شهادات ومذكرات

قاسم القسّام كما رأيته

عندما عزمتُ على تأليف كتابي (تراجم علماء المسيب)، وبدأتُ بكتابة فصوله صار لزاما عليّ أن ألتقي الحاج قاسم القسّام للحصول على سيرة والده الحجة الشيخ علي القسّام – طيب الله ثراه -، فقصدته أكثر من مرة إلى داره في مدينة المنصور ببغداد بمفردي ثم مع أصدقاء، وكان ذاك قبل سنة 1998م، ووجدت ترحيبا منه يفوق الوصف، وانعقدت بيننا أواصر صداقة حميمة ومودة أكيدة، وقد استمر التواصل بيننا منذ ذلك الحين من دون انقطاع .

ولما أكملتُ مباحث الكتاب عرضته عليه، فسرّه منهج البحث والتأليف وما ورد فيه من معلومات، وكذلك التقديم الجميل للعلامة السيد محمد الحسين آل بحر العلوم له، وكانت سيرة الشيخ القسّام هي الأوسع في الكتاب نظرا لما زودني به الحاج قاسم من معلومات وفيرة وقيمة ووثائق مهمة، بل ومخطوطة كتاب من مؤلفات والده الشيخ حمل عنوان (كتاب الدرتين في سيرة السيد إبراهيم المجاب وابنه أحمد)، وقد حققته وأصدرته في طبعة خاصة في حينها .

وعانيتُ من صعوبة طبع ونشر الكتاب (تراجم علماء المسيب) آنذاك بسبب الموقف المعادي للسلطة من هكذا مؤلفات، فعرض عليّ الحاج قاسم القسّام  طبع مجموعة نسخ منه بصورة سرية وبعيدا عن أعين السلطة ودوائرها الرقابية ليحتفظ هو بالعدد الأكبر منها، ويترك لي حرية توزيع البقية على المعنيين والثقاة، فوافقت على ذلك مباشرة، وحددنا موعدا للقيام بهذه العملية التي لم تكن تخلو من المجازفة والخطورة .

كان موعدنا يوم الجمعة من أحد أشهر فصل الصيف القائظ سنة 1998م، وذهبت إليه مبكرا، واصطحبني إلى الشارع المؤدي إلى جامعة بغداد في باب المعظم، ولما وصلنا المكان المقصود أخرج مفتاحاً وفتح باب قاعة ليست بالصغيرة لمكتب طباعة، ثم أغلقه خلفنا بعد دخلونا، وبدأ بالطبع أو الاستنساخ على وجه الدقة بعد أن هيأت له نسخة الأصل، وهي مطبوعة بعناية وسرية أيضاً في مكتب يعود لأحد الأصدقاء في بغداد، وقد بذل الحاج قاسم جهدا كبيرا في الطبع، وتجميع الأوراق وترتيبها وكبسها، وبدا لي أن لديه خبرة وممارسة في هذا الجانب الذي كنت أجهله تماما ؛ وبعد الانتهاء سلمني ما أحتاجه من تلك النسخ، واحتفظ بالعدد الأكبر عنده كي يوزعه على الأقارب والأصدقاء كما أخبرني، وأقام لي بهذه المناسبة وليمة غداء باذخة لم أفلح في الاعتذار منه والإفلات منها، وقد ودعني بهدية ثمينة وهو كيس أنيق ملأه بمجموعة نفيسة من قوارير العطر الشذية، وكأني الآن مازلت أشم رائحتها الذكية وعطر أخلاق وطيبة ونبل صاحبها .

كان في نيتي تحقيق كتاب والده الشيخ القسام طاب ثراه (السفر المطيب في تاريخ مدينة المسيب)، فأخبرته بذلك في إحدى زياراتي له، فقال إنه أيضا فكر في القيام بذلك، ولكنه لم يبدأ به بعد، وقام مجلسه وأحضر نسختين جديدتين من (السفر المطيب)، وقبل أن يقدمهما لي كتب على الأولى إهداءه لي نيابة عن والده الراحل، والثانية سلمها لي قائلا : وهذه نسخة أخرى لتعمل عليها في التحقيق لأنك أولى به، وشجعني كثيرا على إنجاز هذا التحقيق، وقد تأخرتُ إكماله للأسف الشديد  لظروف قاهرة، ولكنني أتممته على كل حال، وأخبرته بذلك، ولكني لم أخبره بما تضمنته كلمة الإهداء التي كتبتها على صفحته الأولى وهي :

(إلى الروح الطاهرة لمؤلف الكتاب

حجة الإسلام والمسلمين الشيخ علي القسام – طيب الله ثراه – إحياءً لذكره ووفاءً لجهده ..

وإلى نجله الرجل النبيل

الدكتور قاسم القسام

محبة وإخلاصا وتقديرا

المحقق).

وطبعت كمية محدودة منه بمساعدة الصديق الدكتور عبد الرضا عوض، وأرسلت له مجموعة من نسخه .

بعد ذلك لم ينقطع التواصل بيننا، فكان الهاتف الوسيلة الدائمة للحديث بيننا، إذ كنت أزوره في داره المعمورة بين مدة وأخرى، وكان يفرح جدا بزيارتي، ويمتعني بأحاديث جميلة عن الكتب والعلماء وأخبارهما، وفي لقاءاتنا الأولى حدثني عن سيرة والده مفصلا لحاجتي لها في كتابي الذي قصدته من أجله، وكان من الملازمين له والقائمين على خدمته حتى وفاته رحمه الله، وقد سألته مرة : لم أرك في المسيب مرة وكأنك غير موجود فيها ؟ قال إنه حرص على عدم الخروج من البيت حفاظا على سمعة والده، وكي لا يقال ابن الشيخ القسام عالم المدينة شوهد متمشياً في الشوارع أو جليسا في المقاهي!!

ومما حدثني به أنه حافظ على مكتبة بعد وفاة والده رحمه الله وانتقالها له، وقال أنه في بداية الثمانينيات قلع باب غرفة المكتبة داره، وقام ببنائها خوفا عليها من حملات التفتيش التي كانت تشنها السلطة يومذاك على من تفترض معارضتهم لها !! وكانت مكتبة الشيخ القسام من المكتبات المعدودة في مدينة المسيب على الرغم من أن الرجل تبرع لمكتبة الثقافة الإسلامية التي افتتحها سنة 1961م في بناية تجاور جامع السعداوي (الفرات سابقا) بعدد غير قليل منها ..

وأعلمني الحاج قاسم عن مواصلته الدراسة بعد تقاعده عن العمل في معهد إعداد المعلمين حبا في العلم، ونقل لي نقاشه مع لجنة السلامة الفكرية عند مراجعتها لرسالته، إذ طلبوا منه ومن طلبة الدراسات العليا كافة ممن لديهم بحوث ورسائل وأطاريح تغيير مصطلح (الفتوحات) إلى (تحرير)، فيغير مصطلح (فتح العراق) مثلا إلى (تحرير العراق)، وكان رأيه أن هذا لا يصح فكلمة (فتح) و(فتوحات) وردت في أمات المصادر القديمة والمراجع الحديثة، وقد أحرجهم بقوله : وهل يصح أن نغير (فتح مكة) إلى (تحرير مكة) ؟!

حملت رسالته للماجستير عنوان (المصطلحات الاقتصادية الإسلامية حتى نهاية العصر الأموي ؛ في كتب التاريخ والتراث) وكانت بإشراف الأستاذ الدكتور عبد الأمير دكسن الذي طالما حدثني عن علمه وفضله، وقد طبعت فيما بعد وصدرت في كتاب .

في أحد معارض الكتب الدولية في مدينة النجف الأشرف قبل سنوات التقيت مرة الحاج قاسم، ومعه شاب قدمه لي بأنه شقيقته المقيمة في إحدى الدول الإسكندنافية، وقال إنه مشرف على (موقع آل القسام) الالكتروني الذي تبنى تأسيسه وتحمل كلفته، واقترح عليّ الإطلاع عليه والتواصل معه، وهو ما حدث .

اعتدت كل عيد أن اتصل به هاتفيا للتهنئة، وأحيانا كان يسبقني بذلك، كما كانت لي اتصالات هاتفية أخرى للاطمئنان على صحته أو الاستفسار منه عن شيء، وكنت ألحظ سروره بذلك مما يشجعني على الاستمرار، كما كانت لنا لقاءات بعض أيام الجمع قبل سنة 2003م في المكتبة العصرية مع صاحبها وهو صديقنا المشترك الدكتور أياد القاموسي، وقد ننتقل منها معا إلى مقهى الشابندر لتكملة أحاديثنا المتنوعة .

قبل انتكاسته الصحية الأخيرة، وكان قد عاد من رحلة علاجية في إيران قررت زيارته، فقصدته يوم السبت 27 حزيران 2015م، ولما وصلت مدينة المنصور اتصلت به هاتفيا لأعرف الطريق السالك لداره إذ هناك شوارع مغلقة، فما كان منه إلا أن يحمل نفسه على تعبها ليخرج في استقبالي إلى الشارع العام، ولم تجدي معه توسلاتي كلها للبقاء في الدار خوفا على صحته، وقد عانقني بفرح ولهفة، ولكني شعرت والألم يعتصرني بما يعانيه من مشاكل في التنفس .

كانت هذا  هو لقائي الأخير به، وقد استغرق جلوسي عنده أكثر من ساعة ولكن شعرت كأنها لحظات قليلة لسعادتي بلقائه وحلاوة الحديث معه، في هذا اللقاء أهداني أربع نسخ من كتابه الصادر حديثا (المصطلحات الاقتصادية الإسلامية) واحدة خصصها لي والبقية لعدد من أصدقائه في المسيب والحلة وهم الشيخ عبد الأمير النجار والدكتور ظاهر الشمري، والدكتور عبد الرضا عوض، ونسخة من مجلة (الأرشيف)، وله نشر فيها عن سيرة والده الراحل، وسلمني نسخة مصور لأصل مخطوطة لكتاب (السفر المطيب في تاريخ مدينة المسيب)، وكنت قد أعلمته برغبتي في إصدار طبعة جديدة للكتاب، ولما نهضت لتوديعه مضى مسرعا ليحضر هدية ثمينة كما اعتاد في أغلب الزيارات مما يحرجني ويخجلني، بل بلغ فرحة درجة أن نفح السائق الذي حملني إليه مبلغا ليس بالقليل شكرا لنقله لي وفرحه بهذا القدوم واللقاء، وعدت منه وفي قلبي خشية أن لا نلتقي ثانية لما رأيت من تدهور حالته الصحية، وهو ما كان .

بعد عودتي من هذه الزيارة بقيت على اتصال دائم معه لتفقد حالته الصحية، وبعد عدة اتصالات، لم أعد أسمع ردا منه، وكررت ذلك مرات ولأكثر من أسبوعين، فاتصلت بابنه الأصغر علي للاستفسار منه، فأخبرنه أن والده بحالة حرجة جدا في طهران، وقد عاد قبل يوم منه، وذهب أخوه الأكبر ثائرا بدلا منه، ولم تمر سوى بضعة أيام حتى فجعت بقراءة نعيه يوم 20 شباط 2016م على موقع أسرته، وقد جاء فيه :

(تنعى عشيرة القسام الخفاجية فقيدها الراحل وابنها البار الوفي ابن النجف الأشرف وأحد أعلامها المرحوم الدكتور قاسم ابن المرحوم العلامة حجة الإسلام الشيخ علي القسام الذي وافاه الأجل ظهر هذا اليوم في أحد مستشفيات طهران في رحلة العلاج أثر مرض عضال وسيصل جثمانه إلى أرض الوطن ليوارى الثرى في مدينة النجف الأشرف، وسيقام مجلس الفاتحة في المدينة التي نشأ وتعلم فيها، وظل وفيا وعاشقا لها ولرمزها ولأهلها... رحم الله أبا ثائر فقد كان عارفا مجربا ومحبا للجميع، وقام بتأسيس هذا الموقع على نفقته ليبقى رمزا لتراث وأسرة آل القسام ... إنا لله وإنا إليه راجعون ... الفاتحة).

وشعرت بألم شديد يعصرني لرحيل هذا الإنسان الطيب، فنشرت على صفحتي الفيسبوكية نعيا له قلت فيه :

(قاسم القسام وداعا

توفي في أحد مستشفيات طهران حيث كان يتلقى العلاج يوم السبت 20 شباط 2016م الدكتور قاسم ابن العلامة الحجة الشيخ علي القسام، وقد وصل جثمانه إلى النجف الأشرف يوم الاثنين 22 شباط 2016م، فشيع من جامع الطوسي إلى مثواه الأخيرة في مقبرة الأسرة بوادي السلام، وأقيم على روحه الطاهرة مجلس فاتحة في جامع السيد حيدر الكليدار في حي المثنى بمدينة النجف الأشرف، والفقيد من مواليد النجف سنة 1944م، وقد نشأ وترعرع في أسرة علمية ودينية معروفة، وأكمل تعليمه العالي، وكان باحثا ومتابعا دؤوبا، وقد طبع رسالته العلمية).

وبنفس مكلومة ودموع حزينة حضرت مع الشيخ عبد الأمير النجار والحاج فارس عباس الحمداني والحاج سعد مرزة السعدي مساء يوم الثلاثاء 23 شباط 2016م مجلس الفاتحة المقام على الروح الطاهرة للراحل الغالي قاسم القسام في جامع السيد حيدر الكليدار بحي المثني في النجف الأشرف، وقدمنا التعازي باسمنا وباسم أهالي مدينة المسيب لأل القسام الكرام وعائلة الفقيد وخاصة ولديه الدكتور ثائر والأستاذ علي اللذين عانقاني وهما يذكرانني بتلك العلاقة الطيبة التي جمعت بيني وبين والدهم الفقيد، ولم أتمالك نفسي فسالت دموعنا معا وأنا استمع لولده الدكتور ثائر وهو يردد باكيا (كان والدي يحبك جدا، ويذكرك دائما ..).

 

جواد عبد الكاظم محسن

في المثقف اليوم