شهادات ومذكرات

حكاية نائب العريف حميد

ahmad alhiliتوفرت معلومات استخبارية لدى قطعاتنا العسكرية في شرقي البصرة بأن الإيرانيين سوف يشنون هجوماً كبيراً على قاطع نهر جاسم الذي لم تجف على أديمه بعد دماء جنودنا وجنودهم بينما تركت بساطيل الجنود القتلى المدماة متناثرةً هنا وهناك بإزاء الساتر الترابي كجزء من بقايا المعركة الطاحنة السابقة، أسرع القادة الكبار لرسم الخطط بغية صد الهجوم المرتقب، واتفقوا على ضرورة أن تكون هناك بالإضافة إلى وقود الحرب الدائم ؛ جنود المشاة فصائل متمرسة بالرمي على الدوشكات أو الأحادية كما يُطلق عليها، وتم إرسال أوامر بهذا الصدد إلى كافة الوحدات العسكرية الموجودة ضمن قاطع الفيلق الثالث، بأن ترسل كل وحدة خمسة جنود من هذا الصنف من أجل إدخالهم بدورات سريعة في مقر قيادة تستمر أسبوعين لغرض تحسين مهاراتهم في الرمي، وبطبيعة الحال في مثل هذه الأحوال فإن هذه الوحدات سترسل الجنود الفائضين عن حاجتها وهم في غالبيتهم من غير المنضبطين من الذين لديهم هروبات سابقة أو الذين غالباً ما يتسببون بإثارة المشاكل والبلبلة داخل وحداتهم، وحين تم تبليغي مع زملائي بالأمر، لم نكن نعرف ماهيته وأهدافه إلا فيما بعد، وذهبنا جميعاً إلى مقر الفيلق، وبالفعل كانت دورة مكثفة جداً تتعلق بتحسين أدائنا بهذا السلاح، وقد حدثت هناك مشاكل كثيرة ومشادات بين الجنود أنفسهم، خاصة وأن غالبيتهم من أرباب السوابق ولديهم محكوميات عن جرائم ارتكبوها، فعلى سبيل المثال هناك شخص رأيته بأم عيني كان خرج قبل حوالي شهر من السجن جراء قتله ثمانية أشخاص دفعة واحدة انتقاماً لقتل أبيه وأمه على يد أحد هؤلاء الثمانية...، وعلى أية حال وبعد انتهاء الدورة وقف القائد العسكري وخاطبنا بتودد وحميمية قائلاً ؛ ستكون مهمتكم مشرفة وخطيرة وعظيمة، فعلى عاتقكم ستقع مسؤولية صد الموجات الأولى لهجوم العدو، وسوف نأخذكم في يوم غد إلى الصحراء من أجل إجراء اختبار لكم للوقوف على قدراكم ومهاراتكم في الرمي، وقد خصصنا جوائز قيمة للمتفوقين منكم بل وللجميع أيضاً وهذا شرف عظيم لكم ولنا، جرت همهمة بيننا، همست لمن كان يقف بقربي ؛ اذن يريد هذا الأحمق منا أن نكون وقوداً لحربهم المجنونة، قال ؛ هذا أخرق وأحمق، وهمهم آخر ؛ سيقبض أبناء القحبة هؤلاء الأوسمة وأنواط الشجاعة بينما ستتوسد أشلاؤنا التراب ...

حين فهم الجميع ما أعلنه للتو هذا المعتوه الأرعن، اتفقوا على أن لا يصيب أيٌّ منا هدفاً من الأهداف المحددة مهما كلّف الأمر ومهما كانت المغريات أو العقوبات، ذلك أن نجاحنا في هذا الأمر معناه هلاكنا !

وبالفعل جرت الأمور هكذا، وقف القائد محبطاً ومهموماً، وهو يصب غضبه ولعناته علينا واصفاً إيانا بالجبن والتخاذل في وقت تعرّض وطننا إلى الخطر الوشيك ولم يتورع هذا المأبون عن قذفنا بأقذع النعوت والشتائم، مخدداً إيانا بإنزال أقسى العقوبات بنا، وبطبيعة الحال لم يكن أمامنا من بد إلا أن نصمت، وإن أخفينا في دواخلنا ضحكاً مكتوماً ...

وهكذا تشاء المقادير أن يصار إلى تنسيبنا جميعاً بوصفنا فاشلين بهذه الدورة إلى وحدات أخرى لا علاقة لها بالمعارك الطاحنة التي تجري بين الفينة والأخرى في قاطع شرق البصرة، وتم تنسيبنا جميعاً إلى عدد من المواقع الثانوية كفصائل حماية الجسور الداخلية، وهناك من تم تنسيبهم إلى السيطرات، أما أنا ومعي عشرة متدربين فقد تم إرسالنا إلى أحد أكداس العتاد في منطقة أرطاوي التي تقع في عمق الصحراء بمنتصف المسافة بين الناصرية والبصرة، وبالتحديد في منطقة تسمى بـ تل اللحم .

حين ذهبنا إلى هناك، وسلمنا أوامر تنسيبنا إلى آمرية الكدس، وجدنا المكان يعج بجنود جدد غريبي الهيئة والأطوار، وفهمنا أن هؤلاء تم تنسيبهم قبل يومين ليكونوا ضمن حراسات الكدس الداخلية، ولكن الآمرية لم تشأ أن تسلمهم أية أسلحة، لأن غالبيتهم من المجانين أو أنصاف المجانين، وهم جاءوا إلى هنا بناءً على قرار لجنة شرحبيل التي أعادت النظر في كافة قرارات الإعفاء من الخدمة السابقة، وأوكل إلى قسم من هؤلاء مهمة التنظيف وجمع الأوراق أو أكياس النايلون العالقة بكثافة في أسيجة الأسلاك الشائكة، رأيت أحدهم في غرفة قلم الوحدة منحنياً عند حافة الجدار وهو يخاطب شيئاً بصوت مسموع، ظننت في بداية الأمر أن الشوق استبد به فأخذ يحاطب حبيبته الغائبة وحين استفسرت من العريف عما يفعله، أشار إليَّ أن أكتشف ما يقوم به، اقتربت منه فوجدته يخاطب سرباً من النمل يمشي بمحاذاة الحائط ويقول ؛ " إذا أنتِ تختبئين هنا، فأين نذهب نحن ؟"

حددوا لنا الأمكنة التي سنقيم ونتواجد فيها لغرض الحماية، وهي تقع خارج كدس العتاد الضخم جداً، وكانت أمكنة الحماية عبارة عن تلال عالية مصنوعة يرتفع كلٌّ منها حوالي عشرة أمتار و يفصل بين تل وآخر حوالي الـ 100 متر وتم وضع بندقية أحادية فوق كل تلة ...

وتنفسنا الصعداء، فإن وجودنا في هذا المكان النائي معناه أننا أصبحنا نعيش بعيداً جداً عن المعركة وأجواءها الكابية، بمعنى آخر فإننا أصبحنا نعيش "خده وخدر" على حد قولهم، بعكس ما كان يعانيه رفاقنا في وحداتنا الأصلية من التدريب المضني المستمر والتعرض الدائم للقصف المدفعي المعادي ...

إذن هي ضربة حظ، أو كما يقولون، ربَّ ضارة نافعة ...

كان الوقت متاحاً لدينا بوفرة في وحدتنا الجديدة بشكل لم نألفه من قبل، فأخذنا نتجول هناك وهناك من أجل استكشاف هذا المكان الصحراوي الجميل والممتد إلى ما لانهاية، لاحظنا الأرض الرملية تمتلئ بأنواع عديدة وكثيرة من الحشرات ذات الألوان المتناسقة وأكثر ما استلفت نظرنا هو الحصى غير المألوف، كان أشبه بالخرز والفصوص ... كما تدب هناك بعض العظايا والأفاعي والعقارب ...

لفت نظري في بداية الأمر وجود أعداد من العصافير التي لم نر مثلها في أمكنة أخرى، وهي تأتي بالقرب منا هرباً من حر الصحراء اللاهب، ولاسيما وأن وقت قدومنا إلى هذا المكان كان في ذروة الصيف وطمعاً بالظلال التي توفرها أبنية الملاجيء وكذلك طمعاً بوجود الماء ولالتقاط بعض الطعام أيضاً، ونظراً إلى أنها كانت جميلة جداً فقد أثارت فينا الرغبة لاصطيادها ووضعها في أقفاص لغرض جعلها طيور زينة فنأخذها معنا في إجازاتنا إلى أهلنا، ولكننا تفاجأنا بأنها غير قابلة للتدجين مطلقاً، فبعد أن أمسكت مجموعة منها ووضعتها في قفص كنت أعددته لهذا الغرض أصبت بالذهول والصدمة بما تقوم به، فقد أخذت تطير بسرعة وتضرب رأسها بشدة بجدار القفص، وبعد أن تفعل ذلك لعدة مرات تسقط ميتة، فعلمت أنها تقوم بالانتحار، فحزنت كثيراً وساورني شعورٌ بالذنب بقي يعيش معي لمدة طويلة جداً .

حكاية نائب العريف حميد

كان من ضمن من تم إرسالهم في مجموعتنا شخص برتبة نائب عريف اسمه حميد، وكان في مقتبل العمر ووحيداً لأمه، وقد لاحظنا أنه ومنذ الوهلة الأولى قد ولع بالحصى الغريب المتناثر بكثافة من حولنا، فأخذ يجمعه ويشكله على شكل مجموعات، كل مجموعة لها لون محدد، وكان حريصاً ومتكتماً، إلا أنني استطعت الاقتراب من عالمه، على الرغم من اقتناعي بعدم جدواه، إلا أن ذلك لم يمنعني من اعتبار ذلك وسيلة لا بأس بها لقضاء الوقت الفائض لدينا ...

كان حميد يذهب إلى أماكن بعيدة جداً للحصول على مجموعات جديدة من الحصى الذي تعود أن يعتبر بعضه أشخاصاً يتكلم معهم في أوقات معينة ويصغي إلى همهمتهم المكتومة، لم أشأ أن أثير شكوكي حول جدوى ما يقوم به ، فهذا هو عالمه الخاص الذي بناه بصبر ودأب لبنة لبنة وليس من حقي أن أنسف معتقداته بهذا الشأن ...

كنت أزوره في غرفته المخصصة الواقعة أمام التل من أجل أن نتناول القصعة معاً في كثير من الأحيان، وكان يطلعني في كل مرة على الأنواع الجديدة من الحصى التي حصل عليها، وكذلك كان يُطلعني على الكثير من الحكايات حول المكان الذي نحن فيه والذي يستوطنه أيضا عدد من البدو المتناثرة خيمهم وجمالهم هنا وهناك

وهو عقد صداقات مع بعضهم، أخبرنا أن هناك كائن أخر يستوطن هذا المكان معنا هو الذئب ...

وفي حقيقة الأمر فإني لم أشاهد ذئباً طوال مدة مكوثي هناك، ولكني لا أخفي أن حضور الذئب بكل جبروته وهيمنته كان يملأ المكان من حولنا، أخبرني أن الذئب كائن مسلح بالإضافة إلى أنيابه ومخالبه الباشطة بقدرات سحرية غريبة، فهو ( يختر) أي يسحر ضحاياه، بحيث تقوم بالركض خلفه بخفة وسرعة، وفي إحدى المرات، وكما أخبره محدثه البدوي فإن شخصا منهم افتقد أخاه، بحث عنه فلم يجده وبعد أن ابتعد عن المكان وجده يحث الخطى في البرية خلف أحد الذئاب، ناداه باسمه إلا أنه لم يُصغِ إليه واستمر في الركض خلف الذئب، وحين كان يحمل بندقية فإنه صوّب باتجاه الذئب فأحس هذا به فهرب بعيداً وجثم هناك بحيث لا يتمكن من التصويب بدقة عليه، وأسرع إلى أخيه الذي لم يكن واعياً لما يدور حوله، فهزه بشدة ثم صفعه من أجل أن يوقظه مما هو فيه، ولكن لم يظفر بطائل، وحين اقتاده بقوة من أجل أن يعودا معاً انفلت منه وذهب باتجاه الذئب الذي كان من مكانه البعيد يتربص بطريدته، أخرج بندقيته وصوب باتجاه الذئب وأطلق طلقة، إلا أن الذئب كان قد هرب بعيداً في الوقت الذي كان يتهيأ للتصويب عليه، وحين عجز عن إيقاظ أخيه وإعادة وعيه إليه، لم يجد أمامه من بد سوى أن يحمل أخيه ثقيل الوزن على ظهره، فوجدها الذئب فرصة مواتية للقدوم بسرعة باتجاههما، طرح أخاه جانباً وأمسك ببندقيته وصوبها باتجاه الذئب الذي سرعان ما توارى بعيدا، وهكذا دواليك، وأخيراً وجد نفسه يدور في ذات المكان وكأنه في دوامة، حاول أن يعثر على أحد يساعده، وأخذ ينادي بأعلى صوته بأسماء أخوته وأعمامه وأخواله ولكن لم يأته أي جواب، وكان الليل يوشك أن يهبط عليه وهو في هذه الحال، ومعنى ذلك أن هناك احتمالاً كبيراً في أن تأتي ذئابٌ أخرى، وفي ذلك قضاءٌ مبرم عليهما معاً، فكّر بالأمر ملياً وحسم أمره سريعاً، نادى الذئب الجاثم بعيداً متربّصاً ؛ هذه هي فريستك فخذها !! وترك أخاه يهرول باتجاه الذئب بينما أسرع هو في العودة إلى دياره خائباً وإن يكن ناجياً بنفسه ...

وبين آثار أقدام الكلاب الموجودة بوفرة في المكان، عرّفني حميد على بعض آثار أقدام الذئب ولاحظت أنها أكبر بقليل من تلك التي لدى الكلب وكما هو واضح ومرئي على الطين المتيبس فهي مزوّدة بمخالب كبيرة وحادة ... في أثناء الليل، كان الرعب يملأ قلوبنا من احتمال قدوم أحد الذئاب إلينا، فكنا نحكم إقفال الملجأ على أنفسنا، وحين تأتي الدورية في الأسفل كنا نوقد اللايت باتجاههم للدلالة على تواجدنا ويقظتنا في المكان وأننا مفتوحو الأعين . لاحظت أن نباح الكلاب يأخذ يعلو في بعض الليالي بشكل لم نألفه من قبل وكأنها تتعرض للضرب المبرّح، أخبرني حميد أن معنى ذلك أن أحد الذئاب قد دخل المنطقة فهي تشم رائحته مما يتسبب في اضطرابها وهياجها ...

روى لي حميد حكاية نقلا عن ابن أحد شيوخ البدو في المنطقة أنهم ونتيجةً لفقدانهم عدداً من قطعان الغنم باستمرار هجمات الذئاب فإن أباه جلب في وقتٍ ما كلباً ألمانياً من فصيلة ممتازة، فهو بالإضافة حجمه الضخم شجاع وجريء وذكي جداً وقد ظل هذا الكلب حارساً وفياً لنا ولخيامنا، وفي أحد الليالي الباردة جداً سمعنا عواءه وهريره ينطلق بشكل غير مألوف، وحين ذهبنا أنا وأبي إلى حظيرة الغنم وجدناها جميعها وقد قطع الذئب إليتها ووجدنا أفضلها مفقوداً، وحين خرجنا باتجاه صوت كلبنا الذي يبدو أنه ابتعد كثيراً عن مضاربنا، فأخذنا بالمناداة عليه بأعلى صوتنا طالبين منه أن يعود، ولكنه استمر في ملاحقته للذئب، وعلمنا من خلال اختلاط صوتيهما وزمجرتهما أنهما يدخلان معاً بين حين وآخر في معركة شرسة، ومن الواضح أن رجحان الكفة فيها هي للذئب الذي يمتلك أسلحة قاتلة، ولكن كلبنا استمر في تعقب الذئب والاشتباك معه ولم يسمح له بأن يستولي على غنيمته من دون حساب عسير وعقاب مر يتوجب عليه دفعه ، وأخيراً رأينا كلبنا يعود أدراجه وقد أُثخن جسده بالجراح المميتة ولكنه كان يمسك بين فكيه بنصف الشاة المفقودة، ويبدو أن الذئب علم أخيراً أنه لا سبيل أمامه للفوز بغنيمته إلا بأن يقتسم ما غنمه مع هذا المدافع الشرس، ولم يلبث هذا الكلب أن مات بعدها بيومين ....

وبالإضافة إلى مرويات حميد عن الذئب وقدراته الخارقة، فقد أخبرنا عدد من نواب ضباط المقر في وقت سابق أنه تم العثور مؤخراً في المكان على ملابس ممزقة لجنديين منتسبين إلى وحدة أخرى بالإضافة إلى بعض أشلائهم بعد أن تسللا عبر الأسلاك الشائكة محاوليْن الذهاب إلى بيوتهما من دون أخذ إجازة، في إشارة إلى أن الذئاب افترستهما، وعلى أية حال، وحتى إن كانت الحكاية صحيحة، وهي كذلك بالفعل، لأننا سمعناها من مصادر أخرى، فإننا فهمنا الأمر على أنه محاولة لمنعنا من القيام بذلك ...

سمعت قبيل وقت الفجر في أحد الأيام صرخة ذعر تنطلق من التلة المجاورة، كان أحد الجنود الذين يتولون الحراسة، كان يصرخ في سماعة الهاتف مخاطباً المقر ؛ أنقذوني لقد داهمني الذئب ! وبعد قليل حضرت الدورية وهي مدججة بأسلحتها فلم يجدوا شيئاً، كان الجندي يقف حائراً متلعثماً لا يدري ما يقول، بينما كانت الجمال تتناثر هنا وهناك، ويبدو أن أحدها أطل برأسه الكبير قريباً من الشباك الذي يحتمي فيه الجندي، فحسبه هذا ذئباً خاصة وأنه لم يكن بوسعه أن يرى باقي جسده .

وفي أحد الأيام، وكان الوقت ظهراً شاهدت طائراً غريباً آخر بألوان زاهية أكبر حجماً لم أشاهده من قبل هنا يحط بالقرب من خزّان الماء التماساً للظل وليروي ظمأه أيضاً، كان يبدو عليه التعب والانهاك، الأمر الذي أتاح لي أن أتفحصه ملياً، وعلى الفور عرفت أنه هدهد من العرف الجميل الذي يزين رأسه، فرحت كثيراً إذْ لم أشاهد الهدهد مشاهدة عيانية مباشرة، وتملكتني رغبة شديدة في أن أصطاده حياً، لم أشأ أن أقذفه بشيء صلب خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى قتله، فنقّعت منشفة بالماء واقتربت منه حذراً ثم رميتها باتجاهه فسقطت عليه، وأمسكت به وللحال تصورت نفسي الملك سليمان وتذكرت أبياتاً من قصيدة الشاعر أحمد شوقي الجميلة التي قالها في الهدهد، وضعته في قفص العصافير التي مارست انتحاراً جماعياً وتركتني أتقمص دور القاتل رغم أنفه، كنت متوجساً أن يقوم الهدهد بفعلتها ذاتها، قدمت له الماء وبعض الحبوب، مر وقت طويل ثم أخذ يشرب الماء، فرحت كثيراً، كان موعد إجازتي الدورية قد اقترب، ولما حانت أخذته معي إلى بيتنا، كانت مفاجأة كبيرة ومذهلة لدى جميع أبناء محلتنا الشعبية، وأخذوا يأتون إلى بيتنا على شكل مجموعات أو فرادى، الكل يريد أن يشاهد الهدهد، وكنت قد علّقته في باحة البيت، وفي اليوم التالي استيقظت مبكراً بغية أن أطمئن عليه، نظرت إلى القفص فلم أجد الهدهد فيه، تملكني أسىً وحزنٌ شديد، علمت بعدها أن إحدى العجائز ممن يتعاطين السحر احتالت ونفحت صبياً بعض النقود من أجل أن يسرقه لها، فكان أسفي وندمي أكبر ...

في إحدى المرّات وبعد عودته من إجازته الدورية، جلب حميد معه علبة صغيرة ثمينة من تلك التي اعتادت النسوة من ذوي اليسار على وضع حليّهن الذهبية فيها، وللحال أدركنا أنه يريد أن يضع أجمل ما لديه من الحصى فيها، كان هذا الحصى الصحراوي يشكل بالنسبة إليه عالماً متكاملاً يوفر له متعة ولذة ما بعدها متعة ولذة وبدلاً من أن يتفاعل مع بقية الجنود في حظيرته فإنه يظل منعزلاً عاكفاً على ما هو فيه ....

بعد مرور عدة أشهر، افتقدناه، وحين سألنا عنه أخبرنا الجنود الذين في حظيرته أنه مريض منذ أيام ، وسجلوا له عيادة وذهبوا به إلى الوحدة الطبية ولكن حاله لم تتحسن، وقال الطبيب إنه يعاني نوعاً غريباً من الكآبة والسوداوية ...

ويوماً بعد يوم ازدادت حالته سوءاً، كان جسده يشحب ويذبل ووجهه يزداد اصفراراً ...، بعد ذهابه في إجازته إلى مدينته ذهبوا به إلى الأطباء إلا أنهم وبالرغم من المبالغ الطائلة التي أنفقوها لم يجدوا علاجاً شافياً له لأنه ببساطة لم يستطع أحدٌ منهم تشخيص مرضه وعلته، كان يتحول أمام ناظريهم من شاب في مقتبل العمر إلى كهل، إلا أن بطنه كانت تنتفخ يوماً بعد يوم وكانت تخرج منها أنواع غريبة وكثيفة من الديدان ...

وأخيراً لم يجدوا بداً من القبول بنصيحة إحدى قريباتهم بعد أن تفحصته ملياً، أخبرتهم أنه ربما يعاني من تلبس الجن في بدنه، ذهبوا به إلى أحد الشيوخ وحين عاين حالته أدرك على الفور ما به، سأله هل أنت مهتم بجمع الخرز أو الحصى، قال نعم، قال إذن فقد وقعنا على مكمن الداء، أخبر ذويه أنه "مسگي" بضرورة الإسراع والذهاب إلى مدينة السماوة قبل أن يدخل في طور الجنون المطبق، وأرشدهم إلى امرأة اسمها أم علي تسكن هناك، ويُطلقون عليها لقب "الطگاگة" وهي مختصة بمعالجة الأمراض التي تنجم عن التعامل مع الجن ...

حين ذهبوا إلى هناك ووصلوا إليها، رأت الحالة التي عليها المريض، هيأت "طشتاً" أي وعاءً كبيراً من الماء الدافئ ووضعته في باحة دارها، ثم طلبت من أن يخلع ملابسه ويبقي على القطعة الأخيرة من ملابسه الداخلية، ثم أخرجت من صرة صغيرة سلسلة ناعمة طويلة في نهايتها خرزة كبيرة وضعت السلسلة والخرزة في الماء فيما حميد جالساً مرددة بعض الكلمات غير المفهومة أخذت الخرزة تسبح كأنها سمكة، فقالت إنه مسگي، وطلبت من أهله أن يحرقوا جميع ملابسه التي في البيت وأن يلقوا بجميع الحصى الذي جمعه في التنور مرددين بعض الأدعية التي كتبتها لهم من أجل ترديدها عند قيانهم بعملية الحرق ...

وفعلوا كل ما طُلب منهم، وبالفعل أخذت حالته تتحسن رويداً رويدا بعد أن كان شارف على الهلاك ...

أخبرنا أحد العارفين، أن منشأ تلبس الجن في بعض الحصى يعود إلى أن الذئب باستطاعته أن يرى الجن ليلاً في الصحراء فيركض وراءه بغية افتراسه فيهرب هذا منه وعندما يوشك أن يلحق به فإنه لا يجد أمامه فرصةً للنجاة سوى أن يدخل في أية حصاة يجدها بقربه، فيأتي الذئب ويتشمم الأرض وسرعان ما يدرك أن الجن اختبأ في هذه الحصى تحديداً فيبول عليها، الأمر الذي يؤدي إلى حبسه فيها إلى الأبد ....

 

أحمد الحلي

 

في المثقف اليوم