شهادات ومذكرات

عقيل علي: الشاعر الذي اطعمنا خبز الالم

saad jasemبجثة مرمية في موقف باص بباب المعظم البغدادي، وبخيط دم نحيل سال من فمه حتى ضفاف دجلة الحزين او حتى السموات،وبقصيدة (هي قصيدته الاخيرة) وكانت مكتوبة على كارت لدخول شعبة الطوارئ في مدينة الطب، وكان عنوانها هو: (ريح الجمرة) . هكذا وجِدَ عقيل علي: الشاعر الذي مات ميتة مفاجئة وغرائبية ودرامية، وكان ذلك في 15-5-2005 .

كان عقيل قد ولد في مدينة الناصرية عام (1949) .وعلى الرغم من عدم اهتمامه بإكمال تحصيله الدراسي والعلمي،الا انه كان في سنوات شبابه الاولى قارئاً نهماً وخاصة للشعر العالمي من خلال كل ماهو متوفر منه من تراجم مهمة وخاصة الشعر الفرنسي الذي كان يقوم بترجمته عدد من اصدقائه المقربين ومنهم الاديب احمد الباقري،والمقدمات النظرية العميقة والرصينة التي كان يكتبها الشاعر خالد الامين وغيرهما.وكذلك كان عقيل يميل الى التراث الصوفي وكتبه ونصوصه النثرية كالمواقف والمخاطبات للنفري . وكان قد قال انه: (مولع بالصوفيين، لانهم اداروا ظهورهم للدنيا وطلقوها). وعقيل علي شاعر متصوف شكلاً ومضموناً، فالصوفية في رأيه: (لا بد ان تنبع من التعايش الروحي قبل المظهر الخارجي). وكان يرى ان قصائده تحمل الكثير من الإشارات الصوفية، لا سيما في ديوانه "جنائن آدم" .

 بدأت علاقة عقيل بالشعر في بدايات سبعينيات القرن الماضي، وكان قد نشر اولى قصائده وكانت تحمل عنوان (الجثة) في جريدة الراصد البغدادية، وكان قد اهدى قصيدته تلك الى الشاعر الامريكي (والت ويتمان) الذي يعتبره عقيل هو المفجر لينبوعه الشعري .

وقد كان الظهور الشعري الحقيقي لعقيل من خلال الملف الخاص لمجلة (الكلمة) وكان ذلك في عددها الخامس الذي صدر في عام (1974) والذي تضمن قصيدة وشهادة مهمة لعقيل،حيث قال في شهادته تلك : 

 (لا أتوق إلى محاولة تفسير الشعر ولا أمنهج القصيدة

ولا أمنحها الحدود،ثمة مخاوف عديدة وأحزان لها أن تنفجر لتكون قصيدة أو دموعاً،هذه هي الحكاية.

زمن القصيدة، حجمها،يلدان بتلقائية ولا موعد مسبق.

لا أتعاطف مع الكثير مما يخرج هذه الأيام، ثمة محاولات عديدة تجري لتجعل الشعر عقيماً.أكثر الشعر لدينا جسد زنخ بثياب نظيفة.

وقصيدة النثر خصوصاً حوصرت بمرارة ونجاحها رهين بإخلاص شعرائها لها.لا أرى أن محمد الماغوط منحها الكثير..

كان لي في فترة قصيرة أن أطلع على نماذج من كتابات متباينة لعلها هي الأساس المتواضع في أدبي. بعدها بدأتُ أنسج دروبي بصبر وأحياناً بعبثية.

سُحرتُ أولاً بنداء رجل (الانتحار تتويج لكل الملذّات)، لم أسعَ إلى محاكاته لكنني أجده يثيرني،وأنتظر.

في ذي قار صلبتُ عشرين عاماً ويزيد على عتبة الألم.

من هنا تولدت رغبة عميقة في الهرب.مم؟ وإلى أين؟

لعل في القصيدة عوالم وألواناً شفيفة أو براقة، ولهذا أكتب.

هل قلتُ شيئاً مهماً؟ لا أدري. ولا أطمح في ذلك.

وأخيراً.. من أول النهار عبرتُ شتيمة الأيام مكتظاً بالخوف.. وأنا يحتسيني ضيوف العائلة،وفوانيس شبابي، وأنا العنق.

أغتصبُ بودّ في سجن النبي.أسحبُ رأسي من مياه القبيلة.

متوهجاً كالغضب وزنخاً كالنذالة) .

وكان عقيل قد انتج خلال حياته القصيرة -نسبياً - مجموعة من القصائد والنصوص الشعرية التي صدرت في ديوانين هما :

جنائن آدم وصدر في عام 1990، وطائر آخر يتوارى،وقد صدر في عام 1992،وهذا الديوانان كان قد صدراً بجهود صديقه الشاعر والمترجم العراقي المعروف د. كاظم جهاد، حيث سعى سعياً نبيلاً وحثيثاً من اجل صدورهما وحتى لايضيعا كما ضاعت بعض نصوص عقيل هنا وهناك او سُرقت من قبل هذا وذاك من لصوص الشعر والمتشاعرين وانصاف الشعراء الذين اذاقوا عقيلاً الويل .وقد صدر لعقيل ديوان آخر بعد وفاته هو (فيما مضى) .

وهناك من يقول ان الناقد (حاتم العقيلي) يحتفظ بديوان شعري مخطوط لعقيل ويحمل عنوان (دم نيئ) ومن المؤمل اصداره مصحوباً بدراسة نقدية للعقيلي، وهذا مانتمناه جميعاً من اجل الحفاظ على ارث صديقنا الشاعر المهدور .

ويمكننا القول : ان عقيل علي كان منذ البدء يرفض الانضواء تحت اية يافطة سياسية وايدولوجية، وكان يرفض فكرة التجييل والاجيال الشعرية، حيث عاش حياته حراً، وكان يعمل (خبازاً) ويحب مهنته هذه كثيراً لأنه وكما قال لي ذات مرة في جلسة خاصة بيني وبينه: (انه يحب رائحة الخبز وعنفوان نار التنانير،حيث هناك طقس وفعل يشبهان كتابة الشعر الذي هو تعب ومعاناة وألم).

وكذلك فقد عاش عقيل حياة قاسية (خاصة في بغداد) حيث الفقر والشظف والتشرد فوق ارصفة البطالة وعطالة المقاهي وكآبة الحانات والنوم في الغرف الباردة والفنادق الرخيصة،التي كانت سبباً في اصابته بعدة امراض منها ماهو نفسي ومنها ماهو مزمن.ناهيك عن اساءات الاخرين الذين كانوا يشككون بشاعرية عقيل وبمنجزه الشعري الذي اتهموه بأنه ليس له،ولكن عقيل علي لم يكن يكترث ابداً لمثل هذه التقولات والاساءات لأنه هو القائل:

(كنتُ أنقشُ البحرَ على الركبِ الطريّة

وأصنعُ غاراً من تلاواتي للأصابع

 الأكثر طراوة من الرحم)

عقيل علي : لكَ السلام والفراديس وجنائن الشعر والمحبة

ستبقى حاضراً في اعماقنا نحن اصدقاؤك البسطاء 

وسوف لن تتوارى ابداً ياطائر الشعر الحقيقي .

 

سعد جاسم

 

 

في المثقف اليوم