب السجن وآلام الغربة والبعد عن عشيرته ووطنه وبني جلدته بعد هجرته إلى أمريكا، فقد بقيّ وفيّا لمبادئه وقيّمه الوطنيّة، راسخا ومحافظا على مباديء الانتماء من أجل نهضة ثقافيّة تعيد ربط الأفارقة بجذورهم الأصيلة، كما سعى، من خلال رواياته وقصصه ومقالاته وحواراته، إلى ترسيخ فكرة، كتابة التاريخ الإفريقي من منظور إفريقي، وجعل الأدب وسيلة فعّالة لمواجهة العولمة الثقافيّة،

وعاد نغوغي واثيونغو إلى الكتابة بلغته القومية "الكيكويونية " بعدما كتب رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة ومقالاته بالإنجليزية، لغة المستعمر التي منحته العالمية - وأعطاها بعدا مركزيا في إبداعاته، ورأى أنّ اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي حاملة الثقافة والتاريخ والذاكرة وأوجه التفكير وعنوان الهويّة، عاد من منفاه اللغوي إلى أحضان لغته الأم، لوضع حدّ لشتات الذاكرة، وترميم الهويّة الإفريقيّة، والدعوة إلى نهضة ثقافيّة تعيد ربط الأفارقة بجذورهم الأصيلة، وقد سعى الاستعمار الأوروبي إلى تشتيت الهويّة الإفريقية، من خلال القضاء على اللغات الإفريقيّة ولهجاتها أو تهميشها وتشويه التاريخ الإفريقي من منبر المدرسة الاستعمارية الكولونيالية، القائمة على فكرة التفوّق الأروربي المستمدّة من نظريات هيغل وكانط، وقد حارب المستعمر الأوروبي اللغات الأم لصالح لغته بالحديد والنار لمحو الذاكرة الإفريقيّة، وهو سلوك مشين وقاهر لرفض إنسانيّة الفرد الإفريقي، إنّ مرافعة بعض النخب الإفريقيّة المستلبة، السياسية منها والثقافية، لصالح لغة المستعمر، بعد نجاح الحركات التحرريّة في تحقيق الاستقلال خيانة للضمير الوطني الإفريقي ولشهداء الحريّة والإنسانيّة.

***

بقلم: علي فضيل العربي

........................

هامش:

هاجر واثيونغو إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد تعرضه للسجن في بلاده ما يربو على العام، حيث عمل بالتدريس في جامعة بيل بضع سنين، ثم عمل أستاذا للأدب المقارن وأستاذا لدراسة الأداء في جامعة نيويورك وأستاذا بجامعة كاليفورنيا في إرفاين ومديرا للمركز الدولي للكتابة والترجمة بالجامعة، عضو اللأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم،

من أهم أعماله:

لا تبك أيّها الطفل (رواية 1964)

النهر الفاصل (رواية 1965)

حبة حنطة (رواية 1967)

بتلات الدم (رواية 1977)

شيطان على الصليب (رواية 1982)

التكريمات:

الجائزة الذولية لكاتالونيا 2020

الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكلاند 2005

الدكتوراه الفحرية من جامعة بايرويت،

جائزة نونينو الدولية 2001

جائزة لوتس للأدب 1973

جائزة بارك كيونغ ـ ني 2016

وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية 2009

ظهر اسم نغوني واثيونغو عدة مرات في قوائم المرشحين لجائزة نوبل في الآداب،

***

بقلم: علي فضيل العربي

نواصل في هذا الجزء من المقالة مناقشة ما أثير حول قومية الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري عبر منهجيتنا المزدوجة والتي تعتمد التحليل النقدي المنهجي والتوثيق التأريخي. وسأبدأ بهذا التصحيح فقد ذكرت في الجزء الأول من المقالة أن الكاتب جعفر الخليلي "خلد مأساة المُهَجَّرين العراقيين الفرس والكرد الفيلية من العراق في عهد النظام السابق. وحكى هو شخصياً عن مأساته العائلية وتهجيره من بلده العراق وكيف افترس ذئب والدته العجوز في البرية وهم منفيون على الحدود بين العراق وإيران في رواية بعنوان "قرى الجن". والصحيح أن ذلك الحدث ورد ذكره في رواية "سلاما يا غريب" لابن أخيه عبد الغني الخليلي والصادرة سنة 2002، وليس في رواية "قرى الجن" لعمه جعفر الخليلي.

وثيقة نجفية مهمة: وبالعودة إلى جذور عائلة الجواهري نسجل أن الأكيد، والموثق تماما هو أن جذور هذه العائلة القديمة تعود إلى مدينة أصفهان وسط إيران. ولكن الوثيقة التي بين أيدينا لا تتكلم عن أصولها القومية إنْ كانت فارسية أو عربية مع أن الوجود العربي في تلك والعهود وخاصة في العهد العباسي كان كثيفا جدا ويشكل الغالبية السكانية في بعض المناطق كإقليم خراسان وفي الجنوب. لنقرأ ما كُتب في سيرة مبتكر لقب "الجواهري" الشيخ محمد حسن بن باقر المعروف بصاحب الجواهر، على صفحة وكالة أنباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف (واحة – بلا رقم أو تأريخ نشر)، ونقرأ: "لم ترد معلومات عن سنة ولادته بالتحديد، لكن الشواهد والقرائن تشير إلى أنّه ولد 1202 هـ (تقريبا 1787م) في النجف، وهناك أقوال أخرى في هذا المجال...". وعن نسبه نقرأ : "هو الشيخ محمد حسن بن باقر بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الأصفهاني، كان أجداده يعيشون في أصفهان، وقد غادر جده الثالث الشيخ عبد الرحيم الشريف مدينة أصفهان، وتوّجه إلى النجف وأقام فيها. وأبوه محمد باقر النجفي، وأمه من أحفاد الشيخ أبو الحسن الفتوني العاملي، وينحدر نسبها إلى السادة العذاريين المعروفين بآل حجاب وهي أسرة علمية، فالشيخ محمد حسن كان نقطة التقاء الأسر العلمية من جهة الآباء والأمهات".

إذن علاقة العائلة الجواهرية بجبل عامل في لبنان هي علاقة مصاهرة فمن هناك جاءت أم الشيخ حسن الجواهري العلوية العذارية. ولكننا ينبغي أن نتساءل عن لقب اللافت "الشريف" الوارد في سلسلة نسب الشيخ فما المقصود به؛ هل هي إشارة محتملة إلى نسب هاشمي كما دأب الشرفاء في الجزيرة العربية والمغرب العربي وشرقي مصر على استعمال كلمة الشريف لتكون خاصة بهم؟ لا نرجح ذلك لأنها لو كانت تعني النسب الهاشمي لفاخَرَ به أفراد العائلة الجواهرية ولما تخلوا عنه.

وقد أفادني الأستاذ الشاعر محمد الأمين الكرخي بهذا الخصوص بالمقتبس التالي الذي يؤكد ترجيحي السالف: "آل شريف من الأسر العلمية الشيعية القديمة في أصفهان والنجف. تنحدر هذه الطائفة من ذرية آغا عبد الرحيم شريف الكبير، من كبار علماء الإمامية في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، الذي هاجر من أصفهان إلى النجف الأشرف واتخذها مسكنًا دائماً له. وتعتبر أسرة آل الجواهري فرعاً من هذه السلسلة. يصف الشيخ جعفر محبوبة هذه الأسرة قائلاً: "من الأسر العلمية المشهورة القديمة التي ينتهي نسبها وأجداد الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر إليها، ولهم مصاهرة شريفة مع السادات الخاتون آباديين، ولقب الشريف اشتهر على هذه السلسلة بسبب هذا الزواج/ گروه نويسندگان، (1391) دائرة المعارف تشيع، تهران: حکمت، چاپ اول".

هل الجواهري إيراني وليس فارسيا؟ إن ما قيل عن وجود عائلة الجواهري في إيران لخمسة قرون قادمة من جبل عامل في لبنان، يمكن أن يؤخذ بجدية في ضوء ما يقدم من وثائق وأدلة تؤكده. أما في حال عدم وجود وثائق وأدلة كهذه، فيمكن أن نتعامل مع ما قيل كفرضية قد تصح وقد لا تصح. فإذا صحت يمكن لنا، من منطلق مبادئ المواطنة الحديثة، أن نعتبر القدوم من جبل عامل في لبنان وما يترتب عليه من عروبة الأصل، ومن ثم الإقامة لخمسة قرون في إيران، وبحساب الأجيال (حيث الجيل يساوي 33 عاما) تكون العائلة قد عاشت في إيران لخمسة عشر جيلا، وبهذا تكون قد اكتسبت المواطنة والهوية الإيرانية وليس القومية الفارسية. وبهذا المعنى يكون الجواهري من أصول إيرانية شأنه شأن الملايين من العرب الإيرانيين في إقليم عربستان "خوزستان" اليوم.

حين سُئل الشاعر محمد مهدي الجواهري نفسه ذات مرة سؤلاً مباشراً إنْ كان إيرانيا قال: "أنا لو كنت من أمة فارس لافتخرت بذلك". وهو هنا ينفي كونه من أمة فارس ولكنه يفتخر بالانتماء إليها لو صح عنده. وهذا كلامه هو، ولا ينبغي لنا نقدياً أن نسلم به حرفياً، فلماذا توقف المتحدث عند النفي ولم يفتخر بأصله العربي مباشرة لوكان عربيا؟ أعني لماذا لم يجب مثلا بالقول: لا، أنا لستُ فارسياً رغم إنني افتخر بأمة فارس ولكنني عربي؟ فالسؤال المكرر بصيغة أخرى هنا هو؛ لماذا لم يصرح الجواهري بنسبه العربي أبدا في أي مناسبة كانت؟ لماذا لم نجد أية إشارة إلى عروبة نسبه أو سلسلة آبائه كما هي الحال مع شعراء وأعلام عراقيين آخرين قدماء ومحدثين لعل من أبرزهم الشاعر العراقي الفراتي صفي الدين الحلي المولود في القرن الثالث عشر (1277) بحاضرة الحلة عاصمة الإمارة الأسدية المزيدية فنسبه معلن ومعروف فهو صفي الدين عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم السنبسي الطائي؟

خلاصات: وعليه، أعتقد أن مسألة عراقية الشاعر الجواهري ليست موضع تشكيك أو قدح، فهي صفة أكيدة وأصيلة له وفيه، أما الأصل القومي له أو لغيره سواء كان فارسيا أو عربيا أو غير ذلك، فهو مسألة شخصية بحتة، شأنها شأن المذهب والدين، ولا ينبغي أن تهم أحدا سوى حاملها والمؤرخين والنقاد الذين يتصدون لكتابة سيرته أو أبحاث عنه. وصاحب الشأن هو مَن يمكنه ويحق له أن يؤكدها أو ينفيها كمعلومة، ومن حقنا نحن أن نبحثها نقدياً في محاولة لمقاربة الحقيقة بغض النظر عما يقوله هو وفي ضوء المنهج البحثي العلمي وما يتوفر من وثائق صحيحة.

بمعنى إننا حين نتناول الأصل القومي لشخصية مشهورة وعامة من وجهة نظر نقدية وتأريخية فينبغي أن نتناولها بما يتوفر حولها من أدلة وإثباتات ملموسة مساندة أو نافية ومناقشتها بحياد وموضوعية بغض النظر عما يقوله الشخص المعنى بالبحث سواء كان شاعرا أو لم يكن. والحال إنَّ الشاعر الجواهري لم يقل عنه نفسه إنه من أصول عربية، ولم تكن قضية الأصل القومي آنذاك في النصف الأول من القرن الماضي في العراق قضية ملحة وذات أهمية كبيرة، بل قال إنه شاعر عراقي يفخر بكونه شاعر العرب الأكبر. وقد قرأت الكثير مما كتبه الجواهري أو ما كتب عنه فلم يرد في ما قرأت أنه قال إنه عربي الأصل، وأرجو ممن لديه ما يفيد العكس أن يقدمه لنا مشكوراً مع التوثيق الأكاديمي الدقيق إن أمكن ذلك، وسأنشر ملحقاً بكل ما وصلني وسيصلني من تعقيبات وإضافات بعضها من أحد أفراد عائلة الشاعر وأصدقاء آخرين قريبا.

وكخلاصة، وعذرا للتكرار أقول: الجواهري شاعر عراقي عظيم أولا، وهو من أصول إيرانية بدليل عيش أجداده في إيران لخمسة قرون، وهذا معترف به من قبل أسرته وموثق. أما بالنسبة لأصله القومي إن كان فارسياً أو غير فارسي فليس لدينا - في الوقت الحاضر على الأقل - وسيلة علمية مضبوطة للتأكد منها في غياب أي دليل وثائقي رصين ومعترف به، فحتى التحليل الجيني الوراثي لا يمكن أن يثبت فارسيته في منطقة شهدت اختلاطا قومياً هائلاً وحضوراً قبلياً عربياً كثيفاً في القرون الخوالي التي تلت انهيار الإمبراطورية الفارسية الساسانية وقيام الإمبراطورية العربية الإسلامية. أما الفرق بين الإيرانية والفارسية فهو أن الإيرانية نسبة إلى بلد يدعى إيران تعامل كجنسية وهي نسبة ممكنة وثابتة وتشمل الفارسي وغير الفارسي. وجذور الجواهري عندي إيرانية لا شك في ذلك، وهو ليس عربياً على الأرجح وليس بالقطع بانتظار أن يظهر دليل جديد يؤكد فارسيته أو لا يؤكدها مستقبلا.

الشطب على عروبة العراق والدفاع عن عروبة الجواهري: وأخيرا، فإنَّ من المستهجن حقا، أن ينبري بعض إعلاميي أحزاب الفساد والقنوات التلفزيونية التجارية في العراق، ممن يكررون المعلومات والمقولات القديمة والتي تهرأت من كثرة استعمالها، للدفاع عن عروبة الجواهري أو غيره من "أعلام طائفتهم الأكبر" مع ان بعضهم من السلفيين المتعصبين يكفر الجواهري أو يفسقه في ضوء ما عرف عن حياته اليومية المتحررة، ولكنهم يخرسون تماماً ويبتلعون ألسنتهم طوعاً حين يشطب ساستهم الطائفيون على عروبة العراق، العراق العريق؛ موطن الجزيريين "الساميين" الأوائل منذ الأكاديين وحتى العرب العباسيين الذين أشادوا أعظم إمبراطورية عربية إسلامية عاصمتها بغداد في منتصف القرن الثامن الميلادي وظلت قائمة حتى عام 1258م، ليُعلوا من شأن هوياتهم الفرعية الطائفية أو العشائرية حين شطبوا عليها في دستور سنَّته مجموعة من الساسة الهواة والجهلة بالفقه الدستوري ورجال الدين الكسالى، فاعتبروا العراق بلدا متعدد القوميات، رغم أن نسبة العرب فيه تفوق 85 بالمائة، في حين لا تصل نسبة الفرس في إيران إلى 50 بالمائة ومع ذلك فهوية إيران فارسية يدافع عنها الجميع، ولا تصل نسبة الأتراك في تركيا إلى 65 بالمائة ومع ذلك فهوية تركيا تركية طورانية غير قابلة للتنوع والمشاركة!

إن الكتبة ذوي النزوع الفئوي والطائفي الذين يشنعون على المدافعين عن هوية العراق الحضارية العربية ويتهمونهم بأنهم بعثيون و"قومجية"، يريدون أن يقزِّموا تاريخ العراق الألفي العظيم ويجعلوه تأريخاً لطائفتهم الأكبر فقط، وأعلام العراق البارزين أعلاماً لطائفتهم الأكبر حصراً، ويقدحون في المقابل بالرموز العراقية التي تنتسب للطوائف الأخرى بعيدا عن أية منهجية علمية نقدية رصينة وموثقة طالما ظلوا يتمتعون بالمال السحت الذي انتهبوه من أفواه فقراء العراق من جميع الطوائف والقوميات باسم المحاصصة الطائفية والعرقية والوجاهة الفقاعية تحت ظلال الهيمنة الأميركية! وهؤلاء كما قلنا هو الوجه الآخر للطائفيين من الجهة المقابلة الذين مثلهم ساطع الحصري فشككوا بعراقية الجواهري وحاربوه طويلا!

فليرقد الجواهري العراقي الخالد، شاعر العرب الأكبر، بسلام، فأصله وفصله قد ترسخ في جمالية شعره وفي حب العراقيين والعرب له وهذا يكفيه فخرا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

كان أول لقاء لي بالدكتور عناد غزوان اسماعيل في سبعينيات القرن الماضي. كنت يومها أقدّم برنامجا اذاعيا بعنوان (كبار) انتقي فيه من تعدى الخمسين لأوثق اهم اعماله في مختلف المجالات (محمد جواد اموري مثلا في الفن وتوثيق لحكاية قصيدة مرينه بيكم حمد). واخترت الدكتور عناد غزوان بوصفه اديبا وابرز مؤسسي النقد الحديث في العراق، بداتها بطفولته في الديوانية التي يعتز بها.. الى حصوله على الدكتوراه من جامعة (درم) في بريطانيا، الى المراكز التي تولاها في الجامعات العراقية.

ابهرني بطلاقته، واسترساله، وغزارة ثقافته.. وكنت لا استطيع مجاراته. بدأت الحوار معه تقليديا فعرفت انه ابن (الديوانية).. ولد فيها عام 1934، وتعلم العربية والقرآن الكريم في كتاتيبها، ثم تهيأت له فرصة الدراسة في دار المعلمين العليا. ولأنه كان متفوقا على اقرانه فأنه أرسل ببعثة دراسية إلى جامعة رونك بانكلتراعام 1959ليعود منها بشهادة الدكتوراه في الادب العربي من جامعة (درم) بانكلترا عام 1963.

وعناد.. الناقد والمفكر والمؤلف والمترجم.. عراقي أصيل. كتب عنه الكاتب والناقد الدكتور عقيل مهدي يوسف بان الدكتور عناد (استطاع بكفاءة قيادية للدرس الأكاديمي أن يطرح أنموذجاً للأستاذ الجامعي الأصيل، الذي يقرن المعرفة بالعمل، والسلوك الملتزم الجاد، واحترام الذات والآخر في سبيل الوصول إلى (مشهدية) معاصرة يرصّنها بآرائه، المدروسة وبتراجمه الثرية المحدثة لدى أدباء وكتاب ونقاد أجانب ينتقيها بتحسب منهجي، وضرورة تمليها عليه مواقفه التخصصية وأفكاره النقدية، ورؤيته الخلاقة، ضمن سلسلة تتواصل حلقاتها في خطة بحث متكاملة، لتكون خلاصتها ومغزاها فتح (حوارات) أكاديمية مع نخبة متعلمة مثقفة في الحرم الجامعي ومراكز البحوث ومؤسسات الترجمة وحلقات الأدباء والفنانين، و مع عموم القراء عبر الصحافة والوسائط المرئية والمسموعة.).

ترك عناد مؤلفات وترجمات ستبقى مقروءة، بينها:

(1) الشعر والفكر المعاصر، 1974م.

(2) مكانة القصيدة العربية بين النقاد والرواة العرب 1967م.

(3) خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، مترجم بالاشتراك مع جعفر صادق الخليلي 1981.‏

(4) نقد الشعر في العراق بين التأثرية والمنهجية 1985.

(5) آفاق في الادب والنقد 1990

(6) أصداء 2000

(7) أسفار في النقد والترجمة 2006

(8) خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، مترجم بالاشتراك مع جعفر صادق الخليلي 1981.‏

جامعة صنعاء

كانت اجمل (صحبة) جمعتني بعناد يوم ذهبنا معا الى اليمن. كان ذلك عام 1998 تلبية لدعوة من جامعة صنعاء وبقينا فيها اربعة اشهر.التحقت انا بقسم علم النفس (دراسات عليا) والتحق هو بقسم اللغة العربية. وكنا ننام في مكان واحد هو دار الضيافة التابعة للجامعة.. ونتحدث في صنعاء براحتنا عن العراق بما نخشى قوله في بغداد، ونتحدث في ليالينا عن الأدب. ولما وجدت انه يميل الى الشعر اكثر من ميله الى النصوص النثرية والسردية، فاننا سهرنا ليلة مع المتنبي.. هو يحلله نقديا وانا احلله سيكولوجيا.. نشرت في حينها بجريدة الجمهورية اليمنية.

كانت لعناد لقاءات علمية مميزة بجامعة صنعاء، ابرزها انه القى محاضرة على اساتذة الجامعة وطلبتها ادهشت الحاضرين.. ليست فقط لبلاغتها ولكن لصوته الأذاعي المميز وطريقة القائه ايضا. ومن جميل اخلاقه انه حضر لي محاضرة بقسم علم النفس حضرها عميد واساتذة كلية التربية، فاشاد بي.. وجاءه الرد من عميد الكلية: دكتور عناد.. لو لم تكونا عالمين مميزين لما وجهت لكما الجامعة دعوة (استاذ زائر) وتشرفت باقامتكم لأشهر.

وكانت لي فيها ذكريات جميلة عن اساتذتها الأفاضل وطلبتها الملتزمين بالأخلاق العربية الأصيلة.. بينها ان طالبة كانت تأتيني الى مكتبي.. ولأنها محجبة فأنني كنت اسالها عن اسمها.. وفي احد الأيام جلست ومدت يدها على ورده حاكتها علي يمينها وقالت: دي عملتها على شانك حتى لا تسألني بعد عن اسمي.. وذكريات اخرى عن سهرة (للأستمتاع بالقات!).. الذي يسمى (شاي العرب) وهو نبات اخضر مخدر يتعاطاه اخوتنا اليمينيون في المناسبات والايام العادية، ولا يحاسب عليه القانون.

وتمر سنوات اخرى ويسقط النظام، وينتخب عناد رئيسا لاتحاد الادباء ودعاني لالقاء محاضرة كانت هي الاولى لي فيه،  وبقينا بكلية الآداب هو بقسم اللغة العربية وانا بقسم علم النفس نلتقي بين الحين والآخر، وما تزال بعض مشاهد اللقاء في الذاكرة، لاسيما تلك (المحلاّة) بالنكتة التي يجيدها.

يوم رفعنا تابوته

افجعني خبر موت عناد، فاسرعت لأصل بيته مبكرا في مدينة الشعب. كان مسجى في تابوته تعلو وجهه ابتسامة لا تفارقه استحضرت لحظتها نكاته يوم كنا معا استاذين زائرين بجامعة صنعاء.

كنا بداخل الغرفة ستة.. نرفع التابوت مكبرين ونعيده مهللين مغردين بدموع احبة مفجوعين.

وحين حانت لحظة التشييع واكتمل المشيعون، اتصلت بمستشار وزارة الثقافة الصديق الراحل كامل شياع، لأبلغه بضرورة الحضور ممثلا لوزارة الثقافة، وكان يومها الأمن مفقودا في بغداد وخطر جدا على شخصية مستدهفة مثله.

بعد اقل من ساعة وصل كامل ليشارك في موكب التشييع.. رغم انه ما كانت له صلة معرفة شخصية بالعالم الكبير عناد غزوان.. وودعنا عالما كبيرا اعطاه حقه الدكتور عقيل مهدي يوسف بمقالة له بجريدة الصباح حملت عنوان (الاستاذ الدكتور عناد غزوان انموذجا اكاديميا رصينا).

القادسية تكرّم عناد

في العام 2022 دعتني رئاسة جامعة القادسية لالقاء مجموعة محاضرات في عدد من كلياتها. دخلت الجامعة فرأيت نصبا كبيرا يتوسط حرمها مكتوبا تحته (الدكتور عناد غزوان 1934 - 2004).. قلت للسائق: توقف من فضلك.. نزلت.. سلمت عليه والدمعة تلوج بالعين، وشكرت رئيس الجامعة الدكتور كاظم جبر على تكريم عالم من طراز رفيع نشأ في مدينتها، وتمنيت على الجامعات العراقية ان تحتذي بهذا التقليد بما يليق بعلماء العراق.

لك الذكر الطيب ابا معتز وستبقى في الذاكرة مهما طال الزمن.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

توفي عن عمر يناهز 87 عامًا

كتب: ألن كويل

ترجمة: علي حمدان

***

توفي نجوجي وا ثيونغو، الروائي والكاتب المسرحي وصاحب المذكرات الرائعة الذي استكشفت كتاباته الظلم والغموض الذي أحدثه الاستعمار في وطنه كينيا بقدر ما استكشفت أخطاء النخبة في فترة ما بعد الاستعمار، والذي قاد حملة عاطفية لحث المؤلفين الأفارقة على تجنب لغات المحتلين الأجانب، يوم الأربعاء في بوفورد بولاية جورجيا. كان عمره 87 عامًا.

غالبًا ما كان يُرشَّح للفوز بجائزة نوبل، وقد أمضى السيد نغوجي (يُنطق غو-غي) سنواتٍ طويلة في المنفى هربًا من غضب الحكومة التي انتقدها. ولعقودٍ من الزمن، درَّس الأدب المقارن واللغة الإنجليزية كأستاذ في جامعة كاليفورنيا، إيرفين. وقد ألهمت أعماله أجيالًا متعاقبة من الكُتّاب الأفارقة، إلى جانب معاصريه من أمثال تشينوا أتشيبي وولي سوينكا، وكلاهما من نيجيريا.

حظيت أعماله الأدبية بإشادة حماسية، بدءًا بروايته الأولى "لا تبك يا بني" عام ١٩٦٤. تدور أحداث الرواية حول شقيقين كينيين تواجه عائلتهما تحديات ثورة الماو ماو ضد الحكم البريطاني. وقد وُصفت الرواية بأنها أول رواية بارزة باللغة الإنجليزية لمؤلف من شرق أفريقيا.

على النقيض من ذلك، تُعتبر رواية "الشيطان على الصليب"، المنشورة عام ١٩٨٠، والتي كُتبت بلغته الأم "كايتاني موثارابا-إيني"، أول رواية حديثة باللغة الجيكويو، التي يتحدث بها الكيكويو، أكبر جماعة عرقية في البلاد. تدور أحداث الرواية حول لصوص يتنافسون على السلطة بسرقة الناس، هذه الرواية قد دفعت السيد نغوجي إلى مسيرة مهنية في الكتابة بلغته الأم، ثم ترجمة أعماله إلى الإنجليزية.

كتب رواية "الشيطان على الصليب" على ورق تواليت السجن أثناء احتجازه لدى السلطات الكينية لمدة عام دون محاكمة بسبب مسرحية ألّفها. وفي مقالٍ له في مجلة نيويورك تايمز للكتب عام ٢٠١٨، وصف الكاتب أرييل دورفمان الكتاب بأنه "سردٌ للإغراءات الشيطانية التي واجهها والحيل التي استُخدمت لإحباط سجّانيه وهو يكتب ليلةً بعد ليلة في زنزانته". وأضاف السيد دورفمان أن الرواية "تُظهر إتقان نغوجي التام لحرفته".

تزامنت حياة السيد نغوجي وكتاباته مع بوادر التحرر في شرق أفريقيا الخاضعة للإدارة البريطانية. عاش في أوغندا، التي نالت استقلالها عام ١٩٦٢، وفي كينيا، قبل استقلالها عام ١٩٦٣ وبعده. كانت حياة حافلة بتفاصيل وتحولات حقبة تاريخية اتسمت بما وصفه رئيس الوزراء البريطاني، هارولد ماكميلان، عام ١٩٦٠ بـ"رياح التغيير".

بينما تلقى السيد نغوجي تعليمه في مدرسة التحالف الثانوية الكينية التي تديرها بريطانيا، وهي مؤسسة مرموقة صُممت لتكوين نخبة أفريقية على غرار المستعمرين، شارك أفراد آخرون من عائلته في انتفاضة الماو ماو ضد هؤلاء الغرباء أنفسهم. أصبح أحد الإخوة مناضلا من أجل الحرية ضد البريطانيين، بينما قُتل شقيق آخر رميًا بالرصاص.

عندما عاد السيد نغوجي إلى منزله من أليانس لأول مرة، وجد أن قريته قد دُمرت، وحُشر سكانها في ما يُسمى بقرية محمية أنشأتها السلطات البريطانية لتعزيز سيطرتها على رعاياها المستعمرين. كتب في مذكراته "في منزل المترجم" المنشورة عام ٢٠١٢: "يبدو سياج الأوراق الرمادية الذي زرعناه كما هو، لكن خلفه مسكننا عبارة عن أنقاض من الطين الجاف المحروق، وشظايا الخشب، والعشب. كوخ أمي ومنزل أخي المبني على ركائز خشبية قد سُوّيا بالأرض. منزلي، الذي انطلقت منه إلى أليانس قبل ثلاثة أشهر، لم يعد موجودًا".

لكن الاستعمار لم يكن سوى جانب واحد من مسار حياته، الذي اتسم في معظمه بالعنف. دفعته تجربة الاعتقال إلى البحث عن منفى عام ١٩٨٢، بدايةً في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة.

لكن عند عودته إلى كينيا عام ٢٠٠٤، وقع هو وعائلته ضحية هجومٍ مروع. اقتحم متسللون شقةً كانوا يقيمون فيها، وهاجموا السيد نغوجي واغتصبوا زوجته نجيري. يُرجَّح أن هذه الحادثة كانت بدافع الانتقام من قبل  أعدائه، لكنها عكست أيضًا الإجرام الذي ازدهر خلال استقلال كينيا الفاسد.

قال السيد نغوجي لصحيفة الغارديان عام ٢٠٠٦: "لم تكن عملية سرقة بسيطة، بل كانت سياسية، سواء من قِبَل فلول النظام القديم أو جزء من الدولة الجديدة خارج التيار الرئيسي. كانوا يتسكعون كما لو كانوا ينتظرون أمرًا ما، وكان الهدف من الأمر برمته إذلالنا، إن لم يكن القضاء علينا".

في الواقع، كان عمل السيد نغوجي متشابكًا بشدة مع سياسات تلك الحقبة، ولعب تفكيره حول التأثير البعيد المدى للإمبريالية على الحساسيات الأفريقية دورًا محوريًا في نقاش أوسع نطاقًا. في عام ١٩٨٦، نشر مجموعة مقالات بعنوان "تفكيك استعمار العقل"، والتي تتبعت ما وصفه بأنه نية استعمارية كارثية لإحلال لغة المحتل محل لغات السكان الأصليين، وذلك لترسيخ الاستعباد الفكري للمستعمَرين.

في عام ٢٠٢٣، تساءل كاري باراكا، الكاتب الكيني الذي أجرى مقابلة مع السيد نغوجي لصحيفة الغارديان، عما إذا كانت "الإنجليزية الكينية أو الإنجليزية النيجيرية" قد أصبحتا "لغتين محليتين". رفض السيد نغوجي هذه الفكرة.

أجاب: "يبدو الأمر وكأن المستعبدين يفرحون لأن لغتهم هي نسخة محلية من الاستعباد. الإنجليزية ليست لغة أفريقية، والفرنسية ليست كذلك، والإسبانية ليست كذلك. الإنجليزية الكينية أو النيجيرية هراء. هذا مثال على الشذوذ المُسَوَّغ. محاولة المستعمَر ادعاء لغة المستعمِر دليل على نجاح الاستعباد. إنه أمر مُحرج للغاية".

عندما سُئل عما إذا كان هناك ما يُسمى "مستعمرًا صالحًا"، نفى هذه الفكرة. وقال: "لا يهم إن كنت تحمل سلاحًا أو كتابًا مقدسًا، فأنت تظل مستعمرًا". وأضاف: "بالطبع، أُفضّل مواجهة المستعمر حاملًا الكتاب المقدس على مواجهة المستعمر حاملًا السلاح، ولكن في النهاية، كلا من حاملي الكتاب المقدس وحاملي السلاح يُناديان بالشيء نفسه".

وُلِد السيد نغوجي في 5 يناير/كانون الثاني 1938، في منطقة ليمورو، شمال نيروبي، العاصمة الكينية، التي كانت آنذاك تحت الحكم الاستعماري البريطاني. نشأ في عائلة ريفية كبيرة، وهو ابن لأب متعدد الزوجات، وثالث زوجاته الأربع، وانجيكو وا نغوجي، التي شجعته على السعي للحصول على تعليم جيد.

في سنواته الأولى، اهتزت كينيا بانتفاضة ضد الاستعمار، أطلقت عليها السلطات البريطانية اسم "ثورة الماو ماو". قال السيد نغوجي إن هذا الاسم مُضلِّلٌ، مُصمَّمٌ للتقليل من شأن أهداف التمرد في تأمين الأرض والحرية للشعب الكيني، وتشتيت الانتباه عنها. وأضاف أن الاسم الحقيقي للمتمردين هو "جيش الأرض والحرية".

مثل العديد من العائلات الكينية، كانت علاقته مع المتمردين الذين يقاتلون الحكم البريطاني غامضة.

كان الأخ الأكبر، غود والاس، مناضلاً من أجل الحرية. أما الأخ الآخر، كاباي، فقد انحاز إلى البريطانيين، وكان الثالث، تومبو، مخبراً للشرطة - وهو نشاط ألهم رواية "حبة قمح"، ثالث روايات السيد نغوجي. أما الأخ الآخر، جيتوغو، فقد قُتل برصاصة في ظهره على يد القوات البريطانية بعد أن رفض التوقف عندما أُمر بذلك لأنه كان أصمًا.

بعد دراسته في أليانس، التحق السيد نغوجي بجامعة ماكاريري في أوغندا المجاورة، والتي كانت آنذاك مركزًا ثقافيًا وفكريًا لأفريقيا الناشئة ذات الدول المستقلة. وفي ماكاريري، بدأ بروزه ككاتب. وقد سجل هذه الفترة من حياته في مذكرات بعنوان "ميلاد حائك الأحلام"، نُشرت عام ٢٠١٦.

وفي مقال لها في مجلة تايمز بوك ريفيو، قالت الكاتبة البريطانية ميشيلا رونج إن رواية "ميلاد ناسج الأحلام" أظهرت للسيد نجوجي كيف وجد "صوته الإبداعي كما وجدت القارة حريتها".

كتبت: "إن القناعات التي يُكوّنها ستدوم مدى الحياة: السعي وراء الكرامة الأفريقية وتحقيق الذات، ورفض الهيمنة الغربية، ودعوةٌ مُلهمة للأفارقة لسرد قصصهم بلغاتهم الأصلية". وقد شكّلت بعض هذه التصورات أساس أعماله، بما في ذلك عمله الشهير "بتلات الدم" (1977)، الذي ألقى ضوءًا ساطعًا على حقبة ما بعد الاستعمار.

ظل السيد نغوجي يحمل اسم معموديته الغربي، جيمس نغوجي، حتى بعد نشر كتابه "حبة قمح" عام ١٩٦٧. وبحلول عام ١٩٧٠، كان قد اتخذ اسم نغوجي وا تيونغو تعبيرًا عن تراثه وهويته الأفريقية، تماشيًا مع قراره الكتابة بلغته الأم فقط. ترجم معظم أعماله من لغة الجيكويو إلى الإنجليزية، محققًا بذلك انتشارًا واسعًا.

كان قراره بالكتابة بلغة الجيكويو حاسمًا في مسار إنتاجه اللاحق.في عام ١٩٧٧، شارك في تأليف مسرحية "نجاهيكا نديندا"، وهي دراما بلغة الجيكويو بعنوان "سأتزوج متى شئت" مع الكاتب نغوجي وا ميري. عُرضت المسرحية في مسرح شعبي مفتوح، وشارك فيها كينيون عاديون. وحققت المسرحية نجاحًا باهرًا لمدة ستة أسابيع، لكن السلطات قررت هدم المسرح وسجن المؤلف دون محاكمة.

كانت تلك بداية العام الذي ألّف فيه السيد نغوجي رواية "الشيطان على الصليب" على ورق التواليت. كما أثمر سجنه عن يوميات سجن، نُشرت عام ١٩٨٠ بعنوان "معتقل"، مما عزز مكانته ككاتب وناشط يسعى إلى تعزيز شعور أفريقيا بحريتها.

بعد إطلاق سراحه ورحلته إلى المنفى، كان السيد نغوجي زائرًا نادرًا لكينيا، حيث ازدهرت شهرته العالمية.

مع رواية "ساحر الغراب"، الصادرة باللغة الإنجليزية عام ٢٠٠٦، والتي تدور أحداثها في أرض أفريقية خيالية تُدعى أبوريريا، حلّقَ السيد نغوجي فوق القارة الأفريقية بأكملها، واستنشق الروائح الكريهة المتصاعدة في الهواء، كما قال جيف تورنتين في مراجعة لصحيفة التايمز. لكنه أضاف: "من ذلك الارتفاع، يمكنه أيضًا أن يرى بوادر أمل أكبر: حشود غفيرة تتجمع، تتشارك قصص النصر، وتُلقي التعاويذ".

***

........................

* نيويورك تايمز بتصرف

يعدّ جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي.. اشهر شاعرين على المستوى العراقي والعربي في زمانهما.. النصف الأول من القرن العشرين. والجميل انهما ولدا وتوفيا في زمنين متقاربين، فالزهاوي ولد وتوفى في (1863-1936) والرصافي ولد وتوفى في (1875- 1945). وعاشا عمرين متقاربين ايضا، الزهاوي (73) سنة، والرصافي (70) سنة!.. وكلاهما من اصول كردية. والاغرب ان الزهاوي لم يلد والرصافي لم يخلف ايضا!.

والرصافي والزهاوي.. فيلسوفان ايضا، وكلاهما شغل مسؤوليات سياسية وثقافية وصحفية وتربوية، وكلاهما يعدّان شاعران متمردان على المفاهيم العقائدية والفهم الخاطيء للدين في قضايا اجتماعية مثل تحرير المرأة.. فضلا عن تمردهما على الاحتلالين التركي والانجليزي.

ويمتاز الزهاوي بأنه كان له اكثر من مجلس يحفل بأهل العلم والأدب، أحدها في مقهى الشط، وآخر يقيمه عصر كل يوم في قهوة رشيد حميد في الباب الشرقي من بغداد، وثالث اتخذه بآخر أيامه في مقهى أمين بشارع الرشيد وعرفت هذه القهوة فيما بعد بمقهى الزهاوي.. يلتقي فيه كبار الشعراء والأدباء، كانت مجالسه لا تخلو من أدب ومساجلة ونكات ومداعبات شعرية.. ويذكر معاصروه بأن للزهاوي كانت كلمة الفصل عند كل مناقشة ومناظرة. وفيه والرصافي قال عنهما الشيخ إبراهيم أفندي الراوي:

(مقال صحيح إن في الشعر حكمة وما كل شعر في الحقيقة محكم

وأشعر أهل الأرض عندي بلا مرا جميل الزهاوي والرصافي المقدم)

والتساؤل:

ما دام كلاهما بهذه المواصفات الراقية.. فلماذا هما ضدان نقيضان؟!

الجواب.. سيكولوجي خالص!.. نحدده بثلاثة،

الأول: حسد.. وظيفي. فالرصافي يحسد الزهاوي لأنه اختير نائبا في مجلس المبعوثان العثماني، ونائبا في مجلس النواب ثم عين في مجلس الأعيان.

والثاني: التنافس الشعري. تتحكم بالشعراء الكبار سيكولوجيا الصراع في التنافس على القمّة في الموهبة الشعرية. فالزهاوي وجد في الرصافي منافسا يمتلك موهبة في الشعر يراها أبلغ من موهبته. دليل ذلك أن رفائيل بطي يذكر في كتابه (ذاكره عراقية) موقفا طريفا (مضحكا) ان الزهاوي اشترط لتنظيم قصيدة يتلوها في حفلة التكريم لعبد العزيز الثعالبي ان لا ينشد الرصافي شيئا في الحفلة.

والثالث: تضاد في تركيبة الشخصية.. فالرصافي يوصف بانه شجاع في معارضته للسلطة وأنه كريم، فيما يوصف الزهاوي بانه جبان في موقفه من الحكومة.ومع ذلك، فانه كان وطنيا، فحين قامت السلطة بالقاء الأحرار في السجون ومن ثم تنفيذ أحكام الإعدام بهم.. نظم قصيدة في تحيّة الشهداء مطلعها:

(على كل عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل).

الغيرة عند الشعراء.. غلاّبه!

مع ان الغيرة تحمل مشاعر الكراهية الناجمة عن حسد شخص آخر ينافسه في مال، مركز وظيفي، موهبة.. فان شاعرنا الزهاوي انشد في الحفل الكبير للترحيب بالرصافي لمناسبة عودته الى بغداد بعد نفيه بسبب هجومه على النجليز والحكومة في قصيدة طويلة قال فيها:

لقد عاد معروف أخي بعد غيبة

فأهلاً برب الفضل والأدب الوفر

كلانا يريد الحق فيما يقوله

وإني وإياه إلى غاية نجري

فخذ بيدي اللهمّ في كل دعوة

وهذا أخي معروف اشدد به أزري.

فهو بدأها بأن وصف معروف بـ(اخي).. وساوى بينه ومعروف بأن كليهما يجريان لغاية واحدة، الا انه جعل من نفسه هو (القائد) لتحقيق تلك الغاية ومعروف سنده!، ما يعني ان الغيرة غلاّبه عند الشعراء مهما كانوا عظماء. ورغم ان بيته الأخير أثار اعصاب المحتفى، لكن الرصافي صبر وأظهر حلمه.

تضّخم الأنا مقابل حب الأنا

لدينا مصطلحان سيكولوجيا يخصان (أنا) الشخص هما تضخم الأنا و حب الأنا نوجز صفاتهما بالاتي:

يعني " تضخّم الأنا " حالة عصابية " مرضيه " تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي: النرجسية والتسلطية والاحتوائية. فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب، ز ان يكون المميز الأبرز بعيون جماعته، والتظاهر بامتلاكه قدرات فريدة لا يمتلكها منافسوه.

ويأخذ من الشخصية التسلطية، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء، وتصرفها بالتعالي والعجرفة نحو من هم أقل منه منزلة. وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم.

ولقد تبين ان معظم هذه الصفات تنطبق على شخصية الشاعر الزهاوي، فهو باعتراف من عاصروه (يعتبر نفسه ملكا يجلس على عرش الشعر والثقافة). وعنه يقول الدكتور ناصر الحاني " ان الزهاوي كان واسع الخيال وشديد الحساسية كما كان شديد الاعتداد بنفسه وكثير الاعجاب بشعره ولذلك كان ينفعل من الانتقاد ويعتبره بمثابة الاضطهاد وكان يعتقد انه ضائع ومضطهد في بلاده حتى انه كان يتوهم احيانا ان حياته معرضة للخطر."

اما الرصافي فهو يمتاز بـ(حب الأنا).. ويعني سيكولوجيا ذلك الذي يعتز بقدراته ومواهبه ويعمل على تطويرها وتنميتها دون التعالي على الآخرين او التقليل من قيمهم الأعتبارية ، وهذا ما اتصف به الرصافي.

الطيبة.. غلاّبة!

تقدم لنا حكاية اشهر شاعرين نقيضين ضدين ان طيبة القلوب تهزم الحسد والتنافس. فحين توفي الزهاوي (23 شباط 1936) كان الرصافي في طليعة المشيعين وبكى بشدة، وارتجل قائلا:

أيها الفيلسوف قد عشت مضنى

مثل ميت وصرت بالموت حيا

فيما كانت نهاية حياة الرصافي في حال آخر، اذ يذكر الدكتور يوسف عز الدين "ان الرصافي لم ينل ما كان يطمح اليه في وظيفة تعادل مكانته الادبية الكبيرة واحس بالظلم الكبير في الحياة والعمل والاهمال في المكانة الاجتماعية فاضطربت حياته واهتزت اماله وقاسى نفسيا واضطرب روحيا".والمؤسف ان نهاية حياته كانت مؤلمة جدا، فقد مات فقيرا معدما، فبرغم انه كان عضوا في البرلمان العراقي فانه عمل في نهاية حياته في محل لبيع التبغ في بغداد وتوفىَ بدارهِ في محلة السفينة في الأعظمية في (16 آذار 1945) وشيع بموكب مهيب سار فيهِ الأدباء والأعيان ورجال الصحافة ودفن في مقبرة الخيزران.. يذكرنا بما قاله الزهاوي:

(انهم لا يرون من قومهم برّا ولا تقديرا وهم احياء

واذا ما لقوا الردى فعليهم يكثر الحزن والبكاء

تلك اخلاقهم وقد ورثتها سننا من ابائنا الابناء)

وهذا ما هو حاصل الآن.. ليس فقط لكبار الأدباء والشعراء، بل ولكبار المفكرين والعلماء ايضا!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

بعد قرن من إصدار رواية "مدام دالاوي"

مسوَّدة رواية "مدام دالاوي": كيف بدأت فرجينيا وولف تحفتها الأدبية

"يجب أن يكون هناك شيء من المتعة–"

بقلم: مارك هَاسي

ترجمة: د. محمد غنيم

***

كانت فرجينيا وولف كاتبة فوضوية. فمسوداتها التي لا تزال باقية كثيرًا ما تحمل بقع رماد السجائر أو آثار أقدام كلب. أما الطاولات الخشبية الكبيرة التي كانت تفضل استخدامها في غرف الكتابة، فكانت مغطاة بالمخطوطات، وزجاجات الحبر، ومنفضات السجائر المملوءة، والدفاتر التي كانت تصنعها بنفسها، حيث كانت ترسم هامشًا على كل صفحة بقلم أزرق سميك. لكنها لم تكن تكتب على الطاولة، بل كانت تجلس كل صباح على كرسي واطئ، وتضع على ركبتيها لوحًا ثبتت عليه حامل حبر، لتسند عليه الدفتر الذي تكتب فيه مسوداتها. وكانت تتابع سير عملها بتأريخ ما كتبته كل يوم، وأحيانًا تُحصي عدد الكلمات التي كتبتها، وتُسجّل المكان الذي كانت فيه حين كتبت مقطعًا معينًا.

وفي فترة بعد الظهر، كانت تقوم بطباعة ما كتبته يدويًا في الصباح، ثم تراجعه يدويًا، قبل أن تعيد طباعته حتى تصبح الصفحات جاهزة لإرسالها إلى كاتبة طابعة محترفة ومنها إلى المطبعة. وكانت تواصل التنقيح حتى في مرحلة بروفات الطباعة – وهو امتياز أتاحه لها كونها ناشرة نفسها.

كانت فرجينيا وولف كاتبة فوضوية

كانت حياة ليونارد وفرجينيا وولف تسير وفق إيقاع تحدده أعمالهما وتنقلاتهما بين منازلهما في لندن ومنزلهما الريفي. كُتبت رواية مدام دالاوي في ثلاثة أماكن: منزل "مونكز هاوس" في قرية رودميل بمقاطعة سَسِكس، و"هوغارث هاوس" في شارع بارادايس في ريتشموند، و52 ميدان تافيستوك في منطقة بلومزبري. قبل سنوات من أن تستقر هي أو أختها في منازلهما الريفية في سَسِكس، كانت فرجينيا تتخيل لڤانيسا ملاذًا ريفيًا فيه "كوخ صغير بين الأشجار عند أسفل الحديقة". في ذلك الكوخ المتخيَّل، كانت فرجينيا تأمل أن يكون لها غرفة فيها طاولة وكتب ومرآة و"خزانة عجيبة مليئة بالأدراج الصغيرة" يفتّش فيها أطفال أختها عن الأسرار.

لم تمتلك وولف غرفة في بيت أختها قط، لكن في صيف عام 1921 كانت في غاية السعادة حين كتبت أن ليونارد وهي يقومان بتحويل سقيفة أدوات في "مونكز هاوس" إلى غرفة في الحديقة. كانت ستُزوّد بنافذة كبيرة تطل على المروج الممتدة في "ساوث داونز" وصولًا إلى جبل كابورن. وفي تلك الغرفة بالحديقة، في أغسطس 1922، كتبت وولف في يومياتها بعض الخطط للعمل الذي كانت تأمل إنجازه في ذلك الصيف قبل العودة إلى ريتشموند في الخريف. وفي الخامس من أكتوبر، عادت هي وليونارد إلى لندن بالقطار من بلدة لويس، وفي اليوم التالي فتحت صفحة جديدة في أحد الدفاتر التي كانت قد صاغت فيها روايتها الثالثة غرفة يعقوب، لتدوّن بعض الأفكار عن "كتاب ربما يُسمّى في البيت أو الحفلة".

كانت غرفة يعقوب على وشك أن تُنشر، لكن ذهن وولف كان مليئًا بأفكار لروايتها التالية. كانت تنوي أن تكون كتابًا قصيرًا ينتهي بحفلة. أما الفصل الأول، فسيستند إلى قصة انتهت لتوّها من كتابتها بعنوان "مدام دالاوي في شارع بوند". وكانت ترى أنه يمكن أن تليها قصة أخرى كانت تعمل عليها، بعنوان "رئيس الوزراء".

ولكن، إن كان كتّاب الحداثة قد علمونا شيئًا، فهو أن تجربتنا للزمن نادرًا ما تكون خطية؛ فأسفل كل لحظة حاضرة، تجري تيارات الذاكرة بعمق. وولف نفسها كتبت أن الحياة "ليست سلسلة من مصابيح الغاز مرتبة ترتيبًا متماثلًا"، بل أقرب إلى "هالة مضيئة... تحيط بنا من لحظة الوعي الأولى إلى آخره". لذا، على الرغم من أن هذا المخطط في دفترها يمثل بداية تخطيطها لروايتها المقبلة، وتجميعًا للأفكار التي ظلت تتخمر في ذهنها لبعض الوقت، فإن من غير الدقيق اعتبار ذلك بداية رواية مدام دالاوي.

يمكننا تحديد العديد من المصادر التي ساهمت في تشكيل العالم الذي خلقته وولف في روايتها الرابعة، لكن لا يمكن الإشارة إلى إلهام أصلي محدد. فالشخصيات التي تسكن لندن في يوم من أيام يونيو عام 1923 – اليوم الذي تقيم فيه كلاريسا دالاوي حفلة وينهي فيه سيبتيموس وارن سميث حياته – خرجت من خيال الكاتبة، مُتشبعة بذكرياتها عن نشأتها في كنسينجتون، وعن تجربة الحرب العالمية الأولى، وعن انكساراتها النفسية، بل وحتى، كما تقول كلاريسا في الرواية، عن "أناس لم تتحدث إليهم قط، امرأة في الشارع، رجل خلف منضدة – بل وحتى الأشجار أو الحظائر."

في الوقت الذي بدأت فيه رواية مدام دالاوي تتبلور، لم يكن قد مضى سوى وقت قصير على بدء فرجينيا وولف في الشعور بالثقة ككاتبة، رغم أنها كانت تمارس الكتابة منذ عقدين. فعندما قرأ ليونارد المسوّدة المطبوعة لرواية غرفة يعقوب في أحد أيام صيف عام 1922، قال لها إنها "عمل عبقري." وكتبت هي في يومياتها أنها أخيرًا اكتشفت "كيف أبدأ (في سن الأربعين) قول شيء بصوتي الخاص."

وبعد غرفة يعقوب، شعرت فرجينا وولف أنها قادرة على الاستمرار في الكتابة دون الحاجة إلى الإطراء. كانت متحمّسة لتحدي تحويل القصص القصيرة التجريبية التي بدأت تكتبها منذ عام 1917 إلى شكل روائي أطول، وقد بيّنت لها غرفة يعقوب كيف يمكنها القيام بذلك.

وكتبت هي في يومياتها أنها أخيرًا اكتشفت " كيف أبدأ (في سن الأربعين) قول شيء بصوتي الخاص."

عندما فكرت فى كتابة غرفة يعقوب عام 1920، كانت وولف قد نشرت بالفعل روايتين تُعدّان تقليديتين إلى حدّ ما (رغم أن الحبكة الظاهرية حول الزواج في روايتها الأولى الخروج في رحلة تخرج عن مسارها بسبب الوفاة المبكرة لبطلتها)، بالإضافة إلى عشرات المقالات والمراجعات، وكانت أيضًا الشريكة المؤسسة لمطبعة "هوجارث برس". أطلقت فرجينيا وليونارد المطبعة بمنشور صغير يحتوي على قصة لكل منهما: "العلامة على الجدار" لفرجينيا، و"ثلاثة يهود" لليونارد.

وبينما كانت تبدأ في التفكير بالعمل الذي سيصبح لاحقًا غرفة يعقوب، كانت وولف تعيد قراءة روايتيها الأولى والثانية، إذ كان ناشر أمريكي قد وافق للتو على إصدار الروايتين في الولايات المتحدة (وكانتا قد نُشرتا في بريطانيا من قبل دار "داكوورث"، وهي الدار التي أسسها أخوها غير الشقيق جيرالد). وطلبت من أصدقائها أن ينبهوها إلى أية أخطاء مطبعية قبل أن تُرسل الكتابين إلى أمريكا. وقد أسعدها تعليق ليتون ستراشي حين قال، بعد إعادة قراءته الخروج في رحلة، إنه وجدها "رائعة للغاية"، وأعجبه على وجه الخصوص "سُخريتك من آل دالاوي".

تظهر كلاريسا دالاوي، أشهر شخصيات وولف، بشكل عابر لكنه لافت للنظر في رواية الخروج في رحلة، حيث تبدو شخصية ساحرة ترافق زوجها السياسي ريتشارد على متن سفينة تجارية متجهة إلى أمريكا الجنوبية. كشفت وولف لشقيقتها فانيسا بيل أن كلاريسا مستوحاة من صديقة لهما في الصبا تُدعى كيتي ماكسي (المعروفة قبل الزواج باسم لوشينجتون).وقد ذكرت وولف في مذكّراتها كيف أن مائدة الشاي في بيت والديها الشاهق في 22 شارع هايد بارك جيت كانت "مُفعمة بسيل آسر من الجمال الأنثوي"، وكانت كيتي لوشينجتون بلا شك "النموذج الأكمل للظرافة والرقة والسحر والتميز".

كانت كيتي من بين الذين رفضوا انتقال الأخوين ستيفن الصغيرين إلى بلومزبري عام ١٩٠٤ بعد وفاة والدهم، الأديب البارز في أواخر العصر الفيكتوري، السير ليزلي ستيفن.  وعبر الأحاديث المتناقلة، سمعت وولف أن كيتي لم تُعجب بروايتها الثانية "ليل ونهار" — وهو أمر رأى فيه ليونارد بسخرية مديحًا لا بأس به.

جاء نص صفحة الدفتر كما يلي:

6 أكتوبر 1922. أفكار حول بدء كتاب قد يُدعى، ربما، في البيت أو الحفلة:

سيكون هذا كتابًا قصيرًا يتألف من ستة أو سبعة فصول، كل فصل مكتمل بذاته، ومع ذلك لا بد من وجود نوع من الاندماج. ويجب أن تتقاطع جميعها عند الحفلة في النهاية.

فكرتي هي أن أضم بعض الشخصيات البارزة جدًا [ ] مثل مدام دالاوي: ثم أن أُدرج فواصل من التأمل، أو التفكير، أو استطرادات قصيرة (يجب أن تكون مترابطة منطقيًا مع البقية) كلها مضغوطة، ولكن دون فجاجة أو انقطاع مفاجئ.

قد تكون الفصول على النحو التالي..

1.  مدام دالاوي في شارع بوند.

2.  رئيس الوزراء.

3.  الأجداد.

4.  حوار.

5.  العجائز.

6.  منزل ريفي؟

7.  زهور مقطوفة.

8.  الحفلة.

فصل واحد على الأقل، يُفترض إنجازه في غضون شهر تقريبًا: لكن هذه الخطة ينبغي أن تتيح صفحات قصيرة جدًا: فواصل، لا فصول كاملة. يجب أن يكون هناك شيء من المتعة –"

***

..........................

* كتاب" مدام دالاوي: سيرة رواية " من تأليف مارك هَاسي سيصدر عن منشورات جامعة مانشستر في 8 يوليو  2025

الكاتب: مارك هاسي/Mark hussey: مارك هاسي أستاذ فخري متميز للغة الإنجليزية في جامعة بيس بنيويورك. وهو المحرر المؤسس لمجلة وولف للدراسات السنوية، والمحرر العام لطبعة هاركورت المشروحة لأعمال فرجينيا وولف، التي حرر فيها كتاب "إلى الفنار". من بين منشوراته الأخيرة: كليف بيل ونشأة الحداثة (2022) وثقافات الطباعة في الحداثة (بالتعاون مع فاي هاميل، 2016).

رابط المقال:

https://lithub.com/drafting-mrs-dalloway-how-virginia-woolf-started-her-masterpiece?utm_source=Klaviyo&utm_medium=campaign&utm_id=01JVDGF55ZHQQQE28NEK6V8VQR&_kx=_eGnyKxvjY2rMrVvfreS1xdg_SmcF30VCoAeDX7bLW_r_9jh1wKtlgq1-Wn30M41.U5D8ER

عن 87 عاما رحل، أمس الأربعاء، الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، صاحب الملحمة الروائية تويجات الدم التي ترجمها الى العربية سعدي يوسف، وكان من المتوقع أن يفوز نغوجي بجائزة نوبل في الأدب، لكن الجائزة في كل عام تترك معجبيه يشعرون بالأسى والاستغراب وهم يشاهدون الجائزة الكبرى تفلت من بين أصابعه. في واحدة من السنوات توقع الجميع ان يحصل نغوجي على الجائزة، لم يكن هناك منافساً له، وقد انتظرت مجموعة من الصحفيين أمام منزله. وعندما لم يفز، خرج الى الصجفيين ليواسيهم ويفدم له الشاي والكعك.

في السنوات الاخيرة من حياته خيم الموت على نغوجي وا ثيونغو، تم تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا، والذي نجا منه، على الرغم من توقعات الاطباء التي أعطته ثلاثة أشهر للعيش. قال انه أضاف السرطان إلى القائمة الطويلة من الصراعات التي تغلب عليها.في عام 2019، خضع لعملية جراحية في القلب، و في نفس العامبدأ يعاني من الفشل الكلوي الذي اودى بحياة احد اخوته. قال ان القصة القصيرة تستهويه جدا، فاول اعمالة الادبية مجموعة قصصية بعنوان "دقائق المجد"، التي اعتبرها النقاد نوع من "السيرة الذاتية الأدبية".

عندما كان نغوجي طالبًا جامعيًا في أوغندا في أوائل الستينيات، كان من كبار المعجبين بالكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي صاحب الرواية الشهيرة " الاشياء تتداعى ": " في أحد الأيام التقىت أتشيبي كنت شديد الفرح لدرجة أنني لم اكن اعرف ماذا افعل.يضيف نجوجي: "قلت له لقد كتبت قصة قصيرة - هل ترغب في النظر إليها؟" قال: "نعم! هل لديك؟" وبالطبع لم يكن معي الأمر، لمجرد أنني لم أكتب كتابًا، وفي تلك الليلة عدت إلى البيت، واضطررت لتلفيق ما يسمى بالقصة ".، بعد سنوات سيرسل تشينوا أتشيبي مخطوطة رواية نغوجي الأولى " لا تبكِ ايها الطفل " – ترجمتها الى العربية امينة الحسن – الى ناشره الانكليزي لتصدر عام 1964 ونحظى باشادة النقاد، وستصفه صحيفة التايمز البريطانية بانه "واحد من كُتّاب أفريقيا المعاصرين".

تاخذتا اعمال نجوجي وا ثيونغو القصصية والروائية لنتعرف على الواقع القاسي لحياة القرية من خلال التغييرات التي جاءت مع نهاية الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا، كان يأمل ان يتحول الاستقلال الى حياة جديدة: "لقد أصبح مجيء الاستقلال وعدًا بحياة أفضل من أجل الجميع، ليس فقط عدد قليل من الناس، ولكن بالنسبة للجميع، لكن بعد الاستقلال، بدأت أرى أن هناك نوعًا من الاختلاف بين التوقع والواقع. وحاولت أن أوضح ذلك في قصصي القصيرة".

في معظم اعماله الروائية والقصصية يطرح نغوجي موضوعة الاتصال بالأرض التي نجدها في معظم اعماله كانت روايات نجوجي التي كتبها في البداية بالانكليزية غالباً ما تنتقد الاوضاع في كينيا ما بعد الاستعمار وحكامها. لكنه يقول إنه ما ان كتب بلغته الأم حتى تم تهديده واعتقاله: " المسرحية الأولى التي كتبتها بلغتي الأم، وضعت بسببها في سجن شديد الحراسة، ليس من قبل حكومة استعمارية، بل من قبل حكومة أفريقية تدعي انها وطنية ".، أثناء وجوده في السجن، كتب نغوجي روايته الأولى بلغته المحلية، وقد كتب الرواية على ورق التواليت حيث كان ممنوع عليه ادخال الورق والاقلام الى السجن: " ورق التواليت الذي كنت استخدمه في الكتابة لم يكن من النوع اللطيف الذي نشاهده في التلفزيون، لذلك كانت الكتابة عليه صعبة للغاية "، بعد خروجه من السجن، ذهب نغوجي إلى المنفى، حيث عاش أولاً في إنكلترا ثم في الولايات المتحدة حتى رحيله، رفض ان يمنح الجنسية الامريكية قال للصحفيين ذات يوم: " لا أريد أن أفقد جنسيتي الكينية. أحب أمريكا، ويعجبني تمثيل جميع الطوائف والأديان تقريبًا في العالم هنا بشكل أو بآخر. أُعجب بانفتاحها، وبتوازناتها. لكنني لا أحب الإمبريالية الأمريكية ودورها في العالم. أجد معاملة الأمريكيين من أصل أفريقي هنا، والسود عمومًا، مُقلقة للغاية ".

رغم أنه لم يعيش في كينيا منذ مدة طويلة، إلا أنه ما زال يكتب عنها، يقول إن العيش في المنفى نوع مختلف من السجن: " السجن مثل المنفى الداخلي والنفي مثل السجن الخارجي، وكلاهما يمثلان نفس التحديات. كيف تتواصل مع الأشخاص الذين انفصلت عنهم؟ في السجن كتبت رواية وفي المنفى أحاول أن أفعل نفس الشيء، لمحاولة الاتصال بكينيا، من خلال مخيلتي، من خلال كتابتي ".

أما بالنسبة لجائزة نوبل التي يسميها المراوغة، فإن نغوجي يجدها أكثر تسلية من أي شيء آخر. إنه مهتم أكثر بما يسميه "نوبل القلب": "عندما أذهب إلى مكان، وألتقي بشخص ما، ويخبرني أن روايتك أو قصتك القصيرة أثرت في حياتي، هذه لحظة خاصة للغاية عندما أشعر انني كاتب مؤثر في الناس فاقول لنفسي، كان الأمر يستحق ذلك، هذا ما أسميه نوبل القلب، وأنا أقدر ذلك حقًا، " ويضيف: " اهمية نوبل القلب هو أن كل كاتب يمكن أن يحصل عليها، نعم؟"

وُلد نعوجي في عام 1938، وهو ابن مزارع مستأجر في كينيا التي كانت تحتلها بريطانيا، اطلق نداءه المهم الذي قال فيه إن على الأفارقة أن يكتبوا بلغاتهم الأم كجزء من حملة التحرر من القيود العقلية للاستعمار.كان قرار نجوجي بالابتعاد عن اللغة الإنكيزية قرارًا شجاعًا بالنسبة لكاتب ينحدر من إفريقيا، وهي قارة غالباً ما كانت تعتبر غير مهمة بالنسبة للعالم ولغاتها غير مفهومة. كان من الممكن أن يؤدي قراره هذا إلى اختفائه من المسرح الادبي العالمي، ولكنه بدلاً من ذلك عزز سمعته ككاتب من الطراز الاول: "نحن ملتزمون بشدة بقوميتنا المناهضة للاستعمار، وهذا أمر مهم بالنسبة لنا، ولكن الجيل الأصغر سناً تجده لا يحصر شخصياته بالضرورة في إفريقيا. إنهم سعداء جدًا بإحضار شخصيات من أعراق أخرى، وهكذا... هذا أمر جيد لأنهم يكبرون في عالم متعدد الثقافات. "

كتب نغوجي ثلاثة مجلدات من المذكرات، عائدًا إلى الفترات التي غطاها في رواياته. الأولى، "أحلام في زمن الحرب" – ترجمتها الى العربية الروائية لطفية الدليمي ونشرت متسلسلة في صحيفة المدى - تبدأ بأجداده خلال مؤتمر برلين في عام 1885 عندما قسمت البلدان الأوروبية إفريقيا بينها، ثم تحكي عن طفولته كمزارع بلا أرض. أما الجزء الثاني،  فيتحدث فيه عن سنواته في مدرسة داخلية تديرها بريطانيا بالقرب من نيروبي وكيف تم هدم منزل عائلته وسجن شقيقه في معسكر اعتقال بريطاني. يروي المجلد الثالث، "ولادة حلم"، السنوات الأربع التي قضاها في جامعة ماكيريري في أوغندا عندما اقتربت كينيا من الاستقلال وبدأ نجوجي في كتابة أعماله الأولى في الأدب.

يؤمن نغوجي ان " الكائنات البشرية تعارض الاعتراف باي مخطط في الوجود، وهو يرى ان الحوادث في حياته جاءت ضمن تسلسل مترابط، وهي التي حتمت عليه ان يقبل تحمل المسؤولية تجاه شعبه، وان لا يخاف من هذه المسؤولية ويؤكد " ان الاشياء التي حدثت في الماضي يجب ان تبقى في الماضي، فالمهم هو المستقبل "، ولكن نغوجي لايريدنا ان نهرب من الماضي بهذه السهولة، بل ان نعيش بدلا عن الضياع والفشل الذي يريد الماضي من خلاله ان يحول الحاضر الى سراب.

يرحل من بين جميع الكتاب بعد ان خذلته جائزة نوبل جائزة نوبل، إلا ان صوته سيقى الأكثر وضوحاً مثلما كتب هو نفسه عام 2005: "الكلمات المكتوبة يمكن أن تُغني أيضًا".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

(يكاد يكون غائب طعمة فرمان الكاتب العراقي الوحيد الذي يركّب أشخاصه وأحداثه ورواياته تركيباً حقيقياً)... جبرا إبراهيم جبرا

مدخل: إذا كانت الرواية الروسية قد خرجت من معطف غوغول، فإن الرواية العراقية الحديثة خرجت من إحدى حارات بغداد ومحلاتها القديمة. ويمكن اعتبار رواية "النخلة والجيران" لغائب طعمة فرمان في العام 1966، الإعلان الأبرز عن ذلك، وقد كان لفرقة المسرح الفني الحديث دوراً كبيراً في انتشار الرواية، خصوصاً بعد إخراجها كمسرحية، الأمر الذي وسّع من نطاق الجمهور الذي تأثّر بها، لاسيّما بالعدد الكبير الذي شارك فيها من كبار الممثلين، إضافة إلى مخرجها الفنان المبدع قاسم محمد.

وقد عكست رواية "النخلة والجيران" الحياة البغدادية بكل تفاصيلها وتناقضاتها، قاعها وسقفها خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث أطلّ غائب طعمة فرمان من خلالها على هموم الناس ومعاناتهم والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى هواجسهم ومخاوفهم. وحسب زهير شليبه في كتابه عن غائب طعمة فرمان الصادر في العام 1996 وهو دراسة أكاديمية لنيل الدكتوراه، فإن النخلة والجيران هي "أول رواية عراقية فنية تتوافر فيها مقوّمات النوع الروائي بمواصفاته الأوروبية الحديثة".

ثلاث روافد

نهل غائب طعمة فرمان من ثلاثة منابع أساسية، حسب ما تحدث به عن تجربته، ويمكن استخلاصها مما يأتي؛

الأول - التراث العربي وخصوصاً الشعر، وهو ديوان العرب كما يُقال، فقد قرأ عيون الشعر القديم والحديث وحاول أن يصبح شاعراً، لكن القصة والرواية استهوته، فترك ذلك، وكان قد تأثّر بكتب النثر الشهيرة منها: أدب الكاتب والكامل والبيان والتبيين وكتاب النوادر؛

الثاني - الأدب المعاصر والحديث من خلال الترجمات التي كانت تصل إلى العراق خلال فترة الحرب العالمية الثانية، سواء من مصر أو سوريا أو لبنان، وقد قرأ الكثير من الأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي؛

الثالث - الثقافة والحياة المصرية، حيث كان قد ذهب إلى مصر بعد إصابته بالتدرّن الرئوي لغرض العلاج، ولإكمال دراسته في كلية الآداب، وقد أتاح له ذلك، وهو في بدايات تكوّنه وتبلور شخصيته الإبداعية، الاحتكاك واللّقاء المباشر بجو القاهرة الثقافي المزدهر آنذاك، إضافة إلى تردّده على مجالس الأدباء المصريين الكبار مثل: سلامة موسى ونجيب محفوظ وطه حسين وغيرهم.

وإذا كانت تلك المنابع تشكّل المصادر الأولى لثقافته، فإن عمله في الصحافة الأدبية في منتصف الخمسينيات وعيشه في سوريا ولبنان والقاهرة وبكين وموسكو، واختلاطه بحياة أمم وشعوب صديقة وشقيقة، أكسبه أفقاً واسعاً وشذّب من جملته وأضفى عليها جمالية خاصة، وقد امتاز أسلوبه بالواقعية النقدية.

وإذا كانت بغداد بأزقتها ونسائها وحاناتها وجوامعها وكنائسها وتجاذباتها السياسية والفكرية حاضرة في "النخلة والجيران" وفي رواياته الأخرى منذ مجموعته القصصية الأولى "حصاد الرحى" المنشورة في العام 1954، فإن رواية "المركب" وهي آخر رواية له، وصدرت في العام 1989، شكّلت خروجاً على هذا المألوف، حين تناولت "المنفى والحنين إلى الوطن"، لكنه استلهم ذلك بسرديته الذاتية، ومن استعادة مخزونه الكبير الذي يتمثّل في بغداد وحياتها وديناميكيتها، وتناقضاتها. وقد ظلّت بغداد القديمة المكان الأثير الذي ينهل منه حتى آخر قطرة من حياته، لاسيّما وقد عاش في الغربة نحو ثلاثة عقود من الزمان.

حاول في رواية "المرتجى والمؤجل"، التي تناولت شؤون الاغتراب، الابتعاد قليلاً، لكن جذوره الأصلية ظلّت لصيقة بالمكان والزمان الذي عاش فيه، فغائب طعمه فرمان مثل نخلة عراقية باسقة ضربت جذورها عميقاً في الأرض العراقية، وهي لا تستطيع العيش في غير تربتها، فتراه دائم العودة والحضور لبغداده التي يستعيدها كسرديات لرواياته التي ظلّت تسبح في دجلة وتحلّق في سماء بغداد.

الأدب الروسي

كان لاطلاع فرمان على الأدب العالمي وفيما بعد على الثقافة والأدب الروسي وامتلاكه ناصية اللغة الأجنبية للترجمة إلى العربية، أثر كبير في تقنياته الجديدة، ولاسيّما في روايته "خمسة أصوات" التي صدرت في العام 1967، ناهيك عن تأثّره بالأسلوبية الحديثة، سواء من خلال قراءته وترجماته لدستوفسكي أو غوركي أو ليف تولستوي أو تورغنيف أو غوغول أو بوشكين أو شولوخوف أو ألكسي تولستوي أو أتماتوف أو غيرهم.

وقد ترجم فرمان نحو 50 كتاباً من روائع الأدب الروسي حسب الناقد د. علي إبراهيم في أطروحته المعنونة، "الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان"، المنشورة في العام 2002، لكن عبدالله حبه في كلمته بمناسبة الذكرى الـ 20 لرحيله يقول: إن عدد مؤلفاته المترجمة يتجاوز 84 كتاباً.

لعلّ هذا الاتّساع والاطلاع هو ما أضفى على مخيلته السردية تنوّعاً وأفقاً وظّفه على نحو مثير، بعودته لأصوله الأولى وموطن الصبا والحارة البغدادية الأربعينية والخمسينية، ليستخرج لنا هذه الروائع البغدادية ذات الأجواء العبقة، وحسب الروائي عبد الرحمن منيف، فإن من يريد أن يبحث في تاريخ العراق في تلك الفترة فعليه قراءة روايات فرمان. وكان مكسيم غوركي هو من قال: التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنانون هم الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان.

وإذا كانت رواية "جلال خالد" لمحمود أحمد السيد تُعتبر الرواية الأولى (1928) وأعقبها روايات لعبد الملك نوري وذو نون أيوب وجعفر الخليلي وغيرهم، فإن رواية النخلة والجيران استكملت بنائها الفني وحبكتها الدرامية ولغتها السردية، بحيث يمكن اعتبارها الرواية التأسيسية الحقيقية للرواية العراقية الحديثة.

وعلى هذا الرأي ربما يتفق الكثير من النقاد ومتذوقي أدب فرمان من المثقّفين، خصوصاً وأن بغداد وحاراتها القديمة ومناطقها الفقيرة شكّلت الدلالة الرمزية المعبّرة، ببعدها الاجتماعي، والسسيوثقافي، من خلال سرديته النقدية، تلك التي استخدمها ذاتياً من خلال رواية "خمسة أصوات" و"المخاض" و"ظلال تحت النافذة"، وذلك بتقديم مشاهد سريعة وتركيزه أحياناً على شخصيات معينة، ثم تغيب ويعود إليها، ولا فرق لديه في الشخصيات الرئيسية أو الثانوية، حيث تتم عملية السرد ذاتياً أو من خلال الراوي.

عاش غائب طعمة فرمان في موسكو نحو 30 عاماً، وتزوّج فيها وأنجب ولداً أسماه سمير، وارتبط بموسكو بوشائج كثيرة، ولعلّ حبّه لها واندماجه في حياتها وانخراطه في ترجمة أعمال أدبية لخيرة أدبائها وتقديمهم إلى القرّاء العرب عبر دار نشر سوفييتية، كان قد وضعه في صف المترجمين المهمّين على الصعيد العربي، الذين قدّموا لنا روائع الأدب الروسي والسوفييتي في تلك الحقبة: قصةً وروايةً وشعراً، فضلاً عن مكانته الإبداعية كرائد للرواية العراقية الحديثة.

سيماء شخصي

كان غائب طعمة فرمان مثالاً للبساطة والشعبية والتواضع والصّدق والتّسامح، وقد تعرّفت عليه في العام 1973 في لندن، التي كنت أزورها للإشراف على جمعية الطلبة العراقيين، ولحضور مهرجان توركي على الساحل البريطاني، حيث ترافقنا ومعنا جلال الماشطة في السفر، وكان فرمان والماشطة قد قدِما من موسكو، وكنّا بضيافة د. سعيد اسطيفان. وقد ذهب الكاتب مع فرمان لزيارة بعض المتاحف، وخصوصاً متحف مدام تيسو والمتحف البريطاني ومتحف التاريخ الطبيعي، كما تسكّع معه في الهايدبارك وبيكاديللي سكوير والطرف الأغر سكوير وحي سوهو وغيرها. وكان ذلك أوّل تعارف ولقاء مباشر بيننا، ثم التقيت معه في دمشق وموسكو بعد ذلك.

إن روايات فرمان تعيد إلى ذاكرتنا الحياة البغدادية التي عرفناها في مقاهيها وحاناتها ومتناقضاتها وأمكنتها ذات الدّلالة الرمزية.. كثير منّا يعرفون مقهى ياسين ومقهى البرلمان وبالطبع مقاهي البلدية وعارف آغا والزهاوي والشابندر والبرازيلية، كما يستدلّون على بار كاردينيا وحانة النصر وغيرها، تلك التي كانت تشكّل مرتعاً لحكايات فرمان.

غائب طعمة فرمان و أبو كَاطع

ولد غائب طعمة فرمان في محلة المربعة ببغداد (1927) لعائلة فقيرة، وكان والده يعمل سائقًا، وتوفي في موسكو بتاريخ 18 آب (أغسطس) 1990، أي بعد نحو 9 سنوات من وفاة الروائي أبو كَاطع "شمران الياسري"، وإذا كان أبو كَاطع روائي الريف بحق، كتب عنه ومنه وإليه ومن خلاله إلى العالم، فإن غائب طعمة فرمان هو روائي المدينة بامتياز، لاسيّما بغداد، وكان شاهداً على تحوّلات مفصلية حدثت فيها منذ الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تغييرات دراماتيكية لم يكن غائب طعمه فرمان، غائباً عنها، بل شكّلت الخزين الذي نسج منه حكاياته وقصصه ورواياته، واستطاع من خلاله بناء شخصياته على نحو محكم ووثيق، مثلما حاول أبو كَاطع أن يستمد إلهامه من حياة الريف وتناقضاته وأوهامه، بفلاحيه وسراكيله وإقطاعيه، إضافة إلى حكايات عشق وتمّرد.

وكان الكاتب قد سأل أبو كَاطع عن غائب طعمة فرمان، فقال بعد أن استعدل في جلسته: كنت أسعى لبناء شخصياتي على نحو شديد التماسك مثلما كان فرمان يفعل، بل يعرف كل شخصية ماذا تريد؟ وكيف بدأت؟ وإلى أين ستنتهي؟ ويتعامل معها كلّها بحنو ورعاية.

يقول أبو كَاطع: قرأت رواية النخلة والجيران أكثر من ثلاث مرّات، مثلما فعلت مع رواية خمسة أصوات، ولكنني في كل مرّة كنت أعود لأكتشف شيئاً جديداً في حبكته الدرامية وفي ملمح جديد لإحدى شخصياته غاب عني.

أما فرمان فقد قال عن أبو كَاطع: "إنه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كل شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاقها وثمارها وملوحة عرق الكدح فيها... لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني. كنت أمام ما يشبه موسوعة الريف، ولكن كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً"، وهو ما جئت عليه في كتابي الموسوم "أبو كاطع - على ضفاف السخرية الحزينة، دار الكتاب العربي، ط1، لندن، 1998، ودار الفارابي، ط2، بيروت، 2017 .

تتلخّص أعماله القصصية والروائية بمجموعة مهمة هي: حصاد الرحى (مجموعة قصص) 1954، ومولود آخر 1959 (مجموعة قصص)، وروايات هي النخلة والجيران 1966، وخمسة أصوات 1967، والمخاض 1973، والقربان 1975، وظلال على النافذة 1979، وآلام سيد معروف 1980، والمرتجى والمؤجل 1986، والمركب 1989.

أما أهمّ ترجماته فهي ترجمة أعمال تورغييف (خمسة مجلّدات)، والقوزاق لتولستوي، ومجموعة قصص لدستوفسكي ومجموعة قصص لغوركي، والمعلم الأول لاتماتوف، ومجموعة أعمال الشاعر بوشكين، ولاشين عملاق الثقافة الصينية وغيرها.

حين حدث انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 كان غائب طعمة فرمان موسكو، وقد ساهم مع عدد من المثقفين والسياسيين العراقيين اليساريين في تأسيس لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، التي ترأسها الجواهري ضدّ الانقلاب، وقد أقدمت الحكومة العراقية على سحب الجنسية عن 12 شخصية من الشخصيات البارزة المشاركة في اللجنة، ومن بينهم غائب طعمة فرمان، وذلك برسالة موجّهة من وزارة الداخلية إلى مديرية الأمن العامة، والمؤرّخة في 26 تشرين الأول (أكتوبر) 1963.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر عراقي

 

من مفارقات الشاعر بلند انه مبدع في كتابة الشعر العربي مع انه كوردي الأصل (بلند بالكردي.. يعني شامخ!). والده ضابط في الجيش العراقي، ووالدته.. فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي شغل منصب شيخ العرب في إستانبول!. وله شقيق اكبر اسمه (صفاء الحيدري).. شاعر ايضا.. انفرد في زمانه انه كان وجوديا متمردا.. نصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة الخضراء! وتعرف على صديقنا الشاعر المتمرد (حسين مردان) الذي اخذت منه القصيدة التي يتغزل فيها بعفيفة اسكندر مع انها ما كانت تحبه كما قالت هي لي. ورغم أنه من عائلة ارستقراطية، فان من عائلته.. السياسي الشيوعي المعروف جمال الحيدري الذي قتله البعثيون في انقلابهم عام 63.

ولقد وجدت في حياة بلند احداثا درامية صنعت منه شاعرا يمتاز عن كل الشعراء العراقيين. فقد انفصل والداه عام 1940، وهو بعمر الرابعة عشرة، وتوفيت والدته.. حبيبته عام 1942، لينتقل الى بيت جدة والده.. وفيه حاول الآنتحار لقوانينها الصارمة، وترك الدراسة قبل ان يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض.. ليبدأ حياة تشرد وتسكع وصعلكة! وهو بمرحلة المراهقة.. وليفتتح عشرينياته بوفاة والده الذي حرم ومنع من المشاركة في تشييع جنازته!.. فنام تحت جسور بغداد لياليا.. واشتغل (عرضحالجي) امام وزارة العدل التي يرأسها خاله (داوود الحيدري)!. وقد كتب هو قبل دخوله المستشفى بساعات: (كان المنفى قائماً في داخلي منذ أن وعيت نفسي كائناً شعرياُ وكائناً سياسياً في آن واحد.. والغربة بهذا المعنى، كانت في داخلي، غربتي عن عائلتي البرجوازية المتشبثة بالحكم البائد، مما دفعني – يومذاك – بالهرب من داري في قصر العائلة لأتشرد في شوارع بغداد، وأنام على أرصفتها بصحبة الشاعر حسين مردان.. ولكي أجسد ثورتي الحقيقية على عائلتي البرجوازية...).. فعاش حياة التشرّد والصعلكة والأغتراب الذي تجسد عنده في اقسى حالاته: من انا؟ وهل لوجودي في الحياة.. معنى؟!

وبالرغم من تشرده كان حريصا على تثقيف نفسه، فكان يذهب إلى المكتبة العامة ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل بعد أن صادق حارس المكتبة الذي سمح له بالبقاء بعد إقفالها.. فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس، وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية.. وقد سجن وعذّب وغادر الى بيروت ومنها الى لندن ثم الى بيروت زمن الحرب الأهلية التي كتب عنها أمين المعلوف كتابه (الهويات القاتلة) ليعود بدعوة من الشاعر شفيق الكمالي الذي اسس مجلة (آفاق عربية) عام 1979.. ومنها بدأت علاقتي بـ(بلند).

كنت نشرت في العام 1979 مقالا في مجلة آفاق عربية، وكان يومها قد خصه شفيق الكمالي بمسؤولية ادارة المجلة وكاتبا فيها.

كنت خارجا من المجلة في الطريق الذي يؤدي الى بلند.. فنهض وقال:

حضرتك مو استاذ قاسم؟

اجبته: سعيد جدا ان يعرفني بلند الحيدري!

وجلست، وابدى لي اعجابه بمقالتي في المجلة التي كانت بعنوان (الأبداع الفني عند الفرويدية والسريالية).. وكنت يومها (هم وسيم وهم استاذ جامعي وهم كاتب مقالات مقروءة!).

تطورت العلاقة الى صداقة، ودعاني لسهرة ليلية.. وكنت حصلت على احد دواوينه الشعرية.. وفيه لفت انتباهي ان الكثير من قصائده كانت عن المرأة البغي.. فسألته:

هل جربتهن؟ ومن دلك عليهن؟

فاجاب مبتسما.. حسين مردان!

رسالة لمظفر

كان بلند قد كتب رسالة الى مظفر قال له فيها:

يا مظفر لم اكن أعلم يوما أن حظي قد تعثّر

ضاع عمري في سجلات ودفتر

(ياحمد والريل فارغ.. والكصب بردان حيل.. ومستحي اهوايه تأخر

علمي لم يبق احمر

كان حلمي وسط تراب.. وقناعاتي خيالا في سراب

كان للوهم يغني من جديد.. لا وطن حر ولا شعب سعيد).

وعلى ايقاعه.. قلنا لمظفر:

يا مظفر.. أصحيح ان شعبا انجبك، صار من احزاب تدّعي الأسلام.. يقهر!

ولنا جيش يتامى وارامل، سرقوا خبزها اليومي وبنى منها معمم لأبيه ضريحا،

كان قد افتى ابوه.. قتل من نادى.. (وطن حر وشعب سعيد)!

أو تعلم يامظفر.. أن شعبا كان من عهد جلجامش يوصف بالعنيد

صار من تغريدة (هاوي) بالسياسة، يهتفوله بالقداسة

ويبوسون ترابا قد مشى يوما عليه.. وان كان نجاسه!

كلّ هذا يامظفر قد حصل

وما كنت تمنينا بيوم يفطر الناس به: كيمر عماره وعسل

افطر شعبك يامظفر.. خبزة نخاله وبصل.!

للأسف.. فان بلند الحيدري بات منسيا! من يوم وفاته في لندن ( 6 آب 1996)، وقد عاتبت اتحاد الأدباء. ومع اننا نقيم مهرجانات احتفالية نحيي فيها ذكرى شعراء كبار ( ابو تمام.....) فاننا بخلنا على بلند في ان نحيي ذكراه ولو بسهرة.

بقي ان اقول:

ان حياة (بلند الحيدري) تصلح مسلسل تلفزيوني مميز، وانا حاضر لكتابته (حوار وسيناريو) ان وعد احد المخرجين المعتمدين بأخراجه.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

"لم يبق لي في هذه الدنيا سوى ملعقة دم سأفديها لشعبي ولن أطأطئ هامتي للأعداء أبداً.. وجعلت بارزان يرتبك في حديثه وأثناء قيامه للانصراف أصدم بالطاولة التي أمامه وكاد أن يسقط على الأرض.. وقد علق صدام شخصياً بعد هذه الزيارة بقوله: أمر هذا الرجل عجيب يتعامل معنا وكأن عشرة آلاف من المسلحين واقفون وراءه يساندونه ويحرسونه.. وأستطرد الشهيد ماضياً في حديثه أنا حفيد الشهيد (شيخ يوسف) الذي أعدم في قلعة زاخو خلال حكم سلاطين العثمانيين لمشاركته في ثورة بدرخان بك فليعد التاريخ نفسه مع الحفيد...."

الشهيد صالح اليوسفي

***

يحتفل الشعب العراقي وشعب كوردستان بصحيفة التآخي اليوم بعد مرور 58 عاما على إصدار العدد الأول ولكونها صحيفة عبرت عن طموحات والآمال قطاعات واسعة من الشعب وطوال سنوات صدورها رافعة راية الكلمة الطيبة.

تعد جريدة التآخي ثالث الصحف السياسية العلنية التي يصدرها الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العراق بعد جريدة (خه بات وجريدة (كوردستان (. حيث جاء قرار صدورها أثر إعلان اتفاقية ٢٩ حزيران/ يونيو 1966 تشكلت الهيئة الإدارية للجريدة آنذاك من أصحاب الامتياز من المرحوم صالح اليوسفي رئيساً للتحرير، ومن شوكت عقراوي، نجيب بابان محمد سعيد جاف، عبدالله سعيد ثم أستبدل شوكت عقراوي بالأستاذ حبيب محمد كريم اعتباراً من العدد رقم (۱۹۸) الصادر في ١٥ تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، الى الأستاذ جواد ملكشاهی ابتدا من عام 2018. فضلاً عن مجموعة أخرى من الكتاب ومن كافة القوميات والعقائد وأغلبهم كانوا ينشرون في الجريدة بأسماء مستعارة ومنهم عبد الرزاق البارح والشاعر رشدي العامل وشوكت عقراوي ومحمد الجزائري وأحمد الجزيري ومصطفى نريمان وفلك الدين كاكائي ومحمد البدري وهادي الجاوشلي والدكتور عبد الرحمن نورجان وغيرهم العديد.

احد ابرز وأول رؤساء تحرير الجريدة كان الشهيد صالح اليوسفي الذي أرسى اللبنة الأولى للصحافة الملتزمة وداعيا السلام وللتآخي بين جميع النسيج السكاني القومي والعقائدي للشعب العراقي. ورغم أننا لا يمكننا الإيفاء لكل ما صنعه الأوائل إلا أننا سنتذكر وبفخر أسماء الكثيرين هؤلاء ممن خدموا الصحيفة وقادوها في جميع دوراتها.  التقيت بالسيدة زوزان اليوسفي بنت الشهيد كي تحدثنا عن ذكرياتها حول والدها الشهيد.

- حدثينا عن ذكرياتك عن صحيفة التآخي خاصة في الفترة التي كان الوالد يقوم برئاسة تحريرها؟

* كانت صحيفة التآخي بالنسبة لوالدي هي بيته الثاني والحقيقة كان يعتبر أن العمل فيها لا يقل شرفاً عن حمل السلاح والنضال من أجل الحصول على الحقوق المشروعة لشعبه وقضيته القومية، جريدة التآخي كانت يومية سياسية، وحمل العدد الأول كلمة رئيس الجمهورية وجهها إلى الجريدة، حيث هنأ فيها هيئة تحريرها والشعب العراقي وجاء في كلمة الرئيس عبد الرحمن عارف:

(أبارك لكم صدور جريدة التآخي وأتمنى لها إطراد التقدم والنجاح وتأدية مهمتها على الوجه الأكمل وأن يكون أسمها عنواناً صادقاً لهدفها ... والأمل أن تكون هذه الجريدة لسان الحق والتنبيه إلى مقاصد المستعمرين وربط الإخاء العربي الكوردي بعروة لا انفصام لها وأن تكون مصباحاً منيراً ينير دروب الشباب والمواطنين المخلصين ونشر الوعي الوطني فيهم وجمع كلمتهم لصيانة تربة وطنهم في وحدة وطنية بعيدة عن التفكك الحزبي...)

حين تأسست جريدة التآخي في 29 نيسان/ أبريل 1967 وطبعت بمطبعة الشعب ببغداد بثمانية صفحات، وسعر النسخة الواحدة منها كان (۲۰) فلساً أوكلت القيادة الكوردية والدي لتأسيس الجريدة وتولي رئاسة تحريرها، كنت حينها في الصف الثاني ابتدائي، كل ما أتذكره أن والدي كان يصطحبني إلى الجريدة أحياناً، وكان يسعدني ذلك كثيراً بأن أكون برفقته حيث كنت أفتقده طوال فترة طفولتي نظراً لالتحاقه المستمر بالثورة، أصبحت الحياة أجمل بوجود والدي بصحبتنا خلال تلك الفترة رغم مشاغله الكثيرة، ولكن مجرد شعورنا أنه بيننا كنا نشعر بالسعادة والأمان، كان أبًا مثاليًا ومحبًا وحنونًا ورائعًا بكل معنى الكلمة، رغم مسؤولياته الصحفية والحزبية، مع هذا ذلك كانت الابتسامة لا تفارق وجهه، وروح الدعابة أهم صفاته في البيت معنا، والحزم والجرأة والجد أهم صفاته في العمل.

كان دائمًا يأتي إلى البيت في وقت متأخر بسبب عمله الصحفي كرئيس تحرير لجريدة لعبت دوراً مهماً في تاريخ الصحافة العراقية نظراً لجرأتها وقوتها الإعلامية، كانت نسخها تنفذ خلال ساعات معدودة من المكتبات نقلاً عن شهادات عديدة لقراء التآخي، حينما كنت أرافق والدي في ذلك العمر الصغير، كنت أنبهر بالموقع والعمل فيه، كانت بناية كبيرة، فيها غرفة للمطابع، وغرف للصحفيين، وغرفة خاصة لوالدي، كان يراقبني من خلال نظاراته بين لحظة وأخرى خوفًا من أن أقوم بأعمال شغب داخل الجريدة، كنت أبتسم له كلما لمحني لأثبت له أنني فتاة عاقلة وهادئة لكي يصطحبني دائماً برفقته وكان يكلَّفني ذلك الكثير من التحمل والصبر لأنني بصراحة كنت كثيرة الحركة واللعب في تلك مرحلة من العمر، أتذكر زيارات بعض الشخصيات له بين الحين والآخر خاصة المهندس شوكت عقراوي والمحامي نجيب بابان اللذان كانا في البداية ضمن الهيئة التحررية في الجريدة، كان يسعد والدي بصحبتي معه حيث أدرك بحدسه القوي أنني أحببت عمل الصحافة، في الحقيقة أعجبني عمل الصحافة وعمل والدي فيها كثيرًا وأنا في ذلك العمر الصغير ومن حينها تمنيت أن أصبح مثله في المستقبل، وكان كل حلمي لاحقاً أن أدخل كلية الإعلام ولكن للأسف شاء قدري حين أكملت الثانوية عام 1980 أن يمنع النظام دخول كلية الإعلام من لا يكون بعثياً فضاعت مني تلك الفرصة. في إحدى المرات التي كنت بصحبة والدي قلق كثيرًا حينما أختفيت فجأة، وبعد بحث طويل أكتشفوا أنني كنت فوق سطح المبنى ألعب، ومن حينها أمتنع أبي عن أصطحابي للجريدة، وحسب ما أتذكر لأن سطح المبنى كان بدون سياج عالي، لذا قلق والدي بشأني وبشقاوتي.

ألغت امتيازات جميع الصحف الخاصة في الخامس من كانون الثاني/يناير ١٩٦٩ وفي مقدمتها جريدة التآخي كما وأصدرت في الثاني عشر من حزيران/ يونيو ١٩٦٩ قراراً بحجز الأموال المنقولة والغير المنقولة العائد لرئيس تحريرها صالح اليوسفي وبذألك تنتهي المرحلة الأولى لصدور جريدة التآخي حيث تم إصدار (٤٣٠) عدداً من الجريدة، وكان آخر عدد لها برئاسة تحرير والدي في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٦٨.

نشرت السيدة زوزان اليوسفي كذلك عدد من الكتب بالعربية والكوردية حول أبيها ونضاله من اجل السلام في ربوع الوطن - وفي لقاء معها سالتها عن ذكرياتها عن الفترة ما بين بيان الحادي عشر من آذار إلى عام ١٩٧٤؟

الحكم البعثي الدموي القومي والسلبي تمكن ومن خلال سياسته العنصرية تحويل حياة شعب كوردستان وأرضه إلى جحيم خلال سنوات ما بعد ١٩٧٥ حدثينا عن والدك في تلك الفترة؟ كان الشهيد رحمه الله بالإضافة إلى نشاطه السياسي شاعرا ترجم في العديد من قصائده أمال شعبه للحرية والاستقلال ماذا تحفظين من تلك الأشعار؟

* هناك عدة محطات تاريخية مهمة في حياة والدي في الفترة التي أعقبت نكسة 1975، فعلى سبيل المثال لابد من التوقف قليلاً في محطة نكسة 1975 حتى يتوضح للقارئ الكريم أكثر عن نشاط والدي ما بعد عام 1975. وذلك أولاً.. نظراً لبُعد نظر والدي للأمور السياسية ورؤيته المستقبلية للثورة الكوردية وللعراق عامة كما شهد له العديد من الباحثين والمؤرخين وحتى السياسيين مِن مَن عاصروه، كان والدي على يقين ومنذ بدء القتال بأنه سيحدث أتفاق ما بين الحكومتين العراقية والإيرانية عاجلاً أم آجلا! كان لا يثق بتطلعات شاه إيران ومصالحه وخصوصاً أن والدي كان يستذكر دائماً ما فعله شاه إيران بالقضاء على جمهورية مهاباد الكوردية، كان رأي والدي أنه ما دام الحزب وقيادة الثورة قد أكتسب قاعدة شعبية قوية داخل كوردستان العراق بد اتفاقية 11 آذار، فإنه يجب استثمار ذلك وتقويته ويتعين على القيادة الكوردية جذب الحكومة للاتفاق على المبادئ الرئيسية وتأجيل النظر بالنقاط الخلافية والمستعصية والتوافق لاحقاً مع الحكومة العراقية.

يا للأسف لم ينجح والدي من إقناع الطرفين على الاتفاق بصورة سلمية، فأندلع القتال رغم أن والدي كان يحاول طوال فترة القتال أن يعيد الحوار والمفاوضات مع الحكومة مرة أخرى خاصة بعد أن أرسل الرئيس البكر موفدة الأستاذ فؤاد عارف للبحث والحوار في هذا الشأن وكان دائماً يردد مقولته الشهيرة (بأن حل مشكلتنا ليس في أنقرة أو طهران، بل في بغداد) . وبعد أن خذل شاه إيران قيادة الثورة الكوردية وهو ما كان يتوقعه والدي حتى حدثت اتفاقية الجزائر وانهارت القيادة الكوردية ثم تشتت وضاعت سنوات من النضال الطويل وعدنا إلى مرحلة الصفر، كانت تلك الفترة من أصعب الفترات التي مرت على والدي فقرر في تلك الظروف القيام بمبادرة أخيرة وهي فتح الحوار مع الحكومة العراقية لوقف تنفيذ اتفاقية الجزائر، وبعد التشاور مع الزعيم البارزاني، طلب والدي من جهاز (الباراستن) أن يُحضروا إليه أي ضابط أسير لديهم، فأحضروا إليه الملازم أول الطيار (صفاء شلال)، سلمه والدي رسالة من أربع نسخ موجهة إلى كل من القيادة القومية والقيادة القطرية لحزب البعث والى الرئيس أحمد حسن البكر ونائبه صدام حسين، وأطلق سراح الطيار لإيصال الرسائل إلى الجهات أعلاه وجاء الرد سريعاً وهو أن الحكومة العراقية ترحب بحضور والدي والتفاصيل مع نص البرقية و الطريقة التي غادر فيها والدي من مقره حتى وصوله بغداد مذكورة في كتاب (خواطر من ذاكرتي). أما عن نشاط والدي في بغداد ما بعد 1975* فيمكن تقسيمه إلى محطتين رئيسيتين، علماً أن نشاط والدي في هاتين المحطتين كان يسير بشكل متوازي.1511 newspaper

المحطة الأولى:

هي علاقاته بالقيادة العراقية ونشاطه في بغداد. بالنسبة للمحطة الأولى،

أولاً: بدأت عندما قام والدي بكتابة مذكرة طويلة من أكثر من أربعين صفحة رفعها إلى رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر شرح له فيها أسباب وجذور المشكلة الكوردية والمراحل التي مرت بها في مختلف عصور الدولة العراقية والويلات والنكبات التي جلبتها هذه المشكلة على الشعبين العربي والكوردي كما شرح له طريقة حل هذه المشكلة والوصول إلى ما فيه الخير للعراق عموماً.

ثانياً: في 1978 نظم أتحاد الأدباء الكورد مؤتمره الخامس وقام بتوجيه دعوة إلى والدي لحضور هذا المؤتمر لأنه كان من مؤسسي هذا الاتحاد ورئيساً لها بعد اتفاقية آذار، ولكن والدي أرسل رسالة اعتذار عن عدم حضوره لكون ظروف انعقاده كانت في أوقات غير طبيعية وأشار في رسالته إنه لا يزال بعض الأخوة من الأعضاء البارزين وغيرهم قد أُبعدوا من أماكنهم الأصلية إلى المناطق الجنوبية، ولا يزالون هناك ومنذ أكثر ثلاث سنوات خلافاً حتى لمضمون بيان العفو العام، وصرح لهم الأمر من خلال رسالته أنه من المصلحة تأجيل انعقاد المؤتمر ريثما تتوفر الظروف والشروط الطبيعية لانعقاده.

ثالثاً: قبيل انعقاد مؤتمر القمة العربي الذي جاء بعد توقيع اتفاقيات (كامب ديفيد) قامت السلطات الأمن العراقية باعتقاله  في مديرية الأمن العامة طوال فترة إنعقاد مؤتمر القمة هذا وذلك خشية من السلطات العراقية من أن يقوم والدي بالاتصال ببعض القادة العرب الذين كانت تربطهم صداقة شخصية مع والدي وخوفاً من أن يقوم والدي بشرح أسباب ومشكلة القضية الكوردية لهم، هذا وقد صادف أن يكون الشيخ مهدي الخالصي معتقلاً أيضاً في نفس زنزانة والدي وأود أن أشير بأنه بعد مرور عدة سنوات قام سماحة الشيخ مهدي الخالصي بأرسال رسالة لي أعرب فيها عن إعجابه بأفكار والدي الوطنية وشجاعته وذلك عندما تشارك معه في نفس الزنزانة في مديرية الأمن العامة، وأيضاً قام سماحة الشيخ جواد الخالصي بزيارتي إلى منزلي وأستذكر مآثر وشجاعة والدي وهذا كله أشرت إليه في كتابي مع نسخة من رسالة الشيخ مهدي الخالصي.

رابعاً: عندما أستلم صدام حسين رئاسة الجمهورية بعد أحداث قاعة الخلد قام والدي بأرسال مذكرة جريئة إليه شرح له جميع أسباب اندلاع الثورات الكوردية وطرق حلها لما فيه خير الشعبين العربي والكرودي والعراق عموماً وقد أستهل رسالته إلى صدام حسين بالمقولة المشهورة للخليفة عمر بن الخطاب:

(أيُّها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه ـ فقام له رجل وقال:

والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يُقوّم إعوجاج عمر بسيفه)

موجهاً والدي هذه المقولة إلى صدام حسين شخصياً.

خامساً: عندما حلت الذكرى الثانية للحرب العراقية الإيرانية قام برزان التكريتي (الذي كان حينها مدير المخابرات العامة) بزيارة والدي في منزلنا وطلب منه أن يكتب رسالة تأيد للقيادة العراقية بهذه المناسبة، ولكن والدي أجابه بأنه ليس لديه رأي حول هذه الحرب، ولكن لديه رأي يعطيه حول عمليات التهجير القسري للكورد وتدمير القرى من خانقين إلى زاخو وحينها وعندما بادر برزان بالقيام بالانصراف أصطدم بالطاولة التي أمامه وكاد أن يسقط من شدة ارتباكه وغضبه.

المحطة الثانية: تبدا مع علاقاته ونشاطه في إحياء الثورة الكوردية.

أما المحطة الثانية عن نشاط والدي ما بعد 1975 وحتى يوم استشهاده فقد كانت مليئة باللقاءات والاجتماعات مع الشخصيات والقادة الكورد سواءاً من كانوا حزبيين أو مستقلين أو من قادة البشمركة وكانت اجتماعاته هذه مفتوحة يتحدث فيها والدي بكل جرأة وعلانية عن المشكلة الكوردية والممارسات العنصرية التي كانت تمارسها سلطات بغداد أتجاه الكورد من تهجير ونفي وتعذيب واغتيال، وأنا كنت شاهدة على حضور الكثير من هذه الشخصيات وأذكر منهم كل من السادة.. فؤاد عارف، مقدم عزيز عقراوي، دارا توفيق، المهندس شوكت عقراوي، لقمان مصطفى البارزاني، إحسان شيرزاد، كاردو كلالي، علي هزار، الشيخ محمد شاكالي، يد الله كريم فيلي، حبيب كريم، عصمت كتاني، المحامي نجيب بابان، العقيد طه بامرني، علي عسكري، رشيد سندي، عبد الوهاب الأتروشي، والإعلامي مصطفى صالح كريم وآخرين غيرهم.

- كان الشهيد رحمه الله بالإضافة إلى نشاطه السياسي شاعرا ترجم في العديد من قصائده امال شعبه للحرية والاستقلال ماذا تحفظين من تلك الأشعار؟

* نعم كان والدي شاعراً حتى قبل أن يكون سياسياً فالشعر ونظم القصائد أنساب في قلب ومشاعر والدي منذ فترة صباه كما أخبرني، وأن ذلك الإحساس المفعم الذي كان والدي يتمتع به في نظم القصائد كانت كلها عن طبيعة وطنه كوردستان وعن الظلم الذي تعرض له شعبه، آخر قصيدة نضمها كانت (هواره - الصرخة) التي نظمها أيام الثورة وقبل اتفاقية الجزائر، كنت أجلس بصحبته عندما كان ينظم أبيات تلك القصيدة ثم يلقيها لي، كنت أشعر بالزهو حينها عندما كان يأخذ رأي فيها فقط ليشعرني بأهمية استماعي للقصيدة، رغم أنني حينها كنت في مرحلة المتوسطة، ومنذ ذلك الحين كنت أطلب منه دائماً أن يلقي لي أبيات من قصائده التي ما زالت عالقة لحد اليوم في ذهني، وفي عام 1980 طلبت منه أن يكتب تلك القصائد المفعمة بالإحساس وحب الوطن وكان من دواعي سعادتي أنه فعلاً وتلبيتاً لطلبي ورغبتي كتب مجموعة منها ولكن للأسف لم يستطيع إكمالها جميعها حيث اغتيل عام 1981، فاحتفظت بما كتبه وفي عام 1991 طبع أول ديوان لوالدي باللغة الكوردية، ثم طبعت الديوان مرة الثانية ضمن تأليف كتابي الأول عن سيرة والدي عام 2009 تحت عنوان (صالح اليوسفي.. صفحات من حياته ونضاله الوطني مع ديوان شعره الكامل)، هذا وسبق أن نشرت العديد من قصائد والدي في المجلات والصحف الكوردية والتي كتبها في فترة الأربعينيات والخمسينيات كمجلة (هيوا - الأمل) و (گەلاوێژ - نجمة الصباح).

كما سبق ونظم والدي قصائد باللغة العربية ولدي قصيدتين له منها قصيدة وسام العار نظمها عام 1945 عندما قلد النظام الملكي وسام الرافدين لعدد من الأقطاعين الكورد لمشاركتهم في قمع الحركة الكوردية، وقصيدة الحناجر الدامية بعد ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، كما سبق وأن ألقيت بعض من قصائده في فيديو نشرته على صفحة والدي في الفيسبوك، وأنا بصدد إلقاء جميع قصائده عبر تصميم فيدوات في المستقبل القريب. زرع والدنا الشهيد في قلوبنا بذور المحبة والسلام والأخوة والإنسانية والتواضع فكانت تلك المشاعر ضمن الأهداف الرئيسية في مسيرة حياتنا وتربيتنا فتأثرنا نحن الأخوة بهذا النهج.

كانت نظرة الوالد الواقعية وأفكاره تظهر جليا في رفضه لأي شكل من أشكال التطرف اليساري أو اليميني على حد سواء، وأراد أن يجعل من الواقع الكوردستاني وخصوصيات شعبنا الكوردي أرضية لكل هدف، حيث كان الهدف في فكر والدي ينبع من تلك القناعة المبدئية والأخلاقية بأن الإنسان هو أقدس موروث على سطح الأرض، لهذا فأن هدف حركة والدي هو رفض جميع مظاهر الاستغلال، قومية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم دينية أو مذهبية، حيث أكد والدي بأن العدالة الاجتماعية هي الصورة الأمثل لإنهاء الاستغلال وإن العدالة الاجتماعية تترسخ تحت ظل الممارسة الديمقراطية طريقا وكان هذا النهج جوهر الفكر الواقعي لوالدي. بدأ الوالد بكتابة قصيدة ( هه واره) والتي بدأ بها وهو في إحدى زيارته إلينا تحمست لقصيدته وكنت أجلس بجانبه كل مساء وهو يكتب تلك القصيدة ويرتب مقاطعها ويلقيها علي.. وأنا في غاية التحمس حيث كنت جمهوره المشجع الأول... فكان يردد الكلمات ويكتب فأستمع إليه بكل أحاسيسي وإعجابي... وهو يلقيها علي بكل حماس ... القصيدة كانت أطول بكثير مما ورد في ديوانه، وكنت قد احتفظت بتلك القصيدة وبخط يديه حينما أكملها أهداني أياها، ولكن للأسف فقد سرقت مني أيام انتفاضة مع العديد من متعلقات والدي الشخصية وأوسمته التي احتفظت بها وذلك حين تركنا بيتنا في دهوك وقررنا اللجوء إلى جبال كوردستان في تركيا

...... قصيدة (هه وارد هه واره ) قام بترجمتها إلى اللغة العربية الأستاذ أسعد محمد طاهر الزيباري:

النجدة النجدة النجدة يا أخوان النجدة النجدة ... النجدة يا إخوان النجدة کردستان یا وطن.. أرواحنا فداء لك نورت وأشرقت الشمس النضال ثم النضال المنجدة ... النجدة يا أخوان النجدة أشعلوا الثورة، هيجوا الرجولة بلغوا البشرى، أنثروا الحرية النجدة النجدة يا أخوان النجدة مع الشعوب نحن أصدقاء، أبطال وأعزاء أكلنا الأعداء النجدة النجدة يا إخوان النجدة

وهذا هو نص قصيدة (مع نهر خابور) ترجمها إلى اللغة العربية الأستاذ أسعد محمد طاهر الزيباري : **

مع نهر الخابور

فداك أيها الخابور العزيز مسافر أنا لا قريب ولا صديق جريح ساكت أخرس مهاجر، لا وطن ولا سكن ما .. أرقك وأجملك يا خابور..! أخضر، أحمر .. وذو شلالات ملونة ..! ولكن لماذا ساكت أنت..؟! إلى متى تبقى أبكما معي..؟! في شلالك الذهبي... نقش ألف جرح مخبوء ورائه الرحيق اللذيذ.. وجه مجراك نحوي.. يا خابور أرجوك التحدث معي. لا تخفي الآلام والأحزان فلقد بقت دموع العيون معلقة بها و بدولة الكوردية.

مقطع من قصيدة كومارا مه هابادى - جمهورية (مهاباد) ترجمها إلى اللغة العربية الأستاذ أسعد محمد الزيباري جمهوية مهاباد.

نیران ساقطة كزخات المطر تحول الظالمون كلهم إلى صيادين يوم وقع الكرد في أفخاخهم أغلقوا الجمهورية الوليدة كانت أمنية للعيون أن تراها لم ترى العروس الجديدة عريسها تركتنا في الظلام، غابت الشمس كلما أدور وأنوح... أرى المعلقين الثلاثة في تراصف... الحبل والسهم والمطر والحامض التعدي والظلم ماردون أنهم ثعابين سامة، عقارب وخنافس يمتصون عرفنا ودمائنا وقوتنا الاستعمار والعنصريون اللصوص الفقر والبؤس، الأسر والأنين مزقوا الوطن جعلوه أقساماً باعوا الشعب للعملاء السراق للأجانب الحقراء ذوي الأفواه الملطخة بالدم الاستعمار والشاه الظالم نهبا الراية والعاصمة زادوا الوحشية والقسوة الطائرات والدبابات المدفعية وأحزمة العتاد القرى والمدن البساتين والغابات دمرت كلها وجعلوها مسطحة مع الأرض أحرقوا الأمل والرجاء والحظ أصبحنا خدما لا حصة لنا ولا مهر أحرقوا الأمل والموعد والزمن.

سيبقى رسالة الشهيد اليوسفى راية في سماء كوردستان وعلما للكلمة الطيبة ونداء للأخوة والتآخي والسلام بين الشعوب.

***

اجرى الحوار د. توفيق رفيق التونچي - السويد

2025

......................

إشارات؛

المناصب والمسؤوليات التي أنيطت للشهيد اليوسفي؛ بتاريخ ۲۹ آذار / مارس ۱۹۷۰، تسلم وزارة الدولة، ووزير الدولة وكالة في العديد من الوزارات العراقية. نائب رئيس جمعية الصداقة والتعاون العراقية السوفيتية. مسؤول الفرع الخامس للحزب الديمقراطي الكوردستاني في بغداد. رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الكورد لفترة ما بين ۱۹۷۱ - ۱۹۷۲ و۱۹۷۳ - ١٩٧٤.  رئيس جمعية الثقافة الكوردية. عضو مجلس السلم والتضامن العراقي والعالمي. عضو لجنة السلام المسؤولة عن تطبيق بنود اتفاقية آذار. عضو غير متفرغ في مجلس التخطيط التربوي. مسؤول مشرف على أتحاد طلبة كوردستان مسؤول مشرف على أتحاد الشبيبة الديمقراطي الكوردستاني(لأوان). مسؤول مشرف على اتحاد نقابات العمال والجمعيات الفلاحية والتعاونية الكوردستانية. رئيس تحرير مجلة شمس كوردستان باللغتين العربية والكوردية. رئيس تحرير مجلة أستير - النجمة للأطفال باللغة الكوردية.

رؤساء تحربرالتآخي:

الدورة الأولى:

(1967-1969) صاحب الامتياز ورئيس التحرير: الشهيد صالح اليوسفي

الدورة الثانية:

(1970-11 اذار 1974) صاحب الامتياز: حبيب محمد كريم، رئيس التحرير: علي عبدالله (1970)، الشهيد دارا توفيق (1970-1974)

الدورة الثالثة:

(من 10/5/2003) (10/5/2005) المرحوم فلك الدين كاكائي 10/5/2005، الدكتور بدرخان السندي 28/4/2015

الأستاذ احمد ناصر الفيلي.

واعتبارا من تاريخ 23/1/2018 ، الأستاذ جواد ملكشاهی.

*نقلا عن الأستاذ المرحوم عادل مراد - في فجر يوم ١٩٧٤/٤/٢٤ داهمت مفارز الأمن العام بوحشية بيوت عدد عوائل المسؤولين الكورد في بغداد فتم تجميع الأطفال والنساء والشيوخ في مديرية الأمن العام بطريقة مرعبة وأرسلتهم بسيارات إلى شقلاوة ومن هناك إلى (قلعه دزه في محافظة السليمانية وكانوا عوائل السادة صالح اليوسفي ودارا توفيق ونوري شاويس وعبد الرزاق عزيز ومحمد أمين بك ويد الله كريم وعبد مراد وحسن حسين ومظفر النقشبندي وعادل مراد ... ، بعدها بأيام بدأت حملة واسعة لطرد مئات العوائل من السليمانية وأربيل وكركوك وخانقين وكفري وسنجار وجنوب الموصل إلى المناطق المحررة من كوردستان للضغط على الثورة وارباك الحياة الاجتماعية هناك، ولكن النتائج كانت على عكس مخططات النظام.

** القصيدة التي كتبها والدي (لگه ل ريبارى خابيرى - برفقة نهر خابور) مع نبذة عن حياته هي واحدة من محتويات كتاب الأدب الكردي للصف الثالث متوسط ضمن المنهج الدراسي المقرر بعد اتفاقية ١١ آذار / مارس ۱۹۷۰ وجاء في هذا الكتاب بأن والدي قد قام بتأليف هذه القصيدة عن الخابور تيمنا به، وهذا الكتاب بقي مقرراً للتدريس حتى إلى قبل سنوات قليلة وطوال فترة سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات، ويمكن طلب نسخة منه من أرشيف أي مديرية للتربية في العراق.

(إن الحياة بأسرها نضالٌ، فويلٌ لكل حي يريدُ أن يعيش بلا نضال)... فريدريك نيتشه

أوجعني موتك صديقي العزيز سي إبراهيم! وإذا كنت لم أتخيّل ترجّلك مغادرا الحياة بهذه السرعة، فلأني لم أستوعب بعد هول الصدمة هذه، وأنت الراحل الذي في أوج الشباب والعطاء!؟ نعم..، كان فراقك قاسيا على قلوبنا نحن الذين عشنا معك بضعة أشياء غير ذات بال بالنسبة للكثيرين اليوم، متى علمنا أُفولها في خضم كلّ هذه الانتهازية المستشرية في عوالمنا الراهنة. لذا، كان لزاما أن نتجرّع وجع فراقك المُفزع حقّا؛ إذ إنّ موت الفجأة هذا غير مطاق، وخاصّة بالنسبة لأمثالك الطيّبين الكرماء، الأذكياء من ذوي الفضل، والكرم، والجود. فرحلتك الأبدية هاته إنّما هي في حقيقة أمرها رحيل قبل الأوان؛ فلقد غادرت تاركا الجمل بما حمل، بخصوص مهمّات أساسية للتفكير (الشعر، الأدب، الأعمال الخيرية التطوعية، إلخ)، كنت رافعا لواءها في منطقة سوس بوسط المغرب.

إبراهيم أوحسين.. الإنسان الأصيل الرفيع

هو ذا الأصيل الرفيع دائما، ينتزعه منك القدر انتزاعا، كما لو أنّه من معدن نفيس سرعان ما يتلاشى ويرحل في زمنية تأبى أن تترك المساحات الكافية للفهم. إنّ الله وحده يعلم أسرار هذه الطينة من الناس!

نعم..، غادرنا هذا الإنسان الأصيل الرفيع عن عمر الأربعين ونيّف، وهو العمر الأوج الذي يضيف فيه الإنسان إلى رصيد الحياة أجود ما لديه؛ ولعمري كم كان منتظرًا أن يعطي فقيدنا إبراهيم أوحسين أشياء كثيرة إلى مجالات الثقافة والأدب والفكر، بالنظر إلى ما كان يتحلى به من خصال، وما يقدّمه من تضحيات جليلة في هذا السبيل.

لقد كنت الإنسان الرفيع، ذا القلب الكبير في منطقة أيت ملول: ناظما للشعر ومبدعا للنثر، كاتبا على السجيّة. كنت دارسا ومفكّرا رغما أنف الظروف الصعبة، وبالرغم من أنّك لست "ممن وطئت قدماه الجامعة".  هكذا، كرّست ـ رحمك الله ـ حياتك لمحاولة فهم كيف تُشكلنا ثقافتنا، وتهيكلنا تربيتنا الاجتماعية وتنشئتنا النفسية. ثمّ بيّنت كيف تتناسب تجاربنا المعيشة مع وعينا بما يقع، وأبرزت أنّه طالما نعطي وقتنا كله لهذه الحياة، فلذلك نسلّم لها نفوسنا بلا شعور ولا وعي: أو ليس هذا حال الكثيرين اليوم؟

إبراهيم أوحسين.. ومهمّة الكاتب الحقيقي

كتب إبراهيم أوحسين في مستهل كتابه "البدائي الذي يسكُننا" كلاما دالاٌّ قال فيه: "إنّما الكاتب من لا يشتغل بمنطق المصلح أو التنويري الذي ينتظر نتيجة في سلوك الناس وتفاعلاتهم الاجتماعية، بل يقف عند حدود إلقاء كلمته على المسامع أو مُسطَّرة على ورق، دون انتظار ردّ فعل ـ سلبا أو إيجابا ـ من هنا أو هناك، فذلك يجنّبه بلا شك السقوط في وهدات الغربة الزمنية والمكانية، وفي اعتزالية تتحول مع تراكم الأيام إلى طقس من طقوس الحياة المقدسة" .

يخبرنا هذا القول بقصص عديدة من خيبات الأمل التي تُداهم كتاب عصرهم، وهم غير مفهومين أو غير مُلتفتٍ إليهم. أولئك الكتاب الذين يئسوا من عصرهم الذي جافاهم أو بادلهم بسوء فهم كبير. بخصوص هذه الحالات كتب إبراهيم أوحسين مذكّرا بتجارب مريرة لكتاب كبار لم يُلتفت إليهم ولا استمُع لهم، أمثال: التوحيدي، المعري، ستيوارت تشيس، وآخرون. والظاهر من هذا الأمر، أنّ صاحبنا قد كان مدركا لمأساة الكتابة في زمن التيه والتفاهة حيث نحن اليوم، حيث القلّة القليلة تأخذ المسألة هذه بالجدّية التي تستحقها. ففيروس التفاهة المنتشر عبر المواقع الفعلية والافتراضية معا، قد كشف اللثام عن عدمية نظامنا الاجتماعي الثقافي العام، الذي أصبح الآن خاضعا بصفة كلية للمؤقّت والتسلية الرقمية. ولعلّ هذا التدفق المهول للتفاهة هو يحرمنا فعليا من أن نقرأ أو نسمع لأمثال هذا الكاتب الجاد.

 إبراهيم أوحسين ـ وهو عندنا المنارة التي أبى الموت إلاّ أن يطفئ نورها ـ هو بحقّ واحد من أهمّ الذين استطاعوا إبراز هذه المهمّة الأساس للكتابة والشعر والقصة. وهي المهمّة ذاتها التي جعلها في كتابه "البدائي الذي يسكننا" تنخرط فعليا في سيرورة الإنسان الحياتية، مسكونة بهمّه، ساعية في سبيل جعله أرقى الكائنات الحيّة على وجه البسيطة.  والواقع أنّ من يقرأ أعمال هذا الكاتب سرعان ما سيتأثر بكمية من التدفق السلس للأسلوب ممزوجا بلمسة ناقدة حادّة لما يراه جديرا بالنقد. فإبراهيم أوحسين من طينة الكتاب الأحرار الذين يكتبون كما يشعرون، ويفكرون كما يحسّون دون لفّ ولا دوران. إنّه كاتب على السجية، وكذا يقول لسان حاله وهو ينثر المكتوب نثرا أو نظما للشعر، يصدح بالمكتوب بلا مهادنات في إصداراته المختلفة.

هذه الطريقة في الكتابة تجعل صاحبها يكتب بدمه لا بمداد قلمه كما كان يقول نيتشه، إذ السجيّة وحدّة الإحساس ورهافته، كلّ ذلك يولّد الرغبة في قول كلّ شيء دفعة واحدة؛ فمثل قوة انفجارية، تريد كتابات سي إبراهيم أن تكون، حيث يتخللها الغضب والرفض والتمرد تعبيرا منه عن تمزّق حادّ في كينونته رحمه الله. لقد كان صديقنا المرحوم هذا ملوّحا بيديه دوما وهو يتحدّث أو يناقش، ولأنّه من طينة الذين يفكرون بصوت مرفوع، فإنّي أرى فيه تجسيدا لكلام نيتشه: باسطا ذراعه فوق رأسه؛ هكذا ينبغي على البطل أن يستريح، وهكذا ينبغي عليه أن يتجاوز استراحته أيضا.

فيا صديقي! كم تمنينا أن تكون بجوارنا، ويكون منك الكثير!! نعم، الكثير من تلك الأشياء الفكرية، الشعرية الثائرة الجميلة... ناثرا وناظما ومنظّما لكل شيء ... أمثالك ـ فعلا وقولا ـ هم من ينيرون هذه الدروب المظلمة. وآه! كم كُنتَ قمرا في كثير من الليالي الحالكة! نعم..، هكذا كنت حينها بيننا، أما الآن وقد رحلت، فما لنا إلاّ أن نجعلك حاضرا بيننا!! نعم، حاضرا في سطورك النقدية، حيًّا في إبداعاتك الشعرية والقصصية، الخ. نحن حزينون لفراقك، قلقون في فكرنا، كما كنت قلقا دوما بصدد تراجيديا القيم الجميلة التي كانت تجمعنا معك: المعرفة، الحقيقة، العدالة، الحق، الخ.

هو ذا أنت يا صديقي سي إبراهيم، إنسان إنسانيٌّ جدّا، كاتبٌ يسيرُ نحو المرتفعات حتى وإن خذلتك رداءة اليومي المعيش في يومنا هذا... يداك ممدودتان نحو الضحك كما عهدناك، ومزاجك القويٌّ دائما رغما عن أنف كلّ الظروف، وعيناك المفعمتان بحب الخير..؛ فصعودا أو نزولا، أنت ستكون دائما بيننا، لأنّ كلّ تلك السخرية التي نثرتها بيننا هي التي سنجعلها عربون محبتنا لك.

توفي الكاتب والشاعر إبراهيم أوحسين يوم 12 ماي 2025 رحمه الله موتة مفاجئة، وكان بمثابة الكاتب الحقيقي الذي ألهم العديد من شعراء الجنوب، سواء بشعره العميق أو بأخلاقه الكريمة. أمّا أنا فقد عرفته كاتبا مفكّرا فدا، وإذ كان يفكّر كما كنت أتصوّر التفكير، فقد جعلته من صنف مفكّري الكينونة الذين يكون آخر اهتماماتهم احراز شهادات ونيل ألقابٍ رنّانة زائفة. فرحمة الله تعالى عليك صديقي، أمّا مصيرك السقراطي هذا، فقد جعل ثلّة ممّن يعرفونك حقّ المعرفة يبكون رغما عنهم، تقديرا منهم لروحك الطيبة السخية، ولأعماقك الخصيبة فكرا وشعرا وتخييلا. ولا أقول إلاّ أنّ الكاتب الحقيقي هو حقّا المفكر الحقيقي، أي الإنسان الذي يأخذ روحه معه نحو الأعالي، مهدئا من روعه، مودعا قلبه، ساخرا من كل ما يرى. 

فإلى روحك الطاهرة السلام والرحمة والغفران صديقي، وإنّا لله وإنا اليه راجعون.

***

كتبه الحسين أخدوش / المغرب

تمر ذكرى رحيل يوسف إدريس (1991) والعالم العربي يعيش زمناً مختلفاً تماماً عما عرفه الكاتب. ثورات اشتعلت ثم خبت، حروب طاحنة مزقت الأوطان، أنظمة سقطت وأخرى تشبثت بالسلطة، وشعوب تتأرجح بين اليأس والأمل. وفي خضم هذا المشهد، يطفو سؤال ملح: كيف كان يوسف إدريس سيرى عالمنا اليوم؟ وهل كان قلمه سينجح في تشريح هذا الواقع المعقد؟ 

عندما انطلقت شرارة الثورات العربية عام 2011، كان الكثيرون يتساءلون: ماذا لو عاش إدريس ليشهدها؟ هذا الكاتب الذي عاش حياته منحازاً للفقراء والمهمشين، هل كان سيرى في هذه الانتفاضات تحقيقاً لحلمه، أم كان سيكشف عن تناقضاتها مبكراً؟ 

في مسرحيته "المخططين"، رسم إدريس صورة لمجتمع يُدار كأنه مشروع هندسي، حيث البشر مجرد أرقام في معادلة السلطة. اليوم، وبعد فشل العديد من الثورات، يبدو أن "المخططين" الجدد- سواء كانوا أنظمة قديمة أو قوى خارجية- نجحوا في تحويل الأحلام إلى كوابيس. هل كان إدريس سيكتب عن هذا التحول؟ الأرجح أنه كان سيفعل، لكن ليس بلسان الواعظ، بل بلسان ذلك الفلاح الذي يرى النار تأكل حقله، فيضحك كي لا يبكي. 

الحق أنه لا يمكن قراءة يوسف إدريس بمعزل عن السياق التاريخي الذي عاش فيه، سياق كان يصرخ بضرورة الثورة، ليس فقط على المستوى السياسي، بل على مستوى الذهنيات والبنى الاجتماعية المتكلسة. هنا، يبرز سؤال جوهري: كيف استطاع طبيب متخصص في الأمراض النفسية أن يتحول إلى واحد من أهم من شَرحوا أمراض المجتمع العربي؟ 

الجواب ربما يكمن في أن إدريس لم ينظر إلى الطب كمهنة بقدر ما كان ينظر إليه كمدخل لفهم الإنسان. في مستشفيات القاهرة، حيث كان يتدرب، لم ير المرضى كحالات سريرية، بل رأى في عيونهم قصصاً تنتظر من يرويها. هكذا، انتقل من تشريح الجثث إلى تشريح المجتمع، وكأنه كان يقول: "الجراح ليس سكيناً، بل القلم". 

لماذا كتب إدريس بالعامية؟ 

في زمن كان فيه الأدب الرسمي يكتب بلغة فصحى متعالية، اختار إدريس أن ينحاز إلى لغة الشارع. لكن العامية عنده لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت بياناً ثقافياً. لقد أراد أن يذكرنا أن الأدب الحقيقي لا يعيش في الأبراج العاجية، بل في بيوت الطين، في مقاهي الحارات، في صرخات الباعة الجائلين. 

في قصة مثل "البطل" (من مجموعة أرخص ليالي)، نجد البطل لا يتكلم بلغة نجيب محفوظ، بل بلغة الرجل البسيط الذي يحلم بأن يكون "مِش مهم". اللغة هنا تصبح جزءاً من المأساة، لأنها تكشف الفجوة بين ما يقال وما يعاش. 

الجمهور شريك في الجريمة 

إذا كان توفيق الحكيم قد جعل المسرح منصة للحوار الفلسفي، فإن يوسف إدريس حوله إلى محكمة. في مسرحية "الفرافير"، لم يكن المتفرجون مجرد مشاهدين، بل أصبحوا شهوداً على عملية استلاب الشعب. الفرافير (البطل التراجيدي الكوميدي) ليس مجرد شخصية، بل هو مرآة لكل مصري – بل لكل عربي – يعيش في دوامة الخضوع والتمرد. 

الأمر الأكثر إثارة هنا هو أن إدريس لم يقدم حلولاً جاهزة. المسرحية تنتهي بصراخ الفرافير: "يعني إحنا ليه؟"، وهو سؤال يتركه الكاتب معلقاً في الهواء، كأنه يقول: "الجواب عليكم أنتم أن تبحثوا عنه". 

الصراع مع السلطة

على عكس كثيرين من جيله، رفض إدريس الانخراط في الخطاب السياسي الجاهز. كان قريباً من اليسار، لكنه لم يكن ماركسياً بالمعنى الحرفي. كان وطنياً، لكنه لم يقدس النظام. في روايته "الحرام"، لم يهاجم الاستعمار أو الرأسمالية، بل هاجم النفاق الاجتماعي الذي يجعل الفقراء ضحايا دون أن يتحرك أحد. 

هذا الموقف جعله في صدام دائم مع السلطات الثقافية. فبينما كان المثقفون ينقسمون بين مؤيد للنظام ومعارض، كان هو يرفض أن يصنف: "أنا لست مع أحد، أنا مع الإنسان". 

لماذا عاد إدريس إلى الحكايات الشعبية؟ 

في آخر سنواته، بدأ إدريس يبحث في التراث الشعبي، ليس كباحث أكاديمي، بل كساحر يستخرج من القصص القديمة تعويذات جديدة. في "ملك القطن" و"الجنس الثالث"، نرى كيف يحوِّل الحكايات الشعبية إلى نقد اجتماعي. 

هنا نكتشف أن إدريس كان يرى في التراث سلاحاً مزدوجاً فهو من ناحية سجن للأفكار، لكنه من ناحية أخرى يمكن أن يكون أداة للتحرر إذا ما أُعيدت قراءته بوعي. 

اليوم، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على رحيله، ما زال سؤال إدريس يتردد: كيف نكون أحراراً في عالم يريدنا عبيداً؟ الجواب لم يكتب بعد، لكن إدريس ترك لنا خريطة: اقرأوا الواقع، اكتبوه بصدق، وثوروا عليه حتى عندما يبدو الثمن باهظاً. 

ضحايا أم جلادين؟ 

من سوريا إلى اليمن، من ليبيا إلى السودان، صارت الحرب جزءاً من الحياة اليومية للملايين. إدريس، الذي عاش حرب 1967 وكتب عنها بقسوة، كان يعرف أن الحرب لا تنتج أبطالاً فحسب، بل تنتج أيضاً ضحايا مجهولين، أولئك الذين لا يذكرهم التاريخ. 

أما في قصته "العسكري الأسود"، لم يصور البطل كجندي شجاع، بل كإنسان ضائع في آلة الحرب. لو كتب اليوم، ربما كان سيركز على أولئك الأطفال الذين يحملون السلاح بدلاً من الألعاب، أو على النساء اللواتي صرنَ "أراملَ قبل أن يصبحنَ زوجات"، كما قال في إحدى قصصه. 

في "الجنس الثالث"، كتب عن هؤلاء الذين يعيشون على الهامش، غير قادرين على الانتماء إلى العالم "الطبيعي". اليوم، ربما كان سيكتب عن جيل كامل يعيش في الفضاء الرقمي، بين الانتماء إلى وطن لم يعد موجوداً إلا في الذاكرة، والانجذاب نحو عالم افتراضي لا يعترف بالحدود. 

إدريس استفهام مستمر!

اليوم، بينما تدور عجلة التاريخ بسرعة مخيفة، يبقى يوسف إدريس حاضراً ليس لأنه قدم أجوبة، بل لأنه علمنا أن نطرح الأسئلة الصعبة. لو عاش بيننا اليوم، لربما كان سيكتب عن اللاجئين الذين صاروا ظلاً لأنفسهم. وعن الشباب المحاصر بين بطالة قاتلة وحلم الهجرة. أما النساء اللواتي يحاربن على جبهات متعددة فكان سيخصص لهن جل أعماله المسرحية . 

لكن الأكيد أنه كان سيكتب بذلك الأسلوب الذي يجمع بين القسوة والشفافية، بين السخرية والرحمة. لأنه، في النهاية، كان كاتباً يؤمن بأن الأدب ليس تسلية، بل ضرب من المقاومة. 

***

عبد السلام فاروق

بقيت أنقّب عن تسمية "زهور شقائق النعمان" ومن أين جاءت؟ فتوصلت إلى أن ملك الحيرة النعمان بن المنذر كان يستلطفها ويوصي بزرعها حول قصره الشهير "الخورنق"، ويأمر بحمايتها، فنُسبت إليه. وثمة أسطورة تقول أن علاقة حب نشأت بين أدونيس وعشتار، وحين قتُل أدونيس بكت عليه عشتار بحرقة ومرارة، وتضرّعت إلى السماء أن تنبثق زهرة من دمائه، وبعد ساعات ظهرت زهرة بلون الدم، وهي زهرة شقائق النعمان وتُعرف أيضًا ﺑ "زهرة النساء" أو "زهرة الرياح" عند اليونانيين، وهي دليل على انبعاث الحياة بعد الموت.

وكنت قد درست في "مدرسة الخورنق المتوسطة" في النجف، التي كنّا نستذكر فيها حكاية زهرة شقائق النعمان، وهي زهرة بقيت أحبها لرقتها وللونها الأحمر القاني المطرّز بالأسود في وسطه، والتي كثيرًا ما كان الأهل يستخدمونها لمنافعها الطبية.

ودائمًا ما يرتبط بذهني أن النجف هي "زهرة النساء"، فهي بوصلتي أينما ذهبت وحيثما حللت، وعلاقتي بها مثل علاقتي بالتاريخ والفلسفة، وأنا مُغرم بكليهما، فالفلسفة هي أم العلوم، أما التاريخ فهو أبوه، والنجف هي الجغرافية الأولى لهذا التعاشق الذي شكّل مجرى حياتي.

مدينة خارج خطوط الطول والعرض

أعتبر النجف خارج خطوط الطول والعرض، وأنجذب نحوها عاطفة، فللقلب أحكامه الخاصة، كما أميل إليها فكرًا، فدروب العقل تهديك إليها، وهكذا يلتقي القلب والعقل عندها.

وثمة حيرة وأسباب حين تكتب عن النجف، وحسب ابن عربي: الهدى في الحيرة، والحيرة حركة، والحركة حياة"، فكل شيء فيها حركة وحياة، وحيرتي في النجف تقوم على عدد من الاعتبارات؛

أولها - أنها صاحبة مقام، وهي تفتح نوافذها ولا تغلقها، بل تترك أبوابها مفتوحة أيضًا، حتى وإن كانت مواربة، فمنها كان يدخل نسيم المعرفة ونور الفكر، مثلما تدخل الشمس والهواء، وهكذا كان الترنح بين اليقينية الإيمانية التبشيرية، وبين التساؤلية العقلانية النقدية المفتوحة، وهي مدينة جدل مثلما هي مدينة علم، وهي مدينة إيمان مثلما هي مدينة سؤال، وبقدر ما هي مدينة يقين فهي مدينة شك.

وثانيها – النجف، مثل كلّ المدن، تنتمي إلى ناسها مثلما ينتمي الناس إليها، والناس هم يصنعون المدن مثلما هي تصنعهم بأرضها وسمائها وشمسها وشجرها ونسائها ورائحتها، والمدينة مرآة الناس مثلما الناس مرآتها، وهذا هو تاريخها بكلّ ما يزخر به؛

وثالثها – أن النجف بقدر ما هي مدينة دينية، فهي مدينة مدنية أيضًا، وكان التفاعل الديني - المدني حتى داخل حوزتها العلمية.

وأشير إلى بدايات القرن العشرين والصراع بين المشروطة (حكم مقيّد بدستور) والمستبدّة (حكم مطلق)، ثم بدأت نواة التنوير من معقل الأحرار في "مدرسة الآخوند" لخمسة شباب كان لهم تأثيرهم لاحقًا مثلوا مرحلة تطلّع إلى الحداثة وهم الشاعر أحمد الصافي النجفي، والسياسي والأديب ولاحقًا وزير الداخلية سعد صالح جريو، والأديب عباس الخليلي، والفقيه سعيد كمال الدين، والفقيه والباحث علي الدشتي (إيراني الجنسية). وهؤلاء شكلوا بواكير حركة التجديد المعاصرة في الحوزة.

ورابعها - المناخ الفكري والثقافي النجفي الذي يمتاز بحيوية، فهي معهد علمي يتّسع للجدل والنقاش والنقد في علوم الدين والثقافة والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وهو ما ينعكس على الشارع، وتجده أحيانًا على لسان البقال وصاحب المقهى والمعلم والدارس في الحوزة والمثقّف والمتطلّع إلى الحداثة والتنوير.

وكلّ ذلك يتعايش في النجف في هارموني عجيب للتنوّع والتعددية يسير في أزقتها وحواريها القديمة مع أرغفة الخبز والمواكب الحسينية والليالي الرمضانية والمناسبات الاجتماعية والمكتبات الخاصة والعامة وخلايا اليسار والمنشورات السرية والعشق المكتوم والصحن العلوي والسوق الكبير. وتغضب النجف أحيانًا وتتمرّد وتحزن، ولكن غيمها لا يُمطر إلّا علمًا وفقهًا وأدبًا وفكرًا وكرامة وحبًا.

اللغة إحدى أدوات النجف. إنها موجودة ومسموعة في كلّ مكان، حتى في صمتها، فالنجف تتكلّم وتقول كلامًا بليغًا. للحرف جلال في هذه المدينة، كما هي الفاصلة والنقطة، ولعلّي أردّد مع مظفر النواب:

هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق

نأمة في العشق تكفي

نقطة تكفي

فلا تكثر عليك الحبر والأوراق

كل من في الكون تنقيط له إلّا الهوى

فاحذر بالتنقيط (نهوي)

واسأل العشاق

هكذا ينهمر الجمال أمامك ويتجسّد في صور وخيالات وأحلام، وتنبجس الحقيقة، كأنها شلالات حنين، لأن المدن تشبه رجالها، مثلما تشبه نسائها، وبقدر ما في النجف من صبر وصلابة، ففيها براءة ورقة، وبقدر ما فيها من تعصّب وتتطرّف، فثمة فروسية ومروءة ورحمة وتسامح.

النجف في شراييني

لو فتحتم شراييني لوجدتم النجف وأزقتها القديمة تجري فيها، ولسمعتم صوت القرآن يصدح من كل بيت وحارة ومقهى ومحل، إنه صوت والدي عزيز "العزيز" الشعبان الحِمْيَري القحطاني، الذي كنت أستمع إليه صباح كلّ يوم وهو يتلو بصوته الجهوري آيات من الذكر الحكيم. ولرأيتم المواكب الهادرة والمظاهرات الحاشدة والصلوات الروحانية. يتردّد صداها، حتى يُخال إليك أنك تسمعها.

قلت للطبيب الذي أجرى لي عملية القلب المفتوح، حافظ على النجف التي في داخل هذا الكائن الصغير وما فيه من أسرار، فالحب بدأ من النجف، ولا تنس اللقاءات عند شط الكوفة، والأماسي المعطّرة. إنه الفرات العظيم النازل من الأعالي، من تركيا مرورًا بسوريا وصولًا إلى العراق والمتّجه إلى ثغره الباسم البصرة الفيحاء لعناق دجلة الخالد المتّحد مع الفرات في شط العرب، وذلك باجتياز محطات من بينها الكوفة.

كنّا نلعب في ساحة جامعها الشهير "جامع مسلم بن عقيل" مساء الخميسات والجُمع أحيانًا، وكانت مخيلتي الطفلية تذهب إلى الاعتقاد أن هذا الجامع هو أكبر جامع في العالم، كما نسبح في نهرها الجميل، ونأكل التوت من شجيراتها البيضاء والحمراء عند قصر الملك، ونقطف التمر البرحي الذهبي اللذيذ، ونختلي لننظّم الاجتماعات في بساتين آل ماضي بحجة عيد ميلاد أحدنا أو ختان أحد أخوة رفاقنا أو زواج شقيقه الأكبر أو أية مناسبة لنغطّي على خلوتنا السريّة تلك. ليس هذا فحسب، بل نرتّب مواعيدنا الغرامية البريئة فيها أيضًا.

كنت أردّد وأنا في مغتربي ما يقوله الشاعر الكبير بدر شاكر السياب:

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام

حتى الظلام، هناك أجمل، فهو يحتضن العراق

وكانت الكوفة "الحمراء" هي ما أقصده، على الرغم من أنني عشت بالقرب من دجلة في منطقة العطيفية ببغداد، وكنت أتمشى يوميًا على كورنيش الكاظمية قرب ساحة الشاعر عبد المحسن الكاظمي، لكن الكوفة ظلّت في خاطري ونهرها ظلّ يلهمني، فمهما اغتسلت بمياه أنهار عظيمة مثل النيل والدانوب والسين والتايمز والراين والفلتافا والليطاني وغيرها، إلّا أن نهر الفرات ما يزال يشربني وأشربه، ومياه دجلة ما تزال تطهّرني، وكلّما شعرت بنكوص أو قلق أو حيرة، أتّجه إلى دجلة لأبثّه لواعجي وهمومي ومخاوفي، وسرعان ما يستوعبني بسحره وغموضه، حيث البهاء والكبرياء والسلام.

حين أشرب أي كأس ماء فإنني أتذكّر الفرات العظيم، وأتقاسم نصفه مع ماء دجلة، ولا أدري كيف يختلط الماء بالماء، وهو ما شاهدته عند التقاء البحر المتوسّط بالمحيط الأطلسي في مدينة طنجة المغربية الساحرة الغافية على البحر.

***

د. عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

..................

*   مقطع من الكلمة التي ألقاها د. عبد الحسين شعبان بعنوان "النجف خد العذراء"، في الاحتفال الذي أقيم على شرفه في النجف، وتكريمه بحضور نخبة من الشخصيات الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية العربية والكردية، من داخل العراق ومن خارجه، إضافة إلى ممثلين عن المرجعيات الدينية والعشائرية والوجوه الاجتماعية المعروفة في مضافة آل سميسم في 5 آذار / مارس 2025.

يمتد الجزء الثالث والأخير من السيرة الذاتية للروائي زهير الجزائري من صيف عام 1972 وينتهي بتاريخ 22 / 5 / 1979. حيث يعود الراوية إلى العراق مع زوجته سعاد وابنهما نصير بمحض إرادته. لم يكن زهير شيوعيًا بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما كان ماركسيًا يؤمن بالفكر اليساري ويثق بطروحاته الفكرية. ثمة هاجس بدأ ينتاب الراوية وهو ينظر إلى الطلائع وهم يضربون الأرض بأقدامهم بأنّ "الفاشية قادمة مع إحساس عميق بالهزيمة أو اللاجدوى"(4). تحضر في بعض مقاطع الجزء الثالث مناجيات قليلة وأحاديث هامسة مع النفس من بينها "الجو مهيأ لتدجيني.. وجئت إلى البلد طوعًا وبرغبتي.. وقد تخليتُ عن حماقاتي السابقة.. حين أسكر، يندسني المحتج في داخلي فأنحّيه جانبًا وآمر نفسي بشماتة: خليك مع الساكتين!"(ص، 4).

لم يكن العمل في المؤسسات الإعلامية البعثية سهلًا على أصعدة كثيرة؛ فالشيوعي أو الماركسي أو المستقل يعاني من رقابة دائمة لأنّ البعثيين يحصون عليهم أنفاسهم ويعرفون عنهم كل صغيرة وكبيرة، ويعتبرون وجودهم مؤقتًا لكنهم يحتاجونهم حاجة ماسة لأنّ المؤسسات الثقافية البعثية برمتها لا تستطيع أن تتواصل وتعمل بجودة فائقة من دون هؤلاء الكُتّاب والمثقفين العراقيين الذين "لم يبتلعوا حبّاية البعث" بتعبير الجزائري.

كانت أجهزة السلطة في العراق تعرف جيدًا بتذمر الشيوعيين والماركسيين من العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها الثقافية والفنية على وجه التحديد. وقد وصل هذا التذمر في بعض الأحيان إلى الإحساس بالقطيعة حيث يقول الجزائري: "أبدًا لم نشعر أنّ البلد بلدنا عن حق"(ص، 6) وكأنهم غرباء عن بلدهم ومحيطهم الثقافي في الوقت ذاته.

غمغمة وحوش مُحاصَرة

أشرنا سلفًا إلى الجزائري قد كتب في مختلف الأجناس الأدبية والفنية كالسينما والمسرح والنقد التشكيلي والآثار والأمكنة لكنه كان يتفادى الجد الكامن في السياسة ويلجأ إلى التمويه والتعمية اللغوية حيث يقول: "تسلحنا بالكلمات نلغّزها ونلعب بها لنحايل السلطة التي تريد أن تطوّعنا... نغمغم مثل وحوش محاصرة ونبدأ بحملة تمزيق الورق، بما في ذلك المقالات التي كتبناها"(ص، 6).

من يعرف حياة الجزائري من كثب يدرك تمامًا مزاجه المتقلب الذي لم يستقر على جنس إبداعي محدد فقد كتب الشعر مبكرًا لكنه أدرك على عجل وتساءل مع نفسه: ما الذي سأضيفهُ للشعر العراقي وأمامي عبدالأمير الحصيري والجواهري وقبلهما المتنبي الكبير؛ مالئ الدنيا وشاغل الناس؟ فحينما فكّر بكتابة قصيدة تحت عنوان "مقتل شيوعي في شارع مزدحم" أخفق أو شعر بعدم جدوى الكتابة الشعرية في حضرة الشعراء الكبار. لذلك اتجه إلى المطالعة وقرأ كتبًا لدستويفسكي وكافكا ومالرو وسرفانتس ونيرودا وغائب طعمة فرمان وما سواها من أعمال أدبية أثْرت الذائقة الإنسانية في مختلف أرجاء العالم.

غالبية الملحوظات التي يجترحها الجزائري في هذه السيرة يجب أن تؤخذ على محمل الجد والاعتبار لأنها ناجمة عن تمحيص لفكرة جريئة أو مفهوم عميق كأن يقول: "أرى أنّ الحزب يبالغ هذه الأيام في التأكيد على ماضيه.. إنّ الحزب هو حزب الحاضر أو المستقبل"(ص، 10) وهذا الأمر ينسحب على شريحة واسعة من المجتمع العراقي تستدعي الماضي البعيد وتعيش على خرافاته وأساطيره بينما ينغمس العالم المتقدم بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة المُذهلة.

يفاجئنا الأب علي هادي الجزائري؛ والد زهير، بين أوانٍ وآخر بإطلالاته العصرية التي تنتمي إلى الحاضر أو المستقبل أحيانًا. فقد أشرنا سلفًا إلى أنه يعزف على آلة العود، ويترنم بأغاني محمد عبدالوهاب، ويُدرّس المسرح، ويتفادى اللقاء بالمُعمّمين، ويرتدي زيًا أوروبيًا. وها هو الآن يفاجئ ولدهُ وفلذة كبده بزجاجة فيها ما ينعش الروح والجسد. وتبدو إطلالات هذا الأب المثالي المتحضر أشبه بالواحة الجميلة التي تُريح البصر.

لم تكن حياة الجزائري الوظيفية مستقرة. فتارة يُضايقهُ رئيس التحرير، وتارة ينحّيه من رئاسة القسم، وتارة ثالثة يُعيدهُ إليها. كما أنّ العمل الصحفي يرهقهُ، خاصة إذا كان في مؤسسة بعثية، فلا غرابة أن يقرأ قصص كافكا ورواياته التي تضع أبطالها في موقف المتهَم دائمًا أمام قضاة قساة لا يعرفون الرحمة. كان الجزائري يتمنى في بعض الأحيان أن يتخلص من العمل الصحفي الذي يلاحقه حتى في سريره وينغمس بقراءة التراث القديم ويستمتع بكتب التصوّف لأنّ "لغتهم حادّة وممتلئة بالممكنات"(ص،13).

يسمّي الجزائري الأشياء بمسمياتها ولا يخشى في الحق لومة لائم لذلك يكتب "اليوميات" التي تتطلب الصدق والصراحة والجرأة. وثمة أمثلة كثيرة في هذه السيرة تشير بشجاعة ووضوح إلى العديد من الشخصيات التي لم ينسجم معها أو لم يرتح لها في الكتابة أو في حياتها اليومية العابرة.

مُجاورة المنائر الذهبية

تبدو هذه السيرة جامعة مانعة تشتمل على تاريخ العراق وأحداثه منذ ستينات القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر وربما يمتد بعضها إلى أجداده الذين الذين قدِموا من الجزيرة العربية وأبهرتهم الأهوار بجمالها الخلاب فسكنوا فيها ردحًا من الزمن قبل أن ينتقلوا إلى مدينة النجف ويجاوروا المنائر الذهبية التي تلتمع آناء الليل وأطراف النهار.

ثمة يوميات تتحدث عن سجن "قصر النهاية"، ويوميات تتحدث عن جرائم "أبو طبر الذي روّع الناس الآمنين ببغداد، ويوميات ثالثة تتحدث عن حرب تشرين وغيرها من الحروب العربية - الإسرائيلية إضافة إلى الوقائع والأحداث التي لم يكتبها الجزائري بروح المؤرخ ولغته الجافة وإنما كتبها بأسلوب أدبي يجمع بين القصة والصحافة كما قال له أحد رؤساء التحرير ببيروت ذات يوم. يركز الجزائري في هذه السيرة على سنوات ما كان يسمّى بـ "الجبهة الوطنية التقدمية" التي ضمّت الحزب الشيوعي العراقي والحزب الثوري الكوردستاني وقسم مؤيد للحكومة من الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومستقلين إلى جانب حزب البعث المهيمن على كل مفاصل السلطة في العراق. واستمرت الجبهة منذ سنة 1973 وحتى أوائل سنة 1979م لتنتهي نهاية كارثية ما تزال مرارتها تحت الألسن الشريفة. عاش الراوي قريبًا من الحزب تارة، وبعيدًا عنه تارة أخرى وحينما يشعر بالضيق والاختناق يلتجئ إلى القراءة أو يلوذ ببعض الأصدقاء الخُلّص الذي يعاقرون سحر الخمرة وحلاوة النبيذ المعتق.

ينتبه الجزائري منذ وقت مبكر إلى الأشياء الإبداعية الجميلة مثل الموسيقى التي سوف يدمن عليها، والفن التشكيلي الذي يتابعه بحماس، والباليه؛ هذا الفن الساحر والعظيم الذي يتحول فيه جسد الراقص أو الراقصة إلى معزوفة تخلب الألباب. كما تشكّل السينما هاجسًا آخر للجزائري ويبدو من خلال هذه السيرة الذاتية أنه شاهد الكثير من الأفلام العربية والأجنبية التي أثْرت خطابه البصري وحفّزت خياله الذي يمتحّ من الأحداث الواقعية والغرائبية في آنٍ معًا.

ترويع الناس الآمنين1488 adnan

يلفت الجزائري اهتمامنا إلى الفظائع التي ارتكبها "أبو طبر" ببغداد وروّعت الناس الآمنين إلى الدرجة التي أصبحت فيها كابوسًا جماعيًا صنعه البعثيون بامتياز وأربكوا العراق من أقصاه إلى أدناه.

ما إن تندلع حرب من الحروب العربية - الإسرائيلية حتى تتحفّز شهية الصحفي عند الجزائري للمجازفة والذهاب إلى جبهات القتال بينما تعترض زوجته سعاد على هذا الفعل الذي تعتقده جنونيًا ولا تجد حرجًا في إثارة سؤال منطقي مفاده: "ماذا ستفعل أنت الفرد النحيف بين الجيوش الكبيرة ودباباتها وطائراتها؟"(ص،24).

ليس غريبًا أن يُفْصَل الجزائري من مجلة "الإذاعة والتلفزيون" التي تحمّل فيها العمل على مضض لكنه وجد فرصة أخرى في صحيفة يومية يمحضها حُبًا من نوع خاص وهي "طريق الشعب" التي تحتضن كُتابًا من الطراز الرفيع، وسوف يندمج معهم وكأنه يعيش بين أفراد أسرته. كان الجزائري مُعجبًا بالعديد من الوجوه الثقافية التي تعمل في الصحيفة من بينهم سعدي يوسف ويوسف الصائغ وصادق الصائغ وفايق بطّي وسلوى زكّو وفالح عبد الجبار ورشدي العامل وآخرين. لقد تحولت علاقته بالعاملين في الصحيفة إلى علاقة صداقة حميمة، وفكر عميق، وتوافق روحي في أشياء كثيرة فعندما التحق بهم الشاعر مخلص خليل والناقدة فاطمة المحسن توزّعوا على أقسام الصحيفة التي تراهن على العمّال والفلاحين والطبقات المسحوقة من المجتمع العراقي ولكنّ ثلاثهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى المتعلمة ولم يرَ بعضهم معملًا أو مزرعة أو مدينة فقيرة مثل "الثورة" وما سواها من مدن مماثلة في العوز والحرمان.

تصيّد أخطاء البعثيين

لم تكن "طريق الشعب" مُهادنة للسلطة البعثية، بل أنّ المسؤولين البعثيين كانوا يتذمرون من انتقاد كُتّاب "طريق الشعب" حتى قال أحدهم ذات مرة لفخري كريم، رئيس التحرير: "أنتم تتصيدون أخطاءنا وتتجنبون ذكر الإنجازات"(ص،26). يشيد الجزائري بالشاعر سعدي يوسف ويحترمه لأسباب كثيرة أكثر من غيره. والمعروف أن سعدي يوسف حاولَ أن يثبّت تقاليد مدرسة عراقية تعتمد على "الواقع المرئي والمكان المحدّد" وأعتبرها قاعدة انطلاق للحساسية الشعرية. وذهب بإعجابه إلى أبعد من ذلك حينما قال: عنه بما معناه أنه كان يعرف المُرسل الذي بعث القصيدة سوف يصير شاعرًا حتى ولو من بيت واحد! وهذا الحدس العميق متأتٍ من حساسيته العالية وخبرته الطويلة في كتابة الشعر وتذوّق الجيد منه. ويضيف الجزائري بأنّ سعدي يوسف كان أكثرهم ريبة من الجبهة مع البعث على العكس من فالح عبد الجبار الذي كان مطمئنًا إلى ذلك التحالف المريب. والغريب أنّ طارق عزيز قد انتبه إلى خطورة سعدي يوسف حينما قال في واحد من اجتماعات الجبهة ردًا على زكي خيري: "نعم، أنتم تقيّمون ايجابياتنا في المقال الافتتاحي لكنكم تشككون بنا في القصائد المُلغّمة"!(ص، 29). يعتبر الجزائري الشاعر يوسف الصائغ أكثر حيوية وتنوعًا من سعدي يوسف في ذلك الوقت فهو شاعر وروائي ورسّام وكاتب عمود صحفي. ويرى بأنه أكثر انسجامًا مع يوسف الصايغ لكنه يحترم سعدي يوسف ويصغي له باهتمام في المرات القليلة التي يتحدث فيها بصوت خافت!

ثمة إشادة كبيرة بالشاعر رشدي العامل الذي كان يكتب مقاله السياسي اليومي بنفس واحد ولا يرفع رأسه إلّا عندما تُوخزه دودة الكحول فيأخذه عبد المجيد الونداوي إلى البار ليمارس طقسه اليومي المعتاد.

يثني الراوية على كتابات فالح عبد الجبار عن الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا. وقد حذّر من صعود الساحر وسيطرته على الوعي الجمعي. وقد رأى الراوية وفالح أنّ هذا الساحر سوف ينوّم شعبًا باستعمال القسوة والعنف ويلاحقهم في المنافي البعيدة.

يتكشف الولع الموسيقي للجزائري هذا الجزء من السيرة، فقد جاءه ذات مرة شخص أرمني وعرض عليه عددًا كبيرًا من الأسطوانات التي جمعها طوال حياته من بينها أسطوانات لأنريكو ماسياس، شارل أزنافور، فرانك سيناترا، بتولا كلارك وفيروز وآخرين وطلب منه أن يأخذها بأي ثمن أو مجانًا إذا لم تكن لديه نقود فهو على أبواب سفر ولم يكن يدري بأن الجزائري سوف يسافر عن قريب. ينتقد الجزائري سكنة البتاويين من المسيحيين والكورد الذين يسكنون في بيوت صغيرة تغص بالعوائل الكبيرة التي تضيع فيها خصوصية الأبوين وهما يمارسان الحُب وسط أعين الفتيات المتربصة.

يحتشد هذا الجزء من السيرة بقصص تمتد من انهيار المقاومة الكوردية إلى الفنان التشكيلي ضياء العزاوي الذي كان جنديًا آنذاك، مرورًا بمدينة أربيل "أربائيلو" التي بناها عبيد عراة الظهور ليجعلوا منها مدينة الآلهة الأربعة. وانتهاءً بالوقوف عند  الضابط طه الشكرجي الذي كان قاسيًا مع الكورد ويكنُّ لهم كراهية عجيبة وغير مبررة.

عادات الشعوب المتفتحة

يسافر الجزائري إلى بوخارست ويندهش للصراع الغريب بين كتل الإسمنت وخضرة الغابات، ويلفت انتباهه منظر شاب يقبل فتاة في موقف الباص، وسوف تتكرر هذه المشاهد غير مرة لتترسخ في ذهنه عادات الشعوب المتفتحة وتقاليدهم الحضارية التي لا تحدّ من الحريات الشخصية والعامة.

لم يخبئ الجزائري معاناته من ضيق ذات اليد حيث يقول بصراحة تامة " صحيح أني تعوّدتُ الإفلاس والديون ولكن مواجهة دائن تخلّف موعده ما زال يحرجني كثيرًا"(ص، 44).

كان الجزائري حريصًا على وقته منذ أيام صباه وشبابه. ففي أواخر سنة 1974 كان يضيق ذرعًا ببعض المعارف حيث يقول عنهم: "الطيبة والأدب الجمّ الذي أُلاقي به مثل هؤلاء الناس سيجعل حياتي مثل فندق أو مَضيف بلا حُرمة. إنهم يسرقون وقتي وجدّيتي وأعصابي. سأكون أكثرب حزمًا في المستقبل"(ص. ن). لا يقتصر تبديد الوقت عند الجزائري على فوضى الزيارات التي تقتحمه من دون سابق إنذار وإنما تمتدّ إلى الامتناع عن القراءات العشوائية ووضع حدٍ لها حيث يصرّح بالفم الملآن:"عليّ أن أرتب قراءاتي. وقتي ضيّق لن أبددهُ بالتجريب بروايات عراقية وعربية لا تُغني تجربتي بالأفكار العمودية"(ص، 46).

لم يفرّط الجزائري بأية فكرة جيدة تخطر بباله وسرعان ما يفكر بتحويلها إلى قصة قصيرة بينما ينهمك على الدوام بكتابة نص روائي. ففي الشهر الأخير من سنة 1975 وضع اللمسات الأخيرة على رواية "المغارة والسهل" وهي سيرة ذاتية وسياسية لفترة حاسمة من حركة المقاومة. وغالبًا ما يُصدر أحكامه النقدية القريبة من الواقع بأعماله فقد وصف هذه الرواية من الناحية الفنية بالكلاسيكية لكن عذره الوحيد أنها رواية منبثقة من داخل الحركة.

تتداخل الأحداث الخاصة بالعامة، وطالما أنّ السيرة ذاتية في جوهرها فلابد أن يتطرق الكائن السيري إلى حياته الأسرية أو العاطفية، ولا بدّ أن يكون صريحًا كما يريد منظّر السيرة الذاتية الشهير فيليب لوجون الذي يرفض حتى استعمال الأحرف الأولى من أسماء الشخصيات التي ترد في السيرة الذاتية كما فعل الجزائري مثل (س. ن) و (ع، أ) وشخصيات أخر لم يرد الراوي أن يكشفها ويعرّيها لسبب من الأسباب. ففي هذا الجزء من السيرة يعترف الجزائري بالشِجار الذي اندلع بينه وبين زوجته سعاد لأنه تأخر بعد الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل ويعزو سبب هذا الشجار إلى أنها تريد أن تتحكم بحياته الشخصية ويتمنى لو يفترق عنها بعض الوقت حتى يرمم ما تهشّم بينهما من علاقة حميمة. ومما زاد الطين بلّة أنه نسي موعد الاجتماع الحزبي ذات مرة فعزلوه لكننا سوف نكتشف بأنه ورث النسيان من عائلته وأنّ لديه مشكلة حقيقية في الأرقام والتواريخ التي يحتاجها في العادة غالبية الكُتّاب الصحفيين. ثم يمضي في اعتراف أكثر جرأة حينما يكشف بعض خصاله الشخصية ويقول: "لستُ جسورًا ولا متلهفًا لرغباتي، إلّا أنني أميل إلى تكوين علاقات خارج حياتي الزوجية"(ص، 47). أمّا اعتقاده بأنّ العلاقات الطارئة تجدد علاقته مع سعاد فهذا تبرير غير معقول ولا يختلف عن التبريرات الضعيفة التي قدّمها في هذا السياق. والصحيح أنّ قلب الرجل قد يتسع لأكثر من امرأة في بعض الأحيان.

يمحض الجزائري بعض أصدقائه حُبًا من نوع خاص مثل عبدالرحمن طهمازي، وسهيل سامي نادر ومنعم حسن ويتعلم منهم هدوء العاطفة غير أنّ أقربهم إلى قلبه هو سهيل سامي حيث يقول عنه:"عندما يأتينا هو وزوجته أشعر بأمان كأنني على وشك النوم في حضن والدي"(ص، 53).1487 adnan

تُحف ومعالم أثرية

يتجلى الجزائري حينما يكتب عن المدن العربية والأوروبية مثل بيروت ودمشف وطشقند وبراغ وبوخارست وموسكو ولعل مشاهداته الدقيقة وقدرته على التقاط مكامن الجمال سواء في الطبيعة العمرانية أو السلوك البشري هي التي تجذب القارئ وتجعله يندمج في هذا الجمال ويتماهى فيه. ففي أثناء تواجده في العاصمة الأوزبكستانية طشقند لا يكتفي بالحديث عن ظاهرة الهزّات الأرضية التي اعتادها الناس في تلك المضارب وإنما يأخذنا مباشرة إلى "الفتاة الأوزبكية التي حملت معها في البداية تمنّع الشرق، ثم دخلت في غرفتي. كنّا عاريين ونتلوى ببطء حين حدثت الهزّة"(ص، 56). وهذا الأمر ينسحب إلى مدينة موسكو وما تنطوي عليه من تحف ومعالم أثرية مثل ضريح لينين وبيت تولستوي، ومحطات الأندرغراوند وما سواها من أيقونات جمالية تسر الناظرين.

تحتشد هذه السيرة الذاتية بالكثير من المعلومات المهمة عن شخصيات أدبية وفنية على وجه التحديد مثل الروائي غائب طعمة فرمان الذي حوّل المخرج قاسم محمد روايته المعروفة "النخلة والجيران" إلى عمل مسرحي لكنها لم تُعجب فرمان الذي خرج من العرض غاضبًا ومستاءً إلى أبعد الحدود. ومع كل شخصية ثقافية أو فنية يُتحفنا الجزائري بأسماء محاذية لهم. فمن خلال فرمان نتعرف إلى ندمانه أمثال جلال الماشطة، وسعود الناصري، وسلام مسافر الذين كانوا يتحرّجون من إيصاله إلى البيت بسبب مزاج زوجته العكر.

يعود بنا الجزائري إلى أحداث "تل الزعتر" وأبرزها انهيار ملجأ يحمل الاسم ذاته وراح ضحيته 500 مواطن من سكّان الحي دفنوا داخل الملجأ من دون أن يتحرّك الضمير العالمي المتبلّد.

ثمة اعتراف مهم يدلي به الجزائري غير مرة بأنه لا يعرف أنواع الأزهار أو الأسماك أو التمور، ويجهل أسماء النجوم والكواكب وجغرافية المدن. ويتساءل مع نفسه: "لا أعرف سببًا لذلك، هل لأنّ صمغ ذاكرتي فاسد؟ أم أنّ حواسي صمّاء؟ "(ص، 64). وحينما تُعييه الإجابة يُلقي اللوم على والدته فيقول: "ورثتُ الإهمال من أمي التي تعوّدت ألّا ترى أو تصغي إلّا إلى هواجسها الذاتية"(ص.ن).

يحدثنا الجزائري عن حالة الحُب الجديدة التي عاشها مع وداد وما سببتهُ من صراع نفسي لكليهما، فهي تحب الجزائري بعمق لكنها تشعر بتأنيب الضمير كلما دعاها إلى المنزل ووضعها وجهًا لوجه أمام زوجته سعاد التي ترحب بها وتأخذها بالأحضان ومع ذلك فإنّ الجزائري يستنتج بأنّ علاقته بوداد تزيد من حبّهِ لسعاد! وهذا تبرير ثانٍ لا يجانب الصواب أيضًا.

الشيوعيون رهائن مُعدة للذبح

بدأ الحلفاء أو البعثيون يعدمون الرفاق الشيوعيين بالجملة الأمر الذي يؤكد ريبة الشاعر سعدي يوسف بهم وحدسه المسبق الذي لا يخيب في كثير من الأحيان. يقول الراوية: "لا أريد أن أصبح خروفًا في قطيع يسير وراء راعيه"(ص، 70). مقالة "الراصد" التي تقطّر سُمًا وتؤلب النظام العراقي على الإيغال في جرائمة حيث أعدموا خمسة عشرًا شيوعيًا شنقًا حتى الموت أو رميًا بالرصاص، فالبعثيون لا يريدون حلفاء وإنما يحتاجون إلى خدم في مضايفهم. لقد كانت الجبهة كمينًا للشيوعيين، وكانوا يضربونهم وهم في طريقهم إلى الموت حتى وصل اليأس بزوجة الراوية أن تدعي بصوت مهموس:"يارب اهدمها على رؤوسنا ورؤوسهم معًا"(ص، 79). ثم تفاقمت حملات الملاحقة، والاغتصاب، وغرف الغاز، والدهس، وحبوب الهلوسة التي تسبب الجنون المؤقت. وقد دُهس زهير بسيارة كسرت ساقه وتلقى العلاج في مستشفى الطوارئ بينما كان الحزب الشيوعي يعتمد على إرادة الأفراد العُزّل وعلى مساعدة تأتيه من حدث خارجي. والأنكى من ذلك فقد اكتشف الجزائري بأنه ممنوع من السفر فشعر بالغُبن والاستياء لأنّ السفر ميسّر للجميع ومتعذّر عليه، فلا غرابة أن يشعر بأنّ الشيوعيين باقون هنا "كرهائن مُعدة للذبح"(ص، 86). لقد اكتظت سجون البعث بالشيوعيين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب بشكل ممنهج ويكفي أن نذكر ما تعرضت له الكاتبة فاطمة المحسن وزوجها عبدالحسين زنكنة ومئات الشيوعيين الآخرين سواء في بغداد أو المحافظات العراقية الأخرى. وفي يوم 6 / 4 / 1979 أغلق البعثيون صحيفة "طريق الشعب" لمدة شهر واحد لكن عبدالرزاق الصافي طلب من موظفي الصحيفة أن يهيئوا أنفسهم لإصدار مجلة "الفكر الجديد" التي سوف يكتب فيها الجزائري باسمه الصريح مقالًا عن "توماس مان والنازية" ليثير غضبهم وحفيظتهم. وحينما كثُرت حوله دبابير البعث أخذه القاص سعيد فرحان إلى بيتهم في مدينة الثورة ليسجّل موقفًا شهمًا لن ينساه الراوية مدى حياته.

ينهي الجزائري سيرته الذاتية بالسفر إلى الأردن بواسطة جواز سفر مزوّر أحضره نسيبه السيد كاظم شبّر وأخبره أن ينسى زهير منذ الآن اسمه الحقيقي زهير ويحمل اسمًا جديدًا وهو ناظم كمال، تاجر أُردني، وعوّد نفسه على اللهجة الفلسطينية وأندسّ بين ثلة فلسطينيين وأردنيين داخل السيارة، وتصنّع النوم.

لا بدّ لقارئ هذه السيرة الذاتية أن ينتبه إلى التداخلات الزمنية لأنّ هذه السيرة لا تعتمد نسقًا خطيًا متصاعدًا ولكنها تغطي مجمل الوقائع والأحداث التي وقعت منذ الستينات وحتى يوم الناس هذا. ولعل الجزائري قد أفلح في كل شيء تقريبًا كما كان صادقًا وصريحًا في غالبية المواقف التي تناولها إذا ما استثنينا تبريره لعلاقاته العاطفية المتداخلة مع حياته الزوجية. وخلاصة القول إنها سيرة ذاتية مفعمة بالحياة والحُب والأمل وقد نجح فيها إلى حدٍ بعيد وقال فيها ما لم يقل السابقون في مذكراتهم ويومياتهم وسيرهم الذاتية التي أغنت المكتبتين العراقية والعربية على حدٍ سواء.

*** 

عدنان حسين أحمد

بعيدًا عن التنفّج والتكبّر والغرور

بالتعاون مع نادي حبر أبيض البريطاني نظّم مركز لندن للإبداع العربي أولى محاضرات المشغل السردي بلندن التي تمحورت على السيرة الذاتية للقاص والروائي والكاتب الصحفي زهير الجزائري التي انضوت تحت عنوان "موجات مرتدة" بأجزائها الثلاثة "النجف والطفولة، بغداد والستينات"، "ذكريات فلسطينية" و "العودة للعراق" ونظرًا لطول هذه السيرة الذاتية التي انطوت على مذكرات ويوميات أيضًا فإننا سنتوقف عند الجزء الأول فقط الذي بلغ 377 صفحة، وسوف نعرّج على الجزأين الثاني والثالث عند صدورهما لاحقًا كي نغطي غالبية المحطات التي مرّ بها زهير الجزائري كصحفي، وقاص، وروائي، وشيوعي معارض لفكر البعث، وإنسان مُرهف الحسّ والمشاعر قبل هذه الصفات والعناوين الأدبية والفكرية آنفة الذكر.

إذا ما أردنا أن نضع كتاب "موجات مرتدّة: النجف والطفولة، بغداد والستينات" للقاص والروائي زهير الجزائري في مشغلنا السردي فإنّ علينا أن نمسك بالعصب النابض لهذا السِفر الذي ينطوي على مذكّرات ويوميات وأحداث تغطي حياة الكائن السردي منذ عام 1943 في أقل تقدير وحتى يوم الناس هذا.1455 adnan

ما الذي يميّز هذه السيرة الذاتية عن غيرها من سِير الكُتاب العراقيين أو العرب على وجه التحديد؟ هل أنّ ما يميّزها هو الشكل أم المضمون أم اللغة المجنّحة أم أنّ هناك أشياءَ أخرى عصيّة على التوصيف؟ ولكي لا نشتطّ في الكلام أو نتوسع كثيرًا نقول إنّ ما يميّز هذه السيرة عن غيرها من السِير الذاتية أنّ كاتبها صادق وصريح إلى درجة كبيرة ولعله قال كل شيء تقريبًا إلّا باستثناءات محدودة سنأتي على ذكرها في الوقت المناسب.

وبما أنّ قراءاتنا متقاربة إلى حدٍ ما فإنها ستسهِّل الوصول إلى بعض الاستنتاجات المنطقية. فحينما يتحدث عن الروائي العراقي غائب طعمة فرمان لا يقع في مطب المبالغة أو التهويل وإنما يقول بصراحة تامة :"حينما تحدث لجمهور عربي ارتبك خجلًا فضرب المايكروفون في أول حركة من يده وتعثّر كثيرًا في الحديث على عكس تدفقه في الكتابة"(ص، 324). وهذا التعثّر هو نفسه الذي لفت انتباهي حينما شاهدت الفيلم الوثائقي المعنون "غايب، الحاضر الغائب" للمخرج قاسم عبد إذ صعقتني لغته الضعيفة المهلهلة التي لا تتناسب مع قامة أدبية بحجم غائب طعمة فرمان فأيقنت لحظتها بأنّ الجزائري يقول الحقيقة كما هي عارية من رتوش المجاملات والنزعات الإخوانية. أو حينما يتحدث عن عفوية الشاعر جان دمّو وصراحته وآرائه الصادمة بكل شيء تقريبًا. فذات مرة سأله الجزائري عن لوحة "صهيل الحصان المحترق" لفايق حسين وهي عبارة عن ليفة حمّام أُلصقت على الكانڨاس وخلفها ألسنة نار فأجاب بشكل خاطف وسريع "تجربة مكثفة"!. وهذا الأمر ينسحب على تشخيصه لغالبية الشخصيات التي عرفها أو رافقها ردحًا من الزمن أمثال سعدي يوسف، ويوسف الصايغ، وفاضل العزاوي، وسرگون پولص، وفاضل عباس هادي وعشرات الأسماء التي يصعب حصرها في هذا المضمار.

يسعى القائمون على المشغل السردي التوقف عند الثيمة الرئيسة للنص الأدبي سواء أكان قصة أم رواية أم سيرة ذاتية. وتأمل الصيغ السردية المُتعارف عليها، وتشخيص ودراسة الميتا - سرد والتعالقات الأخرى التي تُثري النص الأدبي.

لا بدّ من الإشارة إلى مؤثرات الوالد علي هادي الجزائري، المعلّم وعازف العود ومؤدي أغاني محمد عبدالوهاب ولولاه لكان مصير زهير مختلفًا عمّا هو عليه الآن. فقد كان محظوظًا بهذا الأب المتفتِّح ذهنيًا حيث اختار، عن قناعة تامة، الأفندية الخمسة من عشيرته الذين يشاركونه اهتماماته الثقافية والفنية المتحضرة، وتجنب صداقة المُعممين إلّا في حدود المجاملات الضيّقة التي تضطره لمخالطتهم. فمن شبّاك البيت كان زهير يرى والده وحيدًا وسط غابة من العمائم. ولعل غربة الوالد قد انتقلت إلى الابن مبكرًا فلاغرابة أن يبتعد عن الأجواء العامة المكفهرة ليجد نفسه بين أقرانه المعدودين الذين يحتفون بالأدب والفن والثقافة التي لا تنسجم مع العقليات القديمة التي تنبذ كل جديد ومُحدث سواء في التفكير أو السلوك الاجتماعي الذي لم يعهده الآباء والأجداد.1456 adnan

نُفي الوالد علي هادي الجزائري بسبب نشاطه المُعارض إلى "سدّة الهندية"  فوُلد زهير في "المنفى". لا يتذكر زهير أنّه رأى والده عصبيًا أو حادّ المزاج وإنما كان يراه ساخرًا، محمّر الوجه بعد كؤوسه الأربع. ولو تجاوزنا تأثير الوالد قليلًا لوجدنا أن زهيرًا قد صنع نفسه بنفسه بعد جرعة الوالد الكبيرة. كما كان يتوفر على خصال غريبة أبعدته عن التنفّج والتكبّر والغرور.

لا يدّعي زهير ما ليس فيه، ولا يتبجح بمَلَكاته الدراسية حيث يقول بالفم الملآن:"كنتُ واحدًا من أكسل التلاميذ. أكرهُ الدرس فأشرد بعيدًا عن كلام المعلّم"(ص،23). وسوف نعرف أنّ زهير الجزائري لا يميل إلى تقنية "الحفظ والاستظهار" وإنما كان يميل كليًا إلى البحث والتحليل وامتصاص المادة المعرفية والتشرّب بها.

إذا أردنا أن نقسّم حياة زهير الجزائري إلى محطات مهمة فإن انتماءه إلى اتحاد الطلبة سنة 1957م وهو في سن الرابعة عشرة هو المحطة الفكرية الأبرز التي تؤشر على أنّ اختياره للشيوعية لا يخلو من مجازفة كونه يعيش في مدينة "مقدّسة" يعتبر أبناؤها هذا الحزب مُلحدًا وكافرًا وما إلى ذلك من توصيفات مشينة تُحرّض الآخرين وتؤلبهم عليه. أمّا المحطة الثانية فتتمثل في كتابة الرسائل العاطفية لشباب المحلة حيث كان ينصت إليهم ويدوّن مشاعرهم الداخلية نيابة عنهم. وإذا ما وضعنا مرحلة الطفولة والصبا جانبًا فإن تركيز الكاتب سينصبُّ على جيل الستينات النجفي الذي يتألف من ثمانية أدباء وهم على التوالي: عبدالإله الصائغ، عبدالأمير معلة، حميد المطبعي، حميد سعيد، زهير الجزائري، عبدالرضا الصخني، موسى كريدي وجاسم الحجاج". كما يتناول العديد من أسماء الجيل الستيني في مدن ومحافظات العراق الأخرى وخاصة العاصمة بغداد وكركوك كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

ربما تكون مجلة "الكلمة" هي الإنجاز الأهمّ لجماعة الستينيين ليس في النجف فقط وإنما في عموم المحافظات العراقية فقد أصدروا العدد الأول مجلة "الكلمة" سنة 1967م ولم تتوقف إلّا عام 1974م بعد أن تجاوزت أعدادها الثلاثين عددًا وهي "تهتم بالأدب الحديث ولا تلتزم به تعبيرًا بالضرورة" وقد أصبحت منبرًا للجيل الستيني في العراق برمته.

نتعمّق أكثر بشخصية الجزائري فنعرف أنّ قراءاته وجودية وميوله يسارية، بدأ بدراسة اللغة الألمانية في كلية اللغات بجامعة بغداد. كان يرغب بدراسة الهندسة المدنية والفنون الجميلة لكن معدله الضعيف دفعه إلى القبول بدراسة اللغة الألمانية وأحب طبيعة الحياة المتفاعلة في الجامعة حيث "كان المثقف الحكّاء أكثر جاذبية من الوسيم الثري"(ص، 116)

تتعدد الثيمات الرئيسة والفرعية في هذه السيرة من بينها عودة الراوي إلى الحزب وأنّ جيل الستينات هو جيل نغل بلاء آباء ويأخذون على رموزهم اهتمامهم بالموضوع السياسي والاجتماعي على حساب الذات التي كانت موضوع الستينيين المفضّل. أراد الستينيون أن يتحرروا من تجارب أجيال سبقتهم وأن يتخلصوا من تقاليد الشعر العمودي وغنائية الخمسينات. نشر فاضل العزاوي قصائد ميكانيكية، وتحرر الجزائري من المكان حينما دخل عالَم الحُلُم في قصة "النجوم الصدئة".

يصف الجزائري سنواته الثلاث في حياته الوظيفية بالأتعس "لأنها سنوات التخاذل والتنازلات والزيف وستبقى هذه السنوات مؤرقة بتعذيب الضمير"(ص، 255). فيقدّم استقاله ويقرر أن يغادر روتين الحياة المميتة ويقفز إلى العالم المتناقض المتحرك.

تتضمن هذه السيرة العمل في مؤسستين متناقضتين وهما مجلة "الإذاعة والتلفزيون" البعثية وصحيفة "طريق الشعب" الشيوعية حيث ينفر من الأولى ويجب الثانية ويندمج فيها. لقد كتب الجزائري في العديد من الحقول: السينما، المسرح، الأدب، الآثار متفاديًا الجد الكامن في السياسة متحايلًا بالألغاز على السلطة التي تريد أن تطوّعهم.

ينطوي هذا الكتاب على شذرات جميلة سواء داخل العراق أو خارجه ففي طشقند يتحدث عن الهزات الأرضية والهاويات التي تبتلع أحياءً كاملة بسكّانها. ويمكن أن نُدرج بعض آرائه بمدن أخرى مثل بيروت ودمشق وعمّان وبوخارست وبراغ وموسكو وما سواها من مدن وحواضر عربية وعالمية. تتناول السيرة انهيار الجبهة الوطنية وإعدام عدد من الشيوعيين شنقًا أو رميًا بالرصاص لأنهم لا يريدون حلفاء وإنما خدم في مضايفهم. كما يسلّط المؤلفُ الضوء على ملاحقة واعتقال وتعذيب العديد من الأدباء والكُتّاب الشيوعيين من بينهم عبدالمنعم الأعسم، وصباح الشاهر، وفاطمة المحسن، وعبدالحسين زنگنة.  في 19 / 5 / 1979م يختفي الراوي في أحد البيوت ويصل إليه نسيبه كاظم شبّر ويضع أمامه جواز سفر مزور ويخبره: "أنتَ منذ الآن لستَ أنت، انسَ زهير وأدخل ذاتًا جديدة؛ تاجر أردني اسمه ناظم كمال"(ص، 374).

***

عدنان حسين أحمد - لندن

....................

1- مركز لندن للإبداع العربي تديره الشاعرة دلال جويّد.

2- نادي حبر أبيض الريطاني يرأسه الشاعر جمال نصاري.

 

الإدمان على مجاورة الخطر

لم يَدُر في خَلَد القائمين على محاضرة "السيرة والرواية" تغطية كتاب السيرة الذاتية للقاص والروائي والكاتب الصحفي زهير الجزائري لأكثر من سبب؛ الأول هو مدة المحاضرة1 التي لا يمكن أن تتجاوز الساعتين في أفضل الأحوال، والثاني أنّ السيرة برمتها تتألف من ثلاثة أجزاء بواقع 700 صفحة، والثالث أنها تتضمن سيرة ذاتية تنفتح على أزمنة وأمكنة وشخصيات وأحداث كثيرة، والرابع أنها تجمع بين السيرة الذاتية والمذكّرات واليوميات. كل هذه الأسباب وأخرى غيرها هي التي دعتنا إلى الاختصار واختيار المحطات الرئيسة في كل جزء من الأجزاء الثلاثة التي انضوت تحت عنوان "موجات مُرتدة: النجف والطفولة، بغداد والستينات" و "ذكريات فلسطينية" و "العودة للعراق".

قبل الخوض في تفاصيل "ذكريات فلسطينية" لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الضمائر السردية التي يستعملها الكاتب زهير الجزائري تتوزع بين ضمير المتكلم، وضمير المُخاطَب، وضمير الجمع "نحن"، وهذا الأخير يمكن أن نلمسهُ بوضوح في رواية "آخر المُدن". وكما هو معلوم فإنّ ضمير المتكلم هو الأكثر حميمية والأقرب إلى ذائقة القارئ الذي يمكن أن يجد نفسه فيه أو يتماهى فيه بسهولة.

تُهيمن أجواء الحرب على بيروت وغالبية المدن والقرى اللبنانية وخاصة الجنوبية منها على وجه التحديد.  وأكثر من ذلك فالحرب "حُبلى بالأحداث" ولا حاجة أن تذهب إليها لأنها تأتي إليكَ ما إن تُطل برأسك من النافذة لترى كل شيء مجسدًا أمامك مثل شريط سينمائي لا يراعي الفئات العمرية ولا يستثني الأرواح الخائفة التي لم تعتد على الفظاعات والأعمال الوحشية التي تقشعر لها الأبدان.1465 zouhar

من الطبيعي أن تتجلى الذات الفردية حينما يأخذ الحديث طابعًا جمعيًا عامًا. فحينما كان زهير الجزائري يعمل في مجلة "إلى الأمام" الفلسطينية غازل رئيس التحرير موهبته الأدبية حينما أخبرهُ قائلًا: "أنتَ تكتب بقلمين الصحفي والقاص"(ص، 17) وهذا هو طموح الجزائري مذ تفتقت موهبته الإبداعية مبكرًا، فكلمة الأديب والقاص والروائي هي أهمّ بكثير من كلمة الصحفي التي يشترك فيها كثيرون لكن مفردة القاص أو الشاعر أو الناثر فيها الكثير من الخصوصية التي تُرضي "غروره" الإبداعي رغم أنه ليس مغرورًا ولا متنفجًا ولم يعرف التكبّر طوال حياته التي تجاوزت الثمانية عقود بثلاث سنوات تقريبًا.

الحرب الأهلية اللبنانية

تقترن الذكريات الفلسيطينة بالحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت منذ 13 / أبريل / نيسان / 1975 ووضعت أوزارها في 13 أكتوبر / تشرين أول 1990م بعد التوافق الأمريكي السعودي السوري. فثيمة الجزء الثاني من السيرة الذاتية هي الحرب الأهلية اللبنانية التي حرقت الأخضر واليابس، ودمّرت العقول المتقدة والأرواح المُرهفة، وقوّضت جل ما شيّده الإنسان اللبناني على مدى عقود طويلة.

ثمة أحداث ووقائع كثيرة في هذا الجزء أبرزها انتحار الفنان والكاتب الصحفي والمصور ابراهيم زاير، ومفارقات سعدي يوسف وصادق الصائغ  وجهلهما في استعمال السلاح الشخصي، وتغطيات الراوي أو السارد العليم لحرب البوليساريو التي تسعى لتحرير الصحراء الغربية من الاستعمار المغربي كما تدعي. ورأيه الشخصي بتفجير السفارة العراقية ببيروت، وعلاقته بالباحث فالح عبد الجبار، ولقائه بالشاعر محمد مهدي الجواهري، وموقفه من الحرب الأنكلو- أمريكية على العراق، واغتيال رفيق الحريري، وتفجير مرفأ بيروت وغيرها من الأحداث التي أربكت الشرق الأوسط برمته.

انتحار الفنان ابراهيم زاير

رغم معرفتي الطويلة بالصديق الفنان والصحفي الراحل اسماعيل زاير إلّا أنه لم يوضح لي الأسباب الحقيقة التي دفعت شقيقه الراحل ابراهيم زاير للانتحار، فقد حصر السبب بالجانب الوجودي، والانكسارات التي يمرّ بها عالمنا العربي وهي التي دفعت بعض أدبائنا وفنانينا للانتحار وهم "الشاعر اللبناني خليل حاوي، الأديب الأردني تيسير السبول، الشاعر والرسام العراقي ابراهيم زاير، الشاعر العراقي قاسم جبارة، القاص والروائي مهدي الراضي، اسماعيل أدهم صاحب كتاب "لماذا أنا ملحد؟"، الشاعر صالح الشرنوبي، الشاعر منير رمزي"(2) وعالميًا انتحر الروائي الأمريكي أرنست همنغوي، والشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، والروائية الإنكليزية فرجينيا وولف وما سواهم من أسماء أدبية معروفة. يشير الجزائري في الجزء الثاني من سيرته الذاتية بأنّ ابراهيم زاير كان شاعرًا وصحفيا ورسامًا ومقاتلًا يدافع عن القضية الفلسطينية، وعاشقًا كبيرًا، وأكثر من ذلك فقد موزعًا بين علاقته مع زوجته الكريمة وبين حُبّه الجارف لرسّامة لبنانية "سيتا مانوكيان" من أصل أرمني. ومن دون أن يوضح السبب الحقيقي صوب مسدسه إلى رأسه وأطلق على نفسه رصاصة الرحمة وجاء من يهزّ الراوي بقوة وهو غارق في نومه:"اصحى، أبو خولة (الاسم الحركي لابراهيم زاير) قوّس حالو"! وورقة بحجم اليد يقول فيها "قررتُ إنهاء حياتي هذا اليوم 23 / 3 / 1971م، آسف لإزعاجكم ووقّع رسالته كما يوقع لوحة"(ص، 26).

لا يختلف العراق عن باقي البلدان العربية في قسوته بتصفية المعارضين له والمناهضين لفكره الشوفيني وربما يكون العراق في مقدمة البلدان العربية التي تصادر حق المواطن في اختيار الفكر الذي ينتمي إليه أو الحزب الذي يجد فيه ضالته المنشودة. فالروائي محمد شاكر السبع، تمثيلًا لا حصرًا، يقول:"ليس باستطاعة أحد، حتى أهلنا، أن يبكوا علينا بصوت مُرتفع إذا تمّت تصفيتنا"(ص، 79). بل أنّ النظام البعثي الفاشستي صار يتمادى إلى الدرجة التي كان يأخذ فيها ثمن الرصاصات التي يعدم بها المعارضين والمناوئين لسياستهم الإجرامية.1466 zouhar

هيمنة المشهد الستيني

لم يكن الشاعران سعدي يوسف وصادق الصائغ هما الوحيدان اللذان لا يُجيدان استعمال المسدس الشخصي الذي مُنح لهما لحماية أنفسهما وإنما كان الصائغ ينساه على المغسلة كلما دخل إلى مطعم لكي يسدّ رمقه! ومن المفارقات الأخرى أنّ الشاعر سعدي يوسف كان يملي توجيهاته الأمنية أو الأوامر التي يتلقاها من فوق إلى الراوي زهير الجزائري وما إن ينتهي منها بعد دقائق معدودات حتى ينسى كل شيء ويأخذ صاحبه إلى شارع الحمرا الذي يُعدّ أبرز المتنفسات الحضارية والإنسانية ببيروت، مدينة الحب والحرية والأمل. إذا كان الجزء الأول من هذه السيرة الذاتية يضم العشرات من الأسماء الأدبية والفنية فإن الجزء الثاني يضم مثل هذا العدد وبينهم أسماء عربية وأجنبية من بينهم فالح عبد الجبار، عبد الإله النعيمي، رضا الظاهر، مخلص خليل، عبد الرزاق الصافي، وليد جمعة، سليم بركات، جان شمعون، زياد رحباني وأسماء كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرهم جميعًا وإن كان الستينيون أدباء وشعراءً ومفكرين وفنانين يهيمنون على المشهد الثقافي برمته.

لم يكن العراقيون مدمنين على السفر ولم يعتادوا الهجرة سابقًا إلى أوروبا أو الأمريكيتين مثل أقرانهم في الشام، وهذا بسبب ما فعله "الجستابو" بالعراقيين الذين آمنوا بأفكار يقول عنها البعثيون بأنها مستوردة أو قادمة من وراء الحدود! يُشيد الجزائري بقدرة فخري كريم العجيبة على "سرقة الفكرة من رؤوس المترددين وتحويلها إلى فعل"(ص، 101). ففي 19 / 11 / 1979 يقْدم مجموعة كبيرة من الأدباء والفنانين والصحفين على تأسيس "رابطة الكُتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين" الذين رفضوا الوصاية الحزبية وسعوا إلى تحقيق تطلعاتهم الأدبية والفنية والفكرية التي تستجيب لعامل الإبداع أكثر من استجابتها للاشتراطات السياسية الممنهجة.

فَرْنسة الجزائريين

أضافت تجربة زهير الجزائري في إطلاعه على الحركات السياسية المعارضة مثل البوليساريو بُعدًا جديدًا إلى معارفه السياسية، فالفرنسيون الذين احتلوا الجزائر وحكموها على مدى 300 سنة "فَرنسوا" فيها كل شيء حتى "أنّ أحدهم لم يفهم معنى كلمة "الحرية" التي أعطوا من أجلها مليون ونصف المليون شهيد"! ولم يُدرك معنى هذه الكلمة إلّا بعد أن أخبرهُ الراوي بأنها تعني "ليبرتي".

لو لم يكن زهير الجزائري مُدمنًا على مجاورة الخطر ومُولعًا بتسجيل اللحظة الحاضرة ساعة بساعة لما وجدت هذه السيرة الذاتية التي تغصُّ بالتفاصيل فعندما أراد الذهاب إلى موقع متقدم من مضارب البوليساريو طلب منه المرافق له أن يوقع على تعهّد شخصي يتحمل فيه المسؤولية الكاملة إذا ما حدث له طارئ ما يقول فيه:"إني الموقع أدناه ناظم شاكر حسن "وهذا هو اسمه الحركي" سأدخل الصحراء المُحررة بمحض إرادتي، والبوليساريو وكذلك السلطات الجزائرية غير مسؤولة عمّا سيحدث لي ولذلك وقعّت"(ص، 105). تتكرر هذه التجربة في زيارته لمدينة "البويرات" الواقعة جنوبيّ المغرب ويرى بأم عينيه "أكثر من خمسمائة قُتلوا في وادي الموت"(ص، 111) ليتساءل من الأعماق قائلًا:"هل هناك فكرة مقدسة تبرر كل هذا الموت الذي رأيناه؟"(ص، ن).

يندر أن تجد عراقيًا لا يحمل في داخله أكثر من قصة شخصية أو عامة، وخاصة أولئك الذين لم ينسجموا مع فكر البعث، فعمّة الراوي زارتهُ في دمشق وطلبت منه أن يماشي البعث أو البعثيين وببساطتها المعهودة أخبرتهُ أن يظل مُحتفظًا بقناعاته الفكرية والسياسية في عبارة جميلة صاغتها بالشكل الآتي:"والبگلبك خلّيه بگلبك". لقد هجّر البعثيون زوج هذه السيدة الكريمة المتواضعة إلى إيران وهو العراقي أبًا عن جد.

يميل الجزائري ليس إلى الفن التشكيلي فقط وإنما إلى السينما أيضًا وقد شاهد مبكرًا الكثير من الأفلام العربية والعالمية وكان يمكن أن يكونًا ناقدًا سينمائيًا ينضاف إلى الأعداد القليلة من نقاد السينما العراقيين فلاغرابة أن تتطور علاقته بنقاد السينما العرب مثل الناقد الأردني عدنان مدانات الذي كان يرتاح لصحبته ويجد فيه ضالته النقدية السينمائية المنشودة التي لم تتحقق لأنه تعمّق في الصحافة والأدب لاحقًا.

الخشوع والرهبة

لا يجد زهير الجزائري حرجًا في القول بأنه شيوعي لكنه يشعر بالخشوع والرهبة التي انتقلت إليه من خالاته وعمّاته اللواتي كنّ يخشينَ عليه من التطرف الفكري والإلحاد. يعتقد الجزائري بأنّ المتدينين أكثر شجاعة منهم "لأنّ لهم الجنة بعد الموت، أمّا نحن فلدينا المادية الديالكتيكية التي تقول لنا لا حياة للإنسان بعد الموت، هناك الفراغ المادي والخلود المعنوي"(ص،120).

لم يشعر المُهاجر العراقي أو المُقتلَع من جذوره بأنه في أمان وإنما يظل الخوف يُطارده في كل مكان فلا غرابة أن يشعر الراوي بأنه مُلاحق على الدوام وهناك من يتربص به الدوائر. ففي يوم 26 / 2/ 1980 يقول بيقين ثابت "البارحة أُبلِغت بأنّ اسمي ورد في قائمة المرشّحين للاغتيالات"(ص، 121) ثم يضيف: "قد يستخدمون كاتم الصوت، أو التفجير باللاسلكي أو الاختطاف"(ص، ن) وهو يفضل طريقة كاتم الصوت الذي يأتيك من الخلف، ولا تعرف وجه قاتلك ولا ترى الرصاصة التي تصيبك في الرأس أو القلب أو أي موضع آخر. يعتقد زهير أنه نجا من حادث اغتيال أو اختطاف فاشل. لقد نجح نظام البعث في بثّ الخوف والرعب لدى المعارضين له حتى وإن كانوا في منافٍ بعيدة عن العراق.

يختلط الخاص بالعام في هذه السيرة الذاتية فهو يتحدث عن الحروب وأشكال المقاومة المختلفة في مختلف أرجاء العالم لكنه سرعان ما يعود إلى الذات الشخصية وما يجاورها من هموم الأشقاء والشقيقات والخالات والعمّات وما إلى ذلك. فقد اشترك شقيقاه في الحرب العراقية - الإيرانية التي لم ينجُ من المشاركة فيها إلّا أصحاب "الواسطات" والحظوظ الكبيرة، والأثرياء الذين يدفعون الرشاوى الدسمة التي لا يقدر على دفعها الإنسان البسيط. ولسوء الحظ فقد قُتل شقيقه "ثائر" وسوف يترك أثره على جميع أفراد العائلة الأمر الذي يدفع زهير إلى التساؤل: "هل الحرب حادث طارئ في تاريخنا، أم هي شكل من أشكال العنف منغرسة في الطبيعة البشرية وفي بنية الكائن؟"(ص، 146).

التلصص في الشقق الصغيرة

ثمة أوصاف أدبية وتشكيلية دقيقة نجدها مبثوثة في متن هذه السيرة الذاتية حيث يقول الراوي:"ورأيت، أو دريت وأنا في مكاني، أنّ طائرة الظهيرة جاءت لتخطّ كإبرة على قماشة السماء الزرقاء خيطًا من القطن الأبيض"(ص، 153). هذه ليست عبارة صحفي وإنما أسلوب كاتب أدبي رصين يبعث على التأمل والخيال.

غالبًا ما يعقد الكاتب زهير الجزائري مقارنات بين بلده العراق وبلدان آخرى مثل لبنان أو سوريا أو جمهورية التشيك وما سواها من أقطار عربية وعالمية. ففي "بئر الحسن" يقول الجزائري: "يشبه أطفالهم هنا أطفالنا في مدينة الثورة يدخنون صغارًا ويحوّلون أي شيء إلى لعبة حتى غطاء المرحاض"(161). وفي الجزء الثالث نراه يرصد بدقة ما يحدث في غالبية بيوت البتاويين التي سكنها الأخوة المسيحيون وبعض الكورد، ونظرًا لكثافة الساكنين في كل بيت لم تبق أي خصوصية للزوج والزوجة في ممارسة علاقاتهم الجسدية والروحية الحميمة في آنٍ معًا. وهذه التفاتة باحث في علم الاجتماع الأمر الذي يكشف بأنّ الجزائري لم يكن كاتبًا صحفيًا أو روائيًا فقط وإنما باحث في حقل الاجتماع وهذا ما لمسه القائمون على المشغل السردي الذي وضع هذه السيرة الذاتية نصب عينيه. ولتأكيد صحة ما نذهب إليه نقتبس الجمل الآتية التي يقول فيها السارد:" المراهقات منهن ينمنَ في الغرفة نفسها مع آبائهنَّ ويشاهدَ المضاجعة بوضوح وهنّ يتصنعنَ النوم"(ص، 161) مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ هذه الحالة تحدث لدى غالبية العوائل الذين يسكنون في منازل أو شقق صغيرة ليس في العراق حسب وإنما في مختلف دول العالم.

لم يسلم الأستاذ فخري كريم من لوم والدة الكاتب زهير الجزائري ونقدها اللاذع. فحينما قُتل ابنها "ثائر" في الحرب العراقية - الإيرانية ألقت اللوم على "أبو نبيل" فخري كريم لأنه لم يرسلهُ في زمالة إلى الاتحاد السوفييتي أو أحد بلدان أوروبا الشرقية "كما فعل لكل أخوته وأقاربه"(ص،173).

لم يكن الانتقاد "الصارخ" أو "الواضح" مسموحًا به في صفوف الكوادر الصحفية التي تعمل في الصحف والمجلات والمؤسسات الشيوعية في العراق في أثناء ما يسمى بالجبهة الوطنية وكان الكاتب الساخر شمران الياسري "أبو گاطع" يعاني من الرقابة المفروضة على كتاباته اللاذعة للعقلية البعثية.

الغربة الفكرية

عاش الروائي زهير الجزائري والعديد من أصدقائه الشيوعيين من غربة داخل الحزب الشيوعي وقد وصفها وصفًا دقيقًا وصريحًا لا مجال فيه للتزلف أو المجاملة حيث قال: "تتزايد الجدران والحواجز التنظيمية؛ حواجز اللغة، وتباعد المشاعر، وسوء الفهم، وسوء القصد، والإهمال بيني وبينهم تمامًا كالمسافة بين بطل كافكا (جوزيف ك) وقضاته"(ص، 176).

تختلط المشاعر في أثناء تفجير السفارة العراقية ببيروت في 15 / 12 / 1981 الذي نفذه "ابو مريم" حينما دخل بسيارة ملغمة بـ 100 كغم من المواد المتفجرة في مرآب السيارت وقوّض البناية برمتها وأفضت العملية إلى عدد كبير من القتلى والحرجى بينهم السفير عبد الرزاق لفته والسيدة بلقيس الراوي، زوجة الشاعر نزار قباني. وقد وصف الشاعر رسمي أبو علي العمل بـ "الهمجي" وحسبهُ عارًا على المناضلين بينما بررهُ المعارضون العراقيون وأعتبروا السفار وكرًا للمخابرات العراقية التي تطاردهم بكواتم الصوت. أمّا السارد العليم فقد برّر فرحه بأنهم لم ينفذّوا هذا العمل وأنّ من قامَ به هو عضو في حزب الدعوة الإسلامي.

مُصادرة مسبحة الأسد

يركز الكاتب زهير الجزائري على بعض الأصدقاء المقربين إليه من بينهم ابراهيم زاير، وفخري كريم، وعصام الخفاجي، وفالح عبد الجبار وآخرين كثيرين لكن فالحًا قد كتب رواية تتمحور على عائلة زوجته السابقة "أميرة" التي لم تعجبها طريقة تناول عائلتها الكريمة وكانت تتذمر كلما قرأ مقاطع منها لبعض الأصدقاء. وذات مرض غضب فالح وأحرق الرواية وأنهى طموحة الروائي إلى الأبد.

كانت لفخري كريم علاقات وطيدة بالرئيس السوري حافظ الأسد وبعض المسؤولين السوريين وذات مرة "صادر" المسبحة التي كان يستعملها الأسد ولم يرجعها إليه.

من المواقف الطريقة التي يذكرها الروائي زهير الجزائري عن الشاعر الراحل محمد مهدي الجواهري أنّ الرئيس السابق حافظ الأسد كان يزوره في بيته الدمشقي وحينما تبلغ الساعة الثانية بعد الظهر يخاطبة الجواهري قائلًا: "تسمح لي أبو باسل وقت نومتي"(ص، 187) فيحمل الرئيس بعضه وهو يغادر الجواهري على أمل لقائه في زيارة قادمة لا يعرفها إلّا الرئيس نفسه.

تتكرر أسماء كثيرة لأدباء عراقيين من بينهم جواد الأسدي، غانم بابان، عواد ناصر، قاسم حول، هادي العلوي وآخرين معروفين في المشهدين الثقافي والفني في العراق.

وفي معرض مقارنة الرئيس حافظ الأسد بالدكتاتور صدام حسين كان يرى أنّ الأسد تصرف كرئيس رصين وكيّس وفي الحيز الذي يرسمه البروتوكول الرئاسي فهو لم يركب عربة ذهبية كما فعل صدام، ولم يطلق الرصاص من شرفة، ولم يفتش ثلاجات المواطنين. ولكن بالمقابل كان الأسد ظالمًا ومتجبرًا وقد صفّى معارضيه حيث مات صلاح جديد في السجن، وأخلى سبيل نورالدين الأتاسي قبل وفاته بأيام، وظل هو "الأسد" قائدًا للثورة التصحيحية لكن المواطنين لم يعرفوا ماذا انطوت عليه هذه الثورة التصحيحية؟

نرجسية الجواهري

ربما يكون لقاء زهير الجزائري بالشاعر محمد مهدي الجواهري هو الحدث الثقافي الأهم في هذا الجزء لأنه يسلط الضوء على نرجسية الجواهري العالية بينما لا يمتلك الجزائري إلّا قاموس شحيح في المدح والثناء. فلقد سبق للجواهري أن سجّل مذكراته في براغ على شريط فيديو لكن سرقة شقته بكاملها بما فيها الكاميرا وأشرطة الفيديو قد حرم قراءه ومتابعيه من هذه الذكريات المهمة بكل تأكيد. يشير الجزائري بأن نرجسية الجواهري كانت عالية جدًا ولا بد لمن يلتقيه أن ينظر في عينيه مباشرة وإلّا فلن يستمر بالحديث. ويؤكد الراوي بأنّ الجواهري الذي عرف الشهرة في عشيرنياته كان يمتلك ذاكرة قوية حتى أنه كان يحفظ قصيدة كتبها وهو في العشرين من عمره. تُرى، هل كانت ذاكرته القوية هي معجزته الخاصة؟ أم هي النتاج الحتمي لثقافة الاستظهار السائدة في مدينة تقوم على حفظ النصوص كما يذهب الجزائري؟

يواصل الجزائري باستذكار أسماء الأدباء العرب وعلى رأسهم بندر عبدالحميد، خيري الذهبي، عبدالرزاق عيد، صلحي الوادي، هشام شرابي، زكريا محمد وآخرين تناهل معهم كثيرًا طوال حياته الثقافية. يتوقف الجزائري عند اغتيال رفيق الحرير في 4 فبراير 2005، وعند انفجار مرفأ بيروت في 4 / 8 /2020 الذي راح ضحيته الكثير من اللبنانيين بين قتيل جريح وكأنّ لبنان، هذا البلد الجميل، منذور للفواجع.

ربما لا تفي هذه المقالة بكل ما جاء في الجزء الثاني من السيرة الذاتية لكنني بذلت قصارى جهدي لأحيطكم علمًا بأهم المواقف والمحطات الأساسية من هذا الكتاب والمحاضرة في آنٍ معًا.

***

عدنان حسين أحمد

...............................

1- محاضرة "السيرة والرواية" للكاتب زهير الجزائري وتقديم الناقد عدنان حسين أحمد نظّمها مركز لندن للإبداع العربي الذي تديره الشاعرة العراقية دلال جويّد بالتعاون مع نادي حبر أبيض الذي يرأسه الشاعر جمال نصاري. انعقدت الأمسية بتاريخ 3 مايو 2025 في وليم هوبين سنتر بلندن.

2- عبد المجيد، عاطف محمد،"لا ينتحر إلا المتفائلون!، لندن،" القدس العربي، 14 يوليو 2020 .

سيرة وذكريات عن المعلم مدحت كبابجي

من ذاكرة نضال الكورد في تاريخ العراق المعاصر

***

يزخر تاريخ نضال الكورد بالعديد من الأحداث والمناسبات الفريدة في مسيرتهم النضالية؛ ولاسيما في تاريخ العراق المعاصر الذي دشنت دينامياته في بداية تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وتختزن ذاكرة المرحوم والدي(حسين الجاف) بعديد من القصص التي تعكس التجارب النضالية لشخصيات كان لها أبلغ الأثر في مسيرة نضال الكوردي، لكنها بقيت مخفية عن كتاب التاريخ كونها من صناعة أناس عاديين وليسوا من القادة الكبار الذين عرفهم مجال النضال السياسي الكوردي، ومن هذه الشخصيات تعد شخصية المعلم، أو الأسطة مدحت كبابجي (1919- 2008) من الشخصيات التي أرى أنه ينبغي تسليط الضوء عليها، لأجل أن يعرف الناس ما قدمه من أعمال كبيرة أثناء مسيرة نضال الكورد السياسية والاجتماعية في العراق بعامة، وكوردستان بخاصة.

في بداية القرن العشرين كانت السليمانية على موعد مع حدث كبير وهو بداية العهد الاستعماري البريطاني للعراق بعامة، وكوردستان بخاصة؛ ولاسيما بعد معاهدة سايكس بيكو التي أسست جغرافية سياسية بعد انهيار الحكم العثماني، وكان العراق من حصة البريطانيين، لكن هناك مدينة رفضت الاعتراف بهذه الترسيمة للدولة العراقية الجديدة، وهي السليمانية التي انتفضت بقيادة ملك كوردستان الشيخ محمود الحفيد(1878- 1956) ورفضت أن تكون من أجزاء الدولة العراقية التي تأسست عام 1921، ومن ثم فقد اصبحت ثورة الكورد في السليمانية بقيادة الشيخ الحفيد أول صفحة من صفحات نضال الكورد ضد التقسيم الظالم الذي أحدثته معاهدة سايكس بيكو التي قسمت الكورد إلى أجزاء أربعة.

وفي خضم أحداث ثورة الحفيد عاشت السليمانية ديناميات ثقافية، وسياسية، واجتماعية تعبر عن رفض الكورد للواقع الجديد الذي أحدثه الاستعمار البريطاني، وكانت هناك ممارسات عديدة يقوم بها الناس كل حسب توجهاته واختصاصاته تعبر عن مقاومتهم لذلك الواقع، ومن هذه الممارسات التي نذكرها هي تجربة الأسطة مدحت كبابجي التي عبرت عن نشاطها النضالي خلال عمله كصاحب لمطعم كباب في السليمانية؛ ولاسيما في الحي القديم كانيسكان الذي كان يقيم فيه الشيخ محمود الحفيد، ونجله الشيخ لطيف الذي كان على صلة قوية بالأسطة مدحت كبابجي.

لم يكن الأسطة مدحت كبابجي غريباً عن مهنته التي امتهنها وورثها لأولاده، ولاسيما نجله الأسطة هيوا كبابجي (1958-)، فقد اكتسبها من طريق والده المرحوم (صديق عاشور) الذي كان قصاباً معروفاً في منطقة كانيسكان  إحدى الأحياء القديمة في محافظة السليمانية؛ إذ وجد والده أنه يجيد عملية اعداد المشويات؛ ولاسيما شوي الكباب واقترح عليه تأسيس مطعم للكباب في منطقته كانيسكان، وبالفعل يقوم الشاب مدحت وبتشجيع من والده القصاب إلى ممارسة تجربة افتتاح مطعم صغير لاعداد الكباب بعيداً عن مهنة القصابة التي تعلمها من والده.

بدأ الأسطة مدحت يكتسب شهرة وزبائن كثيرين في منطقته، وكان من أشهر زبائنه في بواكير عمله الشيخ لطيف محمود الحفيد نجل ملك كوردستان الشيخ الحفيد، وقد أعجب الشيخ لطيف الذي يعشق تناول الكباب على طريقة مدحت كبابجي في عملية اعدادها، وكان يرسل له اللحوم لاعداد الكباب لضيوفه؛ وذلك لأن بيت الحفيد لا ينقطع عليهم الضيوف؛ فضلا عن أنهم من العوائل الدينية، والسياسة التي لها حضور كبير في كوردستان بعامة، والعراق، بخاصة، ولم تقتصر علاقة الأسطة مدحت كبابجي مع شيخ لطيف الحفيد على اعداد الكباب بل تعدتها إلى أن تكون علاقة شخصية قوية جداً؛ إذ كان شيخ لطيف يعتمد عليه في تأمين الرسائل وبعض الآمانات من الأموال التي تستخدم في النضال السياسي للكورد ضد المستعمر البريطاني، ونظام الحكم في العراق، وقد تميزت شخصية الأسطة مدحت كبابجي بالسرية والكتمان في نشاطه السياسي الذي اختلط مع نشاطه العملي.

ومع أن الشيخ لطيف الحفيد كان مؤسساً لجميعة سياسية تدعى الأخاء(برايةتي)، لكن الأسطة مدحت كان يميل إلى (حزب هيوا) الذي تأسس في كوردستان في نهاية ثلاثينات وبداية أربعينات القرن العشرين، وقد كان أغلب قادة الحزب وأنصاره من زبائن الأسطة مدحت؛ ولاسيما قائدها التاريخي رفيق حلمي (1898- 1960) الذي تواجد في السليمانية، بعد أن أصبح مفتشاً لوزارة المعارف (المنطقة الشمالية)، وكان دائماً يحلُ ضيفاً في مطعم الأسطة مدحت ؛ ولاسيما بعد تفاقم الصراع داخل اللجنة المركزية للحزب، وكان عندما يتناول الكباب عند الأسطة مدحت يقول: فقد مطعم كاك مدحت كبابجي يوحدنا (تةنها كبابى كاك مدحت يةكمان دةكاتةوة)؛ إذ كان المطعم موقعاً للقاء قادة الحزب وأنصاره بشكل سري؛ ولاسيما اعضائه الكبار من قبيل: الشاعر دلدار، وضباط الجيش العرقي من الكورد الذين كانوا من الناشطين في حزب هيوا من قبيل: مصطفى خوشناو، ومير حاج أحمد، وعزت عبد العزيز، وخيرالله عبد الكريم، ومحمد محمود قدسي، وفؤاد عارف، والعقيد رشيد جودت، والشخصية الوطنية الكوردية توفيق وهبي، واسماعيل حقي، وبرهان جاف، والشخصيات الكوردية الأخرى من قبيل: نافذ جلال حويزي، وصالح اليوسفي، ونوري شاويس، والمهندس حسيب صالح، وإحسان شيرزاد، ودارا توفيق، وشقيقه خسرو توفيق، والشاعر شيركو بيكس وغيرهم من الشخصيات التي كانت تتواصل سياسياً واجتماعياً مع الشيخ لطيف محمود الحفيد من خلال مطعم الأسطة مدحت كبابجي في كانيسكان.

 ومن الجدير بالذكر أن كاك مدحت قد أطلق على أحد أولاده اسم (هيوا) تيمناً بالحركة السياسية التي تعاطف معها في شبابه، والمعلم هيوا وأولاده ئوميد، وأحمد قد ورثوا اليوم مهنة جدهم ووالدهم، ويعدون اليوم من الرموز الاجتماعية المهمة في السليمانية وكوردستان بخاصة، والعراق بعامة؛ ولاسيما في عملية اعداد الكباب الكوردي الذي يشتهر به الكورد في العراق.

بعد اللجوء الإجباري للبارزانيين إلى مدينة السليمانية؛ ولاسيما عام 1939 ، وبعد إقامتهم المؤقتة في منطقة (ملكندي) التي هي أحدى الأحياء السكنية القديمة لمدينة السليمانية يتعرف أسطة مدحت كبابجي على ملا مصطفى بارزاني، وذلك من خلال الشيخ لطيف الحفيد الذي ارتبط بعلاقة قوية مع البارزانيين، ويشترك معهم في النضال السياسي، والجذور الدينية؛ ولاسيما في علاقته الشخصية بملا مصطفى الذي يتذوق لأول مرة كباب السليمانية من خلال ضيافة شيخ لطيف الحفيد له في بيته في منطقة كانيسكان.

 ومن مطعم مدحت كبابجي بدأت عملية جمع إغاثة البارزانيين، ومن خلال بيت الحفيد، وذلك بسبب الظروف المعاشية الصعبة التي يواجهونها أثناء اقامتهم الإجبارية في السليمانية، حتى أن ملا مصطفى قد طلب من شيخ لطيف الحفيد مساعدته لإيجاد محل لبيع الذهب الخاص بعائلته؛ لأجل توفير المال لتأمين قوت العيش لعائلته وأنصاره من المقاتلين؛ إذ إن البارزانيين رغم ظروف العيش الصعب يرفضون أن يكونوا ضيوفاً ثقيلين؛ ولاسيما أن أهالي السليمانية يعانون من صعوبة العيش وتفشي الفقر والأمراض فيها.1447 jaff

يذكر لي والدي المرحوم حسين الجاف(1918- 1998) أنه عندما كان ينتظر شيخ لطيف الحفيد في مطعم كاك مدحت كان يساعده من دون مقابل في عملية فرم اللحم بالساطور؛ إذ لم يوجد في ذلك الوقت أدوات فرم اللحم، وكان كاك مدحت يقدم له الضيافة وهي عبارة عن لفات كباب بخبز التنور؛ ولاسيما عندما يتواجد شيخ لطيف الحفيد، إذ إن الأسطة مدحت قد أصبح لديه علماً أن والدي شخصاً مهماً جداً عند الشيخ لطيف محمود الحفيد.

ومن الصدف العجيبة أن الشخصية الوطنية العراقية اللواء فؤاد عارف وفي لقائه الأخير مع صدام حسين، وكان ذلك في عام 2002، قد ذكر لي عندما كنا في مقهى حسن عجمي في شارع الرشيد أن صدام حسين قد ذكر له أنه في أيام صباه وعندما كان زوج والدته ابراهيم الحسن يعمل حارساً في السليمانية اشتغل في أحد المطاعم في السليمانية وكانت مهمته تكمن في غسل الصحون، وتنظيف المحل عندما نهاية الدوام، وكان صاحب المطعم لطيفاً معه، لكن صدام حسين لم يتذكر إسم صاحب المطعم؛ ولكن في عام 2023 أجرى موقع باس نيوز حواراً مع أقدم المصورين الكورد في السليمانية(المصور حمة) الذي أكد من خلال معارفه أن ابراهيم الحسن زوج والدة صدام قد عمل في الشرطة، وقد توسط صديقه الشيخ صالح قزلري لتوفير فرصة عمل للصبي صدام حسين من أجل تحسين وضعهم المعيشي الصعب الذي يعانوه في السليمانية، وقد وجد فرصة العمل في مطعم الأسطة مدحت كبابجي الذي لم يتذكره في حديثه مع اللواء فؤاد عارف.

ومع أن مطعم الأسطة مدحت كان صغيراً نوعاً ما، لكنه كان عظيم الشأن بسبب الزبائن غير العاديين من الأدباء، والسياسيين، والعسكريين فضلا عن شخصية صاحب المطعم التي تميزت بالمهينة العالية التي أكسبته الشهرة، والوجاهة الاجتماعية، وحسه الإنساني الذي كان يظهر في خدمة الناس الفقراء وتوفير الوجبات المجانية من  الكباب التي كان يقدمها بشكل (لفات من الخبز).

يذكر لي والدي أنه في ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينات كان مطعم المعلم مدحت قد أصبح شهيراً جداً، وفي المناسبات التي كانت تحدث فيها المفاوضات بين قيادة الثورة الكوردية بزعامة ملا مصطفى البارزاني عبر ممثله نجله المرحوم إدريس بارزاني، والتي كانت تحدث في مقر البارتي وبحضور مسؤول المقر آنذاك المرحوم فاخر ميركسوري؛ ولاسيما في بداية السبعينات مع أعضاء المكتب السياسي الذي كان أحد أقطابه المهمين مام جلال كان الضيافة التي تقدم للمتفاوضين أطباق الكباب المقدمة من مطعم المعلم مدحت، وقد أعجب مام جلال كما يذكر لي والدي بطريقة اعداد الكباب للمعلم مدحت، مع أن مام جلال كان مطعمه المفضل، هو مطعم المرحوم عباس أبو شوارب، وقد أخبر مام جلال فاخر ميركسوري أن أي مفاوضات مع ملا مصطفى ستكون ناجحة إذا حضر فيها كباب المعلم مدحت كبابجي.

لم يقتصر الزبائن الذي يحضرون مطعم المعلم مدحت على الشخصيات الكوردية فقد، بل امتدت إلى غير الكورد؛ إذ يخبرني والدي أن قادة الدعوة الإسلامية: محمد هادي السبيتي، وصاحب أبو دخيل(أبو عصام)، وأبو زينب الخالصي كانوا ضيوفا على السليمانية في بداية عام 1971، وقد تمت ضيافتهم على حسابه في مطعم المعلم مدحت الذي اعتبرهم ضيوفا على مدينة السليمانية، ووضع سيارته الشخصية في خدمتهم، فضلا عن الشخصية الحكومية المحافظ والوزير غانم عبد الجليل الذي كان عضوا مفاوضاً مع قيادة الثورة الكوردية، والشيخ عيادة كنعان الصديد عندما كان محافظا لديالى. وبهذه السيرة تظهر كيف أن الأسطة مدحت كبابجي قد صنع تاريخاً شخصياً مميزاً له في صفحات تاريخ الكورد المعاصر، وفي سياق التجربة السياسية للدولة الوطنية العراقية التي تأسست دينامياتها عام 1921. 

***

د. كريم الجاف - باحث وأكاديمي

..................

المصدر كتاب يصدر قريباً بعنوان: قوة النمل: قصة العمليات الاستخباراتية للثورة الكوردية في العراق.. ذكريات رجل عادي- إعداد د. كريم الجاف

شعرت بفرح كبير يقرب من الزهو والافتخار، حين اتصل بي علي المؤمن ذات يوم من عام ١٩٩٨، بصفته مدير المركز الإسلامي للدراسات المستقبلية ورئيس تحرير إصداراته، والذي تأسس حديثاً؛ عارضاً عليّ ورقة عمل المركز ومحاوره البحثية، وطالباً مني أن أكتب في مجلة المركز. قلت له في إحدى المرات: (أُنظر كيف دار الزمن، أنا الآن أكتب في المجلة التي صرت أنت رئيس تحريرها). فقال لي: (هذا دليل على أنك معلم ممتاز ومؤثر في تلاميذك). كان ذلك تقريباً بعد (١٥) سنة من مغادرتي موقع رئيس تحرير صحيفة "الجهاد" التابعة لحزب الدعوة الإسلامية في طهران. لكن العامل الحقيقي في نجاح علي وصعوده هو ذكاؤه وحرصه على التقدم والإبداع والابتكار.

في الدورة الإعلامية التي أقامها حزب الدعوة الإسلامية في سنة ١٩٨٢، كان لقائي الأول مع أحد طلبة الدورة، الشاب اليافع الذي يفيض نضارةً وأناقة وتهذيباً ووسامة، إنه علي المؤمن البالغ من العمر (١٨) ربيعاً فقط. كانت الدورة التي كنتُ أحد محاضريها الرئيسيين؛ فرصة مهمة لاكتشاف الطاقات الواعدة للعمل في القطاع الإعلامي لحزب الدعوة. وهذا ما توسمته بالشاب علي المؤمن، الذكي اللماح المثابر الطموح؛ فعرضتُ عليه العمل معي في جريدة "الجهاد". ومن هنا نشأت علاقة الزمالة الصحفية معه، تلك العلاقة التي توطدت مع الأيام ومرور السنين.

بمرور هذه السنين؛ كرّس علي المؤمن حياته للبحث والتنقيب والحفريات التاريخية والمعرفية، حتى صار عن حق واستحقاق مرجعاً في المجالات التي اشتغل عليها، وخاصة تاريخ حزب الدعوة والحركة الإسلامية العراقية واجتماعيات الطائفة الشيعية وغيرها من الموضوعات الجادة، التي أصبحت عناوين لسلسلة من الكتب القيمة التي لا يمكن أن يستغني عنها القارئ الجاد والباحث المتطلب. ولم يخطئ حدسي وتوقعي فيه؛ فقد تسلق علي المؤمن سلم المعرفة بجدية بالغة ورسوخ قدم، واستطاع في مرحلة قصيرة، ليس فقط إتقان المهارات الصحفية، وإنما آليات ومناهج البحث العلمي في المجالات التي تناولتها كتبه القيمة ومقالاته الرصينة الكثيرة.

على المستوى التاريخي؛ يمثل علي المؤمن شاهداً وشاخصاً على مرحلة مجيدة محببة إلى نفسي من حياتي تلك التي عملت فيها في صحيفة "الجهاد"، والتي تمثل بدورها مرحلة نقية من مراحل عمل المعارضة العراقية الإسلامية، وبخاصة حزب الدعوة؛ حين كان الفتية الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يبذلون قصارى جهدهم من أجل القضية التي آمنوا بها.

وعلى مستوى الحاضر؛ فإن علي المؤمن واحدٌ من القامات البارزة في سماء الفكر الإسلامي والبحث الاجتماعي. وإذا كنت اليوم أفخر شخصياً بإنجاز علي المؤمن؛ فإنه ليسعدني أن أقدمه أُنموذجاً يحتذى به للشباب الطموح، الذي يستطيع أن يقدم لقرائه مادة معرفية وعلمية لا يمكن الاستغناء عنها أو استبدالها بغيرها.

خلال مسيرتي الممتدة لنحو (35) عاماً في إدارة المؤسسات الإعلامية، من طهران إلى بيروت، ومن دمشق إلى الكويت، ومن لندن الى بغداد، كنتُ دوماً أكنّ مشاعر الحب والصداقة لمن أعمل معهم، بلغة الزميل، الصديق والأب.

وفي ختام مقالي هذا؛ أود أن أتوجه برسالة مخلصة إلى علي المؤمن، معبراً ببساطة عن مشاعر صادقة: أحبك!

***

محمد عبد الجبار الشبوط

مفكر وباحث وإعلامي من العراق، رئيس شبكة الإعلام العراقي السابق

..........................

(*) الدراسة مستلة من كتاب «علی المؤمن: قراءات في آثاره ومشروعه الفكري» إعداد الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة رفاه معين دياب، ومشاركة أكثر من (50) مفكراً وباحثاً.

 

بقلم: جون أبدايك

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لم يكن والداه يقصدان الإساءة إليه؛ بل كانا يقصدان أن يحبّاه، وقد أحبّاه بالفعل. لكن أوليفر جاء في وقت متأخر ضمن حزمة أطفالهما الصغيرة، في مرحلة بدأ فيها عبء تربية الأطفال يفقد زخمه، واتضح أنه عُرضة للحوادث. كان جنينًا كبير الحجم، محشورًا في رحم أمه، وولد بقدَمين ملتويتين نحو الداخل، وتعلّم الزحف وهو يرتدي جبائر تصحيحية تمتد حتى كاحليه. وعندما أُزيلت تلك الجبائر أخيرًا، بكى من الرعب، لأنه كان يظن أن تلك الأحذية الجصية الثقيلة التي كانت تحتكّ وتتصادم بالأرض كانت جزءًا من جسده.

في أحد الأيام من طفولته، وجدوه على أرضية غرفة الملابس ومعه صندوق من كرات النفتالين، بعضها مبلل باللعاب؛ فتساءلا فيما بعد إن كانت هناك حاجة فعلية لنقله إلى المستشفى وإجراء عملية غسيل لمعدته المسكينة. أصبح لون وجهه رمادياً مائلاً للاخضرار بعد ذلك. في الصيف التالي، عندما تعلم المشي، سبح والداه بعيدًا عن الشاطئ دون تفكير، سعيًا لتحقيق انسجام رومانسي في الصباح التالي لحفلة متأخرة وشجار بسبب الكحول، ولم يدركا، حتى شاهدا المنقذ يركض على امتداد الشاطئ، أن أوليفر كان يترنح خلفهما وهو يطفو على وجهه لعدة دقائق كان من الممكن أن تكون قاتلة لو لم يكن المنقذ يقظًا. هذه المرة، كان وجهه قد تحول إلى اللون الأزرق، وظل يسعل لساعات.

كان أقل أطفالهما تذمرًا. لم يَلُم والديه عندما فشل كلاهما، إلى جانب إدارة المدرسة، في اكتشاف أن عينه اليمنى "الناعسة" تحتاج إلى علاج في الوقت المناسب، مما أدى إلى أن كل شيء بدا ضبابيًا بشكل دائم عندما كان يغلق العين السليمة. وكان مجرد رؤيته وهو يحمل كتابه المدرسي بزاوية غريبة بالنسبة للضوء يدفع والده إلى رغبة يائسة في البكاء، عاجزًا عن فعل شيء.

وتصادف أنه كان في العمر غير المناسب تمامًا، سنّ هشّة، عندما مرّ والداه بتجربة الانفصال ثم الطلاق. كان إخوته الأكبر قد غادروا إلى المدارس الداخلية والجامعة، وانطلقوا في طريق الرجولة، متحررين من العائلة. أما شقيقته الصغرى فكانت صغيرة بما يكفي لترى في الترتيبات الجديدة — وجبات الطعام في المطاعم مع والدها، والرجال الودودون الذين كانوا يخرجون مع والدتها— أمرًا مثيرًا. لكن أوليفر، في الثالثة عشرة من عمره، شعر بثقل الأسرة يثقل كاهله؛ فأخذ يشعر بتخلي والدته عنه. ومرة أخرى، حزن والده حزنًا شديدًا.كان والده- وليس هو- المذنب حقًا عندما بدأت درجاته الدراسية المتدنية تتوالى، أولًا من المدرسة، ثم من الجامعة، وعندما كسر أوليفر ذراعه إثر سقوطه من درج سكنٍ طلابي، أو بالقفز، بحسب رواية أخرى للواقعة المشوشة، من نافذة سكن الطالبات. لم يكن حادثة سيارة واحدة بل عدة سيارات عائلية انتهت نهايات كارثية وهو خلف المقود، رغم لم يُصَب، لحسن الحظ، بأكثر من رضوض في الركبتين وأسنان أمامية مخلخلة. ولحسن الحظ أيضا، استعادت أسنانه تماسكها من جديد، إذ كان ابتسامته البريئة، التي كانت تنتشر ببطء على وجهه حين يدرك الطابع المضحك لمغامرته الأخيرة، كانت إحدى أجمل سماته. كانت أسنانه صغيرةً مستديرةً ومتباعدة - أسنان طفل.

ثم جاء زواجه ليكتمل سلسلة سوء حظه، فأضيف إلى لياليه الساهرة، ووظائفه المتقطعة، وفرصه الضائعة في مطلع شبابه. كانت عروسه أليشيا -مثله تماماً- منجما للمصائب، تعاني من إدمان المخدرات والحمل غير الرغوب فيه. وقد تركت تقلباتها النفسية جراحاً غائرة في نفسها وفي كل من حولها. لكن بالمقارنة، بدا أوليفر صلبًا وواثق الخطى، وكانت تنظر إليه بإعجاب. وهذا هو السرّ. فالتوقعات التي نضعها على الآخرين، يسعون إلى تحقيقها. تمسّك بوظيفته، وتمسّكت هي بحملها.

يجب أن تراه الآن، مع طفليهما، فتاة صغيرة شقراء وصبي داكن الشعر. لقد اشتدّ عوده واتسع صدره، يحتضنهما معًا في وقت واحد. إنهما كفرخين في عش، وهو شجرة، صخرة تحميهما. لقد غدا حامي الضعفاء.

(تمت)

***

.........................

* الكاتب: جون أبدايك/ John Hoyer Updike (18 مارس 1932 – 27 يناير 2009) روائي وشاعر وكاتب قصص قصيرة وناقدً فنيً وأدبيً أمريكيً. يُعد واحدًا من أربعة كتّاب فقط حصلوا على جائزة بوليتزر للأدب الروائي أكثر من مرة. نشر أبدايك، خلال مسيرته الأدبية، أكثر من عشرين رواية، وما يزيد على اثنتي عشرة مجموعة قصصية، إلى جانب الدواوين الشعرية، وكتب الأطفال، والمقالات النقدية في الأدب والفن.

من عاملٍ فى مصنعٍ للأقفال إلى جائزة نوبل

  يعتبرالكاتب والروائي البرتغالي خوسّيه ساراماغو ظاهرة فريدة قد لا تتكرر في عالم الأدب العالمي، ذلك أنه كان عليه تخطيّ العديد من العقبات ومواجهة الصّعاب منذ ولادته في أسرة مُعوزة كانت تعاني من قلّة ذات اليد، وسوء الأحوال المالية، ما دفعه للعمل منذ صغر سنّه في عدّة مِهن متواضعة، حيث كان عاملاً في مصنعٍ للأقفال، وفي ورشٍ للميكانيكا، إلا أنه مع ذلك لم يهجر حبّه الجامح للقراءة، وشغفه الكبير بالكتب والعلم والإطلاع وبعده الإبداع.

وُلد خوسيه ساراماغو في 16 نوفمبر 1922 في بلدة ازيناغا البرتغالية الصغيرة من أبٍ وجدٍّ مزارعيْن، وانتقلت الأسرة بعد ذلك للإقامة في العاصمة لشبونة، ولم يكن عمر ساراماغو يتجاوز العامين، ورحل ساراماغو عن عالمنا في 18 يونيو 2010 في جزيرة «لانثاروطي» الكنارية عن عمر يناهز 87 عاماً.

رؤية الواضحة وبصِيرة ثاقبة وريّاح التغيير

في إحدى روايات هذا الكاتب العصاميّ التي نُشرت عام 2004 تحت عنوان «البصيرة» أو «بحث في الصفاء» استقرأ الكاتب حسب تصريح أرملته الكاتبة، والمُترجِمة الإسبانية بِيلاَرْ دِيلْ رِييو إرهاصات وتنبّؤات رياح التغييرات التي كانت قد هبت، والثورات التي اندلعت في بعض البلدان العربية فى السنوات الأخيرة.

ويندرج حَدْس الروائي البرتغالي في مجال رصد تنبؤات واستقراءات مُستقبلية لبعض الكتاب، والمفكرين، والمبدعين من العرب ومن الغربيين على حد سواء (من بينهم المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة رحمه الله) بخصوص ما عُرف أو أُطلق عليه بـ«الربيع االعربي» الذي سرعان ما أضحىَ في عُرْف ونظر الكثيرين خريفاً شاحباً، حزيناً، كئيباً، وفي بعض الحالات مُخيباً للآمال، ويجدر بنا والحـــالة هـــذه أن نَسْتحْضِر، أو نُذكر في هذا السياق بما كانت قد صرّحتْ به أرملة ساراماجو الحاصل على جائـــزة نوبل في الآداب عام 1998، حيث قالت: «إنّ زوجها كان قد تنبّأ بالفعــــل بهذه الأحداث التي شهدتها المنطـــقة العـــربية في روايته المشار إليها أعلاه، التي تندرج ضمن ثلاثية تغـــوص بمهارة إبداعية فائقة في أعماق الهوية البشـــرية، منها «مقال حول العمىَ» في 1995 وهو الكتاب الأول، التي استكملها بـ«كل الأسماء» فـــي 1998 وهو الكتـــاب الثاني، وأخيراً الثالث وهو «مقال حول الصفاء» أو «البصيرة» في 2004.

تشير بيلار ديل رييو إلى أن الرواية تروي لنا حكاية شعب قرر بالاجماع مقاطعة الانتخابات في البلاد، ما أشاع نوعاً من الهلع والرعب، والتخوّفات لدى المسؤولين، حيث اعْتُبِر هذا التصرّف بمثابة شكلٍ من أشكال التحدي، والمواجهة والعِصيان، أو إعلان، أو أمارات، أو إرهاصات تُنذر بقرب قيام الشعب بتمرّد عام على السلطة الحاكمة. كما أن هناك فقرة تشير إلى ما مفاده ومعناه، أن المواطنين يظلون معتصمين لعدة أيام في الساحة الرئيسية، أو الميدان الكبير للمدينة، حيث يتمكنون بالفعل تحت ضغط المظاهرات، والاحتجاجات المتواصلة من الإطاحة بالحاكم المُستبد – كما تصفه الرواية – وعندما ينتهي كل شيء، ويعود المتظاهرون إلى أعمالهم الاعتيادية، ومزاولة نشاطاتهم اليومية، يقررون في ما بعد تنظيم أنفسهم ويبدأون – قبل كل شيء- بتنظيف المكان الذي كانوا مُعتصمين فيه خلال الاحتجاجات». وتشير أرملة ساراماغو إلى أن ذلك ما حدث بالضبط أو ما يشبهه إلى حد بعيد في مصرَ، وفي بعض البلدان العربية الأخرى من العالم العربي، التي كانت قد طالتها رياحُ الغضب، وهبت عليها أعاصيرالتغيير.كان ساراماغو يعرف أنه لم تكن هناك أزمة اقتصادية حادة إبانئذٍ اجتاحت العالم، بقدر ما كانت هناك أزمة أخلاق، وسلوك، ومبادئ.

ساراماغو لم يكن قارئ طالع

وتؤكد هذه الكاتبة الإسبانية، ومترجمة أعمال خوسّيه ساراماغو من البرتغالية إلى لغة سيرفانتيس: «أن زوجها لم يكن قارئَ طالع، أو يتنبأ بالمستقبل، بل إنه كان مثقفاً يعيش عصرَه، ويعيه جيداً ويتفاعل مع أحداثه والتطورات التي يشهدها بدون انقطاع، وبالتالي فهو كان دائمَ الانشغال برصد عيوب العالم، ونواقصه بالتأمل، وإعمال النظر بمجرياته» على حد تعبيرها. وتضيف : «أنه كان مثقفاً دائمَ التفكير في كل ما يحيط به ويعايشه، مُمْعْناً النظرَ في العالم، ومتتبعاً لكل ما يعتريه من تغيرات، أو قصور». والبشرية سوف تتأخر كثيراً للتخلّص من هذه المُعضلات العويصة، والأزمات الحادّة التي كانت تعصف بها في ذلك الوقت حسب منظوره .

مواقف صائبة ومغالطات

يرى الكاتب البرتغالي كَارْلُوسْ رِيياسْ عميد جامعة «أبيرتا» البرتغالية أن خوسّيه ساراماغو، أثار خلال حياته غيرَ قليلٍ من الزوابع والجَدل حول العديد من القضايا المعاصرة سياسيةً كانت، أم أدبية، أو فلسفية، أو تاريخية، أو اجتماعية، أو دينية، وإن كان قد أصاب في بعضها، إلا أن غيرَ قليلٍ منها لم تخلُ من بعض الأباطيل، والمبالغات، والمغالطات، على صفحات الجرائد، والمجلات، والكتب بدون طائل يُذكر. ولعل روايته الشهيرة «العَمىَ» التي نال بها أو عنها «جائزة نوبل في الآداب» قد جعلتِ الأمورَ تدلهم أمام ناظريه، في بعض القضايا الدينية، والمشاغل السياسية المعاصرة على الصعيديْن الأوربي والعالمي». وتجدر الإشارة في الوقت نفسه إلى أن ساراماغو كانت له من جهة أخرى مواقف مشرفة على الصعيد العربي كموقفه الداعم لقضية فلسطين، وانتقاده لإسرائيل بعد الممارسات المبالغ فيها التى قامت بها ضد الفلسطينيين العزّل والتنكيل بهم آنذاك في العديد من المناسبات، وكان ساراماغو قد قام عام 2002 بزيارة لرام الله متضامناً مع الفلسطينيين أثناء الحصار الذي فرضته إسرائيل عليهم بعد انتفاضة الأقصىَ آفى ذلك الإبّان ، والتقى فيها بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات، حيث هاجمته الصهيونية العالمية، ونكلت به، وطالته حِرَابُها، بعد تصريحاته المُنتقدة لإسرائيل، كما أنه لم يكن يتفهّم مطالبَ المغرب المشروعة  والعادلة في استكمال وحدته الترابية واسترجاع أقاليمه الجنوبية في الصحراء، وكان عضواً فاعلاً في الحزب الشيوعي البرتغالي، كما أنه كان ناشطاً في مجال حقوق الإنسان، وندد بغزو العراق، وسواها من المواقف الأخرى التي عبر فيها عن التزامه كمثقف يعيش عصرَه ويتفاعل معه. 

الهجرة إلى جزر الخالدات

يؤكد الباحث كَارْلُوسْ رِيياسْ من جهة أخرى على أنه عندما صدرتْ رواية ساراماغو «الإنجيل حسب يسوع المسيح» عام 1991 أثارت ضجة كبيرة، انقلبت إلى نقمة عارمة عليه، إذ يوجّه فيها الكاتبُ انتقاداتٍ لاذعة للكنيسة الكاثوليكية، ما حدا به إلى التفكير في الاغتراب والهجرة بصفة نهائية من بلاده البرتغال ، خاصة بعد أن قامت الحكومة البرتغالية بحجز كتابه، واتهام رجال الدين في البرتغال وفي الفاتيكان له بالإساءة والمساس بالتراث الديني والرّوحي للبرتغاليين، ومنذ مغادرته البرتغال 1998 بدأ يُبدي نوعاً من الافتخار والتباهي بأصوله الأمازيغية – حسب رأيه – إذ كان يقول في مختلف المناسبات أن أجدادَه ينحدرون من شمال إفريقيا، وذلك – حسب رواية الباحث الآنف الذكر- وعند مغادرته لبلده انتقل ساراماغو للعيش في جزيرة «لانثاروطي» فيفى أرخبيل الخالدات، جزر الكناري، واستقر فيها بشكل دائم حتى آخر أيام حياته مولياً ظهرَه للغرب، ومُعانِقاً هذه الجزيرة الكنارية المحاذية للسواحل المغربية والضائعة في غياهب بحرالظلمات، والغارقة في متاهات المحيط الأطلسي الهادر.

الحب هو حصننا الوحيد

وخلال لقاء أجرته معه وكالة الأنباء الإسبانبة " إيفي EFE" الواسعة الإنتشاردولياً قبيل رحيله، نشرت بعضَ أقوال ومأثورات ساراماغو منها: «لقد آن الأوان للعواء، لأننا إذا انسقنا خلف القوى التي تهيمن عليـــنا فمن الممكن القول إننا نستحق ما يحدث لنا». وقال عن الموت الذي كان يشعر بأنه بدأ يدنو منه بعد أن استفحل فيه المرض العضال، الذي كان ينهش جسمَه: "الحبّ هو حصننا الوحيد أمام الموت وهو عملية طبيعية جداً، إنه نوع من التلقائية على وجه التقريب، أن أدخل إلى عالم اللاشيء وأن أتحلل هناك".

وكان ساراماغو أديباً صادقاً في مشاعره، ومفكراً صريحاً في مزاجه، جريئاً في تصريحاته، كان يقول في هذا القبيل: «أنا أقول كل ما يخطر على بالي في كل حين، فإذا كان وقعُه أمراً طيباً على الناس فهذا شيء حَسَن جداً، وإذا لم ينل رضاهم، فأيضاً تشرفنا». وبعد أن جاءه خبرُ فوزه بجائزة نوبل في الآداب العالمية قال: «أتذكر أنني أحسستُ عندئذٍ بعزلةٍ تامة، وقلتُ مع نفسي حسناً لقد فزتُ بنوبل، ولكنني سرعان ما تساءلتُ بعد ذلك وماذا بعد؟!، إنني أعرف جيداً أنها جائزة رفيعة إلاّ أنني أعلم كذلك أنني أعيش في كوكب صغير، داخل نظام شمسي صغير، وفي واحدة من أصغر المجرات في الكوْن الذي يحتوي على ما ينيف على 5 مليار مجرّة، ومع ذلك هذا لا يعني ذلك أنني لم أشعر بالسعادة عند حصولي على هذه الجائزة». كان يقول: «لديّ طابع مزاجي كئيب، أنا إنسان لا أضحك بسهولة ولا تسمع مني قهقهة وإذا حدث ذلك فلن أصدق نفسي أنها صادرة عني». «يقولون إنني إنسان واجم لا أبتسم إلا بالكاد، أنا أبتسم فقط عندما يكون هناك داعٍ حقيقي لذلك». "أنا مجرد كاتب يقوم من خلال كتاباته برفع حجرة وجذب الانتباه إلى ما هو موجود أسفلها، وليس لي أيّ ذنب إذا خرجتْ من تحتها وحوش من حين لآخر" !.

***

د. السفير محمد محمد الخطابي

*كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.

 

دعوة لتوثيق ذاكرته وتحويل مقتنياته إلى متحف دائم

في مدينة الكوت، حيث يلتقي التاريخ بسحر الذاكرة، حيث تمتد الأيام وهي مضمخة بعبق الماضي وروعة الحاضر وجمال المستقبل، يعيش شيخ تجاوز التسعين من عمره، هو بحد ذاته حكايةُ تستحق أن تُروى، بل أن يتم درسها وتدريسها في جميع المراحل الدراسية، وأن تكتب عنها أطاريح علمية ودراسات أكاديمية وبحوث تخرج ومقالات. هذا الشيخ الكريم متحفٌ نادر يمشي على قدمين لا تقويان على حمله لينفض التراب بيدين مرتعشتين عن كنوزه النادرة.

إنه الشيخ ضياء الخطيب، الرجل الذي كرّس عمره لجمع التحف والوثائق والمخطوطات النادرة والطوابع والذكريات، فكوّن بمفرده ما يشبه مؤسسة تراثية صامتة، مغلقة على أسرارها، لكنها عامرةٌ بالدهشة لمن يتاح له أن يدخلها.

منذ شبابه، راح هذا الشيخ الوقور يتجول بين الأسواق القديمة، والبيوت المتهالكة والشوارع الضيقة، يطارد آثار الزمن في القرى والأرياف والمدن، ويقتني ما لا تلتفت إليه العيون العجلى، ولا تعرف كنهه إلا العقول المتنورة. لم يكن مجرد هاوٍ لجمع القطع والطوابع والوثائق القديمة، بل كان واعيًا بقيمتها التاريخية والثقافية والعلمية والإنسانية، يُنقّب فيها كما يُنقّب العالم في طبقات الأرض، يقرأ فيها ما وراء الشكل، ويؤمن بأنها مرآةً لوجدان أمةٍ، وامتدادا لهويتها.1421 saleh

وما يُضاعف من قيمة هذا الجهد أنه قام به من ماله الخاص، دون أن يتلقّى دعمًا من أي جهة حكومية أو أهلية، متحمّلًا تكاليف الشراء والنقل والحفظ والتخزين والحراسة لعقود طويلة. بل إن ما هو معروض حاليًا في متحفه البسيط أو المخزن، لا يمثل سوى أقل من 10% من مجموع مقتنياته. أما الباقي، فموضوع في صناديق داخل مخازن غير نظامية، مهدد بالتلف والضياع، إن لم تبادر الجهات المختصة إلى إنقاذه فورا دون تأخير.

ولئن كان متحفه اليوم مغلقًا أمام العامة، إلا أن ما يحويه من كنوزٍ معرفيةٍ وجمالية يضاهي المتاحف الكبرى في أصالته وتفرّده. يكفي أن ترى في إحدى زواياه صورًا تجمعه بشخصيات تاريخية كبرى، لتدرك أنك أمام سيرة لا تقل أهمية عن المعروضات نفسها. سيرة رجل ظل وفيًا لذاكرة العراق، حارسًا صامتًا لجماله المهدّد بالاندثار والضياع. فهنا تجده مع ملكة بريطانيا، وهناك مع عبد الكريم قاسم، أو مع جمال عبد الناصر، أو مع أمراء العراق وكبار الشخصيات.

من هنا، نوجّه نداءً إلى وزارة الثقافة العراقية وإلى منظمة اليونسكو لتبادرا في اتخاذ الإجراءات الخاصة لحماية هذا الكنز العظيم، كما وأوجه ندائي إلى جامعة واسط وجامعة الكوت الأهلية، بأن تبادرا فورا ودون تأخير إلى تشكيل لجنة علمية متخصصة، تتواصل مع الشيخ، وتقوم بتوثيق شروحاته بالصوت والصورة، لما تحويه من معارف نادرة وتفصيلات قد تندثر إذا لم تُحفظ الآن. إنها فرصة ثمينة لحفظ هذا الإرث العظيم في أرشيف أكاديمي حي، متاحٌ للباحثين والطلبة والمؤرخين، فبادروا إليها قبل أن يأكلنا الندم.1420 saleh

وفي هذا السياق، تعلن مؤسسة الدكتور صالح الطائي الثقافية للإبداع عن مطالبتها الرسمية للجهات الحكومية والمحلية والشعبية وإلى منظمات المجتمع المدني، بأن تسهم في تبنّي هذا المشروع الثقافي والوطني، لتحويل المتحف الخاص بالشيخ ضياء الخطيب إلى متحف دائم مفتوح للجمهور، ليكون منارة تعليمية وسياحية، وشاهدًا حيًا على عشق الإنسان العراقي لذاكرته وهويته. ومثلما نجح مشروع الألف دينار في بناء عدة بيوت للمعدمين ممكن تنظيم حملة ألف دينار جديدة لبناء هذا المتحف.

لقد آن الأوان أن نحتفي بالأحياء الذين صنعوا المجد بهدوء، وأن نحفظ لهم مكانهم في ذاكرة الوطن. فالاحتفاء برجال من طراز الشيخ ضياء الخطيب، ليس فقط تكريمًا لهم، بل هو تكريم لعراقٍ يعرف كيف يكرّم مبدعيه قبل أن يودّعهم.

***

الدكتور صالح الطائي

 

في سن متقدمة، يتولى آل باتشينو دور الأب من جديد في الحياة الواقعية. آل باتشينو، المرشح لجائزة الأوسكار ثماني مرات والفائز بالجائزة عن دوره كضابط سابق أعمى في فيلم " عطر امرأة"، قال وهو يحتفل بعيد ميلاده الخامس والثمانين:" أريد أن أطير"، وفي سيرته الذاتية كتب:" اريد أن أصطدم بالحائط، لأنه حينها فقط أعرف أنني على قيد الحياة"، في هذه المذكرات يقدم التحية لوالدنه التي لعبت دوراً كبيراً في حياته

رغم بلوغه أكثر من 80 عاما، لا يزالآل باتشينو يعمل، ليس فقط أمام الكاميرات. فهو أب لأربعة ابناء، ابنه الأصغر يبلغ من العمر عامين فقط. أصبح نجم هوليوود، أباً مرة أخرى في حزيران 2023. .

يتحدث عن أفراح الأبوة المتأخرة في مذكراته "سوني بوي"، التي نشرت في قبل اشهر . وقال باتشينو في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز إن دافعه لكتابة سيرته الذاتية هو تسجيل حياته لابنه الصغير. وهذا يحفزه أيضا على العيش لفترة أطول إذا كان ذلك ممكنًا. يقول باتشينو إن التقدم في السن يبدو "سخيفًا ومجنونًا". في المقابلة، يتذكر مرض كورونا الخطير الذي أصيب به في عام 2020 والذي كاد أن يموت بسببه. لقد تم استدعاء خدمات الطوارئ. لقد فقد نبضه لفترة قصيرة. اليوم هو متواجد أمام الكاميرا بشكل دائم. سيظهر قريبا في فيلم الإثارة "الطقوس" في دور رئيسي ككاهن يقوم بطرد الأرواح الشريرة.، في فيلم الإثارة "محامي الشيطان" (1997)، لعب باتشينو نفسه دور محامٍ يختبئ الشيطان خلفه.

هناك العديد من الأفلام قيد الإنتاج، بما في ذلك فيلم "اغتيال" حول اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وفيلم " مقتبس عن مسرحية شكسبير الملك لير .

كان تمثيله لشخصية مايكل كورليوني في فيلم المافيا "العراب" هو الذي جعل منخ نجماً. وتغلب المخرج فرانسيس فورد كوبولا على المنتجين المتشككين الذين اعتبروا أن الممثل الشاب الإيطالي الأميركي ألفريدو جيمس باتشينو ضعيف للغاية بالنسبة لدور ابن "العراب" دون كورليوني (مارلون براندو). في ثلاثية المافيا (1972-1990)، تحولت شخصية باتشينو من الطالب إلى رئيس العائلة ذو الدم البارد.

لم تكن طفولة باتشينو سهلة. بعد طلاق والديه المبكر، نشأ في فقر مع أجداده في نيويورك. كانت والدته تعمل لرعايته، في سيرته الذاتية يتذكر نشأته في حي كانت الجريمة والعنف منتشرة غيه على نطاق واسع. يذكر أسماء أقرب أصدقائه من تلك الفترة - بيتي، وكليفي، وبروس- . وكان لكل من هؤلاء الثلاثة مشاكل مع القانون. كل واحد منهم مات بسبب جرعة زائدة من الهيروين. إذن كيف تمكن باتشينو من النجاة ؟ يقول أن السبب في ذلك يعود إلى حد كبير إلى والدته، التي ظلت تقول له مرارا وتكرارا أنه يجب عليه تغيير حياته ومعها اصدقائه . ويرجع هذا جزئياً إلى "أصدقائه" اللاحقين - شكسبير وتشيخوف - والتمثيل الذي صقله في شوارع نيويورك. والباقي يعتمد على الحظ.

في السينما. اكتشف حبه للتمثيل عندما كان مراهقًا. بسبب ظروف الحياة عانت والدته من الاكتئاب، مما دفعها في إحدى المرات إلى محاولة الانتحار. عندما بلغ الحادية والعشرين من عمره، قرر أن التمثيل سيساعد والدته على الخروج من الفقر. توفيت اعن عمر ناهز 43 عاماً، قبل أن تشهد النجاح الباهر الذي حققه ابنها.

اكتسب تجربته الأولى مع فرقة المسرح النيويوركية "المسرح الحي". تلقى باتشينو دروسا من تشارلز لوتون ومعلم "المنهج" الأسطوري لي ستراسبرغ . في أواخر العشرينيات من عمره، كان على خشبة المسرح في نيويورك، وظهر على الشاشة لأول مرة في عام 1970 بدور تاجر مخدرات في فيلم " الهلع في حديقة نيدل ".

يؤكد باتشينو أنه لم يحسب حساب أي شيء في حياته أبدًا. لم يخطط لمسيرته المهنية بعناية. لقد كان يحمله يسير وراء حدسه وطاقته التمثيلية. يعتبر أن مشكلته وموهبته هي أنه لا يتعلم أبدًا. وهو أول من اعترف بجهله. قال:" ان الحياة كحبل مشدود. هكذا يبدو تمثيلي وحياتي. أعمل كما لو كنت أسير على حبل مشدود. أحاول. أخاطر. أريد أن أحلق، أن أفشل. أن أصطدم بجدار، لأنه حينها فقط أعرف أنني على قيد الحياة. هذا ما أحتاجه في الحياة. في السنوات اللاحقة، كان الممثلون الطموحون يسألونني أحيانًا: لماذا نجحتَ ولم أنجح؟ كانت لديّ رغبة كبيرة، فاجيب: "لقد أردت ذلك. كان عليّ ان افعل "، هكذا يلخص الممثل العظيم تجربته .

على الرغم من مسيرته الفنية الناجحة في هوليوود، ظل معجب شكسبير م، خلصا للمسرح وقد عاد إلى خشبة المسرح مرارا وتكرارًا، على سبيل المثال في مسرحية "سالومي" لأوسكار وايلد، وفي "يوليوس قيصر" لشكسبير، وفي "صعود وسقوط أرتورو أوي" لبريشت، وفي "أوديب ملكًا" لسوفوكليس. في عام 2015 ظهر في الدراما "دمية الصين" على مسرح برودواي في نيويورك.

لم تكن كل أفلام باتشينو ناجحة. على سبيل المثال، فشب الفيلم الكوميدي "جاك وجيل" (2011) وسخر منه النقاد. لعب باتشينو وقد فاز الفيلم بجائزة أسوأ ممثل مساعد التي حصل عليها باتشينو. لكن يبدو أن الممثل قد تصالح مع "جاك وجيل". وقال باتشينو لصحيفة نيويورك تايمز إن هذا هو أول فيلم يوصي ابنه الصغير بمشاهدته من بين أعماله العديدة:"اعتقد أنه كان مضحكا" واضاف إنه قبل الدور لأنه كان في حاجة ماسة إلى المال بعد أن خسر ثروته التي تقدر بملايين الدولارات بسبب عملية نصب قام بها محاسب محتال.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في تأريخ الفكر العراقي الحديث، يبرز أسم عبدالحسين شعبان، كأحد المفكرين والباحثين البارزين الذين تركوا بصمة مميزة، ليس فقط في مجال الدراسات الفكرية والسياسية، بل في النضال من أجل العدالة وحقوق الإنسان، والالتزام العميق بقضايا الشعوب العادلة، وفي مقدمتها قضايا التحرر، والدولة المدنية، والقضية الفلسطينية، والقضية الكردية. ينتمي شعبان الى الجيل الذي تفتح وعيه في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العميقة في العراق والمنطقة، فآنخرط مبكراً في الحركة اليسارية، حاملاً هموم الناس وتطلعاتهم، ومدافعاً عن الكادحين والمهمشين، عبر فكر نقدي تحليلي، وسلوك عملي ملتزم. ولم يكن آنخراطه في الفكر اليساري مجرد موقف أيديولوجي، بل كان تعبيراً عن رؤية إنسانية ترى في الحرية والكرامة والمساواة قيماً غير قابلة للمساومة.

مسيرة علمية وفكرية ثرية

يحمل المفكر والاكاديمي عبد الحسين شعبان شهادة الدكتوراه في القانون الدولي، وقد شغل مواقع أكاديمية وفكرية مرموقة، وكان حاضراً دائماً في المحافل الثقافية والندوات الحقوقية، صوتاً حراً ومدافعاً شرساً عن الحقوق المدنية والسياسية. تتوزع كتاباته بين القانون، والفكر السياسي، وحقوق الإنسان، والدين والمجتمع، وموضوعات الدولة والمواطنة، وقدّم من خلالها إسهامات نوعية أثرت النقاشات الفكرية داخل العراق وخارجه. يمتاز أسلوبه بالرصانة، والقدرة على الربط بين التحليل الأكاديمي العميق والسياقات الواقعية، مما يجعل قراءته ممتعة وذات قيمة علمية في آنٍ معاً. كما عُرف بتنوع مقالاته وأبحاثه، التي تتناول قضايا الساعة برؤية نقدية وإستشرافية، دون أن يفقد البوصلة الإنسانية التي تحكم مشروعه الفكري.

مناضل في الميدان الحقوقي

الى جانب مسيرته الفكرية، عُرف عبدالحسين شعبان كأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وكان ناشطاً في عدد من المبادرات والهيئات الدولية التي تهتم بالحريات، وسيادة القانون، ومناهضة العنف والطائفية. تبنى مبكراً خطاباً يقوم على العيش المشترك، والمواطنة، ونبذ الإقصاء والتهميش، داعياً الى دولة مدنية ديمقراطية تتسع لجميع مكوناتها. لقد كان لقلمه دور مهم في التوعية بخطورة الإستقطابات الطائفية والقومية، وفي فضح آليات الإستبداد، سواء أتت من أنظمة سلطوية أو من تيارات متطرفة. وفي كل ذلك، ظل وفيّاً لمبادئه، ولم يسعَ الى مكسب شخصي أو منصب سياسي، بل بقي ملتزماً بالموقف الأخلاقي الذي يُلزم المفكر الحقيقي بأن يكون في صف الضعفاء والمظلومين.

القضية الكردية والقضية الفلسطينية

يتبنى المفكر والإكاديمي عبدالحسين شعبان مواقف إنسانية وعقلانية وقانونية تجاه القضيتين الكردية والفلسطينية، تنطلق من مبادئ حقوق الإنسان والعدالة. فمن ناحية القضية الكردية،  يدعو شعبان الى الإعتراف بحقوق الكرد المشروعة، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير ضمن إطار يحترم التعددية ووحدة الدولة. كما أنه يؤكدعلى أهمية الحوار بين العرب والكرد، ويدين السياسات التمييزية والإقصائية التي تعرض لها الكرد تأريخياً في العراق وغيره عبرتأريخهم النضالي الطويل.

أما من ناحية القضية الفلسطينية، فهو من المدافعين الثابتين عن حقوق الشعب الفلسطيني، ويعتبر القضية الفلسطينية قضية عادلة ومركزية في الضمير العربي والإنساني. ويرفض الإحتلال الإسرائيلي ويؤمن بحل عادل يضمن للفلسطينيين حقوقهم الوطنية، وعلى رأسها حق العودة وتقرير المصير، مع إدانة كافة أشكال العنف التي تمارسها سلطات الإحتلال. إن مواقفه، تتسم بالإعتدال والدفاع عن الحقوق المشروعة للشعوب، مع التركيز على الحلول السلمية والقانونية. يعدّ عبدالحسين شعبان من الأسماء القليلة التي قاربت القضية الفلسطينية والقضية الكردية من منطلق إنساني وحقوقي بعيداً عن الشعارات الجوفاء. فهو لم يتعامل مع القضايا بوصفها أوراقاً سياسية، بل كمعاناة حقيقية تستدعي تضامناً أصيلاً ودائماً، يقوم على الإعتراف بالحق، ورفض الاضطهاد، والتأكيد على كرامة الإنسان.

صديق وفيّ وصوت لا يُشترى

بعيداً عن منابره الفكرية، فإن شعبان هو إنسان بكل ما تعنيه الكلمة، وصديق وفيّ، يعرفه كل من آقترب منه بتواضعه ودفئ مشاعره، وحرصه على الكلمة الطيبة والنقاش الهادئ. وهو ممن يجمع بين العقلانية والروح الحرة، لا يعرف المساومة على القيم، ولا يُشترى صوته بمغريات السلطة أو المال. كثيرون يعرفون عبدالحسين شعبان بوصفه مفكراً، باحثاً، وأكاديمياً مرموقاً. لكن من يعرفه عن قرب، يعرف شيئاً أعظم من كل ذلك؛ إنسان بقدر كبير من النُبل، لا تغيره المواقع ولا يغريه البريق، صديق يُعتمد عليه في اللحظة الحرجة، وصوت عقل نحتاجه حين تكثر الضوضاء. فعلى مدى سنوات صداقتي المتواضعة معه، لم أره إلا كما هو في كتاباته؛ نزيه الفكر، رفيق الضمير، وفيّ لمبادئه ولأصدقائه. يتابعك بتواضع، يُصغي إليك بآحترام، ويمنحك من معرفته دون منّة. في كل لقاء معه، كنت أشعر أنني أجلس الى رجل يحمل همّ الوطن والإنسان على كتفيه، لكنه لا ينسى أن يبتسم، أن يضحك، أن يروي الحكايات المتنوعة، في عالم السياسة أو الأدب أو الدولة، أو يسترجع ذكرى من زمن الأمل. هو ليس مجرد صديق، بل هو مدرسة في الوفاء، وفي الأستقامة، وفي الإيمان بأن الكلمة الشريفة لا تموت.

يتجسد الفكر في إنسان

في زمن يعجُّ بالضجيج والإدّعاء، يبقى عبدالحسين شعبان صوتاً نقياً لا يتلوث، وقلماً لا ينحني، وضميراً حياً لا ينام. هو شاهد على حقبة عراقية متقلبة، لكنه لم يكن يوماً شاهد زور، قاوم التهميش بالكلمة، وحارب الطغيان بالفكر، وبقي واقفاً، حراً،  شريفاً، ومن حق الأجيال القادمة أن تقرأ له، وتتعلم منه، وتستلهم من مواقفه وشجاعته طريقاً لفهم هذا العالم، وتحويله الى مكان أكثر عدلاً وإنسانية.  لا يمكن الإحاطة بتجربة عبدالحسين شعبان دون المرور على بعض من كلماته التي تحولت الى بوصلة فكرية وأخلاقية لمن يؤمن بحرية الإنسان وكرامته. فالرجل لا يكتب من أجل الكتابة، بل يكتب لطرح أسئلة، ويهز الساكن، ويوقظ الوعي.

ومن أبرزما قال:

(الحرية لا تُعطى، بل تُنتزع، ولا تُفهم كهدية، بل كحق لا يقبل المساومة).

(الفكر النقدي ليس ترفاً، بل ضرورة في مجتمعات تعاني من الإستبداد السياسي والتكلس الفكري).

(حين تُختطف العدالة بأسم الطائفة أو القومية، يصبح الصمت خيانة).

(الديمقراطية ليست صناديق إقتراع فحسب، بل وعي ومسؤولية ومؤسسات تحمي التعدد والتنوع).

إن كلماته لا تسكن في النص فقط، بل تعيش في ضمير كل من قرأ له أو سمعه أو حاوره. ولعل هذا ما يجعل من كتاباته مرجعية لكل من يسعى لبناء خطاب عقلاني وإنساني في زمن الإنقسام والتخندق.

أثره في جيل المثقفين الشباب

رغم أن عبدالحسين شعبان ينتمي الى جيل الأوائل من المثقفين، إلا أن حضوره وسط الشباب والمثقفين الجدد كان ولا يزال قوياً ومؤثراً. لقد أستطاع أن يبني جسراً بين الأجيال، لا من خلال الوعظ أو التنظير، بل من خلال الحوارالمفتوح، والدعم الحقيقي للمبادرات الشبابية، والمساهمة في تأسيس فضاءات فكرية حرة.

لقد ظهر أثرهُ في مراكز الدراسات الشبابية التي تبنت كتاباته كمصدر للفكرالنقدي والدولة المدنية، كما ظهرت في النقاشات الطلابية في الجامعات العراقية والعربية، حيث يتم تدريس بعض أعماله في قضايا السلم الأهلي ومناهضة العنف الطائفي. فضلاً عن، حظوره المميز في وسائل الإعلام بأنتظام ليتحدث بلغة مبسطة عميقة تصل لكل فئات المجتمع.

لقد أصبح مرجعاً أخلاقياً للكثير من الشباب الذين وجدوا فيه قدوة فكرية تُزاوج بين الثقافة والموقف، بين الحرف والمبدأ، بين القانون والضمير.  إن الحديث عن عبدالحسين شعبان ليس مجرد إستذكار لسيرة مفكر وأكاديمي، بل هو إستحضار لقيمة معرفية وإنسانية وسياسية فريدة، تمثل ضميراً حيّاً في زمن تتشظى فيه الحقائق وتضيع البوصلة. هو من الأصوات القليلة التي لا زالت تؤمن بأن الكلمة يمكن ان تكون مقاومة، وأن الفكر الحر يمكن أن يكون بوصلة خلاص.

لعبدالحسين شعبان، الأستاذ، والصديق، وأيقونة العقل العراقي الحر، شكراً لأنك ما زلت تكتب، وتحلم، وتُضيء الطريق.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

لا تزال اللكمة التي وجهها الروائي ماريو فارغاس يوسا، إلى غابريل غارسيا ماركيز، تثير الكثير من التساؤلات عن الاسباب التي ادت الى أن يقوم يوسا بتسديد لكمة الى اعز اصدقائه، وقد ادى الأمر إلى قطيعة استمرت حتى رحيل ماركيز.

عندما توفي غابريل غارسيا ماركيز عام 2014 اجرت محطة البي بي سي حوار مع  يوسا، وعندما سألته عن طبيعة الخلاف قال: "هناك اتفاق بيني وبين غارسيا ماركيز.. دعونا نترك الأمر لسيرتنا الذاتية، إذا كنا نستحق ذلك، للتحقيق في هذه القضية.". لكنّ مرثيدس زوجة ماركيز قالت حينها أن: " ماريو غيور أحمق". العام 2008 سينشر يوسا مسرحية يفكر فيها البطل في تسديد لكمة الى أعز اصدقائه.

عندما انتشر خبر وفاة غارسيا ماركيز، كان ماريو فارغاس يوسا من أوائل الذين لجأت إليهم وسائل الإعلام. وتحدث عن صديقه القديم بكلمات قليلة: "رحل كاتب عظيم، منحت أعماله الأدب في لغتنا شهرةً ومكانةً مرموقة. ستخلد رواياته ذكراه وستظل تجذب القراء في كل مكان ".

وفي الاحتفال بالذكرى الخمسين لنشر رواية " مئة عام من العزلة " كسر فارغاس يوسا صمته الطويل وتحدث عن علاقته بماركيز، حيث وصفه " بأنه خجول وغير اجتماعي في الأماكن العامة لكنه مضحك للغاية ومسلي في الخاص. حزنتُ على وفاة غارسيا ماركيز. واكتشافي أنني آخر فرد في جيله أمرٌ محزن". وعندما سئل: :" أظنّ أن ما يمكن قوله بخصوص «مئة عام من العزلة» هو أنها ستبقى، قد تمرّ عليها فترات طويلة يغشاها النسيان، لكن في أيّ لحظـــــة يمكن لهذا العمل أن ينبعث من جديد ويعود إلى الحياة التي يمنحها القرّاء لكتاب أدبي. في هذا العمل ما يكفي من الثّراء ليكون في مأمن..هذا هو سرُّ روائع الأدب العظيمة. هي ترقد هنا، يمكن أن تظلّ مدفونة، لكن بشكل مؤقت، لأنها في أيّ وقت يمكنها أن تعود لمخاطبة جمهور ما، لإغنائه مثلما أغنَت قرّاءها في الماضي " – ماركيز بعيون يوسا ترجمة نجيب مبارك

نشأ ماركيز ويوسا في بيئة عائلية متشابهة، فكلاهما تربى على يد جديه وكلاهما كان على خلاف مع والده، وقد  جمعهما كما قال يوسا حبهما لأعمال الكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، والذي وصفه يوسا بأنه "القاسم المشترك بيننا". وأضاف يوسا أن الأهم من ذلك هو أنهما أدركا تماما أنهما من أمريكا اللاتينية عندما قدما إلى أوروبا لأول مرة.

في وصفه لرواية "مئة عام من العزلة"، قال فارغاس يوسا إنه "ذُهل" بالرواية  عندما قرأها،:" لدرجة أنني سارعتُ لكتابة مقال عنها، اكدت  فيه  أن أمريكا اللاتينية قد أصبح لديها اخيرا روايتها الخاصة، قصة يبرز فيها الخيال دون أن يفقد جوهر الواقع. كما أنها تمتعت بميزة قلّما تجدها في روائع الأدب: قدرتها على جذب قارئ متطلب مهتم باللغة، وفي الوقت نفسه قارئ عادي لا يهتم إلا بمتابعة الحكاية."

كما قام فارغاس يوسا بتدريس أعمال غارسيا ماركيز في جامعات بورتوريكو والمملكة المتحدة وإسبانيا في أواخر الستينيات، مما أدى به إلى تأليف كتاب عام 1971 بعنوان " غارسيا ماركيز: قصة قاتل الإلة "، وهو أطروحته للدكتوراه.

وعلى النقيض من رواية مئة عام من العزلة، قال يوسا إنه يعتقد أن أضعف كتاب لغارسيا ماركيز هو رواية خريف البطريرك التي صدرت عام 1975، والتي وصفها بأنها "صورة كاريكاتورية لغارسيا ماركيز، رواية كتبها شخص يقلد نفسه".

أدرج يوسا غارسيا ماركيز ضمن كُتاب أمريكا اللاتينية العظام، مثل المكسيكي خوان رولفو والكوبي أليخو كاربنتييه، من حيث قدرته على إيجاد الجمال في قبح  أمريكا اللاتينية وتخلفها. وعندما سُئل عما إذا كانت أمريكا اللاتينية المزدهرة ستنتج أدبا خياليًا كأدب الكُتاب الثلاثة الذين ذكرهم، أجاب يوسا بأنه غير متأكد، لكنه أضاف: " لا أريد أن تبقى قارتنا على حالها حتى تتمكن من إنتاج أدب عظيم. فالدول تحصل على الأدب الذي تستحقه".

في كتاب " سيرة حياة " يحاول  جيرالد مارتن ان يبحث عن سبب " المنازلة " فيخبرنا بأن أي منهم – ماركيز ويوسا - لم يرغب في مناقشة الأمر. لكن جيرالد مارتن يروي لنا الحكاية كما سمعها من بعض الشهود، في الثاني عشر من شباط عام 1976 كان ماركيز مقيماً في مدينة مكسيكو، فذهب لمشاهدة العرض الافتتاحي للشريط السينمائي عن الناجين من تحطم الطائرة في جبال الأنديز الذين تحولوا إلى أكل لحوم البشر.، ولدى وصوله، كان ماريو فارغاس يوسا الذي جاء الى المدينة لمشاهدة العرض - فقد كان هو كاتب السيناريو -  يقف في الردهة، ما ان راه ماركيز حتى تقدم نحوه فاتحا ذراعه وهو يهتف:" مرحبا يا أخي "، لكن يوسا الملاكم الهاوي سدد اليه لكمة عنيفة على وجهه فسقط ماركيز أرضاً وصاح يوسا:" هذا بسبب ما فعلته لباتريشا " باتريشا هي زوجة يوسا وقريبته، ويقال ان علاقتهما في تلك الفترة كانت تمر بازمة، فحاول ماركيز طمانتها. ويقول البعض ان ماركيز نصحها بالبدء باجراءات الطلاق. على حين يقول البعض ان باتريشيا قالت ليوسا ان ماركيز حاول ان يتودد لها. لتصبح لكمة يوسا هي الاشهر في تاريخ ادب امريكا اللاتينية. ولا تزال موضع توقعات وتفسيرات كثيرة  حيث يظن البعض أن " اللكمة " ربما كان بسبب خلاف سياسي حول العلاقة مع كوبا. لكن معظم اصدقاء ماركيز ويوسا يؤكدون ان السبب كان زوجة فارغاس يوسا.

التقى غابريل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا لاول مرة في العاصمة الفنزويلية، وفي مطار مايكيتيا في بدايات شهر آب من عام 1967، لم يكن أحدهما يعرف الآخر شخصياً، مع انهما تبادلا بعض الرسائل التي أعربا فيها عن التقدير المتبادل وسيعلق يوسا على هذا اللقاء:" كانت تلك المرة الأولى التي نلتقي فيها وجه لوجه. إنني أتذكر وحهه جيداً. إنني أتذكر وجهه جيدا، في تلك الليلة، كان ممتقعاً بسبب خوفه من الطائرة، فهو يشعر بخوف شديد منها، وكان غير مرتاح وسط المصورين والصحفيين الذين يحاصرونه. صرنا صديقين، وكنا معا طوال الأسبوعين اللذين استمرت خلالهما جلسات المؤتمر " – آنخل إستيبان من غابو إلى ماريو ترجمة صالح علماني -.

في حوار نشر معه بعد وفاة ماركيز قال يوسا:" كنت أشتغل في باريس في الإذاعة والتلفزيون الفرنسي، وكنت أعدّ برنامجاً أدبياً أقدّم فيه وأعلّق على الكتب المتعلقة بأمريكا اللاتينية والصادرة في فرنسا. في عام 1966، وصلني كتاب لمؤلّف كولومبي بعنوان: ( ليس للكولونيل من يكاتبه). أعجبني الكتاب في واقعيته المكتوبة بعناية، ولوصفه الدقيق جداً لهذا الكولونيل العجوز الذي ظلّ يطالب بتقاعد لم يحصل عليه أبداً. لقد أسعدني كثيراً التعرّف على كاتب اسمه غارسيا ماركيز". واضاف:" أعتقد أنّ ما ساهم كثيراً في صداقتنا هي القراءات: كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. كان القاسم المشترك بيننا هو تلك القراءات. كان هو متأثراً كثيراً بفرجينيا وولف. يتحدّث عنها كثيراً. أما أنا فكنت أتحدث عن سارتر، الذي أعتقد أن غارسيا ماركيز لم يقرأ له حينها. لم يكن يهتمّ كثيراً بالوجوديين الفرنسيين، الذين كانوا مهمين بالنسبة لتكويني. بخصوص كامو، نعم. لكن ماركيز كان يقرأ أكثر الأدب الأنجلوساكسوني "

بعد وفاة ماريو فارغاس يوسا  توجهت وكالة الصحافة الفرنسية الى  الصحافية والروائية إلينا بونياتوسكا التي تبلغ من العمر 92 عاماً وكانت احد شهود واقعة " اللكمة " التي اكدت ان يوسا كان غاضبا بسبب ما قاله ماركيز لزوجته.

في عام ١٩٨٢، عندما نال غابرييل غارسيا ماركيز على جائزة نوبل في الأدب. القى  في ستوكهولم كلمة  بعنوان  "عزلة أمريكا اللاتينية "، لم يذكر فيها ماريو فارغاس يوسا. بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، في عام ٢٠١٠، عندما نال البيروفي  ماريو باراغاس يوسا جائزة نوبل ، لم يشر هو الآخر إلى  ماركيز. بدا الأمر كما لو أن كليهما اتفق ضمنيًا على محو الآخر من تاريخه.

في السابع عشر من نيسان عام 2014 غادر غابريل غارسيا ماركيز عالمنا، ولم يترك عائلته وحدها في عزلة، بل العالم في اسره تاذي منحه لقب الكاتب الاعظم.. مات ماركيز بعد ان ترك وراءة قراء من كل اللغات، قراء موالين، قراء نهمين، قراء من كل الانواع لان رواياته جعلتنا نحلم بكل الطرق.

في الثالث عشر من نيسان عام 2024 توفي ماريو فارغاس يوسا وكان قد صرح قبل اشهر انه يحن الى الماضي كثيراً، ولكن بالطريقة التي ذكرها سكوت فيتزجيرالد في نهاية روايته المدهشة غاتسبي العظيم:" سنواصل قدماً، زوارق ضد التيار، مدفوعين بلا توقف نحو الماضي ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

بقلم: كلير هوفمان

ترجمة: د. محمد غنيم

***

في يوم ربيعي من عام ١٩٢٦، فعلت أقوى امرأة في لوس أنجلوس ذلك بالضبط - سارت إلى حافة مياه شاطئ فينيسيا واختفت. كانت إيمي سيمبل ماكفيرسون واعظة مشهورة عالميًا، استطاعت جذب عشرات الآلاف إلى نهضاتها الروحية، التي خلقت شفاءاتها الإلهية مشاهد حشود في جميع أنحاء البلاد. في أوائل عشرينيات القرن الماضي، بنت أول كنيسة عملاقة في البلاد وأطلقت إحدى أوائل محطات الإذاعة المسيحية. كان هدفها المعلن هو امتلاك ميكروفون كبير جدًا بحيث يسمع العالم كله إنجيلها. أطلقت عليها دوروثي باركر لقب "سيدة مكبر الصوت". ولهذا، وبنفس القدر من الحماس، أحبها أتباعها وسخر منها النقاد. ثم، في ظهيرة يوم مشمس من شهر مايو، سبحت في الماء واختفت.

على الرمال، تركت إيمي وراءها كومة من النقود، بالإضافة إلى ملاحظات لخطبة ذلك الأسبوع، بعنوان: النور والظلام. عندما لم يعثر عليها مساعدها، سادت حالة من الهستيريا. جابت القوارب الخليج، وحلقت الطائرات في السماء. في الأيام التالية، أقام عشرات الآلاف وقفة احتجاجية لها، ولقي شخصان حتفهما جراء جهود البحث، وطُبعت أعداد خاصة من الصحف يوميًا، مما أجج هوسًا جماعيًا.

بعد ستة وثلاثين يومًا، في الواحدة صباحًا، تعثرت إيمي في فناء خلفي على الحدود المكسيكية، على بُعد أكثر من 600 ميل من شاطئ فينيسيا. كانت ترتدي فستانًا أبيض وكورسيهًا وحذاءً حريريًا، ولم تطلب الماء، بل هاتفًا للاتصال بوالدتها.

أشعل ظهورُها المفاجئ جنونًا إعلاميًا. في الأشهر التي أعقبت عودتها، عُقدت محاكمةٌ أمام هيئة محلفين كبرى، ووُجهت تهمٌ ضد إيمي وأمها وعشيقها المزعوم و"شبيهها" الذي يعاني من انفصام الشخصية. ولكن لماذا قد تُفبرك امرأةٌ بهذه النفوذ شيئًا متطرفًا إلى هذا الحد؟ مع ورود تفاصيل عن هروب إيمي ربما لعلاقة عاطفية عابرة مع موظف سابق - عامل الراديو الخاص بها - برز سؤالٌ أكبر: لماذا قد تُقدم على فعلٍ مُدمرٍ لذاتها إلى هذا الحد؟ ما الذي قد يدفع شخصًا - وخاصةً شخصًا لديه الكثير ليخسره - إلى تدمير حياته بهذه الطريقة؟ وما الذي قد يدفع امرأةً في قمة مجدها إلى الاعتقاد بأن خيارها الوحيد هو الاختفاء من هذا العالم؟

طوال ست سنوات، كنت أتنقل بين عالمين. في النهار، كنت غارقة في شرائح الميكروفيلم، ومحاضر المحاكمات، وخُطب صفراء متآكلة، أبحث في سيرة المبشرة الإنجيليّة الراحلة إيمي سمبل ماكفيرسن. ومع حلول الليل، كنت أنتقل إلى عالم الروايات - قصصٍ شعرتُ أنها صدى للقصة التي كنتُ أبحث عنها. كانت قصصًا عن نساءٍ ينهارن، ونساءٍ يختفين، ونساءٍ - غالبًا في منتصف العمر - ينظرنَ حولهنّ إلى الحياة التي بنينها بعناية ثم يقلنَ في قرارة أنفسهنّ: "عليّ أن أُغادر هذا المكان".ولم أستطع التخلص من صورةٍ واحدة ظلت تلاحقني: امرأةٌ غير راضية، تمشي مبتعدة عن حياتها لتغوص في أعماق البحر.

لم يقتصر ذلك السؤال على الماضي. فطوال ست سنوات، انغمستُ في عالم المايكروفيلم، منحنيةً في أقبية أرشيفية أقرأ محاضر المحاكمات ومواعظ لا تنتهي، محاولةً فهم الخيارات التي اتخذتها إيمي. في نهاية تلك الأيام الطويلة، كنت أخرج من آلة الزمن البحثية الخاصة بي لأعود إلى حياتي الواقعية في القرن الحادي والعشرين - امرأة متزوجة وأم لابنتين، أحاول اجتياز سلسلة التحديات التي تلقيها الحياة في طريقي. عبر تلك السنوات، واجهت أمراضاً عائلية وفقدان أحبة، وانتقالات سكنية، وجائحة عالمية، واضطرابات سياسية، بالإضافة إلى  تقلبات الحياة اليومية. ومثل الكثيرين، حاولت بدرجات متفاوتة أن أكون أفضل نسخة من نفسي وفقًا لتوقعات من حولي- الزوجة والمواطنة والأم المثالية من حيث الصحة والجاذبية والواعية عاطفيًا واجتماعيًا. كان الأمر مرهقًا، ولكنه كان رائعًا.

فيما كنت أتنقّل بين الماضي والحاضر، كنت أجد في الليل مهربًا في عالم الرواية . كانت طاولة سريري— وما تزال — مكدسةً بالروايات، كبوابة إلى عوالم أخرى، وكائنات أخرى، ووقائع مغايرة. بعد أن انتهيتُ من قصة إيمي، بدأتُ ألاحظ أصداءً. أول ما رأيتُه كان في رواية كيت شوبان الكلاسيكية عام ١٨٩٩، "اليقظة" - بمثابة الجدة الروحية لقصص انهيار النساء في منتصف العمر.  بطلة الرواية، إيدنا بونتيلير - وهي في الثامنة والعشرين من عمرها، متزوجة وأم لطفلين، وغارقة في مجتمع نيو أورلينز الأرستقراطي - تستيقظ فجأة على استيائها من العالم الذي تعيش فيه تنجذب إلى شابٍ أصغر سنًا، لكن يقظتها أعمق من ذلك - كل شيء في طريقة حياتها يصبح لا يُطاق. تنتهي الرواية بمشهد إيدنا تسبح بعيداً عن حياتها...ولم تعد أبداً.

في رواية "أحبكِ لكنني اخترت الظلام" التي تأسر الألباب، وجدت نفسي أنجرف مع كلير فاي واتكنز نهرًا صحراويًا، بينما تتعاطى راويتها المواد المخدرة، وتتواصل مع الصحراء، مع حقيقتها، مع عشيقها الشاب. تصارع نجاحها وفي النهاية، تترك حياتها مع زوجها وابنتها الرضيعة. كتبت واتكنز."كنت أفعل أفضل ما بوسعي بما لدي ، أو هل كنتُ كذلك حقًا؟"

ف في الصيف الماضي، وككل النساء تقريبًا، قرأتُ رواية:  All Fours.راوية جولي، التي تستقي الكثير من حياتها الشخصية، مثل واتكينز، تجد نفسها عالقة في مونروفيا، تدور حول نجم شبابها الراحل، مهووسة بعامل شاب جذاب في شركة هيرتز. تقول راوية جولي عندما تخشى رفض الشخص الذي تُعجب به: " كذلك، ستكون بقية حياتي شاقة ثم سأموت. وهذا هو حال كثيرين. لا بأس في ذلك.» بالنسبة لراوية جولي يرتبط منتصف العمر بتاريخ مظلم - فقد انتحرت جدتها وعمتها، كلتاهما في الخمسينيات من العمر، وكلتاهما قفزت من النافذة نفسها. وضعت إحداهما نفسها داخل كيس قمامة لكي تجنب الفوضى.

ما الذي قد يدفع شخصًا - وخاصةً من لديه الكثير ليخسره - إلى تدمير حياته بهذه الطريقة؟ وما الذي قد يدفع امرأةً في قمة مجدها إلى الاعتقاد بأن خيارها الوحيد هو الاختفاء؟

أدركتُ مرارًا وتكرارًا أنني كنتُ أغوص في قصص نساءٍ بنين لأنفسهن حياةً يفخرن بها ويحببنها، ثم بدأن يُهدمنها. في الأدب، وفي الحياة، كنتُ أرى نوعًا من التمرد. بدأتُ أدرك أن هذا ليس مجرد نوع أدبي وجدته مصادفةً - بل كان لغة مشتركة للرفض والسخط. كانت هؤلاء النساء يصارعن الشهوة - شهوة الرجال الأصغر سنًا، والنساء الأكبر سنًا، وأحيانًا مجرد رغبةٍ مُفرطةٍ في الحرية. مثل كلاريسا دالواي وآنا كارينينا قبلهن، كل هذه الشخصيات تواجه أشباح أمهاتهن، وشركاء حياتهن، وتوقعاتهن، إلى جانب مواجهة الرأسمالية والنسوية والأمومة

في كل هذه القصص، يُصارعن أجسادهن التي تحولت إلى قنابل موقوتة، تُذكرهن بأن الزمن لا يتوقف. لكن ما وراء العلامات الواضحة في منتصف العمر - فقدان الشباب، والشعور بالفناء - لاحظتُ أن العديد من هؤلاء الشخصيات يُصارعن فراغ النجاح الذي حققنه أخيرًا. في كل رواية من هذه الروايات، تجد النساء صعوبة بالغة في العيش بصدق داخل هياكل السلطة والأيديولوجيات السائدة- حتى عندما يُساهمن في بنائها. ربما ليس من قبيل المصادفة أن هذه القصص قد انتشرت في السنوات القليلة الماضية، عندما وجدت العديد من النساء أنفسهن يتصدعن تحت وطأة العمل الخفي، والرعب الوجودي، والتوقعات المستحيلة.

دعت إيمي إلى أسلوب حياة أصولي، لكنها وجدت نفسها مرارًا وهي تقف وجهاً لوجه أمام تحديات تتعارض مع ذلك النظام العقائدي. وبينما كانت تُعدّ ملاحظاتها لخطبة النور والظلام، بدت وكأنها تُصارع أيديولوجية ثنائية الخير والشر، والقديسين والخطاة. ربما أدركت في ذلك اليوم أنها نسجت عالمًا لم تعد قادرة على العيش فيه بسلام. لكن اتضح أن حتى الهروب له عواقبه.

من الصعب معرفة ما هي الإغراءات التي جذبت إيمي إلى عالمها وهياكل السلطة التي أرادت الهروب منها - خدمتها الدينية، ووالدتها، وأطفالها، ومعجبيها. لكن ألم هذا الخيار كان فوريًا، ويمكن القول إنه لم يتوقف أبدًا. عوقبت. أولًا من خلال قضيتين قانونيتين، تلتها سنوات من الإذلال العلني المكثف. تم انتقاد إيمي بشدة - وسئلت عن كل شيء من صدقها وإيمانها، إلى كاحليها وشعرها وحياتها العاطفية. "أختي الخاطئة" هي محاولتي لسرد قصة إيمي كاملة. لكن قصة إيمي - مثل هذه الروايات - هي دراسة حالة لمدى صعوبة أن تكون امرأة معقدة ومتناقضة في عالم يصر على الوضوح والامتثال والبساطة. حتى عندما تكون الأنظمة التي نكافح ضدها هي تلك التي ساعدنا في بنائها.

***

.............................

* "الأخت، الخاطئة: الحياة المعجزة والاختفاء الغامض لإيمي سيمبل مكفرسون" تأليف : كلير هوفمان

الكاتبة: كلير هوفمان/ Claire Hoffman: مؤلفة مذكرات "تحيات من يوتوبيا بارك"، وصحفية تُغطي مجلات وطنية في مجالات الثقافة والدين والمشاهير والأعمال وغيرها. عملت سابقًا مراسلة في صحيفتي لوس أنجلوس تايمز ورولينج ستون. تخرجت من جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز، وحصلت على ماجستير في الدين من جامعة شيكاغو وماجستير في الصحافة من جامعة كولومبيا. وهي عضو في مجالس إدارة كلية كولومبيا للصحافة، ومؤسسة بروبابليكا، ومكتبة بروكلين العامة.

ما إن يغمض كاتب عينيه للمرة الأخيرة حتى تبدأ رحلة العذاب لمكتبته التي كانت يوما ما قبلة للفكر ومعبدا للحرف. لا تنتظر الكتب طويلا حتى تساق كالغنائم إلى ساحة المزاد العلني أو تلقى في زوايا الإهمال كأوراق بالية. هنا في هذا المشهد المفارق تتحول المكتبة من "ميراث" إلى "متعة" بائسة تقاسمها الأرقام والهمهمات. الورثة لا يقرأون والزوجة لا تعرف الفرق بين "الأيام" لطه حسين و"كشكول" البقال. يكفي أن تلمح نظراتهم المتعجلة إلى تلك الجدران المليئة بالكتب لتفهم أنهم ينتظرون لحظة التخلص منها كأي كراكيب عفا عليها الزمن! 

لا تلوموا الأبناء إن باعوا مكتبة والدهم بأقل من ثمن "آيفون" جديد. فجيل "الفيديوهات المضحكة" لا يرى في الكتب إلا حبرا على ورق أو ربما "ديكورا" قديما يصلح لتصوير السيلفي! إنهم أبناء "اللايكات" والشيرات" يبحثون عن المعرفة في 15 ثانية ويختزلون الحكمة في مقطع صوتي. الكتب عندهم كالمشي على الأقدام في زمن السيارات الطائرة: بطيئة مملة غير مجدية. وما العيب فيهم؟ العيب فيا نحن الذين لم نعلمهم أن الكتاب ليس مجرد حروف بل هو بصمة إنسان وروح معلقة بين السطور. 

خردة ثقافية! 

إذا كان بائعو الخردة يفرحون بشراء المكتبات فذلك لأنهم يدركون قيمتها أكثر من الورثة! هؤلاء الذين يهرولون لتحويل الكتب إلى "ورق مقوى" يباع بالكيلو. مشهد يختصر مأساة حضارية: أمة كانت توقر الحرف صارت تبيعه في سوق النخاسة. كل كتاب يرمى في سيارة الخردة هو إعلان عن انهيار سلم قيم بأكمله. فما قيمة شعب لا يحفظ تراثه الفكري؟ وما قيمة مدينة تتحول مكتباتها إلى "وليمة" للفئران والعث؟ 

أن تموت مرتين! 

الألم الدامي الموجع ليس في موت الكاتب بل في موت مكتبته. فالكاتب قد يموت مرة لكن مكتبته تموت ألف مرة: حين تغلق الأدراج وتقطع الأغلفة وتسحق الهوامش التي كتبت بخط يده. إنها جريمة بحق الإنسانية أن تتحول مكتبة عاش صاحبها عمره يجمعها إلى "خردة". وكأننا ننزع من التاريخ صفحاته ونرميها في سلة المهملات. أليس هذا هو الموت الحقيقي للثقافة؟ أن تتحول الكتب إلى مجرد أرقام في فاتورة بيع! 

مقترحات لإنقاذ ما تبقى! 

1. "وصية المكتبة": أن يفرض القانون على الكتاب تضمين وصيتهم مصير مكتباتهم سواء بالتبرع لها لجامعات أو تحويلها إلى متاحف خاصة. فكما يورثون العقار يجب أن يورثون الفكر. 

2. "بنك الكتب": مؤسسات ثقافية تتبنى شراء مكتبات الموتى وحفظها كتراث عام بدلا من تركها لعشوائية السوق. 

3. التعليم قبل التوريث: تثقيف الأبناء بأهمية المكتبات في حياة آبائهم وتحويلها إلى جزء من الذاكرة العائلية لا مجرد رفوف. 

4. مشروع "هذا الكتاب كان لـ…": توثيق ملكية الكتب بملصق صغير على الغلاف يحكي قصة لتحويلها من "شيء" إلى "سيرة".

قد نضحك ساخرين من جيل يلهو بالهواتف لكننا نحن من سمحنا بتحويل الكتب إلى جثث. الثقافة لا تموت حين يموت حاملوها بل تموت حين نرفض أن نكون جسرا بين الماضي والمستقبل. فليبدأ كل منا بإنقاذ كتاب واحد من سلة المهملات ولنعلم أبناءنا أن "الواي فاي" لا يغني عن مكتبة. لأن الأمم التي تبيع كتبها كالخردة تخبر التاريخ أنها استحالت خردة هي الأخرى. 

لا عجب أن تتحول مكتبة الأمس إلى "مزاد اليوم" فالعصر الجديد لا يعرف الانتظار. جيل يعيش على "الديليفري" حتى في تلقيه للمعرفة: يريد كل شيء فورا مختصرا معلبا في رسالة صوتية أو منشور إنستجرام. الكتب الطويلة؟ إنها كالوجبة التي تحتاج ساعات للطهي بينما هم تعودوا على "البرجر" الثقافي: سريع لذيذ بلا عناء المضغ! لكنهم لا يدركون أنهم يتبنون "ثقافة الوجبات السريعة" التي تشبع الجوع العاجل وتجوع الروح على المدى البعيد. 

المكتبات كالكهوف: لماذا يخافون من الظلام؟ 

الكتب مرايا تظهر للقارئ عوراته الفكرية وتشعره بضالته أمام تراكم الحضارات. لهذا يهرب الورثة منها كهارب من ظله! ليست المشكلة في أنهم لا يقرأون بل في أنهم يرفضون مواجهة أنفسهم. الهواتف النقالة تمنحهم الوهم بأنهم "أسياد الكون" بينما الكتب تذكرهم بأنهم مجرد نقطة في بحر الزمن. هل نلومهم إن فضلوا الهروب إلى الواقع الافتراضي حيث يمسكون بدفة المعرفة المزيفة بدلا من أن يبحروا بسفن الأجداد الهشة في محيطات الحكمة؟ 

في بعض البيوت تتحول المكتبات إلى ديكور يشار إليه بالبنان: "هذه الكتب كانت لوالدي العبقري!" لكن أحدا لا يجرؤ على فتحها كي لا يبعثر الغبار! إنها مهزلة أن تتحول المكتبة إلى "بورتريه" ورثوه مع الأثاث العتيق بينما جوهرها-كالأشباح-يطارد بالمكناس الكهربائية. هكذا تختزل الثقافة في صورة على الإنستجرام ويدفن الفكر تحت وطأة النظرات الإعجابية الزائفة. 

الجهل وحده لا يكفي لقتل المكتبات بل اللامبالاة هي السلاح الأشد فتكا. فما يحدث ليس مجرد "بيع كتب" بل خيانة لعهد غير مكتوب بين الأجيال. الكاتب الذي جمع مكتبته حجرا حجرا كأنه يبني هيكلا لعبادة العقل يأتي من بعده من يهدمه بكل برود. والكارثة أن الورثة لا يشعرون بالذنب؛ لأن الجريمة تتم في وضح النهار وبموافقة المجتمع الصامت! 

قد يقول البعض: "لماذا الندب على ما فات؟ لننشغل بإنقاذ ما تبقى!". لكن السؤال الجوهري: هل ما زال لدينا ما ينقذ؟ 

- لو كانت المكتبات تباع في المزادات فلنحولها إلى "مكتبات شوارع" كي يقرأها المارة كالمنشورات. 

- لو كان الورثة جاهلين فلنفرض عليهم "ضريبة ثقافية" تحول قيمتها لشراء الكتب ونشرها في الأحياء الفقيرة. 

- لو تحولت الكتب إلى خردة فلنصنع منها تماثيل في الساحات العامة كشواهد على زمن أحرقناه بأيدينا! 

الثقافة ليست أوراقا بل نبض يسري بين السطور. والكتب لا تموت حين تحرق أو تباع بل تموت حين ننسى أننا لسنا أول من عاش ولا آخر من سيأتي. في كل كتاب ترمى سيرة إنسان وفي كل مكتبة تنهب تغرق جزيرة من ذاكرة البشرية. ربما يأتي يوم نبحث فيه عن كتاب ضائع فنكتشف أننا كنا نبحث عن جزء منا أهديناه لسيار الخردة! 

قد ننجو من الجوع ومن الأوبئة ومن الحروب لكننا لن ننجو من جوع العقل. فالأمم التي تتنكر لكتبها كالابن العاق تحكم على نفسها بالانقراض الأخلاقي. فليكن "رداء الثقافة" الذي نورثه لأبنائنا أثقل من ذهب وأوسع من عقارات. لأن الحضارات لا تقاس بمساحة الأراضي بل بمساحة العقول التي تحفظها.

***

عبد السلام فاروق

عن العراق الذي يكتبه الغريب كما يُكتب الحنين

توطئة: كتبتُ هذا النص لا من باب التوثيق، ولا لارتداء هوية ليست هويتي، بل لأنني اقتربت من العراق من خلال أهله، وفتحت بيتي لهم كما فتحوا بيوتهم لي. وكنت، وأنا أستمع لهم، أشعر أني أستعيد شيئًا من نفسي.

هذا ليس مقالًا، ولا سيرة. إنه قطعة من ذاكرة مشتركة، كُتبت على مهل، في أحد مساءات الغربة.

في المقهى العراقي الذي يديرُه رجلٌ من الكرادة ويحفظ أشعار الجواهري، سمعت للمرة الأولى كيف يمكن للحرب أن تُروى كشأن منزلي، كما تُروى وصفة الشاي أو طريقة طبخ الدولمة. لم يكن سردًا بطوليًا بل اعترافًا، صادقًا، هشًا، يليق بالبشر حين تتساقط عنهم أقنعة التاريخ. رجلٌ لم يكن يرفع صوته، ولم يكن يُخفضه، يتكلم كما يُسكب الشاي: متوازنًا، دافئًا، مسكونًا بما يكفي من الحكمة لئلا يغرق في الرثاء، وما يكفي من السخرية لئلا يستسلم.

على الجدار خلفه صورة للجواهري، لا تشبه الصورة المألوفة في الكتب، بل صورة يبتسم فيها الشاعر، كما لو كان يبارك لهذا المقهى المتواضع قدرته على أن يُبقي الشعر حيًا، وسط فناجين الشاي وقطرات المطر. وكان المقهى كله، رغم صغره، يبدو كأنه بقعة من الرصافة سقطت سهواً في هذا المنفى البعيد.

“أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي” قالها المتنبي ذات نشوة، لكنّي شهدت هناك كيف يطأ الشعرُ الطينَ، وكيف يتوهج في نبرة امرأة تبكي ابنها ولا تجد ما تكتبه سوى صمتها. لم تكن القصائد تُكتب بالحبر بل بالدخان المتصاعد من غليون يتيم، أو بمرارة ضحكةٍ عراقية وهي تُخبرك أن بغداد مدينة لا تُحكى، بل تُشمّ.

شمّ المدن لا يحتاج إلى خرائط، بل إلى أنف القلب، إلى خيال يتدرب على التقاط ما لا يُرى.

بغداد، كما قالتها تلك المرأة، ليست مدينة تشرحها النشرات، بل رائحة قهوة محروقة قليلًا في بيت قديم، عِبارة تُقال على استحياء، حنجرة تتهدج عند سماع أم كلثوم، ثم تصمت. الشعر هناك لا يُدرّس، ولا يُلقى في المنابر، بل يتجلى في هيئة أمهات يرتّبن شَعر الغياب ويُطعمنه من فتات الذاكرة.

لا شيء يُعيد للإنسان قدره كالخسارة. ربما لذلك كان الاشتراكيون في العالم أكثر شعورًا بالعدل، لأنهم فقدوا كل شيء. يقول أنطونيو غرامشي: “إن تشاؤم العقل لا يُنافي تفاؤل الإرادة”. وأظن أن العراقي حين يُحسن القَصّ، لا يفعل ذلك لأنه متفائل، بل لأنه تعب من الهروب، فصار يروّي ما لا يمكن النجاة منه. هذه الإرادة التي تُشبه الجلد العراقي – لا تتشقق إلا لتُبرهن أنها لا تموت. فهي ليست مقاومة ضجيج، بل صبرُ جمال، وليست تحديًا أجوف، بل تأملٌ نَبيل في المعنى.

أحيانًا كنت أشعر أن القصة عندهم ليست وسيلة تواصل، بل طقسٌ للنجاة، أو محاولة مستترة لترميم الزمن. كأنهم يقولون للغد: نحن لم ننكسر، نحن فقط تعلمنا أن نُطيل الحكاية كي لا ننتهي بسرعة. والعراق في حكاياتهم ليس دولة بحدود، بل مزيج من الشِعر والماء، من الطين والزيتون، من الأغنية التي تُغنّى حتى لو لم يبقَ من الوطن سوى اسم يُوشك أن يُنسى.

وفي مساءات المنفى، حين نُطفئ أنوار الغربة، لا نعود نحن فقط، بل يعود معنا ذلك الحنين المُجهض، حنين لا يُكتب، لأنه لا يشبه شيئًا سوى النشيد الأخير في عرس تأخّر كثيرًا.

أحدهم قال لي إن قصيدة بدر شاكر السياب: “أنشودة المطر”، كُتبت لتُقرأ في المنافي فقط. وأنا أصدق ذلك. فـ”عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر” لا تُقال لعاشقة، بل لوطنٍ يسكن امرأةً تحمل في ملامحها أعمارنا المُنْهَكة. امرأة لا تقول الكثير، ولكنها حين تسند رأسها إلى حافة الليل، تُصغي لنداء لا يسمعه سواها.

قصائد السياب هناك ليست ذخيرة ثقافية، بل جزء من الدورة الدموية اليومية. مثل الملح، مثل الحبّ الصامت، مثل العتاب الذي لا يُقال.

حين تتحدث العراقيات في الغربة، لا تتكلم نساء فقط، بل تتحدث مدن مهدّمة، ومكتبات محروقة، وبيوت تُبنى بالذاكرة. يقُلن لك ما لا يقوله الرجال: أن النصر كذبة صغيرة إذا لم يشبه دفء البيت. في كلامهن فسحةُ ظل لا توفّرها السياسة، ووضوحٌ لا تُجيده المؤتمرات. يحملن العراق كما تُحمل القوارير في البحر، لا ليطفو فقط، بل لئلا ينكسر. ليس فيهن استجداء، ولا ثقل الماضي المجلجل، بل خفة من يعرف أن المعنى الحقيقي لا يُقال، بل يُمنح، في طريقة تقديم الشاي، في لُقمة خُبز مشروحة بحنو، في عِبارة تُقال على الماشي: “تفضل، البيت بيتك”.

وأنا أراقب أحد أصدقائي العراقيين، وهو يشرح لابنه الصغير، باللهجة الجنوبية: “يمه، العراق مو خراب، العراق أحلى من الخيال، بس الكَلبان لعبوا بيه”. أدركت أن اللغة، حتى حين تنكسر، تظل تحاول الإنقاذ. أدركت أن ما نحمله من لهجات، ليس زينة لهوياتنا، بل أدوات بقاء. في جملته تلك، كان يُعيد تشكيل وطنٍ كامل، لا على هيئة علمٍ أو شعار، بل على هيئة حكاية تُروى للطفل كي لا ينسى. لأنهم يعرفون، بذكاءٍ بسيطٍ ومُرهف، أن ما لا يُحكى، يُمحى. وقد رأيتُ في نظراته أن العراق ما زال قائمًا، لا كمؤسسة، بل كنبض حيّ في ذاكرة عائلة تُصرّ على أن تنقل خريطتها الخاصة للأجيال القادمة.

أنا سوداني، وأعرف أن الكتابة عن العراق لا تُمنح لمن يتفرّج، بل تُمنح لمن يدخل البيوت ويُؤتمن على الحكاية. ولذلك أكتب الآن، لا من خارج الدائرة، بل من داخل حميميتها، كمن سُمح له أن يجلس في زاوية المجلس ويُصغي.

الغربة تصنعك كما تصنع النار المعدن. تُنقّي دواخلك من الزيف، تدفعك لأن تُعيد التفكير في كلمة الانتماء، تلك الكلمة التي كانت تبدو قدريّة، فإذا بها تُخاض. وأنا أخوضها معهم. أصدقاء لا يشبهون الصور، بل يشبهون الكتب المفتوحة التي لا تُغلق، يروُون لك “المنفى” كما يروون “العراق”، ويُشبهونك وأنت تحاول أن تتذكّر لماذا خرجت من وطنك ولماذا لم تعد. ليسوا شخوصًا عابرة، بل مرايا نادرة ترى فيها وجهك المُفترض، الوجه الذي نسيت أنك كنت تحمله، وكنت تسعى إليه.

وفي هذا التمرين الدائم على الانتماء، يبدو لي أن الغربة ليست فقدًا، بل اختراعًا لمعنى جديد، أكثر صدقًا، للوجود معًا. ليست جسرًا بين ضفتين بل هي الضفة الثالثة، تلك التي لا يراها العابرون ولا تقيسها الخرائط. ضفة لا تُسجَّل في العقارات، بل في دفاتر القلب، في الأمكنة التي نختلقها مع من نحب، حين نُقرّر أن نصير وطنًا لبعضنا البعض، دون أن نُعلن ذلك، ودون أن نطلب أوراقًا ثبوتية.

قال المفكر الاشتراكي بول نيزان قبل أن يقتل في الحرب: “لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من الحب إلا عندما فقدته”. وأنا أعرف أنني لم أكن أعرف العراق، إلا حين عرفت العراقيين عن قرب. عن قُربٍ لا تصنعه الأوطان بل تصنعه القلوب التي حين تهزمها الحروب، تتحوّل إلى أوطانٍ تمشي، تنام، وتفتح لك باب البيت. بيت لا يحتاج إلى سقف، بل إلى كلمة، إلى إيماءة، إلى ثقة بسيطة تنمو على نارٍ هادئة، كما تنمو جذور النعناع.

هل الغربة عدالة؟ لا. لكنها في حالات نادرة، تمنحك امتياز أن تُعيد ترتيب نفسك. أن تُجرّب الأخوّة مع من لا يشبهك تمامًا، ومع ذلك يصبح أقرب إليك من الدم. تمنحك فرصة أن تقول لنفسك، بلا خجل، إن الحياة لا تُقاس بالمكان، بل بنوعية البشر الذين مرّوا بك، ومررت بهم، وقرّرتم معًا أن تجعلوا من اللايقين حكايةً يمكن تصديقها، بلغةٍ لا تُنسى، وصمتٍ يشبه المعنى أكثر من أي كلام.

الغربة، بهذا الشكل، ليست جرحًا، بل خيطًا دقيقًا من الضوء يتسرّب من تحت الأبواب المغلقة. خيط لا ينير الطريق كله، لكنه يكفي لتعرف أنك لست وحدك. وأن دفء الآخر، حين يكون صادقًا، يضاهي دفء الوطن، وربما يتجاوزه. ليس لأن الوطن ناقص، بل لأن القلوب حين تُمنح من غير مصلحة، تكتسب طهارة نادرة.

العراقيون الذين عرفتهم في المنفى لم يكونوا ينتظرون شيئًا من أحد، لم يكونوا ضحايا، ولا دعاة، بل ناسًا يعيشون بكامل أناقتهم في قلب اليوم، يصنعون من الوقت خبزًا ومن القصيدة بابًا ومن المزاح صلاة يومية للنجاة من فجاجة العالم.

منهم تعلّمتُ أن الطمأنينة ليست هدية، بل مهارة. وأن الانتماء ليس وثيقة، بل فعل يومي من الحب. وأن البلاد لا تعني شيئًا إن لم تجد من تشاركهم طريقتها في الغياب.

وأنا الآن، أكتب هذا النص، لا لكي أُحصي ما فُقد، ولا لأرثي ما لا رجعة فيه، بل لأقول ببساطة: بعض الغرباء، حين يدخلون حياتك، يُعيدون ترتيب جغرافيتك كلها. يجعلونك تُفكر في المعنى لا في الحدود. في الجلوس مطوّلًا مع من تُحب، لا في العبور السريع إلى المجهول.

ربما لم أكن أعرف أنني أملك هذا القدر من القرب، إلا عندما التقيت بهم. وربما، ذات يوم، حين تُغلق كل الأبواب، سيبقى باب صغير مفتوح في الذاكرة، كأنك تسمع من بعيد صوتًا يقول لك: “تفضل، البيت بيتك”

***

إبراهيم برسي – كاتب سوداني

 

عندما سئل: لماذا اصبحت روائيا؟، فكر قليلاً ثم قال: الجواب يكمن في طفولتي.. لماذا يحاول استعادة طفولته دائما؟، لأنها الرواية التي يتمنى ان يكتبها ذات يوم. عاش بعض طفولته في بيورا التي يرسمها بشغف ومحبة، ويسترجع الشوارع المزدحمة، وأشجار التمر الهندي. الحرّ والذباب، والعشاق.

ماريو فارغاس يوسا الذي رحل عن عالمنا امس الاحد عن عمر " 89 “ عاما يتذكر كيف انفصل ابوه عن امه قبل أن يولد، وعندما اصطحبته امه الى بوليفيا اخبرته ان والده مات قبل ولادته، وبعد عشرة اعوام سيظهر هذا الأب ليتزوج امه مرة ثانية، وغضب عندما علم ان ابنه يكتب الشعر، كان الاب يربط بين الادب والشرور، والحياة الشاذة، ينتمي الى طبقة برجوازية، مارس عدة مهن ، وكانت مهمته في الحياة بعد ان اكتشف ان لديه ابن، ان يزيد من صلابته، فقرر ان يرسله الى معهد تعليمي عسكري في ليما عاصمة البيرو، المدينة التي ولد فيها يوسا في الثامن والعشرين من آذار عام 1936. كان المعهد يتسم بالتشدد، وسيصف لنا في روايته الاولى " المدينة والكلاب " الصادرة عام 1962، الحياة في هذه المدرسة ومدى شدتها، هناك كان الطلاب يخضعون للنظام العسكري الصارم، يطلب منهم تمجيد القيم العسكرية. يصور لنا بطل الرواية مرعوبا وخائفا من الواقع الذي يشجع على العنف:" كنت مصدوما في هذه المدرسة العسكرية " – الكاتب وعالمه ترجمة بسمة محمد عبد الرحمن - في المدرسة يجري تدريب الطلبة للعمل في عالم من العنف، يروي لنا الوحشية المتفشية التي مورست على مجموعة من الطلاب الشباب.، ليدين من خلالها فساد ذلك العالم وعنفه الدائم.

بدأ في كتابه رواية " المدينة والكلاب " في منتصف عام 1958، عندما كان يقيم في مدريد، يحمل اوراقه ويتنقل بين عدد من المقاهي، انتهى منها في شتاء عام 1961 في غرفة صغيرة أثناء إقامته في باريس. عرضها على العديد من دور النشر التي رفضتها، في النهاية قرر ان يذهب الى الناقد الفرنسي من اصل اسباني كلود كوفون، الذي تحمس للرواية ونصحه الاشتراك في مسابقة للرواية في اسبانيا، تحدث المفاجاة وتفوز الراوية بالجائزة الاولى وسيصفها رئيس لجنة التحكيم بانها عمل ساحر وافضل ما قدمه ادب امريكا اللاتينية منذ عقود.. حصلت الرواية بعد عام على جائزة النقاد الاسبان. واعلنت عن ولادة كاتب روائي سيذهل النقاد بتقنيته الروائية وبالموضوعات الحساسة التي يطرحها، فالرواية بالرغم انها عن حياة الطلبة داخل المدرسة العسكرية، إلا انها تقدم للقارئ عالما مصغرا للمجتمع البيروني في طبقاته الاجتماعية المتباينة.تعرضت " المدينة والكلاب " للكثير من المصاعب حيث تم احراق نسخ منها في البيرو، فيما اصرت الرقابة في اسبانيا على حذف مقاطع كاملة في الطبعة الثانية، ولم تنشر كاملة إلا بعد انتهاء حكم الجنرال فرانكو.

قبل ان يفكر بدخول عالم الرواية حاول ان يتجه الى المسرح، كتب عملاً مسرحيا في 1952، إلا انه وجد في الرواية عالما اكثر غرائبية: "الروائي يكتب عمله من تجربته الحياتية، مشيداً عالمه المتخيل على أسس الواقع، يقوم الروائي، بالنبش في تجربته الحياتية الخاصة، بحثاً عن دعائم ومرتكزات لكي يبتكر قصصاً. والكاتب لا يمتلك حرية واسعة جداً في اختياره لموضوعاته، فهذه الموضوعات هي التي تفرض نفسها عليه.. إنها رحيق تجاربه وخبراته التي يبدأ بها لكنها لا تحدد عنده نقطة الوصول، فالروائي مسؤول عن كيفية معالجته فنياً للموضوعات التي هيمنت على ذهنه، ووجّهته للكتابة عنها. إنه ينصاع لمتطلبات عمله، تحت وطأة تلك الرابطة الحميمة التي تجمعه مع صور ومشاهد وحالات بعينها من هذا العالم، فيكتب قصصه المتخيلة. والطريقة التي يجسدها بها هي ما تجعل من هذه القصص أصيلة أو مبتذلة، عميقة أو سطحية، معقدة أو بسيطة، وهي التي تمنح الشخصيات الكثافة، والغموض والاحتمالية " – الكاتب وعالمه. في سن مبكرة يحلم بالقيام بمغامرات مثيرة مثل احد ابطال تولستوي وجول فيرن والكسندر دوماس، الذين قرأ اعمالهم بشغف، لكن الاكتشاف الابرز له كان جان بول سارتر، قرأ كتبه باعجاب وحماسة عندما كان طالبا في الجامعة، كانت الوجودية آنذاك مؤثرة في العالم كله، ظل أصدقائه يسمونه سارتر الصغير:" أنا تلميذ سارتر الذي يعتبر الكلمات أفعالاً، ويؤمن أنّ الأدب يغيّر الحياة "، في تلك السنوات ينتمي الى الحزب الشيوعي، لكن افكار سارتر تظل مهيمنة عليه:" برغم من كثرة قراءاتي في الماركسية خلال فترة الجامعة، كانت لدي اختلافات مع الماركسيين بسبب سارتر، لان افكار سارتر عن الادب والعلاقة بين الادب والتاريخ كانت مقنعة جدا بالنسبة لي الى درجة انني لم استطع قط ان اقبل العقيدة الرسمية للحزب "، لم تستمر علاقته بالماركسية طويلا، سخر من الواقعية الاشتراكية، واعجب بفكرة سارتر من ان الادب شديد الارتباط بالزمن المعاصر، وانه من غير المقبول استخدام الادب في الهروب من المشاكل المعاصرة. قال ان كل ما يكتب بالاسبانية فيه رائحة ثرفانتس، مثلما كل ما يكتب في الانكليزية فيه رائحة شكسبير، هكذا ظل الحلم بكتابة ملحمة شبيهه بدون كيشوت يطارد الشاب الذي اكتشف أنه لن يكون كاتباً ان لم ينتمي الى امريكا للاتينية.

عام " 1966 " ينشر روايته الثانية " البيت الاخضر " – ترجمة رفعت عطفة - يقدم من خلالها ادانة للغزو الاسباني وللدور الاستعماري ولتدمير الحضارة الهندية، ففي الرواية نحو بمواجهة " حضارتان " واحدة غربية وحديثة وبدائية والاخرى بدائية وقديمة، تتعايشان بشكل سيء، حيث يسعى لتصوير انقسام بيرو الى ثقافتين منفصلتين ومتمايزتين. قبل عام من اصدار الرواية يتزوج ابنة خالته " باتريشا يوسا " وسينجب ثلاثة ابناء، ويتلقى عالم 1967 جائزة رومولو غايبوس عن " البيت الاخضر "، كان قد تلقى رسالة من الكاتب الارجنتيني خوليو كورتاثر الذي قرأ مخطوطة " البيت الاخضر " يقول فيها:" تركت اسبوعا يمر بعد قراءة كتابك، لاني لم أشأ الكتابة اليك تحت تاثير انخطاف الحماسة التي احدثة (البيت الاخضر " بي. اريد ان اقول، ان اعظم الساعات التي يخبئها لي المستقبل ستكون اعادة قراءة كتابك عندما يطبع.. حسنا ياماريو بارغاس يوسا، ساقول لك الآن الحقيقة كلها: " بدأت بقراءة روايتك وانا اموت خوفا نظر للاعجاب الكبير الذي قرأت به المدينة والكلاب. وكنت اشعر بخوف من ان تكون روايتك الثانية ادنى، بعد قراءة عشر صفحات وستلقيت في وضع مريح على الاريكة، وغادرني الخوف، صرت خاضعا تماما لقدرتك السردية الهائلة " –جيل البوم الادبي ترجمة صالح علماني –

بعد صدور رواية "مئة عام من العزلة "يكتب غابريل غارسيا ماركيز رسالة الى يوسا يقول فيها:" انتهيت من قراءة " البيت الاخضر " انها عمل هائل، نبهني الى اننا متفقان في هدف عدم هجر ممالك غاييغوس وريفيرا القديمة، باعتبارهما مطروقة، بل على العكس، مثلما تفعل انت ومثلما احاول ان افعل، يجب الامساك بهما من البداية من اجل اختراقهما عبر الطريق الصحيح ".

روايته الثالثة "حوار في الكاتدرائية" صدرت عام 1969 يصور فيها الجو السياسي في البيرو في اثناء حكم " مانويل اودريا، وكانت فترة حكم دكتاتورية فاسدة امتدت من عام 1948 الى عام 1956 اصبح يوسا اكثر وضوحا بموقفه حول العلاقة بين الادب والسياسة، فهو يعلن بوضوح ان على الكاتب ان يكون على اتصال دائم بالواقع، فهو يمقت فكرة الروائي المنعزل الذي يقطع علاقته بكل شيء، لان هذه القطيعة ستنتج ادبا " لا يمكن ان يكون نقيا "، لكنه في الوقت نفسه ظل يعيب على الادب ارتباطه بالقضايا الراهنة، وفي المقال الذي نشره عن رواية " مئة عام من العزلة " يؤكد ان الادب، خلافا للسياسة، لا يمكن ان يكون مرتبطا بالراهن، إذ عليه ان يتجاوز ويصل الى مجتمعات مختلفة في امكنة وفضاءات مختلفة. اغرم بفوكنر وكان الكاتب الامريكي الشهير صلة الوصل بين يوسا وماركيز:" كنّا معاً من كبار المعجبين بفولكنر. في مراسلاتنا المتبادلة كنّا نتحدّث كثيراً عن فولكنر، عن الطريقة التي اندفعنا بها لاكتشاف الفن الحديث، بما فيه أسلوب السرد بدون احترام التسلسل الزمني، وتغيير وجهات النظر. "

في روايته الرابعة " حرب نهاية العالم " – ترجمة امجد حسين – والتي نشرت عام 1981 ، يعدها النقاد اول محاولاته في كتابة الرواية التاريخية، الرواية تسلط الضوء على الكوارث التي يسببها التعصب، تفرغ لكتابتها اربعة سنوات، قال انه وجد صعوبة لان يكتب عن بلد غريب عنه " البرازيل "، وعن عصر لم يعشه، وان يعمل مع شخصيات تتحدث بلغة لم تكن هي لغته ، ستحصد الرواية شهرة كبيرة سيقول عنها انها الرواية الاكثر اهمية بالنسبة له:" هذه الرواية مثلّت تحديا مرعبا لي كنت اريد ان اتغلب عليه، في البداية كنت قلقا جدا، فكمية مواد الابحاث الضخمة جعلتني اشعر بالدوار، مسودتي الاولى كانت ضخمة، كان حجمها بقدر حجم الرواية مرتين تقريبا، وسألت نفسي كيف ساتمكن من تنسيق كل تلك المجموعة الضخمة من المشاهد، الالاف من القصص الصغيرة ".

يوسا الذي احتفل بعيد ميلاده الـ" 89 " قبل اشهر قليلة قال ان معظم رواياته هي نتاج ذاكرته في بلدته " بيورا " لانها كشفت له حقيقة الانظمة المستبدة، حيث ان ثيمة " الدكتاتورية السياسية " ستصبح ملازمة لمعظم رواياته، والتي توجها بروايته الكبيرة " حفلة التيس " عبر فضح شخصية الدكتاتور " رافائيل تروخيليو " الذي حكم جمهورية الدومنيكان بين 1930و1960. وفيها يختزل يوسا وبمهارة عالية كل الاعمال الادبية والفكرية التي استغلت على موضوعة تعسف السلطة وابرزها بالتاكيد، "خريف البطريرك" لماركيز، و"السيد الرئيس" لميغيل استورياس. في هذه الرواية يمزج صاحب "في مديح الخاله" مواصفات رواية العصور الوسطى التي توجت بالنموذج الاهم " دون كيشوت "وبتقنية الرواية البوليسية وخصوصا في روايات جورج سيمنون من دون إهمال التراث الروائي لكتاب امريكا اللاتينية. يقول يوسا عن حفلة التيس "أنّ الواقع يتجاوز في هوله المتخيل، فخلال ثمانية اشهر من اللقاءات والشهادات عن ما حصل في زمن الطاغية تروخيللو، هذا الطاغية الاستعراضي الذي يخبئ عينيه الوحشيتين وراء نظارة سوداء، اردت ان اقدم خلاصه لكن الواقع كان اكثر عنفا ووحشية من كل ماكتب في الرواية.

العام 2010 يحصل على جائزة نوبل للاداب، آنذاك قال لزوجته التي التي تلقت مكالمه هاتفية من الاكاديمية السويدية " مازلت لا اصدق ذلك "، بعد ذلك اخبر زوجته بألا تخبر الاولاد شيئا ربما ينتهي الامر بمزحه مثل كل عام لقد ظل يوسا ينتظر هذه الجائزة منذ اكثر من عشرين عاما، موقناً من أنه سينالها، ولكن خيبة الأمل ظلت تواجهه سنة بعد أخرى. يقول مترجم اعماله الى العربية صالح علماني: " أن الأيام التي كانت تسبق إعلان الجائزة كل عام تتحول إلى كابوس في منزل الكاتب. فالأسرة كلها تظل متوترة، مشدودة الأعصاب، تنتظر اتصالاً لا يأتي ". وحين تأكد الخبر هذه المرة; قال يوسا لاحدى الصحف الاسبانية " سوف اسير في الشوارع لانني اشعر بالدوار، ان الجائزة سقطت علي مثل الصاعقة، ساعود الى البيت لاكتب من جديد".

قال انه يحب ان يموت وهو يكتب. صاحب " خمس زوايا " – ترجمة مارك جمال وصالح علماني - التي ياخذنا فيها إلى فترة رئاسة ألبرتو فوجيموري البيرو الذي ترشح ضده لمنصب رئاسة الجمهوريّة في البيرو، قبل أن يتفوق عليه فوجيموري مع الأحزاب اليسارية، عام 2000 سيخسر الانتخابات من جديد. قال انه ايقن انه كاتب لا سياسي، هاجمه النقاد لان السياسة لوثت ادبه العظيم، اصيب بالاحباط فقرر ان يترك بلده ليعيش في اسبانيا التي منحته جنسيتها وينتقل بين أوروبا والبيرو، قال انه ينفر من المثاليات الثورية ويرى في التطرف السياسي والديني أصل العنف.

سخرت منه الصحافة الاشتركية لكنه واجهها بالقول انه لم يندم على ترشحه على رغم انه كان "خطأ رهيباً". قال عنه سلمان رشدي:" ما عاد اشتراكياً، كما ترون ".

في حوار معه يصف نفسه:" انا رجل من القرن العشرين ذو ردود وافكار وغرائز بدائية متناقضة.. انا نصف متمدن ونصف بدائي والصراع واضح في رواياتي جميعا ".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

سامية قزموز الفنانة التي فرضت نفسَها ورسّختها في المسرح العربي الفلسطيني في البلاد منذ وقفت على خشبة المسرح وهي لا تزال في منتصف عقدها الثاني. وقد عُرفت واشتهرت بصوتها الإيقاعي الأخّاذ وحركات جسدها المُتماوج مع الحروف والكلمات وهي لا تزال طالبة في المدرسة، فعرفها أهالي مدينة عكا وأحبّوها.

وهكذا كان لسامية أن أصبحت الفنانة التي تميّزت بظهورها على المسرح، والتي يتردّد اسمها على كل لسان، وشقّت الطريق لغيرها من الفتيات العربيات ليشاركن في تثبيت أركان المسرح العربي في البلاد، ولتبوء الفتاة العربية دور الركن الأساس في هذا المسرح.

حتى أواخر سنوات الستين من القرن الماضي كانت الكتابات المسرحيّة مجرّد محاولات إبداعيّة استثنائيّة كان الأديب المرحوم سليم خوري أبرز كتّابها، والعروض المسرحيّة تنحصر معظمها ضمن اجتهادات لطلاب المدارس في مناسبات عامّة أو خاصّة بالمدرسة نفسها.

لكنّ التقاء المبدعين بأشقائهم في المناطق المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة) بعد حرب حزيران 1967، ووصول الإبداعات المسرحية العربية من العالم العربي والمترجمة عن الآداب العالمية وخروج كوادر من الشباب لدراسة المسرح في الدول الاشتراكية وغيرها، ومن ثمّ عودتهم ومساهمتهم في خَلْق واستمرار النشاط المسرحي، تغيّر الواقع وأصبح المسرح بشقَّيْه، الكتابة المسرحية والعَرْض المسرحي، يجذب الاهتمام ويشدُّ القارئ والمشاهد.

هذا التّغيّر ساهم في تحريك الحركة الثقافيّة المحليّة وجعل العديد من المبدعين في الشعر والقصة والرواية يُجرِّب حظَّه في كتابة المسرحية، وبالفعل أصدر الدكتور الشاعر سليم مخولي مسرحيّة "الناطور" عام 1979 والقاص زكي درويش أصدر مسرحيّتيه "الموت الأكبر" عام 1979, "لا" عام 1980. وصدرت مسرحية الشاعر سميح القاسم الشعرية "قراقاش" عام 1979، ومسرحية "لكع بن لكع" لإميل حبيبي عام 1980، وصدرت عدة مسرحيّات باسم "قهوة الصباح" لهاشم خليل، ومسرحية "الخروج من دائرة الضوء الأحمر" للشاعر أدمون شحادة عام 1985.

وتبع هذا الكم من المسرحيّات حركة نقد مُتابعة أثارت اهتمام القرّاء ومُحبي الأدب، ولفتت الانتباه في العالم العربي.

وكما في الكتابة المسرحيّة هكذا حدثت طفرة كبيرة ومباركة في العروض المسرحية وبرز عدد كبير من المخرجين الشباب الذين درسوا فن الإخراج المسرحي في الجامعات الأوروبية خاصة الدول الاشتراكية أمثال المرحوم الفنان رياض مصاروة وفؤاد عوض وأديب جهشان وسليم ضو وراضي شحادة ومنير بكري، فازدهر المسرح الفلسطيني المحلي وعُرضت المسرحيات الهادفة، منها المترجمة ومنها العربية ومنها التي كتبها المخرجون أنفسهم.

وظهرت مواهب كبيرة في التمثيل وصلت إلى درجة أنْ فرضت نفسَها على المسرح العبري والفن السينمائي أمثال محمد بكري ومكرم خوري ويوسف أبو وردة وسليم ضو وسعيد سلامة إلى جانب مواهب سرعان ما اشتد عودها وساهمت في تنشيط العمل المسرحي وجعله حاجة مُلحة للناس أمثال عفيف شليوط وعدنان طرابشة ومحمود صبح ومروان عوكل ولطفي نويصر والمرحوم مازن غطاس وإبراهيم خلايلة وخالد عوّاد ونبيل عازر وقاسم شعبان. وشاركت الفتاة العربية وأثبتت وجودها على خشبة المسرح وشكلت ركنا أساسيّا وحيويا مثل سامية قزموز وسلوى نقارة وسلمى وفريال خشيبون وناهد شُرّش ونادية عوكل وروضة أبو الهيجا ونسرين حبيشي وغيرهن كثيرات.

وكما ذكرت فقد كان لظهور سامية قزموز تأثير كبير واهتمام لم تحظ به غيرها وأصبحت المشاهد المسرحية التي تشارك بها تثير انتباه النقاد والأدباء ومحبي المسرح حتى بين الفنانين والمبدعين اليهود، وكانت علاقاتها حميميّة وقويّة بمعظم المبدعين والمبدعات في البلاد وحتى في العالم العربي وقد كانت تشعر بالفَقد الكبير إذا ما رحل أحدهم فكتبت صارخة وهي تستعيد ذكرى الذين رحلوا:

" كيف نتعوّدُ على رحيل الكبار فينا؟

كم مرّةً ستذوب قطعةٌ من القلب..؟

سلمان ناطور، محمود درويش، سميح القاسم،

اميل حبيبي، توفيق زيّاد، طه محمد علي، اميل توما، صليبا خميس

جبرا ابراهيم جبرا، غسان كنفاني، سميرة عزام.. و..

أحبائي لا ترحلوا...

يا مَنْ حرثتُم ترابَ الذّاكرة... وحرَستُم حلمَ الوطن"...

وكان لغسّان كنفاني الموقع الخاص والمكانة الثابتة في اهتمام سامية قزموز، فهو من مواليد عكا، وكانت كثيرا ما تقف أمام بيته المهجور وتستعيد صور غسان وأهله والمهَجَّرين قسرا عام النكبة من مدينة عكا، وتبكي حرقة على الذين ذهبوا ولم يُسمَح لهم بالعودة إلى وطنهم وبيوتهم:

"عكا تذكرُك كل 9 نيسان ...مولدك....

وردة على ضريحك هناك....غسان

وسلامٌ من بيتك ال ما زال واقفا أمام البحر"

ورغم إدراكها أن غسان قد قُتل ولن تصله رسائلها ولن يقرأها إلّا أنها كانت ترسل له التحيات والرسائل:

"في ذكرى ميلادك..

ســلامٌ مــن بيتـــك الواقــفِ أمــام البحــر

بيتُك غسان يستوقفني، لا أدري ما الذي ينتابُني كلّما مررتُ به. أمثلُ دون حراك وكأنني أراه لأوِّل مرة. ما الذي يفعله بي بيتُك؟ ما الذي تفعله بي حجارتُه بصوتها الصّامت؟ لماذا تظلُّ فاغرة فاها في تساؤل ينزُّ ذكرى؟

أجلس الآن على صخرة أمام بيتك... الحيطانُ مُشقَّقةٌ كشَرْخٍ في القلب... تكاد تسقط الحيطان... كم أخشى عليها... أريدُ أن ألملمَ كلَّ حجر فيها... أسمع أصواتاً تنبعث أنيناً من جُزَيْئات حجارة عطشى... الشرفات المُطلّةُ على شاطئ مدينتي الساكنة، تُحدِّثُ عن تَوْق أهله للشمس... عن جلسات سَمَر.. عن أيام عُمْر... عنك عن الأب والأم والأخوة... شيء ما في ضلوعها يستفزُّني أنْ أدخلَه.. أنْ أحسَّه.

غرَّبوك في بلدك يا غسان..

ويبقى البحر.. ما زال كما تركتَه... عميقاً.. بزرقته الداكنة.. وقبة السماء تمَسُّ أفقَه المُدهش... وسورُه العتيق ما زال واقفاً."

بيت أسعد الشقيري

وتصوّر صدمتها ذات يوم وهي عائدة إلى بيتها عندما رأت عمليّة الهدم والتّدمير لبيت أسعد الشقيري والد أحمد الشقيري أوّل رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينيّة فتكتب متألّمة:

"أذكر ذلك اليوم.. قبل سنوات. كنت عائدة من مكان عملي في الشارع المحاذي لشاطئ الغربة" وإذا بي لا أجد البيتَ الحجريَ الكبير.. صُعِقتُ.. شعرت باختناق... لقد هدَموه .. مَحَوْه، وقفتُ أمام الجرّافات تائهةً مهدودة.. كانت قد أنهت عملها القاسي ولم يبق من بيت الشيخ أسعد الشقيري سوى بعضِ قطع مُحطَّمة من أعمدة الرخام الجميلة.. كان العمال ينظفون المكان... وكأنه ما كان.. حزنٌ مرير عصَرني.. أكاد أستشعرُه الآن.. كأنه حدث البارحة.. لقد أقتلعوا مَرتعاً لطفولتي... شرفة هذا البيت.. ذلك البيت.. أمام البحر كانت مجلسَنا.. لطالما رمقنا المغيبُ ونحن نقضمُ بذرَ البطيخ والمحمص، ُوالسّاعاتُ تمرُّ دون أن ندري، نلعب "الغميضة" مُتخذين من أشجاره اليافعة مخابئ لنا.. ُّ عبر ثقوب الأبواب المقفلة أعواماً فتعترينا رعشةُ الغُيّاب.. الأثاث جميل مغطى بالغبار.. لماذا؟ أين صاحبه؟! نتساءل ببراءة الأطفال".

وقد نأتي بالكثير من إبداعات سامية، ولكنني أنتقل للحديث عن أهم عمل أبدعته سامية قزموز وأصبح الدّال عليها والمُلازم لها على مدى عشرات السنين حتى يومنا هذا هنا داخل البلاد وفي الكثير من عواصم العالم العربي وبعض البلدان الأوروبية، وهو مسرحية "الزاروب".

زَواريب عكا تستعيد ماضيها مع الفنّانة سامية قزموز في مسرحية "الزّاروب"

تلاحم المكان والزمان والانسان في وثيقة إدانة قوية

وصرخة الفلسطيني: أين هو العدل! أين!؟

شكّلت مسرحية "الزاروب" رغم عدد صفحاتها القليل، وثيقة تاريخية لإدانة الجريمة التي ارتُكبت ضدّ الشعب الفلسطيني عام 1948. عندما تآمر عليه الجميع: الأشقاءُ العرب، ومَن سُمّوا بالأصدقاء، والغرباءُ، تماما كما الأعداء. وحدثت النكبةُ التي لم تؤدِّ فقط، إلى اقتلاعه من وطنه، وتحرمُه من بيته وأرضه، وإنَّما شرّدته في كلِّ جهات الدنيا، وعملت على إلغاء هويّته وحتى وجودِه الإنساني، ولا تزال تُمْعنُ في حرمانه من حقوقه، وتعمل على المَزيد من ظلمه وحتى قتله.

كل عمل مسرحي يتحدّد ضمن مكان وزمان إضافة إلى الشخصيّات. وفي مسرحية "الزاروب" تَتواجَدُ هذه العناصرُ الأساسية الثلاثةُ بكثافة. رغم أنّه لا مكانَ يجمعها ولا زمانَ يضمُّها ولا شخصياتٌ مُحدّدة يُشارُ إليها، فالواحدُ يتوالد من الثاني ويتداخل فيه. الشخصية الواحدة تتكَّشفُ عن عشرات الشخصيات، والمكانُ يتفجر في ذات الوقت عن عدّةِ أمكنة، والزمن يتشظى إلى أزمنة متداخلة ما بين الحاضر، والماضي، والحاضر، والمستقبل.

مسرحية "الزاروب" لا تتقيّدُ بشخصية مُحدّدة، ولا بمكان مَرْئي، ولا بزمان واحد. فمن الشخصية الواحدة التي نراها تُقدّمُ لنا العرضَ تتناسلُ العشراتُ من الشخصيات، تأتينا من عُمق الماضي لتخبرَنا بقصتها وتنسحبُ تاركة المَجالَ لغيرها وهكذا دواليك. وأحيانا تتداخلُ الشخصياتُ وتتبادل الأدوارَ والقصص. ومع كلّ شخصية نعيش القصة ونتألمُ ونسأل ونغضبُ، وقبل أنْ نَتَفجّرَ تُسارعُ مُقدِّمةً العرضَ، الراويةُ قائلة مع البسمة الحزينة الآسرة: بلاش نِقْلبها غم. وتُغنّي مع فيروز:

ما في حَدا، لا تِنْدَهي

ما في حَدا

بابُنْ مْسَكّر

والعُشبْ غطّى الدّْراج

شو قولْكُنْ

صاروا صَدى

وما في حَدا. (ص 45).

وتأخذُنا بروعة الكلماتِ والصوتِ، وتُعيدُنا إلى واقعنا الحاضر، تتنقلُ بين الجمهور تَحكي مع هذا وتمازح ذاك، يشدّنا الفرحُ فنهدأ ونبتسم. وتتابعُ بعفوية:

- مش بقولكو عيوني بتشوف اللي غيرْنا لا يراه يا جماعة.

وبقُدْرةٍ تُدخلُنا من جديد في تفاصيلَ قصة أكثر ألما وقسوةً ومأساويةَ.

هذه القُدرةُ في الانتقال من شخصية إلى أخرى عبر الأمكنة والأزمنة كانت بفضل الحرَكات والإشارات والتعليقات وإيقاعيَّة الكلمات والعبارات التي كانت تشدُّ بها المشاهد، فينسى أنه أمام شخصية واحدة تُقدّم له عَرْضا مسرحيا، وإنّما يشعر أنّه وسط عشرات الشخصيات من كلّ الأجيال والأماكن، يحكون له قصصَهم ويخصّونه بها وحدَه.

وإذا كانت العلاقةُ الجَدَليةُّ لازمة ما بين الشخصية والمكان والزمان في العمل الإبداعي، فإنها في مسرحية "الزاروب" تكاد تكون مُتلاحمةً، وتتفجَّرُ معا من خلال النوستالجيا، واسترجاعٍ تدفع إليه مناسبةٌ أقيمَتْ أو صورةٌ عُلِّقتْ لتُعرَضَ للناس في مَعرض، فما تكاد النظراتُ تقع على الصورة الجامدة المعلقة على الحائط حتى تتفجرَّ الشخصياتُ عبر الأزمنة المتداخلة، ومن قلب الأماكن الغائبة لتنقلَ المُشاهدَ إلى واقع آخر يشدُّه إليه بما يُثير فيه من ذكريات بعيدة حاولت السنونُ دفعَه لنسيانها فتتفجَّرُ فيه من جديد فيَحياها وكأنها الآن تحدُث أمامه.

هكذا تتلاحم الشخصياتُ بالمكان والزمان، وتتوارى الصورة المعلقة على الحائط لتنبعث الحركةُ والحياة في المكان الذي صوَّرته بناسه وموجوداته، فنتنقلُ من زاروب إلى آخر، ومن مكان إلى ثان، ومن بيت إلى غيره، فتأخذنا المواقعُ، ونتنقلُ عبر الزمان والمكان لنلتقي أشخاصا كانوا وراحوا، ولا يزالون يأملون بالعودة. يشدّ بهم الحنينُ إلى مكان يسكنُ فيهم لا يمكنهم التخلّص منه، ولا يُمكنه الخروج منهم منذ تلك اللحظة الزمنية القاسية التي انبتّوا فيها من أماكنهم ليصبحوا غرباء في هذا العالم الواسع الذي يضيق بهم.

وبتلاحم الشخصيات بالمكان والزمان تتداخلُ الحكاياتُ الواحدة في الأخرى، وتظلُّ الشخصية الراوية أمامنا هي المحور، عندها تلتقي حكايات الناس، وفيها تتفجر الأمكنةُ لتنبنيَ من جديد وتمتلئ بموجوداتها وناسها، وتتداخلُ الأزمنةُ لتبعثَ الحركةَ والحيوية. وقد يلتقي الماضي بالحاضر بالمستقبل في حالة منَ التّكامل اليقيني كما في لقاء الراوية مع أم سليم. وهكذا لا يكون الدَّوْرُ المنوط بالصّوَر الجامدة المعروضة على الحائط فقط للتذكير بالماضي، وإنما لتكونَ شهادةً على أنّ هذا الذي تعرضه الصورةُ كان موجودا حقا. فالصورة، كما يقول بارت: "لا تتحدّثُ عن الذي ما عاد موجودا، وإنّما عمّا كان فقط، والوعي لا يتعامل مع الصورة عن طريق الحنين، ولكنّه يؤكِّدُ اليقين".

لا تكتفي الراوية باستحضار الماضي عبر الصور المعلقةِ أمامها على الحائط وحكايات الذين استحضرتهم، وإنما تتقمّص دَوْرَ صديقة لها عاشت نكبةَ شعبها يوم كانت في الرابعة من عمرها، وغادرت البلادَ مع والدتها والإخوة والأخوات إلى بيروت حيث ذاقت ذلّ الغربة وعرفت بؤسَ الغريب، لكنها كانت محظوظة بأنّ سُمح لها ولأفراد أسرتها - ما عدا الأخ الكبير- بالعودة إلى الوطن. هذه الصديقةُ قصّت على الرّاوية قصّتها تلك، وبذلك مَكّنتها لتأخذ دورَ الشاهد الحاضر الذي وعى الأحداث وعاشها ويرويها، وفي شهاداتها الخبرُ اليقين.

هذه المواقع التي تتحدث عنها هي مواقعُها التي عاشت فيها وتنقّلت بينها، وعرفَت كلّ موقع فيها. ولُعْبتَها التي كانت تُخبئها في غرفة بيتهم الذي احتله الأغراب، هي وحدها التي تعرف كيف تجدها وتستخرجها أمام استغراب نظرات الامرأة الغريبة المستوطنة ومفاجأتها (ص42)، ووالدُها هو الذي كان يشرب القهوة في بيته مع اليهودي الذي احتلّ بيتَه ويقيمُ فيه (ص41)، وشفرات التراكتور التي كانت تجرف حجارةَ البيت، قلبها فقط الذي استشعرها وخفق بسببها (ص35)، وهي كآلاف غيرها عاشت النكبةَ وفقدانَ الأهل والبيت، وذاقت التّشريدَ والغربةَ إلى بيروت التي وصلوا إليها وبقوا حتى سُمح لهم بالرجوع، وهي التي جعلتها النكبةُ والتشريدُ والغربة تفتقد وجهَ أبيها فتظن أنّ أخاها هو والدها (ص 37) وعندما تلتقي بأبيها ترفضُه وتناديه بالشَّبح وتقول "إجا الشَّبح طلع من البير وأخذني على بيته" (ص39). وهي التي تحسّ بنبضات جدران البيوت وحجارتها وتُعلّقُ على استغراب قادم جديد لوقفتها قائلة: "يا ترى بتتوقع من عيونه تقدر تشوف اللي بتشوفه عيوني" (ص 44)، وهي التي شعرت بذنبها لأنها لم تلتفت للصخرة التي شهدَت شيطنَتَها في طفولتها وتقول بألم وخوف من الآتي: "ايه.. هاي الصخرة.. هاي هي من هون كنت اطلع وأنُطّ منها على جورة البُطلان أنا نسيتها واللا هي ? قولة إميل حبيبي رحمه الله ? أنا تْغرّبت عن المكان ولاّ هو تغرّب عنّي.. واللاّ الزّمان.. إلي واللا مش إلي.. طيّب يا جماعة.. منين لكان إجاني هالشعور.؟ منين؟؟ أيْ بنسّوك الحليب اللي رضعته؟"(ص 46). وهي تُشْرك الحاضرين معها بما تقول، لأنّ الكثيرين منهم هم شهودُ حقٍّ عرفوا المواقعَ ولامسوها ولا يزالون.

لقد نجحت سامية في اختيار المقطوعات الشعرية، العامية منها والفصيحة، التي كانت تُرَدّدُ في المناسبات المختلفة، وعرفت كيف تُدخلها في النّص لتكونَ مُكملّة وشاحنةً بالمعاني والدّلالات وكانت أحيانا تنطلقُ بصوتها الشَّجيّ الرّخيم ببعض المقطوعات فتأخذ بالمشاهد وتسحره بتموّجات صوتها وتجسّدُ أمامه كلَّ حكايات الناس الذين عرفَهم ولم يعرفهم، وتشدّ به إلى ما يجري أمامه أكثر وأكثر.

واستطاعت أنْ تصفَ حياة الناس الهادئة القانعة السعيدة غير المتوقعة وقوعَ المأساة والنكبة وعذابَ التشريد وفقدان الوطن، حتى أنّ كلمات أحمد الشقيري "وفّروا البارود لحاجته"(ص18)، لم تقع على آذان صاغية، ولا أحد ينتبه لما فيها من معان وتحذيرات واستشراف للمستقبل.

كما صوّرت خوف الناس الذين بقُوا في وطنهم بعد النكبة، وتوجّسهم من عقاب السلطات الاسرائيلية لهم إذا ما صرّحوا بآرائهم وعبّروا عن عدم رضاهم بالفزَع الذي أصاب أم سليم عندما انتبهت إلى أنّ الرّاوية تكتب ما تقوله لها "شو كنّك عمبتْأَيْدي؟ عزا.. معك قلم؟؟ يي.. يي. هو.. شوفي يمّا.. شو بدنا نحكي هي.. اسرائيل منيحة.. مليحة.. والله (وهي خايفة) ما ناقصنا شيء على أيامهم بيوتنا ملانة ومِنْتْلِيّة.. لأ.. منيحين.. ( تقوم وتترك المكان) بخاطرك .. قال حكايا قال.. ما احنا كلنا حكايا.. يا بْنَيْتِي.." (ص 53).

وتُشكل الزاروب موسوعة متواضعة، ولكنها مهمة، في حفظ اللهجة الفلسطينية التي يتكلمها أبناءُ مدينة عكا وباقي القرى التي تُحيط بها. فقد نجحت في جعلها لغةً حيّة مُتدفقةً تسحر السامعَ بإيقاعيّةِ مَخارج حروفها وجماليّة تراكيب جُملها وعباراتها "وخالتي لمّا تْزَهْزِه الأمور معْها تِطلع على حِفّة البركه من فوق وترقص داير مِنْدار واللإبريق القزاز على راسها"(ص 21). و "ييه.. اي روحي بِلى يُسْتْرِكْ.. كل عمرك على مَهلك نايطة."(ص 25)، ولهجة بدو المنطقة "كنت زين والله يا أميرة زين قمر أرْبَعْتَعْش ضاوي. انتُن تْغَنّينْ وتُرْقْصِنْ والبقرات يْغْنّينْ ويُرْقْصِينْ"(ص 21).

المخرج فؤاد عوض كما نعهده، كانت بصماته واضحة في إخراج "الزاروب" بكل هذه الروعة وهذا النجاح، حيث نجح في التوفيق ما بين حركات الرّاوية وإيقاعيّة صوتها واهتزازات جسدها وتنقلها أمام الجمهور وبينه، والخروج من الموقف الدرامي الشادّ بالمشاهد والأخذ به صَوْب عُمْق المأساة إلى موقف النّقيض حيث ترفع يدها وتُلوح بشالها وتقول باسمة: بلاش نقلبها غمّ. وتنطلق تُردّد كلمات محمود درويش:

ونحنُ نحبُّ الحياةَ إذا ما استطعنا إليها سبيلا

ونسْرِقُ من دودة القزّ خيطا لنبني سماءً لنا ونُسَيّجَ هذا الرّحيلا

ونفتحَ بابَ الحديقة كي يخرجَ الياسمينُ إلى الطُّرقات نهارا جميلا

نحبُّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا (ص45)

قال أحمد عامر، رئيس تحرير جريدة " الصباح " التونسية: " الزّاروب هي قصة الناس الذين رحلوا عن عكا والذين بقوا فيها، قصة البلد من خلال امرأة في الأربعين تقطنُ المكان، وترصد ما تغيّرَ وتَبَدَّل به وبسكانه. وعكا هي رمزٌ لكل المُدن، والمراةُ هي كلِّ النساء، وهي تعيدُ رسمَ فُسَيْفساء المدينة، أزقّتِها، حاراتِها، زواريبِها، تقاليدِها، أفراحِها والحزنِ الذي حلَّ، كل ذلك عبرَ قَعْدةِ فنجان قهوة وقصص من لحم ودم".

وفي مسرحيتها، ومن خلال أدائها المُميَّز الرائع، تجعلنا سامية قزموز بكري نحيا ونعيشُ التراجيديا الفلسطينية من بداياتها وكأنّنا نعيشُ فصولَها من جديد.

أخيرا: تبقى مسرحيةُ "الزّاروب" رغم مرورِ السّنوات، وافتقادِ الناس الذين تَروي حكاياتِهم، وثيقةَ إدانةً يرفعُها أبناءُ شعبنا مع مئات وثائق الإدانات في وجه العالم صارخين وحتى اليوم:

أين هو العدلُ الذي تتحدثون عنه.. أين هو!؟

***

د. نبيه القاسم

........................

في الصورة: الشاعر أحمد دحبور، الفنانة سامية قزموز، الروائية ليانه بدر، الناقد الدكتور نبيه القاسم في تونس نيسان 1994

مرّت اثنتان وتسعون سنة على ميلاد الأديب صالح القْرمادي فهو من مواليد سنة 1933 وقد توفي في حادثة أليمة عندما سقط في هاوية من تحصينات الحرب العالمية الثانية وهو في نزهة برية سنة 1982

يمثل الأديب صالح  القرمادي ثالث ثلاثة كان لهم الفضل في تطور الأدب التونسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين وأعني بهم الأساتذة منجي الشملي وتوفيق بكار وصالح القرمادي ويضاف إليهم فريد غازي الذي توفي في عز شبابه بعد عودته من فرنسا وهم جميعا من مواليد مطلع الثلاثينات من القرن العشرين فنهلوا من ينابيع الثقافة العربية واِمتلكوا من ناحية أخرى ناصية اللغة الفرنسية بالإضافة إلى ما تيسّر لهم من اللغات الأوروبية الأخرى فتخرجوا من السربون في باريس حاذقين مناهج جديدة في دراسات الأدب العربي تشمل الأدب المقارن والمدارس النقدية الحديثة واللسانيات والترجمة وغيرها من المجالات الأدبية الأخرى.

عشرون قصيدة فقط ... ولكنها كافية لتجعل صالح القرمادي يمتاز بمكانته المتفردة في الشعر العربي المعاصر ـ بتونس على الأقل رغم كثرة منتقديه ـ غير أن الدّارس المنصف للحركة الشعرية في تونس لا يسمح لنفسه أن يمر دون الوقوف عند ديوانه ـ اللحمة الحيّة ـ الذي ظهر سنة 1970.

إن صالح القرمادي بحكم اِختصاصه في الدراسات اللغوية وعلم اللّسانيات في كلية الآداب بتونس وعلى مدى عشرين سنة قد أثر تأثيرا مباشرا في أفواج طلبته سواء منهم أولئك الأدباء والشعراء أو أولئك النقاد والأكاديميين ولقد أثرت كذلك آراؤه الجريئة في الحركة الأدبية والثفافية بتونس حيث ساهم في إصدار وتحرير مجلة ـ التجديد ـ في أوائل الستينات مع الأستاذين توفيق بكار والمنجي الشّملي وغيرهما فكانت منبرا لمفاهيم وأطروحات جديدة ساعدت على بروز كتابات نقدية و إبداعية مثلت منعرجا آخر للأدب التونسي بعد الرتابة التي خيمت على مرحلة ما بعد فترة جيل الشابي الثرية.

الملاحظة الأساسية التي تلوح في أشعار القرمادي أنّها تختلف اِختلافا جذريا مع متن شعراء جيله من اللّذين ظهروا في نفس المرحلة تقريبا وهي تمثل مرحلة ظهور واِكتساح نمط قصيدة التفعيلة بما فيها من غنائية والتزام بالمضامين الاِجتماعية بينما قصائد ـ اللحمة الحية ـ ذات مواضيع أخرى تنطلق من مشاعر الإنسان المأزوم والمهموم بالمواضيع البسيطة و الثقيلة في أوزارها كما هو منشغل بالأسئلة الكبيرة في الحياة والموت.

إن القاموس الشعري لدى صالح القرمادي يختلف عن القاموس الشعري المستعمل في ستينات القرن العشرين ومن صفاته تلك، مخالفة الذّوق السّائد مثل قوله

ألا ليت الدّجاج يعود يوما

فأخبره بما فعل المبيض

ومخالفته للذوق السّائد تصل إلى السّخرية من بعض المفاهيم القديمة وعاداتها الشكلية المتحجرة وهذه مسألة والحق يقال أثارت عليه كثيرا من الخصوم من منطلقات إديولوجية فالرّجل ـ رحمة اللّه ـ متّهم لدى البعض في إخلاصه للّغة العربية ومتهم أيضا حتّى في اِنتمائه إلى الثقافة الوطنية ولكنه كان يردّ عليهم بأنه درّس علم اللّسانيات العربية حينما كان هذا العلم في عداد المجهول عند الكثيرين و كان يردّ كذلك أنه عرّب عشرات المصطلحات التي تشمل المفاهيم اللّغوية الدقيقة وكم كان يفاخر منتقديه بأنه هو الذي نقل إلى العربية الفصحى كتاب كونتنو في علم الأصوات العربية الذي صدر عن الجامعة التونسية سنة 1966 و كان يشعر بالاِعتزاز لتعريبه البعض من كتب الأدباء المغاربة تلك التي كتبوها في الأصل بالفرنسية فجاءت بلغة عربية فصيحة...

إنّ صالح القرمادي يختلف في مسائل جوهرية مع الذين يدافعون عن سلامة اللّغة العربية فهو يراها تستطيع أن تهضم بسهولة الكلمات الجديدة لأن تاريخها الزاخر يثبت أنها لغة متطورة متفاعلة مع الظّروف التاريخية الجديدة وهو يرى أن الشعر أوسع من العروض لذلك لا يحفل في شعره بالقافية والتفعيلة.

قصائد صالح القرمادي خارجة عن المألوف فهي تصدم القارئ لغرابتها وقد تنطلق القصيدة من شيء مالوف عند النّاس كقصيدة النشرة الجوية التي يضمنها تعبيرا عن الواقع المأزوم حيث يقول :

وأما طقس الغد ففي اِستقرار

ثم تنزل أمطار ناريّة

تنبت لها أشجار وحشيّة

وأما البحر فدعوة متحركة إلى الهيجان

وشعر صالح القرمادي لا يصور العوالم الجميلة بل إنّه يشوش الصور التّي طالما زخرفها الشعراء مثل صورة الحب لديهم وذلك عندما يقول يقول:

حبّ لا يضطجع تحت أفنان الأشجار

حبّ محتار

حبّ لا ينجو إلاّ إذا اِخترق البحار

حبّ عرق ليس بفوّاح

حبّ أسنانه ليست كغر الأقاحي

فالشعر عنده مسلك غريب في اللغة وتهديم للسائد الذوقي عند النّاس وتخريب  للقاموس الشعري المتداول وهو في كلّ ذلك يتناول الكلمة الفصيحة الضاربة في القديم و لا يتحرج أيضا في اِستعمال الكلمات المتداولة فتضفي على شعره حلاوة الواقع اليومي وضراوته أيضا فيقول:

حبّ قفص

حب ليس يغتنم الفرص

حب نصف عمومي

نصف خفيّ

حب طريّ شهيّ

ككتف العلوش على الكسكسي

ذلك هو صالح القرمادي: شعره ليس أحلاما بين الورد والحرير أو ترنما بالقوافي الرنانة ... إنه نص مأزوم لا يوحي بالهناء طالما هناك بلبل واحد في قفص فإنه يعتبر أن بلابل الدنيا في خطر وكذلك يصور التفاح عندما يجعله في قفص الاتهام باكيا صائحا في وجه الحكام لأنه يرى الحديقة العمومية ميلئة بالمشانق حيث يجعل الأشجار قطّاع طريق و تلوح الأزهار عفاريت أماالمتنزهون ففي بعض قصائده ليسوا إلا مجرد أعمدة كهربائية لا حركة لهم ولا استطاعة !... والواقع عند صالح القرمادي مليء بالمتناقضات ففيه الأطفال اللاّعبون بعربة الخبار فيه الّذين لا ينامون إلا سكارى وفيه المريض بعكازه و العجوز التي تصلي على النبي وفيه كذلك المزابل والكلاب والمقعدون وفيه البول والكفيف الفوّاح وفيه الجنازة والمصلون هي إذن شاعرية غريبة جديدة ونادرة الوجود في الشعر العربي قديمه وحديثه.

وقد اِحتفل صالح القرمادي بالموت في مرثيتهه لنفسه فجاءت مليئة بالمعاناة وبالألم حيث يبدو أنه صاحب تجرية صوفية وجودية خاصة إذا نحن قرأنا قصائده باللّغة الفرنسية وهو في أشعاره كلّها صاحب نفس راضية مطمئنة لكنه يبدو من ناحية أخرى أنه صاحب جرح أبدي ضارب في الغربة ... يقول في قصيدته ـ دعوني لشأني:

دعوني لشأني

واقفا وقفتي المجروحة

أمام القبول المفتوحة

إن لي مع الموات وعدا

وجدالا

وكلاما

قد يبدو لكم محالا

وهو القائل كذلك في قصيدته: نصائح إلى أهلي بعد موتي

إذا متّ مرّة بينكم

وهل أموت أبدا

فلا تقرؤوا على الفاتحة وياسين

واتركوهما لمن يرتزق بهما

ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين

فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض

ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي

فقد كانا أشهي أطعمة حياتي

ولا تذروا على قبري حبوب التّين

لتأكلها طيور السّماء

فالأحياء بها أولى

ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي

فقد اِعتادت أن تبول على جدار بيتي

كل يوم خميس

فلم تزلزل الأرض زلزالها

ولا تزوروني في كل سنة مرّة

فليس لديّ ما به أستقبلكم

ولا تقسموا برحمتي وأنتم صادقون

ولا حتى وأنتم كاذبون

فصدقكم وكذبكم عندي سواء

ورحمتي لا دخل لكم فيها

ولا تقولوا في جنازتي أنتم السابقون ونحن اللاّحقون

فليس هذا السّباق من رياضاتي

إذا متّ بينكم

وهل أموت أبدا

فضعوني في أعلى مكان من أرضكم

واحسدوني على سلامتي

والأديب صالح القرمادي كتب كذلك الشعر بالفرنسية بالإضافة إلى القصة والدراسات النقدية واللغوية زيادة على التعريب و ترجمة مختارات من الأدب التونسي إلى الفرنسية لذلك فهو أديب شامل و أكاديمي هشم البرج العاجي بمساهاماته في دفع الحياة الثقافية إلى التجديد والتطور وتلك هي ميزته الخاصة...

نعم / بلا

نحن نحيا

نحن نبكي

وأحيانا نحن نبتسم

بالصداقة أو بلا صداقات

بالخبز المبارك نحيا

أو بلا قوت

بالحرية نحيا

وبلا حريّة نحن نموت

مع البنين نحيا وبلا اِبن نحيا

بالعقل أو في الجهل نحيا

في الحرب نحيا أو في السلام

والمرء تسحقه رحى الأيّام

ثقيلة رتيبة

والأعوام!

المرء – أمام الجلاّد – قد يجعل

من الخنافس أصدقاء

فليس بوسعه أحيانا

إلا أن يعشق العفاريت

في الفضاء

مع أو بلا أمل النّصر نحيا

مع أو بلا خفقان الصّدر نحيا

مع أو بلا حرفة الحبر نحيا

فهؤلاء السّعداء أصحاب الألقاب

منحتهم شهادة ابتدائية

بلا حساب

أكثر من جائزة نوبل

للآداب!

بالضمير أو بلا سفر نحيا

على خطأ أو بلا غلط نحيا

والمرء يستنشق شذى الفطائر

عائدا من دفن الأحبّة

في المقابر

مع شقائق النّعمان

أو بلا ريحان نحيا

بالاِستحسان أو بالاِستنكار نحيا

فالمرء يعود كلّ يوم إلى بيته

ولم يعبّر بحرّية

عن رأيه!

بالحبّ أو بلا أحباب

سنحيا

في الأفراح في الأتراح

سنحيا

بالأمل في الإياب

أو مع طول الغياب

سنحيا

نحن نحيا

نحن نبكي

وأحيانا في اللّجام نبتسم

برغم المصيبات

والهرم

لنعيش الحياة على هوانا

برغم الممات

برغم العدم!

 * أصل القصيدة بالفرنسية AVEC OU SANS

***

سُوف عبيد ـ تونس

بقلم: كيت أرمسترونج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

"في عام 1928، قرأت فيرجينيا وولف ورقتين أمام الطالبات في جامعة كامبريدج. كانت ترغب في أن تشاركهن الأفكار التي قادتها إلى استنتاج أن "المرأة يجب أن تكون لديها مال وغرفة خاصة بها إذا كانت ستكتب الروايات".

ونتج عن ذلك كتاب غرفة خاصة (A Room of One’s Own). إنه كتاب يحمل في طياته النسوية مع لمسة من الفكاهة والدقة، وتفاؤل بما يمكن للعقل المتحرر أن يحققه.

كتاب غرفة خاصة هو لكل من تساءل يومًا لماذا غابت النساء إلى حد كبير عن كتب التاريخ، إلا إذا كن ملكات أو أمهات أو عشيقات."

الصورة المستخدمة في هذا المنشور هي من نسختي الشخصية لكتاب فيرجينيا وولف، الذي اشتريته وقرأت فيه في عام 1987. لقد عدت إلى هذه الصفحات الآن، وقد تآكلت، لأعيد قراءة كلمات وولف مرات عديدة في حياتي. واحدة من الاستعارات التي ابتكرتها وولف بهدف تصوير الصعوبات التي واجهتها النساء، والتي لا زالت تواجهها في ثقافتنا، لم تفارقني أبدًا. إن مشهدها حول ما كان سيحدث لو كان لشكسبير أخت، لو كان له أخت، لا يزال يطاردني.

يأتي هذا المقتطف من الورقتين اللتين قرأتهما فيرجينيا وولف في جامعة كامبريدج أمام مجتمع الفنون في نيوهام وأودتا في جيرتون في أكتوبر 1928.

الصفحة 46: "مهما يكن، لم أستطع إلا أن أفكر، بينما كنت أنظر إلى أعمال شكسبير على الرف، أن ذلك الأسقف الجاف كان على حق في هذه النقطة على الأقل: كان من المستحيل، بشكل كامل ونهائي، أن تكتب أي امرأة مسرحيات شكسبير في عصره. دعوني أتخيل، بما أن الحقائق من الصعب الحصول عليها، ماذا كان سيحدث لو كان لشكسبير أخت موهوبة بشكل مذهل، تدعى يهوديت، لنقل.

ذهب شكسبير نفسه، على الأرجح — كانت والدته وريثة — إلى المدرسة الثانوية، حيث ربما تعلم اللاتينية — أوفيد، فيرجيل، وهوراس — وعناصر القواعد والمنطق. كان، كما هو معروف، فتىً مشاكسًا يصطاد الأرانب، وربما قتل غزالًا، واضطر، في وقت أبكر مما ينبغي، للزواج من امرأة في الجوار، التي أنجبت له طفلًا بسرعة أكبر مما كان ينبغي. أرسلت تلك الحادثة إلى لندن للبحث عن حظه. كان يبدو أنه يحب المسرح؛ بدأ بالوقوف عند باب المسرح ممسكًا بالخيل. سرعان ما حصل على عمل في المسرح، وأصبح ممثلًا ناجحًا، وعاش في مركز العالم، يلتقي بالجميع، ويعرف الجميع، يمارس فنه على خشبة المسرح، ويشغل عقله في الشوارع، وحتى يحصل على إذن للوصول إلى قصر الملكة.

وفي هذه الأثناء، بقيت أخته الموهوبة بشكل غير عادي، لنفترض، في المنزل. كانت مغامرة، خيالية، ومتحمسة لرؤية العالم تمامًا كما كان هو. لكنها لم تُرسل إلى المدرسة. لم تكن لديها فرصة لتعلم القواعد والمنطق، ناهيك عن قراءة هوراس وفيرجيل. كانت تأخذ كتابًا بين الحين والآخر، ربما من كتب أخيها، وتقرأ بضع صفحات. لكن سرعان ما كان والداها يدخلان ويطلبان منها أن تصلح الجوارب أو تهتم بالمرقة وألا تشتت انتباهها بالكتب والأوراق. كانا يتحدثان بحدة ولكن بلطف، لأنها كانا متمكنين يعرفان ظروف الحياة بالنسبة للمرأة ويحبان ابنتهما — في الواقع، على الأرجح كانت هي زهرة عين والدها. ربما كانت تكتب بعض الصفحات في عشة التفاح خلسة، لكنها كانت حريصة على إخفائها أو إحراقها.

ولكن قريبًا، قبل أن تبلغ سن الرشد، كانت مخطوبة لابن صاحب متاجر الصوف المجاورة. صرخت بأنها تكره الزواج، ومن أجل ذلك، تم ضربها بشدة من قبل والدها. ثم توقف عن توبيخها. طلب منها بدلاً من ذلك ألا تؤذي مشاعره، ألا تجلب له العار في موضوع زواجها. وعدها أن يعطيها سلسلة من الخرز أو تنورة فاخرة، وقال ذلك والدموع في عينيه. كيف يمكنها عصيانه؟ كيف يمكنها أن تكسر قلبه؟ دفعتها فقط قوة موهبتها الخاصة لذلك. جمعت بعض متعلقاتها الصغيرة، نزلت بحبل في إحدى ليالي الصيف واتخذت الطريق إلى لندن. لم تكن في السابعة عشر. الطيور التي كانت تغرد في السور لم تكن أكثر موسيقية منها. كان لديها خيال سريع، موهبة تشبه موهبة أخيها، لحن الكلمات. مثلما كان يحب المسرح، هي أيضًا كانت ترغب في أن تمثل. وقفت عند باب المسرح؛ قالت إنها تريد أن تمثل. ضحك الرجال في وجهها. المدير — رجل سمين ذو شفتين رخوتين — ضحك بشكل هستيري. صاح بشيء عن كلاب البودل التي ترقص والنساء اللواتي يمثلن — قال إنه لا يمكن لأي امرأة أن تكون ممثلة. وأومأ — يمكنكم تخيل ما الذي قصده. لم تتمكن من الحصول على تدريب في حرفتها. هل يمكنها حتى البحث عن عشاء في حانة أو التجول في الشوارع منتصف الليل؟

ومع ذلك، كانت عبقريتها في الكتابة وكانت تتوق لتغذية نفسها بشكل كبير من حياة الرجال والنساء ودراسة طرقهم. وأخيرًا — لأنها كانت شابة جدًا، وغريبة كما شكسبير الشاعر في ملامح وجهها، بنفس العيون الرمادية والحواجب المستديرة — أخيرًا، شعر نيك جرين، المدير الممثل، بالشفقة عليها؛ وجدت نفسها حاملًا من هذا الرجل، وبالتالي — من سيقيس حرارة وعنف قلب الشاعر عندما يكون محبوسًا ومتشابكًا في جسد امرأة؟ — قتلت نفسها في إحدى ليالي الشتاء ودُفنت في مفترق طرق حيث تتوقف الحافلات الآن خارج إلينفانت آند كاسل.

أخت شكسبير

"هذا، أكثر أو أقل، هو سير القصة. أعتقد أنه لو كانت امرأة في زمن شكسبير قد امتلكت عبقرية شكسبير، لكان الأمر كذلك. لكن من جانبي، أوافق على رأي الأسقف المتوفى، إن كان كذلك - من غير المعقول أن تكون أي امرأة في زمن شكسبير قد امتلكت عبقريته. لأن العبقرية لا تولد بين الناس العاملين، غير المتعلمين، التابعين. لا تولد في إنجلترا بين الساكسونيين والبريطانيين. ولا تولد اليوم بين الطبقات العاملة. فكيف، إذن، كان من الممكن أن تولد بين النساء اللاتي يبدأ عملهن، وفقًا للأستاذ تريفيليان، تقريبًا قبل أن يخرجن من الحضانة، واللاتي أجبرهن آباؤهن على ذلك، وظلوا يصرون عليه بكل قوة القانون والعرف؟ ومع ذلك، لا بد أن نوعًا من العبقرية كان موجودًا بين النساء كما كان موجودًا بين الطبقات العاملة. من حين لآخر، يبرز شخص مثل إميلي برونتي أو روبرت بيرنز ويثبت وجوده. ولكن بالتأكيد، لم تصل هذه العبقرية إلى الورق. ومع ذلك، عندما نقرأ عن ساحرة تم غمرها في الماء، أو امرأة مصابة بالشياطين، أو امرأة حكيمة تبيع الأعشاب، أو حتى رجلًا مميزًا كان له أم، أعتقد أننا نكون على المسار الصحيح نحو كاتبة مفقودة، أو شاعرة مكبوتة، أو جين أوستن صامتة وغير مشهورة، أو إميلي برونتي التي ألقت بنفسها على الصخور في المستنقع أو كانت تتجول في الطرقات وهي مجنونة بالألم الذي تسببت فيه موهبتها. في الواقع، أجرؤ على التخمين أن "أنون"، الذي كتب العديد من القصائد دون توقيعها، كان في كثير من الأحيان امرأة. وربما كان هو نفسه إدوارد فيتزجيرالد الذي اقترح أن المرأة هي من صنعت الأناشيد والأغاني الشعبية، وهي تغنيها لأطفالها، وتغنيها أثناء غزلها، أو طوال الليل الشتوي.

قد يكون هذا صحيحًا أو خطأ - من يستطيع القول؟ - لكن ما يبدو لي صحيحًا في هذا، أثناء مراجعتي لقصة أخت شكسبير كما تخيلتها، هو أن أي امرأة وُلدت بموهبة عظيمة في القرن السادس عشر كانت ستجن حتمًا، أو تقتل نفسها، أو تقضي أيامها في كوخ معزول خارج القرية، بوصفها نصف ساحرة، أو نصف عرافة، يُخشى منها ويُسخر منها. لأنه لا يتطلب مهارة كبيرة في علم النفس لكي تكون متأكدًا أن فتاة موهوبة للغاية حاولت استخدام موهبتها في الشعر كانت ستواجه صعوبات وعراقيل كبيرة من الآخرين، بحيث تعذبها غرائزها المتناقضة حتى تفقد صحتها وعقلها بشكل مؤكد. لم يكن بإمكان أي فتاة أن تسير إلى لندن وتقف عند باب المسرح وتفرض نفسها على مديري المسرح دون أن تتسبب لنفسها في عناء وعذاب قد يكون غير عقلاني - لأن العذرية قد تكون طقسا اخترعته بعض المجتمعات لأسباب غير معروفة - لكنها كانت حتمًا لا مفر منها. كانت العذرية حينها، ولا تزال حتى اليوم، تحمل أهمية دينية في حياة المرأة، وقد التفت حول أعصابها وغرائزها لدرجة أنه لتحريرها وجعلها تظهر للعلن يتطلب شجاعة نادرة. أن تعيش حياة حرة في لندن في القرن السادس عشر كانت تعني، بالنسبة لامرأة كانت شاعرة وكاتبة مسرح، توترًا عصبيًا واحتدامًا داخليًا قد يودي بحياتها. وإذا كانت قد نجت، فبالتأكيد كانت كل ما كتبته سيكون مشوهًا ومتأثرًا بخيال مريض. ومن المؤكد، كما فكرت، بينما كنت أنظر إلى الرف حيث لا توجد مسرحيات للنساء، أن عملها كان سيظل دون توقيع. هذا الملاذ الذي كانت ستسعى إليه، بلا شك. كان هو أثر الشعور بالعذرية الذي دفع النساء إلى السعي وراء إخفاء هوياتهن حتى في القرن التاسع عشر. كيرير بيل، و جورج إليوت، و جورج ساند، جميعهن ضحايا الصراع الداخلي كما تثبت كتاباتهن، سعين بلا جدوى لإخفاء هوياتهن باستخدام أسماء رجال. هكذا، قدمن تكريمًا للتقاليد، التي إذا لم تكن قد زرعها الجنس الآخر، فقد كان يشجعها بحرية من جانبهم (كما قال بيريكلس، الذي كان رجلاً كثير الحديث عنه، "العظمة الحقيقية للمرأة هي ألا يتحدث عنها أحد")، حيث الشهرة للنساء أمر مكروه. تعيش النساء مع فكرة إخفاء أنفسهن في أعماقهن. لا يزال لديهن رغبة في أن يكنّ مخفيات. إنهن غير مهتمات بصحة سمعتهن كما يهتم الرجال، وبشكل عام، سيتجاوزن قبرًا أو لافتة شارع دون أن يشعرن برغبة ملحة في أن يكتبن أسماءهن عليها، كما يجب على ألف أو بيرت أو تشاس أن يفعلوا إطاعةً لغريزتهم التي تهمس إذا رأيت امرأة جميلة تمر، أو حتى كلبًا. "هذا الكلب لي."

...إذن، كانت تلك المرأة، التي وُلدت موهوبة في الشعر في القرن السادس عشر، امرأة تعيسة، امرأة في صراع مع نفسها. كانت جميع ظروف حياتها، وجميع غرائزها الخاصة، معادية للحالة الذهنية التي تحتاجها لتحرير ما في دماغها.

...لكن بالنسبة للنساء، كما فكرت وأنا أنظر إلى الرفوف الفارغة، كانت هذه الصعوبات أكثر رهبة بشكل غريب. أولًا، كان من المستحيل أن تمتلك غرفة خاصة بها، ناهيك عن غرفة هادئة أو غرفة عازلة للصوت، ما لم يكن والداها على قدر كبير من الثراء بشكل استثنائي أو نبيلين جدًا، حتى بداية القرن التاسع عشر."

***

.......................

* وولف، فيرجينيا. غرفة خاصة. دار هوجارث للنشر، لندن، 1929.

الصفحة 1 من 2

في المثقف اليوم