شهادات ومذكرات

وفاء لذكرى ثورة 14 تموز الخالدة

تحل بعد ايام الذكرى الستين لثورة الرابع عشر من تموز 1958 وان مفهوم الخلود هو الذكرى الايجابية الدائمـة وهو ما تتميز به ذكرى الثورة لدى الغالبية الساحقة من ابناء الشعب العراقي الشرفاء بالرغم ما تعرضت لها الثورة من تشويهات وهجمات مغرضة لم تتوقف يوما فنجد مثلا من يحاول طعن ذكرى الثورة من خلال اعتبار العهد الملكي هو " الزمن الجميل " الذي اغتالته الثورة متناسين معاناة القطاعات الغفيرة من الفلاحين من ظلم الاقطاع ومعاملته لهم كالعبيد مما الى الهجرة الغفيرة من الريف لأطراف بغداد لمدينتي الشعب والثورة والعيش في الصرائف والبيوت الطينية لغاية ثورة 14 تموز 1958 التي منحتهم بيوتا لائقة للعيش وكذلك تزوير ارادة الشعب والفقر وفقدان السيادة عبر التبعية للحكم البريطاني ونهب ثرواته النفطية ، كما ويتناسون ايضا الطابع القمعي للنظام الملكي وسجن الاف السجناء السياسيين في نقرة السلمان وسجن الكوت على سبيل المثال لا الحصر ، كيف يمكن الدفاع عن هذا النظام الذي استند على القمع وتعذيب السجناء في اروقة الامن العامة بإشراف سعيد قزاز وبهجة العطية هؤلاء المجرمين الذي نالوا جزائهم العادل في محاكمات شعبية علنية كانت مدرسة لرفع وعي الناس كما وفرت المحامين للمتهمين وحرية الدفاع عن انفسهم ، اليس غريبا ان نجد رغم كل ذلك من يهب اليوم لتبييض صفحة هؤلاء المجرمين.

لنتخيل مجازا كيف كان يمكن ان يصبح حال العراق لو لم تتم عملية اغتيال ثورة تموز في الانقلاب البعثي الفاشي في 8 شباط 1963 بتوجيه وادارة مباشرة من المخابرات الامريكية وشركات النفط المتضررة من قانون رقم 80 لسنة 1959 الذي استرجع الجزء الاكبر من حقوق العراق النفطية ، نعم كان يمكن ان يكون العراق ضمن الدول المتقدمة كما حصل لماليزيا مثلا وطبعا هذه امنيات لم يكتب لها التحقق لأسباب كثيرة ليس المقال بصدد تحليلها بهذه العجالة الا ان اي منصف لا يمكنه نكران انجازات ثورة 14 تموز التي تحققت خلال عمر الثورة القصير جدا .

لاشك ان لكل ثورة نواقص واخطاء كما ينبغي ان لا ننسى ان ثورة 14 تموز بدأت بانقلاب عسكري تحولت بالتأييد اشعبي المنقطع النظير الى ثورة عارمة ويمكن القول عند مقارنتها بثورات عالمية كالثورة الفرنسية مثلا يمكن اعتبار ثورة العراق مجازا ثورة سلمية اي قامت باقل سفك دمـاء رغم ان ذلك لا يبرر قتل العائلة المالكة او سحل الوصي و نوري السعيد رغم جرائمهم لان تلك الاعمال المدانة جرت بعفوية واندفاعات شعبية غير منضبطة ولا يوجد لحد الان اي دليل على وجود تخطيط سابق لها من قبل الضباط الاحرار.

لقد عاش الشعب العراقي بمختلف احزابه السياسية ومنظماته الجماهيرية اجواء من الحرية والديمقراطية خاصة في الفترة الاولى التي اعقبت الثورة قبل ان تتعرض الثورة للغدر والمؤامرات التي اعقبت محاولة اغتيال قائد الثورة عبد الكريم قاسم في رأس القرية لتعقبها مؤامرة الشواف المسنودة مالا وسلاحا من قبل الجمهورية العربية المتحدة والرئيس جمال عبد الناصر وادى كل ذلك الى ظهور نهج دكتاتوري لعبد الكريم متوهما بان الخطر على حكمه يأتي من الشيوعيين والاكراد متجاهلا الخطر الحقيقي وسبب كل ذلك نكوص الثورة وخيبة امل الجماهير المسحوقة بها لينفتح المجال امام اعداء الثورة للتآمر عليها واجهاضها وقتل احلام الشعب بانقلاب دموي في 8 شباط وكما قال علي صالح السعدي بانهم جاءوا للحكم بقطار امريكي.

اعتبر الوفاء لثورة 14 تموز دينا علي وعلى الالاف من الكوادر العلمية الذين كانت الثورة سببا بتوفير فرصة الدراسة والتعلم بالجامعات العراقية والاجنبية حيث انتهجت الثورة تخطيطا علميا لنشر التعليم العالي وتوفيره مجانا امام شريحة واسعة من العراقيين في حين كانت الجامعات سابقا حكرا على اصحاب المال والطبقة البرجوازية وقامت الثورة بإرسال الاف البعثات العلمية للدول المتقدمة وكانت المنافسة تجري وفق معدلات الخامس ثانوي "البكلوريا" دون اي تمييز سياسي او عرقي او طائفي وتلك هي الايام التي على المنصفين ان يسمونها "الزمن الجميل" ولقد كنت احد المبتعثين لدراسة الهندسة الميكانيكية في المانيا الغربية عام 1960 ولكن البعثة لم ستمر بالنسبة لي ولمئات اخرين الا بضعة سنوات حيث تم فصلنا بعد انقلاب 8 شباط بأسابيع بفضل التقارير التي رفعها طلبة بعثة زملاء لنا ولكنهم بعثيين تحولوا الى مخبرين امنيين للانقلاب !

انني بالرغم من ان اولى ذكرياتي تعود لعام 1956 حول مساهمتي المباشرة في التظاهرات السلمية التي كانت تقمع بالقوة من شرطة نوري السعيد حيث اتذكر وانا شاب صغير مشاركتي في المظاهرات المؤيدة لتأميم قناة السويس والتنديد بالحكم الملكي ونوري السعيد وحلف بغداد حيث كنت ارفع على الاكتاف لإنشاد قصيدة "اين حقي" للشاعر محمد صالح بحر العلوم وغم كوني في الصف الثاني متوسط فقد تعرضت الى الفصل من المدرسة لبضعة اشهر وفصل اخي الاكبر من الخامس ثانوي وتم تجنيده وارساله الى معسكر راوندوزموقع ابعاد المفصولين السياسيين من طلبة الثانويات حيث زرناه شتاء ولكن رغم الوعي السياسي المبكر الذي يتميز به ابناء ذلك الجيل الا انني اعتبر نفسي من جيل ابناء ثورة 14 تموز التي فتحت ابواب العلم والمعرفة على اوسعها امام الشباب العراقي المتعطش للتطور والتقدم .

ان وطنية ونزاهة الغالبية الواسعة من ضباط ثورة 14 تموز يشهد بها الاعداء قبل الاصدقاء والمعروف ان عبد الكريم قاسم لم يخصص دارا لشخصه الزاهد ولم يمتلك اية ثروة عند استشهاده بعد محاكمة صورية على ايدي الجلادين المجرمين في بناية محطة الاذاعة بالصالحية بصحبة الابطال الشهداء من زملاءه قادة الثورة الضباط وصفي طاهر وعباس المهداوي وماجد محمد امين لتعقب تلك المحاكمة حملة دموية من الاعتقال والتعذيب و القتل لعشرات الالاف من العراقيين الشرفاء ومن المؤسف انه رغم الخلاص من حكم الطاغية صدام لم يبادر المسئولين الجدد الى حتى اقامة ولو نصب تذكاري لتخليد ثورة 14 تموز التي لا اعتقد بوجود مثيل لها في تاريخ العراق الحديث .

لتبقى ذكرى ثورة 14 تموز خالدة على امل تعلم الدروس والعبر المطلوبة منها لوضع العراق على سكة التطور والتقدم في وقت قريب عبر الخلاص من الطائفية والمحاصصة والفساد والفاسدين واعتماد مبدأ المواطنية وحكم القانون في عراق مدني ديمقراطي.

 

د. محـمـد الموسـوي

 

 

في المثقف اليوم