شهادات ومذكرات

علاء اللامي: تراثيات (1 و2): أبو حنيفة نقيض التكفيريين والعنبري صديق الإنسان

alaa allamiهذه سلسلة من التعريفات التراثية الموثقة هدفها التعريف بعدد من الشخصيات والمواقف والوقائع المضيئة في تاريخينا العربي الإسلامي أرجو ان تكون مفيدة:

1- أبو حنيفة النعمان، هل هو النقيض المبكر للفكر السلفي التكفيري المعاصر بأنواعه؟

استذكر الصديق منير التميمي في منشور على مواقع التواصل له يوم أمس الإمام أبا حنيفة النعمان، وقد أعوزه التوثيق بخصوص أحد فتاويه التي ذكرها أستاذنا الراحل هادي العلوي فوثقت له ذلك، ولكني رغبت في التعريف أكثر بهذا الإمام الفذ والمهم في التراث العربي الإسلامي. إليكم أولا توثيق ما ذكره الصديق منير، وبعد ذلك سأورد لكم أمثلة ومعلومات أخرى عن ولأبي حنيفة:

ذاكرتك جيدة - أبا يوسف - نعم، وقد ورد ما ذكرته بخصوص فتوى أبو حنيفة بعدم عقوبة من سبَّ النبي من أهل الذمة في كتاب أستاذنا الراحل هادي العلوي (شخصيات غير قلقة في الإسلام / دار الكنوز الأدبية - بيروت ص 134) واليك نص ما كتب (ومن أقيسة أبو حنيفة النادرة إفتاؤه بعدم عقوبة من سب النبي من أهل الذمة خلافا لبقية الفقهاء الذين اوجبوا فيها القتل واستند في هذا الحكم إلى أن الذمي مسموح له بالكفر أي بعدم الإيمان بالإسلام ، والكفر أشد من السب).

- كما أباح أبو حنيفة لغير المسلم - ذميا او محاربا - دخول المساجد العادية بما فيها المسجد الحرام وبقية الفقهاء يترددون بين السماح في المساجد العادية ومنعه بتاتا وهو مذهب الشيعة).

- وأيضا (وأفتى أبو حنيفة بأن الحج راكبا أفضل من الحج مشيا وعلله بان من حج ماشيا ساء خلقه فيؤذي الناس ومن ركب حسن خلقه فيتحمل الناس ولعله يعبر بهذا التعليل عن معرفته بسوء مزاج المتدينين وكثرة إدلالهم على الناس بسبب ما يبذلونه من جهود في أداء الفرائض ... ص133).

ومن المصدر نفسه أورد لكم هذه المقتطفات التي تؤكد بشكل ما أن هذا الفقيه الإمام، بما عرف عنه من تفتح وشجاعة وانحياز للفقراء وغير المسلمين والنساء بلغ درجة التأييد العلني للثورات المسلحة ضد الدولة الاستبدادية في طوريها الأموي والعباسي، هو النقيض المبكر والناضج للفكر التكفيري السلفي بكافة أنواعه:

- لم يُجز الفقهاء تعيين المرأة في القضاء قياسا على عدم جواز مبايعتها بالخلافة. ولكن أبو حنيفة أجاز ذلك فيما تصح به شهادتها من الأحكام مما يعني جواز تعيينها قاضية في المحاكم الشرعية.

- اعتبر أبو حنيفة علة تحريم الخمر في الإسكار فنقل التحريم من شرب الخمر إلى السكر وبهذا القياس أباح النبيذ لضعف قوة إسكاره، وكانت هذه الفقرة في مقالة العلوي هي التي دفعت بأحد خطباء الجمعة السلفيين اللبنانيين إلى الإفتاء بوجوب قطع يد الكاتب – العلوي – فعلق العلوي ساخر: نلاحظ – هنا - أنهم يخلطون حتى في الأحكام الشرعية فقطع اليد عقوبة قال بها الفقهاء للسارق وليس لمن يكتب مقالة رأي !

- أبو حنيفة هو الذي رد ورفض مبدأ " الأجر على قدر المشقة" ففضل الحج راكبا على الحج ماشيا.

- أوجب القصاص للمسلم وغيره فالمسلم إذا قتل مسلما يقتل به قصاصا، وهو حكم عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز، وساوى في الدية بين المسلم وغيره إقرارا لمبدأ التكافؤ في الدم بغض النظر عن الدين وساوى بين دية الرجل والمرأة.

- عدَّل أحكام الخمس المتفق عليها بين المذاهب السنية والشيعية، فأسقط سهم ذوي القربي الذي كان لأقرباء النبي من بني هاشم، من بني عبد مناف، ونقله الشيعة إلى الإمام المعصوم، ولكن أبا حنيفة أسقطه وجعله لليتامى والمساكين وقال (إن فقراء بني هاشم يأخذون نصيبهم منه أسوة بالآخرين ولا يُعطى أغنياؤهم منه...) وهنا يكمن السبب الرئيسي في الموقف السلبي منه والتشنيع عليه من قبل الفقهاء والكتاب الشيعة المتقدمين والمتأخرين كما نجد في " زهر الربيع" لنعمة الله الموسوي الجزائري.

- أيد أبو حنيفة الخروج المسلح والثورة ضد الخلفاء الجائرين، فأفتى بتأييد ثورة زيد بن علي في الكوفة ضد الدولة الأموية في زمن هشام بن عبد الملك ودعمه بالرأي والمال كما أفتى بتأييد وثبة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، شقيق الثائر محمد النفس الزكية، الفاشلة في البصرة ضد الخليفة العباسي المنصور، ويعتقد بعض المؤرخين أن رسالته السرية الى إبراهيم وقعت بيد مخابرات المنصور فكانت سببا لنقمة الخليفة عليه قد سُجن أبو حنيفة وهو في السبعين من عمره ويعتقد انه قتل غيلة بالسم في سجنه.

........................................

 

2- القطب الصوفي عامر العنبري (النباتي المقاطع للحكام، المدافع عن غير المسلمين، والمتخلي عن عطائه "راتبه" للفقراء:

تلبية لطلب عدد من الأصدقاء الأعزاء، واستمرارا لمنشوري السابق عن الإمام الفذ أبي حنيفة النعمان، سأنشر تباعا سلسلة من التعريفات المقتضبة بعدد من الأعلام المهمين في التراث العربي الإسلامي ممن يدخلون في باب " التصوف القطباني" وهذا المصطلح هو من مبتكرات معلمي الرحل هادي العلوي ويقصد به التصوف كما أسس له سلوكا وقولا أقطاب التصوف بفرعيه " الاجتماعي النضالي" والعرفاني الفلسفي " وستكون وقفتنا اليوم مع القطب عامر العنبري:

- هو عامر بن عبد قيس أبو عبد الله ويقال أبو عمرو التميمي العنبري البصري، تابعي بصري عاش واشتهر في عهد الخلفاء الراشدين / خلافة عثمان بن عفان، وقيل إنه توفي منفيا في بلاد الشام في زمن معاوية، ويعتبر من مؤسسي الإرهاصات الأولى للتصوف القبطاني.

- قاطع الحكام وامتنع عن الخدمة الحكومية والتعامل مع الحكام.

- كان يوزع عطاءه " راتبه كمقاتل في جيوش الفتح" على الفقراء ولا يبقي منه إلا ما يسد الرمق.

- كان نباتياً لا يأكل اللحم.

- اختار العزوبة فلم يتزوج.

- لا يحضر صلاة الجمعة/ برر ذلك بأنه يحضرها ولكن في الصفوف الخلفية.

- قيل بأنه فضَّل نفسه على آل عمران " الأنبياء " ولكنه نفى التهمة والعلوي يرجح عدم صحة التهمة لأنه (متواضع ولم يكن يحب التباهي على طريقة الشعراء).

- عرف بدفاعه عن غير المسلمين " أهل الذمة بالمصطلح التراثي" / رواية: شاهد مرة عونا من اعوان حاكم البصرة يظلم ذميا فتدخل وخلصه منه وقام خطيبا في الناس، نهى في خطبته عن اضطهاد الذميين لأنه من اعمال المنكر. وختم بالقول (لن تنقض ذمة محمد وانا حي) في إشارة الى الحديث النبوي (احفظوني في ذمتي ... ومن آذى ذميا فقد آذاني ومن آذاني كنت خصمه يوم القيامة).

استجوبه أحد الولاة ودار بينهما هذا الحوار :

الوالي: ألا تغشانا؟ (ألا تزورنا؟)

عامر: إن سعد ابن أبي العرجاء يحب الرفعة "الوجاهة "!

الوالي: ألا نستعملك؟ (نوظفك عندنا؟)

عامر: حصين بن أبي عامر يحب العمل "الوظيفة "!

الوالي: ألا نزوجك؟

عامر: ربيعة بن عِسل تعجبه النساء!

الوالي: إن هذا الرجل يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلا!

عامر (يفتح المصحف ويقرأ الآية التالية): إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين.

يمكن أن نستنبط – والكلام هنا لي وليس لأستاذي العلوي - من رد عامر الأخير نفيا لتهمة تفضيل نفسه على آل إبراهيم ويمكن ان نستنبط منها تأكيدا بالاعتماد على تقديم القرآن لآدم على الآخرين وبما أن عامر من بني آدم فهو مقدم عليهم بموجب الآية !

ختاما: يبدو ان اضطهاد أعوان الحاكم وحمايات المسؤولين والنواب اللصوص صار شاملا في عصرنا فهؤلاء لم يعودوا يميزون بين المسلم وغير المسلم فهم يضطهدون الجميع ويطلقون النار عليهم دون تمييز تطبيقا للنسخة الطائفية من ديموقراطيتهم الأميركية، وهم لا يملون ولا يشبعون من الاستعمال و"العطاءات / الرواتب الفضائية والبرية " ومن اللحم – بكافة أنواعه حياً وميتا – فسلام على روحك وذكراك، شيخنا النبيل عامر العنبري، كم نحن بحاجة لأمثالك!

 

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم