شهادات ومذكرات

تداعيات في مقهى

ahmad alhiliاعتدت أن أذهب بين وقتٍ وآخر ولا سيما في فترة الصباح إلى مقهى يحمل اسم " مقهى أبو سراج" وهو مقهىً يمتد بشكل طولي بمحاذاة شط الحلة قريباً من أقدم وأعرق جسر في المدينة والذي اعتاد الحليون أن يطلقوا عليه تسمية " الجسر العتيق"، هذا الجسر الصغير يقتصر دوره الآن على عبور المشاة فقط للمشاة فقط و يعاني على الدوام زحاماً شديداً في الذهاب والإياب، وعلى جانبيه حتشد خليطٌ غير متجانس من الباعة ؛ هناك بائع أو بائعين للسمك يضع أحدهم في إناء كبير ثلاث أو أربع سمكات وهناك بائعو السنارات وخيوط الصيد ومستلزماته وكذلك بائعو مبيدات الحشرات وغيرهم، هذا الجسر سيرسّخ ثيمته بشكل نهائي شاعر الحلة موفق محمد بإحدى قصائده حيث قال؛

جسر الحلة / مكتئباً أسيان/ طالت لحيته وابيضّت/ فتعلّق فيها الصبيان !

علمتُ أيضاً أن عدداً من مثقفي المدينة يرتادون هذه المقهى، فذهبت إليها وهناك أتيح لي أن تعرفت على المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه الناقد ع . ع، والذي كنت معجباً بكتاباته النقدية التي ينشرها في كبريات الصحف العراقية، وكان قد شاع في الأوساط الثقافية العراقية أن كتابه عن الشاعر بدر شاكر السياب يعد من أهم وأفضل الكتب التي صدرت عن هذا الشاعر الذي ترك بصمة لا تُمحى في ميدان الشعر، بيد أن الذي حببني إلى هذا الناقد بصفة خاصة أن اسلوبه كان واضحاً وإن تكن جمله قصيرة ومقتضبة إلا أنها منغّمة ومحملة بالمعاني العميقة، بعكس نقاد آخرين اعتادوا أن تأتي كتاباتهم النقدية متخمة بمصطلحات واستشهادات فجة مقتبسة من الكتابات النقدية المترجمة ربما ليس للكثير منها علاقة بما يتكلمون عنه، فهم والحال هذه لا يقدمون نقوداً للنصوص المعنية وإنما يستعرضون أنفسهم وثقافتهم ليس إلا، سيما وأن الناقد الحلي الشهير الدكتور علي جواد الطاهر كان أثنى على ناقدنا واعتبره واحداً من أنبه تلامذته وعقد عليه آمالاً كبارا في استكمال ما كان بدأه هو في مشوار النقد الأدبي، وبعد مرور وقت ليس بالقصير، استطعت أن أقترب من عالم الناقد المثير على الرغم من تحفظه الشديد من الأشخاص الجدد الذين كانوا يرومون الدخول في حلقته، لاحظت أنه كان يأتي إلى المقهى صباحاً على دراجته الهوائية التي كان يُطلق عليها تسمية " العراقي"، الذي كان رفيقه الدائم في تنقلاته داخل المدينة، وقد علمت أنه رفض التعيين في دوائر الدولة وهو اختار العزوبية بمحض إرادته، لأنها تتواءم وتنسجم مع شخصيته الانعزالية، وقد مر ناقدنا بأوقات عصيبة جداً بعد أن تم فرض الحصار الاقتصادي على العراق ....

استطعت أن أقتنص عدداً من الحكايات الطريفة حوله وفيما يلي أبرزها؛

الجماعة ضايجين منّك

أثناء جلوسي بقربه وهو منهمك بتصفح جريدته، كنت كثيراً ما أستمع إليه وهو يردد وكأنه يحدث نفسه ؛ "الجماعة ضايجين منك "، لم أشأ أن أسأله عن ذلك، لأنني لم أكن قريباً منه بما يكفي لكي أسمح لنفسي بمثل هذه الأسئلة التي ربما سببت نفوره مني، وكعادتي في مثل هذه الحالات سألت أحد أقرب أصدقائه وهو فنان تشكيلي يحمل لقب " الصعلوك" أيضاً والذي صارت تربطني به علاقة وطيدة، فأخبرني بأن هناك حكاية تقف خلف هذه الجملة، وهي كالتالي؛

في وقت ما أصبح عدي صدام حسين رئيساً للتجمع الثقافي العراقي، وهو مجلس بصلاحيات أعلى بكثير من إمكانيات اتحاد الأدباء والكتاب، وقد حاول بعض الأدباء الإفادة من وجود ابن الطاغية رئيساً لهذا التجمع فتكلموا معه عن الأوضاع المزرية التي يعاني منها غالبية أدباء العراق ولا سيما الأدباء الكبار، فأوعز بتهيئة قوائم بهم وتنظيم أسمائهم ضمن درجات هي أ وب وج من أجل صرف مخصصات نقدية لهم، وأرسلوا تبليغاً رسمياً لهم، وحين وصل المغلف الذي يتضمن التبليغ إلى يد ناقدنا وفتحه بتوجس شديد، وحين اطلع على ما فيه رده بتحفظ شديد إلى الشخص الذي سلّمه إياه طالباً منه أن يعيده إلى الجهة التي ارسلته له، طالباً أن يقول لهم إنه غير محتاج وإذا شاءوا فليأخذوا هم هذه المخصصات، ولم تمر سوى أيام قلائل، وأثناء جلسة ليلية في مقر اتحاد الأدباء ببغداد همس أحدهم في أذنه ؛ "الجماعة ضايجين منك "، فهم الأمر ولكنه تساءل بحذر محاولاً إخفاء اضطرابه ؛ " منو يا جماعة ؟، أخبره محدثه أنهم " جماعة الجماعة " ... فشكلت لديه هذه الجملة هاجساً مزمناً، وأخذ يرددها باستمرار بينه وبين نفسه حين يتاح له أن يكون وحيداً أو يحس أنه بمأمن من المحيطين به ...

برهوم أنا جبار

أتيح لي أن أحظى معه بعدد من الجلسات الليلية في مكتبة أحد أصدقائنا، وكثيراً ما كنت أراه منطلقاً ومنشرحاً كما لم أره من قبل، وكان مولعاً بشكل خاص بأن يغني بصوته الرخيم أغنية نجاح سلام الشهيرة ؛ برهوم حاكيني"، إلا أنه كان يضيف إليها من عندياته ؛

برهوم أنا جبار شغلي نقد أشعار !

همس أحدهم بخبث أنه في فترة ما من حياته كان يعشق من طرف واحد شاباً اسمه ابراهيم .

ضحوكُ الوجه

في إحدى الليالي وبينما صديقنا الفنان التشكيلي يعزف على عوده مغنياً بيتين شعريين رائعين مستلين من قصيدة بعنوان " ليل المُعنّى" كان نظمها شاعر ضرير اسمه غالب ليلو البزاز كان من أصدقائنا ومن روّاد المكتبة أيضاً إلا أنه لم يكن من محتسي الخمر والبيتان هما ؛

لا الصبحُ عندي كصبح الناس

مبتسِماً ولا الليلُ في آفاقِه قمرُ

يا ليت ما كان لي حِسٌّ يُعذّبني

كم كان يُبهِجني لو أنني حجرُ

لم تمر سوى أيام قلائل حتى جاءنا ناقدنا بقصيدة خمرية تتألف من أكثر من ثلاثين بيتاً جادت بها قريحته، وقد قالها مثنياً على جودة الخمرة التي اعتاد صديقنا صاحب المكتبة أن يجلبها لنا، يحضرني منها الآن هذه الأبيات ؛

ضحوكُ الوجه وضّاحُ الجبينِ

يسلُّ الشمسَ من فلكِ الظنونِ

ولم أوهبْ سواه فقلتُ مرحى

لما وهبَ الكريمُ إلى الغبينِ

حُبالى يا حُليماتٍ عِتاقاً

ولِدنَ قبل ميلاد القرونِ

وقالوا قد تُجَنُّ به فندّتْ

من الأعماق ؛ بوركَ من جنونِ

 

أخشى أن يُهشّم هذا الرأسَ الجميل

أثناء جلوسنا في هذه المقهى، لاحظت أن بعض المتطفلين من أدعياء الأدب كانوا يحشرون أنفسهم في مجلسه، حضر أحدهم بهيأته الرثة وكانت تبدو عليه امارات الثمل على الرغم من أن الوقت ما يزال ضحىً، لاحظت أن الناقد كان كعادته في كل يوم منشغلاً بقراءة إحدى الجرائد، وهو وقت مستقطع شبه مقدس لم يكن مسموحاً لأحد أن يثير فيه أية مواضيع أخرى، إلا أن الوافد الجديد اقتحم المكان وجلس بالقرب منه مباشرة قائلاً له ؛ "أستاذ جبار، لقد كتبت بالأمس قصيدة جديدة وأرجوا منك أن تستمع إليها وتبدي رأيك فيها "، أحس الناقد بالمأزق الذي حط على طاولته منتبهاً إلى مدى رعونة وصلف ضيفه بالإضافة إلى رثاثة ملابسه، فحاول تهدئة الأمور موعزاً له أن يقرأ قصيدته، فوجد هذا فرصته وأخذ يقرأ ويقرأ بكل حماسة واندفاع، وحين أوشك على إنهاء قصيدته الطويلة جداً، حانت منه التفاتة إلى وجه الناقد، فوجده منشغلاً كلية بقراءة جريدته، فاستشاط غضباً، قائلاً ؛ ما هذا أستاذ جبار ! أنا أقرأ لك قصيدتي وأنت لا تكف عن قراءة جريدتك، يبدو أنك لا تحترمني ! فقال له ؛ أقرأ يا أخي أقرأ فأنا أصغي لك !، لم يشأ الشاعر إلا أن يقول بغضب ؛ بل أن تحتقرني ! ثم هجم على الناقد الذي يبدو أنه كان متأهباً ومتوقعاً حدوث ذلك، فانفلت من مكانه، لحقه الشاعر ممسكاً بإحدى كنبةً صغيرة وهو يسبه ويلعنه، فتدخل عدد من الأصدقاء وحالوا بينهما ثم دفعوا الشاعر إلى خارج المقهى، وبعد أن اطمأن الناقد وعاد إلى مجلسه سأله أحد الأصدقاء مازحاً ؛ مؤسف أن نراك بمثل هذا الجبن أستاذنا، فرد بأريحية واضحة ؛ كيف تريدون مني أن أرد على هجوم وحش كاسر، وأنا لن أسمح له بتهشيم هذا الرأس الجميل !

عبثيات خارج السياق

في يوم ما اتفق ثلاثة أشخاص أو أصدقاء، سمّهم ما شئتَ ؛ صاحبنا الناقد وصديقه الحميم الفنان التشكيلي وشخص آخر اسمه ع. أ على الذهاب إلى " الكاولية"، وعلى الرغم من تحفظ الناقد الشديد وانطوائه على نفسه إلا أنه وجد نفسه مسوقاً بصورة قهرية للقيام بهذه المغامرة غير محسوبة العواقب، وبطبيعة الحال فإن من قام بترغيبه بذلك هو الشخص الثالث الذي عرف عنه أنه يهوى ويعشق أمكنة كهذه لا سيما وأن بيتهم كان مفتوح الأبواب، وقد ظل لمدة طويلة يتكلم بطريقة ساحرة عن هذا المكان المسمّى بـ " الفوّار" الواقع إلى الجنوب الغربي من مدينة الديوانية، تكلم بطريقة أخّاذة ومسهبة عن الأجواء الغرائبية المغرية الموجودة هناك، عن القوادين ذوي الشوارب الكثة الغليظة الذين يلبس أحدهم الكوفية والعقال وعن تبسّطهم بالحديث مع الزائرين الجدد الوجلين، وعن القوّادات المحترفات اللواتي يبرعن في التعامل وإخفاء بعض الصبايا الهاربات من قسوة أزواجهن وأهلهن، وأسهب في الحديث عن الصبايا الصغيرات الساحرات اللواتي ربما وقعت إحداهن في حب أحد الزبائن فتأخذ هي بالإنفاق عليه بإسراف وقد يؤدي بها ولعها وهيامها به إلى اعتزالها البغاء والاقتصار عليه بوصفه حبيباً أوحد   وتكلم أيضاً عن حلقات القمار التي ربما ربح أحدهم فيها المال الوفير بضربة حظ مواتية، ومنذ الوهلة الأولى كان من السهل على الفنان التشكيلي أن يقتنع بفكرة الذهاب إلى مستعمرة اللذة هذه، فأخذ يحبب الفكرة إلى الناقد، الذي اقتنع أخيراً واشترط عليهما أن يكون أمر ذهابه معهما سرياً، وأنهما حين يتحدثان بعد عودتهما عن ذلك فلن يأتيا على ذكره قط، فتعهّدا له بذلك .

ربما يستهجن البعض توريط ناقدنا الحصيف بخوض مغامرة غير محسوبة العواقب كهذه، وقد يندهشون من موافقته أصلاً على خوضها ولكن هناك خلف الستار يمكن تختبئ بعض الحقائق على غرابتها، وسنتكلم الآن عن أكثرها حسماً، فاستناداً إلى حقيقة عزوبيته المديدة وإصراه عليها، تلك العزوبية التي توفر له عالماً مثالياً للكتابة النقدية وممارسة رياضة التأمل وتحلل من المسؤوليات صغيرة كانت أو كبيرة التي ينفر منها، ولكنها بمرور الوقت أضحت وبالاً عليه وأخذت تأكل في جرف صموده وإصراره، فعلى سبيل المثال حين اقتاده قسراً إلى للانضمام إلى صفوف الجيش الشعبي إبان فترة الحرب العراقية الإيرانية والتي لم ينجُ منها أحد ممن لم تشملهم، بحكم سنهم الخدمة الإجبارية، وعلى أية حال تم اقتناصه بوشاية أحدهم رغم حرصه الشديد على الاختفاء والتواري عن الأنظار، أعطوه صرة الملابس وباقي التجهيزات، وفي اليوم التالي وحال وصوله إلى المعسكر زوّدوه ببندقية كلاشنكوف روسية ووجد نفسه ذات صباح يتدرب مع المتدربين، يهرول ويطلق صيحات الحرب، عاد ذات مرة من التدريب الصباحي مجهداً محطماً، فوجد في حظيرته عدداً كبيراً من القرويين ممن تم اقتناصهم في اليوم السابق، فعرّفوه إليهم وعرّفوهم إليه، وكان الجميع ينادونه بـ الأستاذ، وبعد أن استراحوا في القاعة المخصصة بانتظار وجبة الغداء، تكوّموا على شكل مجموعات يتحدثون عن شؤونهم الخاصة ويتحاشون التحدث عن الحزبيين و الوشاة الذين كانوا السبب الأساس في قدومهم إلى هنا، وعلى أية حال تأقلم الجميع مع وضعهم الجديد بوصفه واقعاً مفروغاً منه، أخذ كلٌّ منهم يتحدث عن شؤونه وشجونه، يتذكرون زوجاتهم ويسهبون بالحديث عن أبنائهم ومشاكساتهم المحببة، شكل هؤلاء الريفيون الجدد ما يشبه التكتل داخل هذا التجمع الحضري، إلا أنهم لم يكن لهم بد من التواصل مع باقي أفراد حظيرتهم، أراد أحدهم أن يتقرب أكثر من ناقدنا كاسراً حاجز الأستاذية قائلاً ؛ " شسمه الزغيّر" ؟ هذا السؤال البريء المباغت كان بمثابة لكمة قوية مفاجئة يوجهها ملاكم محترف إلى فم ملاكم مبتدئ، عقدت الحيرة لسانه، حاول أن يتملّص من الإجابة، إلا أن أحد رفاقه أوضح لهم أن " الأستاذ" غير متزوج، فانتبهوا له باندهاش واستنكار؛ " شلون ؟ قال آخر ؛

ــ بهذا العمر وبعدك ما متزوّج، شنو السبب ؟

لم يلبث الأمر أن تحوّل إلى المزاح والطرافة الريفية السمجة ؛ حين همس أحدهم في أذن أصحابه فانفجر الجميع بضمنهم أصحابه ضاحكين ضحكاً مديداً دمعت له عيون بعضهم، فهم الأستاذ أن هذا المارق قال لهم "أظنه ماعنده سلاح !"

لم يعلم أحدٌ أن ثمة حوارات كانت ثتور وتحتدم بين الفينة والأخرى بينه وبين كائن آخر، كائن سري هو جزءٌ منه، من جسده، كان هذا الكائن يحس بالظلم والحيف والغبن الذي يعانيه جرّاء قرار القدر المجحف الذي قضى بأن يكون جزءاً منه، وبالتالي إرغامه على تجرّع سلسلة الحرمانات المديدة والتي يبدو أن لا نهاية لها، كان يُحس ببعض الحنو الذي لا طائل من ورائه، حين تمتد كفّه إليه وهي تربت عليه مواسية ...

من بين الحوارات التي جرت بينهما نقتبس الحوار التالي ؛

- أصدقني القول واخبرني ؛ هل ثمة ما يلوح في الأفق القريب أو البعيد من شأنه أن يبدد وحشتي ؟

- همممممممم !

- إذن لا أنتظر حلاً لمعاناتي وأنا في عهدتك، تلك العُهدة التي كُتبَ عليَّ أن أدفع فاتورتها الباهظة .

- قليلاً من الصبر يا صاحبي !

- وهل أنا بارعٌ في شيءٍ سوى الصبر ؟ لو أتيح لي أن أنفلت منك لخرجت بتظاهرة أجمع فيها حشداً ممن هم على شاكلتي فنجوب الشوارع نهتف بأعلى أصواتنا ؛ فلتسقط العزوبية وليسقط العزّاب ولا سيّما العاطلون ! ولكنني أوجه إليك سؤالاً ؛ ألم تفكّر لحظة فيما يفعله الأزواج مع زوجاتهم ليلاً ؟ لماذا لا تتزوّج وتنقذني من هذه الصحراء القاحلة التي أجد نفسي ملقىً فيها وأنت معي بطبيعة الحال؟

- أنا أعتبر الزواج مسؤولية، وأنا كما يعرف الجميع أتهرّب دوماً من حملها .

- هذا يمكن أن ينطبق على الأشياء التي لا تربطك بها صلة، أما أنا، فجزءٌ أساسيٌّ منك بل وأخطر جزء شئت أم أبيتَ، أم أنك تفضل أن تعطيني أذنك الطرشاء؟

اتفق الثلاثة على يوم حددوا فيه موعد انطلاقهم، وبعد أن علم الأستاذ أن الطريق إلى هناك طويل قرر أن يستثمر وقت وجوده في السيارة فاصطحب معه أحد الكتب النقدية المهمة .

مضت ساعات طويلة ملأت فيها الوساوس والقلق قلب الناقد، فلم يُتح له أن يخوض تجربة شائكة كهذه، هل هي ورطة وجد نفسه ملقىً فيها، فكّر بالرجوع وترك صاحبيه لحالهما، ولكنه تذكر الحوارات المستديمة بينه وبين عضوه وتقريعه المستمر له فآثر المضي قدماً في هذه التجربة الجديدة والمثيرة على ما يحوطها ويكتنفها من تبعات ...

وأخيراً وصلوا إلى المكان المقصود، وجدوه عاجاً وصاخباً، فأصوات مكبرات الصوت تطرق أسماعهم بأغنيات غجرية تقليدية، والزبائن الثملون يتطوّحون هنا وهناك، بعضهم ممن قضى وطره يتحلّقون حول طاولة يلعبون القمار، وآخرون يقفون أمام البيوت الصغيرة على أمل أن تخرج لهم القوادة من أجل أن تتكلم معهم عارضة بضاعتها (أي ما لديها) من الفتيات ثم يتم الاتفاق على السعر، ولم تكن المتعة متوفقة على ممارسة الجنس فقط، فقد كان البعض يهوى الرقص فحسب، حيث يدخلون الزبون إلى إحدى الغرف ويجلسونه على كرسي وثير وتأخذ إحدى الفتيات بالرقص ويتمايل جسدها البض أمامه ومن خلفها عدد من العازفين وأحياناً بعض الضاربات على الطبل، فيشكل ذلك بالنسبة إليه عالماً اسطورياً، ويشعر بالاكتفاء ويداهمه إحساس بالأهمية ولو لساعة أو ساعتين حسب الوقت المتفق عليه ...

ومن أجل تسهيل المهمة عليهم اقترح الفنان التشكيلي أن يحتسوا كأساً أو كأسين من الخمرة التي كانت تباع في دكاكين صغيرة يديرها أشخاص مصريون، فذهب ع . أ وجلبها إليهم .

ثم اقتادهما إلى بيت سبق له وأن تعامل معه في وقت سابق، خرجت امرأة مسنة تبدو على سيماها بقايا جمال غابر، أخبرته أنه لا توجد لديها فتيات الآن، وأن الفتاة التي جاء من أجلها تزوجت وانتقلت للعيش في المدينة مع زوجها، سألها ؛ من يكون هذا الذي تزوجته ؟ قالت ؛ إنه أحد أثرياء مدينة الحلة الذي وقع في غرامها وأصر على التزوج بها مهما كلف الأمر .

ذهب بهما إلى بيت آخر، فسمع صياحاً وصراخاً يأتي من الداخل، فهم أن هناك مشادة كلامية، هدأت الأمور قليلاً، فتقدم وطرق الباب، خرج له رجل عريض المنكبين بكوفية وشاربين كثين، اختبأ الأستاذ خلف الفنان التشكيلي، وبعد أخذ ورد أدخله إلى البيت وأراه الفتاة، صاح عليهما، وبالكاد استطاع الأستاذ الوقوف على قدميه، فشجعه الفنان ممسكاً بيده ودخلا سوية، وحين وقعت عيناه على الفتاة استظرفها وأظهرت هي موافقتها عليه مقابل المبلغ الذي اتفقوا عليه، وخرج الاثنان من البيت حتى يقضي صاحبهما وطره ...

حين عادا بعد نصف ساعة وجداه أشعث الشعر ممزق القميص، طلبا منه أن يحكي لهما عما حدث، قال لهما والغصة والغضب يأكلانه أكلاً ؛ لقد سرقت العاهرة نقودي ولم تسمح لي بممارسة الجنس معها، وحين طالبتها بأن تعيد لي نقودي صرخت وانهال جميع من في البيت عليَّ بالضرب ...

ابتلعها صاحبنا، وظل لوقت طويل مختبئاً في بيته لا يجرؤ على الخروج، وبعد حوالي ثلاثة أشهر خرج وذهب كعادته إلى المقهى فوجد هناك في ذات المكان صديقيه الفنان التشكيلي ومرشدهما العتيد ع . أ، بالإضافة إلى أصدقاء آخرين نظر الثلاثة كلٌّ منهم إلى الآخر، وأخيرا نطق الأستاذ قائلاً بحنق شديد مخاطباً ع . أ ؛ " هيه كلهه خمس دقايق خليتنه نروح لهناك وتحملنه كل هذه البهذله والرزاله، ݘان خلّيتنه نفضهه ابيتكم " !

 

أحمد الحلي

 

في المثقف اليوم