شهادات ومذكرات

(بايسكل).. قصة لا تخلو من متعة

latif shafiqالمقدمة: البايسكل هي التسمية الإنجليزية للدراجة الهوائية والتي اعتاد الناس على تسميتها بهذا الاسم منذ أن وطأت أرض الرافدين، ونحن منذ الصغر كنا نسمع بالبايسكل ونمني نفوسنا الحصول على واحدة منها والتي تحتوي على ثلاثة (جروخ) أي عجلات، وهناك أنواع عديدة منها تستخدم لشتى الأغراض ولازالت لحد الآن تملك ناصية المكان والاستخدام في دول عديدة الغنية والفقيرة منها على السواء، ويستخدمها رؤساء بعض الدول المتقدمة لغرض انتقالهم من المسكن وإلى مبنى الحكومة مرورا بشوارع مدنهم دون أن يكترث الناس لهم،وبخلاف مسئولينا الذين يختبئون عن أنظار الناس بسياراتهم المصفحة أو المضللة .

إن سبب استخدام تسميتها بالبايسكل لكون اسمها سيرد ذكره في هذه القصة وبهذا الشكل.

 

القصة:

إن المسافة بين مدينة (ونستن سليم) ومدينة (كرينز بورو) الأمريكيتين الواقعتين في ولاية نورث كورولاينا لاتتعدى 25 كيلو مترا وبالامكان قطعها بالسيارة على طريق (الهاي وي) خلال 25 دقيقة تقريبا، وعلى هذا الأساس انطلقنا تحت وابل من المطر اللذيذ الذي أضفى على الرحلة روعة وجمالا وزادها مشهد الطريق الذي تحفه أشجار باسقة على جانبيه لازالت تحمل لون الخريف الزاهية ومما زادت روعته هو هطول المطر ! هذا المطر الذي يختلف عن مطر مدننا المنكوبة والذي يحيلها إلى مستنقعات وبرك وسيول جارفة وأوحال تهاجم البيوت والأزقة وتدخل كل فج عميق .

بعد أن انقضت المدة المحددة لقطع المسافة بين المدينتين وصلنا إلى المدينة التي تظم الشركة العامة لبيع وتصليح (البايسكلات) من مختلف الأنواع والألوان والأحجام والموديلات والمسماة (تراك)، إن بإمكان المشتري أن يختار ما يرغب من الأنواع والألوان بعد أن تجرى له عملية مطابقة البايسكل الذي اختاره مع موصفات جسمه من ناحية الطول والوزن والقابلية البدنية وحسب مقاييس ثابتة لدا الشركة وبعدها يسلم المشتري نموذجا مماثلا للذي اختاره لكي يستخدمه في الساحة المخصصة لهذا الغرض مع غطاء رأس واقي (هلمت) لتتوفر لديه القناعة بالبايسكل الذي سيستخدمه في المستقبل، وبعد كل هذه الإجراءات والمراسيم والتي لا تخطر على بالنا نحن عند شراءنا البايسكل الذي يعطى لاقتنائها هنا أهمية بالغة لا تتوفر عندنا، وفي نهاية المطاف يتم تسديد ثمنها بواسطة الفيزا كارت أو الكردت ولا يتم استلامها مباشرة بل يتطلب الأمر انتظار بضعة أيام من أجل تأمينها من مخازن الشركة،أما بحضور المشتري إلى نفس المدينة ونفس مكان الشركة لاستلامها أو إرسالها إلى سكنه لقاء مبلغ إضافي.

بعد إتمام الصفقة قمنا بجولة في المدينة ومنها ذهبنا إلى تناول الغذاء في مطعم مصري اسمه (كوشري) وبعده ذهبنا إلى مخزن عربي للتبضع يديره أفراد من المغاربة وقد وفروا علينا التعامل بلغتنا العربية الأم مع بعض الاختلافات باللهجة.

لقد دفعني الفضول لأسأل ابني الذي حجز نوعا من تلك البايسكلات عن سعره فطلب مني أن أخمن السعر فكان تقديري انطلاقا من فكرة أسعار الدول الرأسمالية الباهظة فيمكن أن يكون ب 200 دولار مثلا، عندها ضحك ولدي وقال إن سعره مع الضريبة هو 900 دولار !! وبين لي أيضا بأن هناك بايسكلات تتراوح أسعارها آلاف الدولارات وقد تصل إلى عشرة آلاف دولار، عندها خطرت لي فكرة لو أن مثل هذه البايسكلات موجودة في أسواقنا ويقتنيها من يرغبها فقد يوفروا على سارقي السيارات عناء سرقتها ويتحولوا إلى سرقة البايسكلات لسهولة الأمر.

أعود بذكرياتي المتعلقة بشأن البايسكلات حيث اقتنيت واحدا منها في مقتبل شبابي عندما أكملت مرحلة الدراسة الثانوية فقيل لي أن موظفا بسيطا محتاجا في مدينتنا الخالص والتي تسمى آنذاك (ديلتاوه) يروم بيع بايسكله وأنني لحد هذا الوقت أتذكر اسمه وهو(صالح ويلقب بالمهلب) وهي تسمية يطلقها الديلتاويون على أصحاب الشعر الطويل ويبدوا أن صالح لم يقدم على إطالة شعره تماشيا مع المودة والتي أصلا لم تظهربعد في ذلك الوقت وهي (الخنافس) بل أن الضائقة المالية دفعته إلى عدم حلاقة شعر رأسه لمرات متقاربة في وقت كان أغلب الحلاقين يحلقون شعر رأس رجال وأطفال (ديلتاوه) لقاء كمية من التمر تخصص لهم عند موسم (الكصاص) أي فترة قطاف التمر وجمعه، اتفقت مع صالح على سعر بايسكله واشتريته لقاء مبلغ ثلاثة دنانير وهو مبلغ يعادل ربع راتب ذلك الموظف !! والبايسكل المذكور طراز وموديل (28) أي عالي المرتبة وله مقعد إضافي في الخلف عبارة عن (سيباية) على شكل مسطبة خشبية يمكن أن يجلس عليها شخص آخر وسيرد ذكر فائدتها لاحقا .

أكملت مرحلة الثانوية في ثانوية بعقوبة عام 1952 ولم يحالفني الحظ للتقديم للكليات ففضلت أن لا أقضي السنة (عطال بطال) فتقدمت بطلب تعييني بدرجة معلم ابتدائية (مستخدم) وجرى تنسبي لمدرسة السادة الابتدائية والتي تبعد عشرة كيلومترات تقريبا عن مدينة بعقوبة وبطريق غير معبدة ترابية وتخترق البساتين على طولها، لقد برزت هنا أهمية ذلك البايسكل الذي اقتنيته للنزهة في بداية الأمر، حيث جلبته من الخالص إلى بعقوبة ورجوت مدير المدرسة وعلى ما اذكر أن اسمه (صالح) أيضا أن يبقي البايسكل في داره لحين مجيئي من الخالص إلى بعقوبة صباحا للانطلاق لمدرسة السادة صحبة كوكبة راكبي البايسكلات من معلمي المدرسة ويتصدرهم مديرها في الأمام،منطلقين خلال تلك الطريق الترابية وداخل البساتين وبوقت يستغرق بالقليل نصف ساعة في أوقات الصحو أما عندما يكون اليوم ممطرا فإننا نستعيض عن البايسكلات (بالربل)وهو عربة يجرها حصانان وهي وسيلة قديمة انتشر استخدامها في تلك الأوقات، أما أذا كان سوء الطالع يسايرنا وينهمر المطر فقد تغرس العربة في حفرة من الوحل يصعب انطلاقها فيترتب علينا أن نترجل منها بعد أن نخلع أحذيتنا ونشمر عن سراويلنا ونبدأ بعملية أخراج العربة من الوحل وذلك بأن يقوم بعضنا بجر الحصانين وآخرون يقومون بدفع العربة من الخلف، ولكم أن تتعرفوا عن حالة وهيأة تلك المجموعة من معلمي ذلك الزمان عند وصولهم إلى المدرسة لنشر العلم بين أبناء تلك القرية المسكينة .(معلم مطين حريص خير من معلم كاشخ وفارغ)

انتهت السنة الدراسية وانتهت معها مهنة المعلم الشاقة وعدت سالما إلى مدينة الخالص وبجعبتي بعض الدنانير وفرتها من عرق الجبين ومن فوائد البايسكل العتيد، وبدأت فترة العطلة الصيفية وخلالها الاستعداد للتقديم لأحد الكليات،أما المحروس البايسكل فقد سخرته للتمتع بأوقات العطلة ومنها الذهاب لنهر الخالص وهو عبارة عن ترعة تتفرع من نهر ديالى تغذي بساتين الخالص بالماء، وكذلك من أجل أن يسبح الفتيان فيه أيضا ولا يتعدى غطسه المتر الواحد وبذلك فإنه لا يوفر جانبا لتعلم السباحة، خلال ذهابي إلى نهر الخالص كثيرا ما اصطحب معي أحد أصدقائي ممتطيا مسطبة البايسكل الفريد ومن تلك المرات كانت النزهة بصحبة صديقي نور الدين حسن فارس والذي فرقنا الزمن بوقت مبكر وعلمت بأنه قد حصل على شهادة الدكتوراه بالأدب وهو من الفنانين المرموقين في المسرح والتأليف والفن التشكيلي، تقطع نهر الخالص قنطرة صغيرة لا يتجاوز طولها بضعة أمتار وعرضها كذلك ويشكل الطريق الرابط بعقوبة بالخالص الطريق الرئيس الذي يخترق تلك القنطرة والتي ترتفع عن الشارع ارتفاعا بينا وبسيطا،هذه المرة طلب مني صديقي أن يمتع نفسه بقيادة البايسكل وأن يكون مكاني على (السيباية)، فكان له ما أراد،وهنا حدث ما لم يخطر ببالنا وبما يشبه المفاجأة وذلك خلال بذل الجهد الذي يتطلب ارتقاء القنطرة وبعد الوصول لها استقبلتنا مجموعة من الأشخاص الملثمين وعلى ما أتذكر لا يتعدى عددهم ثلاثة أشخاص يحمل أحدهم بندقية انجليزية من مخلفات الحرب العالمية الأولى وبدأ بإطلاق الأعيرة النارية اتجاه الأرض مطالبا أن نترجل عن البايسكل المسكين وبلهجة أبناء المنطقة وهي (حدرو، حدرو) مكررا إياها بغضب وصوت جهوري وواضح، وما كان منا إلا أن نترك لهم ضالتهم بايسكلي العتيد وأنا أودعه بحسرة وألم ومن الغريب أن (السلابة) لم يطلبوا شيئا آخر فقد صادف أنني كنت ألبس بمعصمي ساعة يدوية نوع (أولما) أهديت لأخي بمناسبة تفوقه في امتحان البكلوريا فطلبت منه أن البسها (لأكشخ) فيها وأفتخر به،رجعنا بخفي حنين مشيا على الأقدام اتجاه المدينة وفي طريق عودتنا التقينا بسائق لوري يقوم بتبديل أحدى عجلات اللوري المعطوبة وبمسافة لا تبعد عن مكان الحادثة فبادرنا بالسؤال عما جرى وما هوسبب أطلاقات الأعيرة النارية؟ وأجبته متهكما : (الجماعة يظهر أنهم ينون أنتاج فيلم سينمائي وهم بحاجة إلى بايسكل فاقترضوه منا)

رجعت إلى بيتنا وعندها بادرتني الوالدة بالسؤال عن البايسكل وسبب عدم وجوده معي فكان جوابي لها غير مقنع واعترفت بحقيقة الأمر فنقلت الخبر للوالد وكان والدي موظفا مرموقا في مدينة الخالص وله مكانة متميزة بين إقرانه من الموظفين ومعروفا بصلابته ونزاهته ومنهم مدير شرطة القضاء لذلك فقد هب إلى مركز الشرطة مسجلا أخبارا بحادثة السلب تحت أثير السلاح .قبلت في الكلية العسكرية الملكية بتاريخ 10 تشرين أول عام 1953 وجرى ما جرى فيها ولغاية السنة الثانية من مباشرتي والتي يطلق عليها بمرحلة المتوسط حيث تتوزع فترة الدراسة في الكلية والبالغة ثلاثة سنوات بتسمية السنة الأولى بالمستجد والثانية المتوسط والثالثة وهي سنة التخرج بالمتقدم ويمنح المتخرج فيها رتبة ملازم ثان إن هذه التسمية كانت تغري الفتيات بقولهن (لو ملازم لو ما لازم) ومنها يتبين مكانة وأهمية تلك الرتبة في ذلك الزمن .، ففي تلك السنة أي سنة مرحلة المتوسط وخلال عام 1954 ورد للكلية تبليغ من مركز شرطة الخالص يتطلب حضوري للمركز المذكور مما أثار تساءل آمر سريتي عن سبب ذلك فبينت له بأنني لا أعرف السبب وأنني تركت المدينة المذكورة قبل ثلاثة سنوات ولم أذهب لها بعد هذا التاريخ، فمنحت أجازة اعتيادية لهذا الغرض وحضرت في مركز شرطة الخالص في اليوم المحدد وبملابس الكلية العسكرية فاستقبلت بحفاوة واحترام بالغين وهنا حدثت المفاجئة المتممة لمفاجئة سرقة البايسكل العتيد حيث أخبرني مأمور المركز بأنه قد تم ألقاء القبض على بعض المشتبه بهم وممن يشك بسرقتهم لبايسكلك العزيز!! مما أثار استغرابي هذا الأجراء والاستدعاء العجيب بعد مضي ثلاثة سنوات على الحادثة والتي أصبحت بنظري بطي النسيان وعندها طلبت من مأمور المركز أن يغلق الدعوى لعدم ثبوت الأدلة . وتم لي غلق قصة البايسكل أيضا والتي صارت مدار تندر زملائي من طلاب الكلية العسكرية بعد أن أوضحت لهم ولآمر السرية أسباب استدعائي المثير والعجيب...    

                        

لطفي شفيق سعيد

ونستون – نورث كورولاينا

12 تشرين ثاني 2015

في المثقف اليوم