شهادات ومذكرات

طارق الكناني: رحلة في عوالم مختلفة

tariq alkinaniكانت الشمس قد مالت الى الغروب عندما توقفت العجلة التي تقلنا إلى مطار النجف فاليوم الرحلة إلى إيران تختلف عن باقي الرحلات التي ذهبت بها على مدى عشر سنوات مضت ،البرنامج قد تم اعداده بحرفية عالية وبموجب الخارطة السياحية التي زودني بها صديقي فهي توضح كل معالم البلد الحضارية والتاريخية والمسافات التي تفصل بين المدن وأنواع المواصلات الموجودة سواء كانت سيارات أو قطارات أو طيران ،تم وضع ثلاث أماكن للرحلة وهي شيراز التي تقع للجنوب وتبريز وأردبيل في شمال غرب إيران فالمسافة التي تفصل بين أردبيل وتبريز 240 كم والسفر اليها برّاً بواسطة السيارة يستغرق أكثر من ساعتين .

عندما نزلت الطائرة في مطار طهران كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر والنصف مساءً حيث تم تأخير موعد الرحلة ساعة كاملة وعند اكمالنا عملية إستلام الحقائب وختم الدخول حملّنا أمتعتنا في التاكسي وذهب بنا إلى طهران عاصمة البلهويين حيث حكم آخر ملوكهم شاهنشاه آريمهر (محمد رضا بهلوي) هذا الملك الذي يتحدر من عائلة سائس خيول الملك أو كما يحلو لهم أن يسمونه رئيس اسبطلات الخيول العائدة للملك ، حيث سيطر على الحكم بعد القضاء عليه وأسس مملكة قوية في الشرق الأوسط كان لها الدور الكبير في السياسة الدولية ،لم تكن اقامتنا في طهران طويلة  فقد بلغت الساعة الثانية صباحاً عندما أستقرَّ بنا المقام في الفندق وفي الصباح تجوّلنا في أحدى ساحاتها المعروفة بأسم (فردوسي) نسبة للشاعر الفردوسي صاحب الشهنامة حيث توجد ساحة في كل مدن إيران بإسم هذا الشاعر مع تمثال كبير له قد يصل ارتفاعة إلى عدة أمتار مثل تمثاله في مدينة كرمنشاه . وعند مرورنا بشارع (نجاة اللّهي) كانت مكاتب السفريات والحجوزات لوسائل النقل المختلفة تعج بالمكان فدخلنا أحداها وحجزنا تذاكر السفر على متن الطائرة المتجهة إلى تبريز في نفس اليوم  حيث كان موعد الإقلاع الساعة الثانية بعد الظهر لقد كان من المقرر أن نتناول طعام الغداء في مطعم (سُنّتي) ولكنَّ الوقت لم يسعفنا، فحزمنا حقائبنا على ظهر التاكسي وغادرنا الفندق ،ولكن المفاجأة كانت أن تلك الشوارع التي بدت مقفرة في الصباح الباكر وحتى الساعة الحادية عشرة قد غصت بالسيارات وكل الطرقات التي كنت قد مررت بها وهي فارغة أصبحت لاتطاق، لقد كان السبب في هذا الإزدحام هو إقامة صلاة الجمعة بإمامة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الخامنئي في تلك المنطقة، وبعد مرور ساعة وصلنا إلى مطار مهرآباد ،هذا المطار الذي كان مطار دولياً في حقبة آل بهلوي قد تم تحويله إلى مطار داخلي في العهد الجمهوري وهو يحتوي على أربعة قاعات لاستقبال المسافرين  فكانت رحلتنا من القاعة رقم2 ،ولم تقم الرحلة  إلاّ بعد مرور ساعة حيث حدث تأخير في موعد الرحلة .

لم تستغرق رحلتنا إلى تبريز أكثر من ساعة وربع حيث أقلّنا التاكسي إلى فندق وسط المدينة وإسمه (هتل اذربيجان) . نظرة واحدة من خلال زجاج الطائرة كانت تكفي لتعرف أن تبريز مدينة تحيطها الجبال من معظم جهاتها .فهي ترتفع عن مستوى سطح البحر بحدود 1500 متر ويسكنها حوالي 2 مليون نسمة أغلبيتهم من الترك الأذريين ،وهم سلالات مغولية، كانت تبريز عاصمة أذربيجان الشرقية عندما كانت تابعة لإيران قبيل الحرب العالمية الأولى ، لقد أعاد بنائها هولاكو وأتخذها عاصمة لملكه في القرن السابع الهجري وحتى 736 هجرية 1336 ميلادية وهي من أشهر مدن إيران وتأتي رابعة من حيث السكان والمساحة ولها إطلالة على نهر آجي الذي يصب في بحيرة أرومية ،يمتاز الجو في تبريز بالحر الشديد في الصيف والبرودة الشديدة في الشتاء لعدم وجود رطوبة .فقد كان يمر طريق الحرير بهذه المدينة ،حيث تم وضع نصب تذكاري يشير إلى هذا المعنى قرب (البازار الكبير)الذي يقع في وسط المدينة والذي يعود تأسيسه إلى  أكثر من الف سنة .

تاريخ تبريز حافل وموغل بالقدم حيث كانت هذه المدينة موجودة قبل الإسلام في العهود الإشكانية والساسانية  ومن ثم في العهود العباسية والخوارزمية والمغولية والاليخانية والتيمورية والجلائرية والقره قويونليّة والصفوية والقاجارية وقد إتخذها الصفويون والقاجاريون في مراحل حكمهم عاصمة لهم ويقال أن سكانها قديماً كانوا من أصول إيرانية (الطورانيون) ومن ثم أستوطنت بها بعض القبائل العربية عند الفتح وأهم القبائل العربية التي سكنتها هم (الأزد).

صباح يوم السبت كان متحف أذربيجان فاتحة الكرنفال تجولنا فيه ومن أهم مشاهداتي في المتحف كان لوحة حجرية عليها نقوش قديمة من العهد الإشكاني حيث يعود تاريخها إلى حوالي 2000 سنة ،سألت أحدى المترجمات في المتحف عن بعض المعروضات وكانت تجيد الإنكليزية وعندما باشرت بالشرح جاء السائق الذي إستأجرته كمرشد سياحي فتدخل في الشرح مما جعل هذه المرأة تتوتر منه وتتوقف عن الشرح بسبب تطفله وفضوله حيث حدثت مشّادة كلامية بينهما إضطررت معها أن اعتذر للسيدة وأتنازل عن سؤالي إياها ، ولمّا كان الأخ غير خبير في التاريخ فقد أكتفيت بالإيماء وأنتهى الموضوع ،تحركت بإتجاه مَعْلَم أثري آخر وهو الجامع الأزرق حيث يقع في وسط المدينة وعلى مقربة من المتحف ويعود تاريخه إلى حوالي سبعمائة سنة بناه جيهانشاه وسميَّ بالجامع الأزرق لأنه قد تم تغليفة بالقاشاني  الأزرق من الداخل والخارج ويحتوى هذا الجامع على قاعة كبيرة كمصلى والطابق العلوي مصلى للنساء وهناك قاعة أخرى ملحقة بالجامع يتخذها الملك لإدارة المملكة ولقاء الوفود والنظر في القضايا الخاصة بالمملكة ،حيث كان يفصل بين هذه القاعة والمصلى ستار وفي الطابق العلوي مكان للملكة وحاشيتها ،وهناك أيضا سرداب بالقرب من مجلس الملك أتخذه  فيما بعد كمقبرة لزوجته ومن ثم دفن هو أيضاً بهذا المكان ،لقد كانت هذه القاعة قد غلّفت بخزف شديد الزرقة وأعتقد أنه من الخزف الصيني الغالي الثمن ولكن هذا الجامع تعرّض للتدمير مرتين بسبب الزلالزل التي تضرب المنطقة بأستمرار ،حيث يذكر التأريخ أن تبريز كانت تحتوي على ( 350) مسجد تم تخريب أكثرها بفعل الزلازل.وقد شاهدت عملية إعادة ترميم هذا الجامع وقد وصلت مراحل متقدمة وتم وضع كل الهياكل القديمة المرمرية التي سقطت بفعل الزلازل أمام باب الدخول كما تم الاحتفاظ بالكاشي الأزرق الذي يشبه الخزف الصيني إلى حد بعيد في نفس القاعة التي كان يغلف جدرانها حيث مازالت أجزاء كبيرة منه تغلف سقف القاعة المذكورة .

المتاحف في تبريز كثيرة ولايمكننا أن نستمتع بمشاهدتها على هذه العجالة فنحن في عجلة من أمرنا والوقت المخصص إلى تبريز لايكفي للإلمام بكل هذه المعالم الجميلة التي تمت العناية بها بشكل يليق بمكانتها التأريخية ،ففي المسجد الأزرق التقيت بالعديد من السائحين الأوربيين فمنهم من أسبانيا وفرنسا وألمانيا وأستراليا حيث كان أغلبهم يسكن بنفس الفندق معنا ،ومن ثم مررت بمعلم حضاري آخر تمتاز به مدينة تبريز ألا وهو متحف السجاد الكاشاني التبريزي والذي يعد السجاد الأول في العالم لايمكن أن ينافسة أحد ،وهناك متحف آخر ملحق به وهو للألات الموسيقية القديمة وغيرها من الأجهزة القديمة التي كان يستخدمها أهالي تبريز حيث يحوي هذا المكان على عدة متاحف ،لقد أكتفى الأطفال ووالدتهم بالجلوس في حديقة المتحف التي كانت غاية في الجمال من حيث التصميم ونوع الزهور والأشجار التي تم غرسها فيها ،بينما تنقلت أنا من متحف إلى آخر ،لم يطل بنا المقام هناك فقد كانت المتاحف الأخرى بانتظارنا ،حيث توجهنا إلى منزل بهنام وهو مبنى تاريخي في تبريز  بني خلال القاجاري جزء الأخير من سلالة زاند وبداية العهد القاجاري لقد تم تجديده في عهد القاجاريين وقد تم تزينه بلوحات فنية في تلك الفترة ،منزل بهنام وهو من المعالم الأثرية المعروفة في تبريز وهو غاية في الروعة من حيث التصميم المعماري ويتكون من طابقين وقد أتخذ كمتحف للفن الإسلامي فقد أكتشفت مؤخراً فيه لوحات لايعرف عن تاريخها شيء والدولة الإيرانية الآن تقوم بتجديد هذا المنزل بعناية فائقة .

كانت قلعة تبريز هي آخر المعالم الأثرية التي شاهدتها في عصر ذلك اليوم حيث يبلغ إرتفاع تلك القلعة 28 متر ويقال ان  الزلازل لم تبق منها سوى هذا الارتفاع والجهات الأثرية المختصة مهتمة بترميمها وأعادت هيكلها القديم  ،تأملنا هذه القلعة التي يزيد عمرها على 700 سنة حيث كان تصميمها وبنائها يطابق البناء التبريزي إلى حد بعيد وخصوصاً الطراز المغولي في البناء والذي تأثر إلى حد بعيد بالطراز الإسلامي ولكن تتجلى فيه عظمة هذا الشعب المقاتل من حيث فخامة البناء وإرتفاعه، فهم يتركون بصمتهم في كل شيء حتى في صناعة الملابس وغطاء الرأس .

كان الناس ودودين جداً معنا لدرجة أنهم دعونا ولعدة مرات إلى دورهم لنكون ضيوفاً لديهم ،ولطالما كرروا سؤالهم المعتاد مع كل غريب (كوجا رفت حاج أغا) من أين أنت ياحاج أو سيدي وبمجرد أن تقول من العراق يبادر بسؤالك السؤال الثاني من أي محافظة بالعراق هل أنت من المنطقة الشمالية ويذكرون على وجه التحديد السليمانية كركوك أو الجنوب  وما أن يعلم أنك من كربلاء حتى يطلق لنفسه العنان ويصبح أكثر ودّاً والتصاقاً بك وكأنه يعرفك منذ دهر ويبدأ بالكلام معك بحرية عجيبة مانحاً أياك ثقته كما لم يمنحها لآخيه ،والحقيقة أنا إستغربت هذه الحالة لأول وهلة وأعتبرتها إستفزازاً لي حتى اتحدث عن المحظور ولكني وجدت العكس .

لقد أتاحت لي هذه الثقة التي منحها لي هؤلاء الأشخاص ن أتعرّف على الكثير من خفاياهم وطبائعهم ،فهم يتحدثون اللغة التركية فيما بينهم ويشعرون بإنتمائهم القومي التركي أكثر من انتمائهم الفارسي ،وتمثل لهم أذربيجان قبلة حقيقية يسعون للوصول اليها فهي منبتهم الأصلي والشعور بالغربة في إيران نابع من الموقف العدائي الذي تتخذه الجمهورية الإسلامية من أذربيجان فقد توَّضح لي وبشكل لايقبل الشك أن إيران لاتساند الأذريين أو جمهورية أذريبيجان في صراعها مع أرمينيا حول مرتفعات (ناكاروني كاراباخ ) نابع من خوفها أن تبدأ أذربيجان بالمطالبة بتبريز عاصمتها التأريخية وتتلوها أردبيل وجزء كبير من الساحل الإيراني على بحر قزوين ،وكذلك الموقف التركي من أرمينا والموقف العدائي منها ومساندتها إلى أذربيجان بالرغم من كونها دولة شيعية إلا أن الموقف نابع من الولاء للقومية التركية فهم من نفس الأصول المغولية ، إيران يسكنها (38) مليون تركي من أصول أذريه وهذه نسبة عالية تمثل أكثر من 38% في حين يشكل العنصر الفارسي نسبة قليلة لاتتجاوز 17% وبالرغم من هذا فهم العنصر المتسيد والمسيطر ويدير دفة الحكم . والنصيحة للباحث الذي يريد أن يدرس تأريخ أذربيجان أن يأتي إلى تبريز ومن ثم يعرّج على أردبيل فهناك التأريخ الحقيقي المتجذر لهذه الدولة الفتية ، فعزل الروس لأذريبيجان عن عاصمتها الروحية تبريز أضاع الكثير من معالم هذه الدولة وجعلها تفقد الكثير من أصالتها، فقد قرأت مرة مقالاً للباحث حسن عبيد خلال زيارته لأذريبيجان وكان يستغرب لعدم وجود أسواق قديمة في باكو وغيرها من المدن الاذريبيجانية الأخرى ، وكذلك كان قد أشر البعض بعدم وجود مساجد للصلاة .

تبريز عاصمة الصوفية والشعر والجمال تجبرك أن تتماهى مع فضائها الجميل وهوائها النقي ،كبيرة هذه المدينة حيث يبلغ طولها اربعين كيلومتر يسكنها( 1،8 ) مليون نسمة والباقي 200 الف موزعين على القرى المحيطة بها ،فهي تنتج كل شيء بسحر الماضي ،تجبرك أن تتوقف طويلاً لتتأمل ماذا صنع التبريزيون !!! عتيقة هذه المدينة فهي تشعرك بأمتدادها التأريخي العميق لدرجة أنك ترى كل عظمائها يمرون من أمامك ،فلا أستبعد أن أكون قد رأيت هولاكو خان أو جنكيزخان أو شمس التبريزي بملابسه الصوفية وهو جالس عند بائع القطن أو يبتاع الصوف لبعض الفقراء من مريديه في (خانكته)، إنتهى اليوم الأول في تبريز وأنا اخوض صراعاً مريراً بين ما أعشق من حب التراث وبين مايريد أطفالي .

كان من ضمن برنامجي التبريزي أن أزور أسواقها فهي تحوي على اربعة أسواق كبيرة ، أقدمها (البازار الكبير) ويبلغ عمر هذا البازار أكثر من الف سنة يحتوي على أكثر من 8000 محل لاتنافسه المولات الحديثة من الروعة والصناعات الموجودة فيه ومن حيث الحجم ،فهنا لكل مهنة وكل بضاعة سوق خاص بها، شأنها شأن الأسواق القديمة ،وهنا يباع كل شيء وأي شيء يمكن للأنسان أن يقتنيه فالملابس والمفروشات والصناعات اليدوية القديمة وتجار الصوف والقطن والصناعات المرتبطة بها والحرير وصناعة السجاد التبريزي الذي جعلني أتوقف عن الحركة لأتأمل هذا الإبداع البشري للجمال، كيف تتحول هذه الخيوط الصماء إلى لوحات فنيّة تنطق بل تعج بالجمال والروعة ،لقد إستوقفتني لوحة لسيدة مجتمع فارسية تمت حياكتها على سجادة كاشان تبريزي ،بالرغم من اللوحات الجميلة الكثيرة والتي كانت تمثل لوحات لفنانين كبار إلاّ أن هذه اللوحة قد بهرتني وقد فكرت جدياً بإقتنائها ،لم يكن سعرها يوازي قيمتها الفنية الرائعة ولكنه كان فوق قدراتي المالية وحين عرف صاحب المحل برغبتي بشرائها حاول تخفيض السعر جاهداً حتى يرضيني ولكن دون جدوى بقيَّ السعر باهضاً بالنسبة لي ولم أملك إلاّ أن اغادر وعيني تلتفت إلى الوراء متعلقة بهذه اللوحة الفنية الرائعة.

 لقد ادركتنا صلاة الظهر ونحن لم ننه ولو جزء يسير من البازار حتى ولو بنسبة 20%  توجهنا إلى المسجد الذي صلي فيه تجار البازار وأديّنا الفريضة ومن ثم أكملنا بقية الظهيرة في التبضع وتناولنا غدائنا وعندها طلب الأولاد فسحة حيث قال أمثلهم طريقة ،هل جئت بنا لنرى هذه الأشياء العتيقة والبالية أين المتنزهات والألعاب التي وعدتنا بها لماذا لاتشعر بنا فنحن مازلنا أطفال، ونريد أماكن للترفيه، ألا تشبع من هذه الأشياء ،سألني السائق والدليل ماذا قال هذا الطفل وماذا يريد فهو غاضب، فأخبرته بما يريد ،قال حسناً سآخذكم إلى التلفريك وهو يصعد بكم إلى أعلى قمة في جبل عون بن علي ففرح عندها الأولاد ،وعند ركوبنا التلفريك وانبهارنا بالمناظر التي نطل عليها من خلال زجاج التلفريك ،جعلت تلك المناظر زيد ينسى حقيبته المحمولة والتي تحوي على كل أجهزته مثل الاي باد والتاب والهاتف النقال والهاتفون والكاميرا وووو) المهم هو لم يتذكرها، كانت الإطلالة على تبريز من فوق( جبل عون بن علي) ساحرة فأنت ترى على امتداد البصر مدينة تبريز وكل بناياتها ومعالمها الحضرية ،كانت المرافق الخدمية بمستوى رائع ونظافتها المعهودة وأناقتها ،تناولنا المرطبات بالرغم من برودة الجو وعند عودتنا تذّكر زيد فقدانه للحقيبة ،وهنا كانت مأساته الحقيقة حيث أتخذناه هزواً وجعلنا منه أضحوكة وخصوصاً أخته شمس فقد تلاعبت بأعصابه على طول المسافة مما أضطرني إلى التدخل لصالحه وأقنعته بأن حقيبته بقيت في السيارة ،عندها أبتسم زيد محاولاً تصديقي لأنه لم يجد بداً من ذلك ،فعند وصولنا إلى محطة النزول بادر إلينا أحد الموظفين ليستقبلنا وهو مبتسماً فطلبت منه الحقيبة وقد قام بإعطائها لنا وهو مسرور ولم أجد زيد سعيداً أكثر من تلك اللحظة ،فقد عثر الموظفون عليها عند نزول الكابينة ومن حسن الحظ انها كانت فارغة وإلاّ لم نعرف مالذي كان يحدث .

لقد أطلق على الجبل أسم عون بن علي نسبة إلى صاحب الضريح المدفون فيه هذا الشخص ويعتقد أنه من السادة الأشراف وأحد أبناء الأئمة الأطهار حيث لم أسأل عنه ولكن حين ترى الضريح القديم المبني من الآجر والجص وسط تلك الحدائق الغنّاء والزهور المتنوعة تشعر بعظمة المكان وروعته .

كان المساء قد حلَّ عند وصولنا إلى مقر اقامتنا وما أن استقر بنا المقام حتى غط الجميع بنوم عميق لم يوقظهم سوى سعالي ،كان الغروب لم يزل يسير بطيئاً فقد حجبته الجبال عنا ولم يقوى على مصارعة الشمس فهي الأعلى وهي الأكثر إشراقاً في تبريز ،لم يتبق لنا سوى سواد الليلة حتى نمضي إلى عالم آخر من عوالمنا المختلفة التي قررنا أن نزورها ،ولنستغل هذا الوقت بزيارة السوق الثاني بالمدينة حيث يبعد عن مقر اقامتنا حوالي 500 مثر ،كانت الشوارع متشحة بالسواد وبدأ الناس يمارسون الشعائر الحسينية فقد كانت أيام المحرم هناك في تبريز تشابه إلى حد كبير الشعائر في كربلاء فأهل هذه المدينة إنتمائهم الحسيني واضح جداً فهم بعد الله وتبريز هناك قيمة ثالثة عليا لديهم هي الثورة الحسينية فهم حسينيون حد النخاع فأغلب المدينة رحلت إلى كربلاء لزيارة العتبات وهم يفتخرون بهذا الإنتماء ،لم أر أي تعطيل للحياة أثناء ممارستهم الشعائر فهم منظمون لدرجة أن لايضايقوا أحداً أو يعطلوا مصالحهم فالعمل لديهم عبادة والشعائر كما يبدوا لي هكذا أيضاً وكلتاهما تجريان بخطين متوازيين دون تقاطع .

وصلنا البازار الثاني والذي سمح لنا الوقت بزيارته وأدركتنا صلاة المغرب ونحن في بداية السوق حيث كان هذا السوق هو الآخر لايقل جمالاً عن البازار الأول فهو أيضا قديم ويقع هذا السوق في (خيابان تربيت ) يقطع هذا السوق شارع مغلف ببلاطات حديثة تتوسطه أشجار الزينة والزهور وهناك المقاعد الخشبية المنتشرة قرب الحديقة الممتدة على طول السوق وقد لفت انتباهي أنهم قد وضعوا تماثيل لكل مهنة قديمة في السوق وأول تمثال كان لـ (صبّاغ الأحذية) وهو يتوسط حديقتين وتم وضع كراسي أنيقة بالقرب من هذا التمثال ،وكذلك بقية المهن قد تم تجسيدها بتماثيل مشابهة من البرونز وكما قلنا فالعمل عندهم مقدس أيضا فهم يهتمون بعملهم وينجزونه على أتم وجه وقد رأيت ذلك بشكل عملي في كل حرفة تعاملت معهم بها فهو لايقبل بأي شيء سوى الكمال . لقد نودي لصلاة المغرب فأضطررت إلى الرجوع إلى المسجد الذي يقع في بداية السوق لأداء الفريضة ،والحقيقة أن المساجد في إيران غاية في التنظيم ورعاية لمتطلبات المصلين من حيث وجود اللوكرات لحفظ الأحذية والحمامات وأماكن الوضوء ووجود (النعال) مايلبسه المصلي كبدائل عن الأحذية ،كما يخصص الطابق الأعلى للنساء أو يفصل الجامع بستار للتفريق بين مسجد النساء عن مسجد الرجال .

كانت تلك الليلة الأخيرة التي قضيتها في تبريز عدنا إلى الفندق وقد غيرنا طريقنا سهواً فقادنا الطريق إلى معالم أكثر جمالاً وأناقة لم نكن نراها لو عدنا بنفس طريقنا ولكن وقت العودة إستغرق وقتاً طويلاً وقد أخذ البرد يشتد على شمس حيث كانت تشعر به بشكل مختلف عنا ...

سألتها لم لاتنزلين البحر في الليل

قالت لأني لأأثق بالبحر

لم لاتثقين بالبحر جميلتي

لأني لا أثقّ بالليل

فالليل يستر عني ضوء الشمس

تبتعد دامية خلف جبل (عون )*   جبل يحيط بتبريز سميَّ بهذا الإسم نسبة إلى

                                        صاحب المرقد المدفون على هذا الجبل.

ليقضي منها الليل وطراً

فتعود حبيبتي الشمس

اليَّ في الضحى مقطعة الأوصال

يستغرقها البرد

ترتجف في كبد السماء

لا دفء بين جوانحها

يتغشاها حياء العذارى

ففي صمتها تسكن الريح

في كل ليل يغتصب القمر شمسنا البتول

تبريز ياحلماً راود مراهقتي

ها أنا أسير بين طرقاتك

التي خذلتها كل خيول الشرق

خذلتها كل الجمال المحملة بالبخور

لم تعد فراشات دودة القز

تعشعش بين أشجارك

فالعمر قصير والزهد غادر فنائك

في كل أزمنة الشقاء والخوف

كان الملوك يمرون في أروقة القصور

يتحلوّن فيها بأساور من حرير

أنت اليوم عانس من ورق وحبال

تتقاذفك الذكريات

لا(خان) ولاملك ولا خليفة ولا أمير * لقب للملوك المغول

يمتلك مفتاح القلعة في تبريز.

هذه الكلمات سطرها قلمي وأنا أهم بجمع أمتعتي لمغادرة تبريز متوجها نحو أردبيل العاصمة الصفوية التي أشتهرت بطرائقها الصوفية والمتصوفين،عرجت في طريقي على منطقة سرعين التي تشتهر بعيون الماء الساخنة المعدنية حيث تغفو هذه القرية السياحية على العديد من هذه العيون وتحتوي على الكثير من الحمامات والمسابح لهذه المياه ،بقيت هناك ليلة واحدة ،كانت المدينة خالية من  أهلها ولا وجود لأي سائح فنحن تقريباً الغرباء الوحيدون في هذه البلدة ،لم يبتدأ موسم السياحة الشتوي فهم بأنتظار نزول الثلج حتى يبدأ الموسم الشتوي في رياضة التزلج على الجليد ، كان الصوت حزينا والنغم حزيناً ذلك الصوت الذي يتردد عبر شباك الغرفة التي أقطن بها ، فأنا لم أسمع بتلك الآلة التي يصدر عنها الصوت حيث يصاحبها صوت حزين هو الآخر كم كان جميلا ذلك الصوت ، لم أستطع أن أتبين منه سوى كلمة (ياحسين)  عرفت حينها أن هذا الصوت كان لقارئ يقرأ مصيبة الحسين .

في جولة مسائية حول هذه العيون المعدنية التي تبعد عن مركز الناحية حوالي 28 كيلومتر كحد أقصى والعودة إلى المدن المائية التي تعج بها البلدة ،دخلنا أنا وزيد إلى إحدى هذه المسابح الجميلة حيث يوجد بالإضافة إلى المسبح الكبير هناك أحواض مائية كبيرة مفردة حارة وباردة وغرف للساونا الحرارية والساونا البخارية بقينا ساعتين هناك فقد أهتم بنا القائمون على ادارة هذا المرفق الخدمي بشكل استثنائي عند معرفتهم هويتنا وأسم مدينتنا ، فنسبة كبيرة من سكان البلدة رحلوا إلى كربلاء لحضور مراسيم زيارة عاشوراء وهم يستغربون تواجدنا في ديارهم أثناء هذه المناسبة وقسم كبير منهم جعل تواجدنا فرصة للتعرف الينا ومجاملتنا حيث علمت بأن الجزء المتبقي من سكان هذه البلدة والذين لم يذهبوا في المحرم إلى كربلاء سيتواجدون فيها خلال الزيارة الأربعينية ،حاول الكثير منهم دعوتنا إلى دورهم لكننا اعتذرنا لعدم وجود فرصة كافية للإطلاع على بقية معالم البلدة وأسواقها الجميلة والقديمة حيث قمنا بالتسوق منها وخصوصاً الصناعات اليدوية التي تمتاز بها أسواقهم وتعتبر كتحفيات يمكننا أن نضعها كتذكار في إحدى غرف الدار،أهالي البلدة كلهم من الأتراك الأذريين يرتبطون روحياً وولائهم المطلق لأذربيجان وأصولهم التركية، كنت لا أجد أي صعوبة بالتعامل مع الأشخاص الذين يتكلمون الفارسية ولكن منذ قدومي إلى تبريز وسرعين عانيت من مسألة اللغة حيث أكتشفت أنهم يتكلمون التركية فيما بينهم دون حرج ويسألك هل تتكلم التركية وعندما تجيب بالنفي يبدأ بالتكلم معك بفارسية مختلطة بالتركية ، إنقضت الليلة التي كانت مقررة لنا في سرعين وغادرناها صباحاً متوجهين نحو أردبيل .

كم أنت حزين أيها المحرم ففي كل صوب من هذه البقعة من العالم أجد الحزن علامة فارقة في الوجوه التي يعلوها الأسى والدمعة التي تتحدر على تلك الخدود ،يضيف الترف الموجود على تلك الوجوه الحزينة الكثير من الجمال ،حين تتأسى المرأة هناك وتنادي بصوتها (ياحسين) لاتمتلك عيوننا إلاّ أن تفيض دمعاً رأيت ذلك الحزن على وجه أحد السواح وهو فرنسي وقد فاضت عيناه بالدمع حين رأى تلك الدموع والأصوات وسمع تلك الأنغام الحزينة وللمرة الأولى رأيت هذه الآلة التي تصدر تلك الأنغام وهي تشبة (آلة الهورمونيكا) ولم اسأل عن إسمها.

وصلنا عند الضحى إلى مركز أردبيل ،مدينة تتشح بالسواد ومواكب العزاء في مركز المدينة التي يقع فيها البازار القديم الكبير ،لم ندَّخر جهداً بالدخول إلى البازار بالرغم من شدة الإزدحام ومواكب العزاء التي تخترق السوق لتصل إلى الحسينية الموجودة في وسط السوق ،تجولنا في السوق ساعة من النهار تبضعنا خلالها على عجالة لضيق الوقت ،فلديَّ الكثير من الأماكن لأزورها ، غادرنا السوق القديم حيث عثر الأولاد وأمهم على سوق حديث أعجبهم ،فأستأذنتهم للذهاب إلى أبرز متاحف المدينة وهي الخانكة التي كان يقيم فيها المتصوف المعروف الشيخ صفي الدين الأردبيلي ،كانت المسافة التي تفصلني عنها هي 500 متر سرت حثيثاً للوصول إلى مبتغاي ،كانت هذه الخانكة أو كما يطلق عليها (بقعة مباركة الشيخ صفي الدين الاردبيلي) حيث تحتوي على قبره وقبور أولاده وقبور 14 أربعة عشر من آخرين من عائلته منهم زوجته وبناته ،وكذلك قبر حفيده المتحدر من سلالته إسماعيل شاه الصفوي مؤسس الدولة الصفوية حيث يمثل هذا الشاه الجيل السادس لصفي الدين الأردبيلي .

كانت الساحة الأمامية عبارة عن حدائق غنّاء ومحلات على جانبي الحديقة ،عند نهاية الحديقة يقع سور (الخانكة) وفيها مدخل متوسط ،يقف في هذا المدخل شرطي وهو يتكلم العربية ،وخلفه يقع مكتب صغير لموظف يبيع تذاكر الدخول إلى هذا المكان فدفعت عشرين تومان سعر التذكرة وسألت الشرطي كيف الوصول إلى المقبرة فقال لي أن هناك مجموعة من الفتيات من دائرة الآثار يتكلمون اللغة الإنكليزية بإمكانك الإستعانة بإحداهن للتعريف بهذا المكان ،ففي بداية المدخل  كانت هناك حدائق وورود جميلة تقع قبل الدخول إلى الخانكة وعند دخولي إلى المكان المقصود فعلا كان لي ما أردت حيث تفرغت لي أحدى الفتيات كمرشد سياحي فكانت خير دليل حيث أوضحت لي كل تاريخ المكان وكل تفاصيله وعرفتني بأسماء أصحاب القبور المدفونين بالقرب من الشيخ الأردبيلي وكانوا اولاده وأحفاده ،بينما يقع قبر إسماعيل شاه الصفوي بالقرب من قبر جده إلى جهة الشمال حيث وضعت صورته وكتب على باب القبر إسمه وتحته مؤسس السلالة الصفوية ،كانت مرشدتي تتحدث بلباقة وإسترسال قلَّ نظيره فهي تحفظ تاريخ السلالة الصفوية، عند الفراغ من القبور قادتني إلى قاعة غاية في الروعة حيث التصميم الذي أثار استغرابي كونه لاينتمي إلى الطراز المغولي أو الإسلامي ، عند سؤالي عن سبب إختلاف هذه القاعة عن بقية البناء ذكرت لي أن هذه قد تم بنائها من قبل الصينيين كهدية من ملك الصين للشاه إسماعيل الصفوي حيث تم تغليف الجدران بالطابوق الأزرق واللون الذهبي، ولكن تقادم الزمن جعل من اللون الأزرق مائل للسواد وبما أنهم لايعرفون نوعية الأصباغ المستخدمة في طلاء هذه الجدران فأنهم لم يتقربوا منها خشية عليها من التلف ،كما كانت هناك  العديد من معروضات الخزف الصيني التي تمثل بقايا الهدايا التي أهداها ملك الصين للشاه والتي تعرض الكثير منها للتلف والسرقة، إستمعت بشغف إلى تلك المعلومات التي حفظتها المرشدة عن ظهر قلب ،ويبدو من ملابسها أنها كانت تعمل في الترميم فآثار مواد البناء عالقة على ملابسها وحجابها ،شكرتها بكل إمتنان وغادرت المكان مسرعاً فقد تعطلت شبكة الهاتف ولم أستطع الإتصال بالأولاد وأمهم ولم تتاح لي الفرصة من زيارة قبر عباس شاه الصفوي وهو ثاني أشهر الملوك الصفويين بعد إسماعيل شاه .

أشتد الزحام في أردبيل فمواكب العزاء مازالت مستمرة ولم يظهر أي أثر لنهايتها فهي ستستمر حتى ساعة متأخرة من الليل ففي مثل هذه الأيام (السابع والثامن والتاسع والعاشر) تكون المواكب مستمرة ليل نهار ،غادرت أردبيل على أمل العودة لها مرة أخرى لكي أحظى بفرصة أكبر للإطلاع على معالمها الحضارية وبقية متاحفها وأسواقها التي لم أتمكن من التجول بها بحرية أكبر لوجود المواكب .

في مثل هذه الظروف حيث تسير الأمور بما لاتشتهي السَفن لابد من إجراء تعديلات على البرنامج المعد سلفاً ووسط هذا الضجيج والحزن كان لابد لي أن أبحث عن مكان مناسب للسكن والراحة فقال لي السائق الذي أقلني إلى أردبيل دعني أوصلك إلى مدينة قريبة هي عبارة عن جنة الله في الأرض وهي ميناء وحدودية مع أذربيجان وفيها سواحل وغابات جميلة اسمها (أستارا) قلت له لابأس فالنفس تحتاج إلى هكذا أجواء فنحن قد حرمنا من البحر والغابات فالنخيل قد تم تجريفه بحمد الله من قبل أصحابه والبحر سُلبناه على يد إخواننا العرب فلم نعد نملك غير 50 كم من السواحل وهذه أيضاً نازعونا عليها .

سارت بنا السيارة بأتجاه الشمال وكلما ابتعدنا عن الغرب كان الجو يتغير شيئا فشيئاً ولم يدم الأمر طويلاً حتى بدت لنا الجبال وغاباتها وقد عرشت عليها الغيوم وأتخذت منها مسكنا مرت ثلاثون دقيقة عندما دخلنا نفقاً وسط الجبال بطول كيلومتر واحد عندها وجدنا أنفسنا وسط الغيوم وفي غابات لم أر لها نظير فالغطاء النباتي كان مذهلاً وكثيفاً ونحن نسير وسط الغيوم ،عندما أشرفنا على وادي عميق مليء بالغابات طلبت من السائق التوقف لنرى ماذا يحدث حولنا ،ضحك السائق من ذهولنا وأشار إلى منطقة ومساكن قريبة جداً في الطرف الآخر من الوادي قائلاً هذه مساكن الاذربيجانيين ،فهذه المدينة حدودية مع أذربيجان ،سرنا بمحاذاة الشرك الحدودي ونرى النقاط الحدودية والحرس الذين يقفون على بعد ثلاثة أمتار من الشارع الذي تسير به العجلة التي تقلنا وعلى طول الطريق مكتوب عبارات بالفارسية ممنوع التوقف وممنوع التصوير .

أستأجرنا شقة مطلة على بحر قزوين وقريبة على المدخل الحدودي الذي تتدفق عبره البضائع الإيرانية إلى الغرب وتدخل البضائع الأجنبية إلى إيران ،لهذه المدينة الجميلة التي تتقاسمها الجبال والبحر قصة تشبه قصة برلين حين أقتطعت منها روسيا وبنت جدارها العازل في لحظة غفل فيها المجتمع الدولي عن شيء أسمه الإنسانية ،هذه المدينة العامرة بغاباتها وزراعتها وعمرانها الجميل كان يخترقها نهر يشطرها إلى شطرين يطلق على هذا النهر (أستراچای) هکذا تم لفظ الأسم فقد أصبح هذا النهر الجدار العازل بعد الحرب العالمية الاولى فالجزء الغربي من المدينة بقي تحت رعاية إيران البلد الأم والجزء الثاني تم ضمه إلى أذربيجان فصارت المدينة تحمل نفس الأسم في الجانب الإيراني والجانب السوفيتي ،حتى تحررت في النهاية من الهيمنة الروسية ولكنها لم تعد كما كانت فمازالت منقسمة ، وجدت بعض الاذربيجانيين  يدخلون ويخرجون من بوابة الكمرك الحدودي ويحملون معهم أشياء ،سألت عنهم قيل لي أنهم يأتون للتسوق من البضائع الإيرانية مثل الرطب والعسل وغيرها من المواد الغذائية .فالعلاقات العائلية مازالت قائمة بين المدينتين فهم أخوة وأبناء عمومة ونسب قديم ،تبعد هذه المدينة عن باكو حوالي 500 كم . 

لم ينقطع المطر في استارا فمنذ وصولنا إليها والمطر يهطل تارة بشدة وتارة على شكل رذاذ وهذا لم يمنعنا من الذهاب إلى الساحل الذي لايبعد عنّا سوى 60 متر ،كنت أستمع إلى صوت الموج الذي تزعجه الريح فهي توقظه من سبات دام قرون ،لتحرك منه كل أشكال القوة والعنفوان ، البحر كان غاضباً وحزيناً ،منزعجاً حتى النوارس لم تجرأ أن تدنو منه ،قذف كل القواقع إلى الساحل لم يعبأ بزينتها ولا بلؤلؤها  ،فالكل يخشى غضب البحر المغلف بالحزن ،السماء هي الأخرى لم ينقطع دمعها، ترى هل تضامن البحر مع السماء في حزنها أم كانت السماء متضامنة مع البحر في حزنه ،جلست طويلا عند الساحل استمع إلى صوت الموج حين يعلو ،يكون الصوت القادم من الساحل ينعى النجوم التي تساقطت هناك وحين يهدأ يكون البكاء نشيجاً . 

كان اليوم الأخير في أستارا يصادف العاشر من المحرم لم نشهد هذا اليوم في إيران من قبل ففي اليوم التاسع تم تعطيل الدوام الرسمي لكافة انحاء الجمهورية الإسلامية ،حيث يعاني السائح الأجنبي صعوبة كبيرة في فهم هذه الحالة لأنه يتفاجئ بتعطيل الحياة بكل مرافقها وخدماتها وهذا شيء غير معروف عن الإيرانيين ،المطاعم والمخابز ومكاتب السفر ،كل شيء متوقف منذ عصر يوم التاسع من المحرم ،لم نتفاجئ بهذا الشيء فنحن نعرف المراسيم بشكل جيد ،سافرت صباح يوم العاشر لمطار أردبيل التي تبعد 75كم عن مدينة أسترا كانت الغيوم تغطي الجبال حتى وجدنا أنفسنا وسطها ومدى الرؤيا لايتجاوز الخمسة أمتار فكان السائق يقود عجلته بحذر شديد وبمجرد وصولنا إلى حدود أردبيل تكشف الجو وظهرت الشمس وأختفت الغيوم وكأننا في عالم آخر ، دخلت إلى المطار لحجز التذاكر ،طالبني موظف الإستقبال بالجوازات باعتباري أجنبي فقدمت له اجوازات إلا أن جوازي لم يكن بينهنّ ،أخبرهم السائق بأن جوازي بقي لدى صاحب الشقة التي أستأجرتها ،وبعد مفاوضات دامت حوالي خمسة عشر دقيقة وافق الموظف المسؤول عن الحجز  وتمت عملية الحجز فطلبت من السائق أن يسأله عن موعد الرحلة لأني أريد العودة إلى طهران يوم الخميس ،لكن الموظف قال موعد التذاكر اليوم ،طبعا لم أكن متهيأ للسفر فحقائبي وجوازي في أسترا فطلبت منه الغاء الحجز وأعتذر عن عدم وجود شاغر في رحلات يوم الخميس وغادرنا المطار وعدنا أدراجنا ،فطلبت من السائق الذهاب إلى أردبيل مركز المدينة لإستكمال التجوال فيها إلا إنني فوجئت بأن المدينة خالية والشوارع مقفرة إلا من بعض المارة كان قد انهوا لتوهم مراسيم العزاء وعادوا ادراجهم .

هكذا عدنا أدراجنا إلى أستارا لنقضي بقية اليوم على الساحل الذي شهد يوما فيه لمسة من البرودة حيث جذبت هذه البرودة النوارس، فرأيتها لأول مرة منذ قدومنا على الساحل .

كان هذا اليوم الأخير لنا وقررنا أن نرجع إلى طهران بالسيارة لأني أعرف أن الطريق إلى طهران عبارة عن قطعة من الجنة وفيه من المناظر الساحرة التي تذهل الإنسان مهما كانت مشاهداته في الطبيعة حيث وجدت هذه الدهشة قد ارتسمت على وجوه الاسبان والفرنسيين والاستراليين وغيرهم من الجنسيات الأوربية .

كانت بداية الرحلة الساعة الثامنة صباحاً ومن المؤمل أن نصل طهران الساعة الثانية ظهراً ،لم يكن أختياري موفقا لنوع السيارة حيث كانت صغيرة لم تكن كافية لنقل حقائبنا ولكننا حشرنا فيها حشراً ،سارت بنا العجلة وسط الجو الممطر الذي لم يتوقف خلال فترة تواجدنا في هذه المدينة الساحلية ....كثيرة هي المدن التي مررنا بها ومتنوعة الانتاج مدينة سوبر وحويق وتالش كلها تختص بالفواكه مثل العنب وغيره من الفاكهة مشينا على طول الساحل الشمالي لإيران لساعات طوال لم يكن الوقت عاملا نشغل بالنا فيه فنحن اساساً جئنا لنرى ويالها من خطوة موفقة ،لقد كانت المدن والقصبات المزروعة على الطريق كل واحدة تختص بشيء من الفاكهة أو الانتاج النباتي وأما الإنتاج الحيواني فالكل يربي الماشية مثل الأبقار والأغنام وللتاريخ لم أجد للماعز في هذه السهول أي وجود ولربما كانت في الجبال ،كانت استراحتنا الأولى في مدينة تقع قرب تالش تشتهر بصناعة الطرشي والمربيات والأواني الفخارية تسوقنا منها وأخذنا من الفخاريات الشيء الكثير فهي صناعة جميلة تدل على ذوق عالي في النقش والتلوين وتستخدم لبعض الأكلات المعروفة لدينا .

ومن ثم واصلنا سيرنا وسط هذه المناظر والغابات والجو الممطر يضفي على هذه الأجواء الكثير من السحر حتى وصلنا إلى مدينة رودبار ،لقد لفت انتباهي شيء مهم وهو أن هذه المدينة تشتهر بزراعة وصناعة الزيتون تكاد تكون محلات المدينة عبارة عن سوق لهذه الفاكهة ،تناولنا غدائنا فيها وواصلنا مسيرنا عبر رشت حيث كانت حقول الرز الواسعة ومحلات بيع هذا المحصول الحقلي تعج بها المدينة ويعتبر  رز الشمال (برنج شمال) من أجود انواع الرز الموجود في إيران ،وشمال إيران مقر لزراعة هذه المحاصيل الحقلية كالذرة والحنطة والرز.

تلتها عدة مدن للحمضيات والرمان حتى شارفنا على مدينة كرج والتي تبعد عن طهران 45 كيلو أضطر السائق لتغيير مسيرته بإتجاه مطار طهران الدولي والذي يبعد عن طهران 25كيلو وسلك بنا طريقا مختصرا خدميا تجنباً لزحمة المرور ،عندها رأينا الوجهة الخلفية لطهران وريفها الجميل الذي لم أزره يوما كما فعلت في اصفهان وغيرها من المدن سات بنا السيارة وسط هذه الحقول حوالي ساعة ونصف الساعة حتى وصلنا للطريق السريع الذي يوصلنا إلى المطار.

هناك كانت نهاية الرحلة التي كانت غريبة بكل ابعادها وسلكنا فيها طرقاً لم نسلكها من قبل ودخلنا فيها إلى عوالم لم ندخلها من قبل ،اردت الحجز للعودة وطلبت من أحد المسافرين أن يساعدني وكان يحمل جوازاً ايرانياً ويتكلم الإيرانية بطلاقة وكذلك العربية باللهجة النجفية ،سألته أن يقوم بمساعدتي في الحجز من الكاونتر مباشرة ،ضحك الرجل وقال لابأس أنا مثلك فقد فاتتني طائرتي لأني لم اقرأ التوقيت بشكل جيد وها أنا اريد أن احجز من جديد ،وأنصحك بأن لاتحجز من داخل المطار ،لأن سعر التذكرة هنا 110 دولار بينما من الخارج يكون سعرها 50 دولار والأمر يعود اليك ،قلت كيف أذهب واحجز،قال لاعليك انت اعطني الأسماء وسيكون لك ماتريد ،ولكن كيف سأدفع ،قال: أنا سأدفع بواسطة الفيزاكارد خاصتي وانت تسدد لي ،قلت :حباً وكرامة ،لك هذا المعروف في عنقي ،قال لاعليك قام بحجز التذاكر وبالسعر الجديد وهو 50$ ودفع وبقي صامتاً حتى بعثوا له التذاكر عبر الانستغرام وتأكد منها،بقي معي حتى موعد فتح الميزان للرحلة وسلم التذاكر للموظف المختص من خلال جهاز الموبايل والذي بدوره قام بعملية شحن امتعتنا وتسليمنا (البوردن) غادرت المكان ولم أكن اتوقع أنه مازال بعض من أهلنا يحمل هذه الطيبة ،فالرجل من خلال حديثي معه تبين أنه مواطن عراقي قام بتسفيره النظام السابق وهو حفيد الشيخ الآخوند صاحب المدارس الدينية الصغرى والوسطى والكبرى وبالرغم من مرور عقود طويلة على تهجيره هو وعائلته واعدام اخوته لكنه لم يتغير وبقي وفياً لوطنه العراق وأهله في العراق . لم يكتف بهذا فقد أتصل بي عند وصولي إلى الدار للاطمئنان عليَّ .

       

في المثقف اليوم