شهادات ومذكرات

ذكريات عن مدينة النجف

علي القاسميأثر أسرة آية الله محمد رضا فرج الله في حياتي

تكرّم فضيلة الشيخ فلاح الحلفي فطلب إليّ أن أكتب حول ذكرياتي عن النجف وصداقتي مع المرحوم حميد نجل العلامة الشيخ محمد رضا فرج الله. وكتابة الذكريات مسألة شائكة، لأنها إذا كانت تعتمد على الذاكرة فقط، كما في حالتي هذه، فالذاكرة لا يمكن الركون إلى دقتها وصوابها فقد تصيبها الثقوب ويغلب عليها النسيان، فتميل إلى ملء الفراغ بالوهم والخيال؛ أو تلوّنها الأحداث المستجدَّة، فتُقحم شيئاً من أحداث الحاضر وأفكاره في نطاق الماضي. فتعاقُب السنين ومرور الأزمان يصيب الإنسان والبنيان بالوهن والخذلان. أضف إلى ذلك أن عواطف الفرد تؤثِّر في موضوعية ذكرياته ونزاهة تصوراته. وكنتُ قد أحببتُ أسرة العلامة فرج الله ـ ولا أزال ـ حبّاً صافياً من أعماق القلب وحنايا الروح، تماماً كما لو كانوا أهلي وأسرتي.

أمضيتُ السنة الدراسية 1955ـ 1956 في ثانوية النجف، حيث درستُ السنة الرابعة الثانوية في الفرع الأدبي. وكانت الثانوية في العراق تتألَّف آنذاك من خمس سنوات فقط. وكان من حسن حظي وجميل قدري أن ارتبطت بعلاقة مودة وصداقة حميمة مع أحد زملائي هو الشاعر حميد فرج الله. ولأني كنتُ ذلك العام ضيفاً على عائلة أختي التي لا يوجد فيها من هم في مثل سنّي أو مَن له نظير اهتماماتي، فإنني كنتُ أفضّل أن أمضي معظم أوقاتي مع أخي حميد فرج الله، في منزله العامر الذي كان يستقبل كثيراً من الزوار والضيوف، كما يشتمل على مكتبة خاصة عامرة بالمخطوطات والمطبوعات، تعدّ من أكبر وأنفس المكتبات في النجف على كثرتها، وذلك بفضل العلامة الشيخ محمد رضا فرج الله، والد حميد.

فهذا الشيخ الجليل، محمد رضا فرج االله (1902 ـ 1969)، هو سليل أسرة من العلماء الفضلاء، قدِم جدّهم من الجزائر في محافظة البصرة إلى مدينة النجف لطلب العلم في حوزتها. ونشأ الشيخ محمد رضا في النجف وواصل تلقّي العلم على أبيه العالم الجليل الشيخ طاهر فرج الله، وأخيه الشيخ محمد طه، وكبار علماء النجف آنذاك كالسيد أبي الحسن الأصفهاني والسيد أبي القاسم الخوئي اللذين آلت إليهما المرجعية الدينية ورئاسة الحوزة العلمية بالتتابع، وغيرهما حتى نال درجة الاجتهاد وأجازه كبار العلماء كالسيد الخوئي وأغا بزرك الطهراني وأضرابهما. وكان الشيخ محمد رضا فرج الله شاعراً على طريقة العلماء ينظم الشعر في الأمور الدينية والتعليمية، فله منظومة في الأصول، كما كان أديباً ماجداً كتب إبان شبابه مقالات في اللغة والاجتماع في مجلَّة " العرب" للكرملي. وخلّف عدداً من المؤلَّفات المطبوعة والمخطوطة.

كان للشيخ محمد رضا فرج الله أربعة أبناء سعدتُ بالتعرّف عليهم، وهم: الشيخ جعفر فرج الله الذي كان يواصل دراساته في الحوزة العلمية بالنجف؛ وأحمد فرج الله الذي تخرّج في كلية الحقوق ببغداد، وواصل دراسته في فرنسا، والتحق بالدبلوماسية العراقية حتى بلغ رتبة سفير عند تقاعده؛ وعلي فرج الله الذي كان يعمل تاجراً في سوق الشورجة ببغداد؛ وأخي حميد. بيدَ أن الشيخ محمد رضا فرج الله، بدافع من كرمه الأصيل وشهامته وعطفه الإنساني، كان يقول لنا، أنا وحميد عندما نسعد ونتشرَّف بمقابلته:

ـ لي خمسة أبناء.

أي أنه يضيفني إلى أبنائه، لكي يُشعرني بأنني منهم، فلا أتردد في تمضية وقت أطول في منزلهم، وتناول وجبات الطعام اللذيذة التي كانت تقدمها عائلته الكريمة لي وأنا بصحبة حميد، وكذلك لكي أطَّلع بحريّة على محتويات مكتبته النفيسة من مخطوطات ومطبوعات. وكنت أبذل أقصى الجهد لأكون عند حسن ظن الشيخ بي.

لم تضم مكتبة العلامة فرج الله المخطوطات والمطبوعات الدينية والأدبية التي ورثها عن الشيخين أبيه وجدّه فحسب، بل كانت تشتمل على أحدث الكتب والدوريات في مختلف الموضوعات والتخصُّصات والفلسفات والإيديولوجيات كذلك، فقد كان يغذّيها بالمطبوعات الجديدة بانتظام. أذكر أنني، ذات يوم، وجدتُ فيها كتاب "رأس المال " للفيلسوف الاقتصادي الألماني كارل ماركس (1818ـ1883) الذي كانت حيازة كتبه ممنوعة في العراق آنذاك، بحجة أن الماركسية والشيوعية هما نوعاً من الكفر؛ وكان الانتماء إلى الحزب الشيوعي السري يعدّ جريمة تعرِّض صاحبها للسجن سنوات طويلة. وقد أمضى اثنان من أعمام حميد سنواتٍ في الاعتقال والسجن بهذه التهمة.  قلتُ لأخي حميد مازحاً:

ـ كتاب كارل ماركس الشيوعي في مكتبة آية الله!

فقال حميد بجدّيته المعهودة:

ـ وإذا أراد آية الله أو طلابه أن ينقدوا هذه النظرية، ألا ينبغي عليهم دراستها أولاً؟

وهكذا اطلعتُ على كثير من معالم النظرية الماركسية في الاقتصاد. وكنا في درس العلوم الاقتصادية في المدرسة الثانوية، ندرس النظرية الرأسمالية فقط، كما وردت في كتاب " ثروة الأمم" للفيلسوف الاقتصادي البريطاني آدم سميث (1723ـ1790).

ولعلَّ أحد أسباب تنوّع مكتبة العلامة فرج الله، هو أن أخاه مرتضى فرج الله يشتغل في التعليم الرسمي، وأن أخاه الأستاذ محمد حسين فرج الله يعمل في المحاماة في بغداد، بل من أبرز المحامين العراقيين في أواسط القرن العشرين، إضافة إلى تنوع تخصّصات أولاده ومحبتهم لقراءة الكتب واقتنائها. وكانوا جميعاً يودعون معظم الكتب التي يقرؤونها في مكتبة العلامة، ويرفدونها بأفضل الكتب التي تصدر سنوياً، بوصفها مكتبة الأسرة، إضافة إلى علاقات العلّامة الثقافية مع كبار العلماء خارج العراق وشيوخ الخليج الذين يبعثون إليه بهداياهم من الكتب. ويبدو لي أن هذه الأسرة العريقة دأبت في القرن الميلادي العشرين على أن يواصل الابن الأكبر من كل جيل الدراسة في الحوزة العلمية بالنجف، على حين يعمل بقية إخوته في المهن المختلفة داخل النجف وخارجها.

كنا، أنا وأخي حميد، في حوالي الخامسة عشرة من العمر. وفي تلك السنِّ كان حميد يُعدُّ من شعراء النجف البارزين، علما بأن النجف تعجُّ بالشعراء، أو كما قال الشاعر الكبير نزار قباني عنها ذات يوم: "أعرف مدينة في العراق، أهلها كلهم شعراء". وهذه المدينة هي التي أنجبت شاعر العرب الأكبر في العصر الحديث، محمد مهدي الجواهري (1899ـ1997).

كان شعر أخي حميد يمتاز بجزالة اللغة وعمق الأفكار وجدّتها، وفخامة الألفاظ وأناقتها، وجمال المعاني وعذريتها. حاولت أن أقول الشعر مثله، لكي أنال إعجابه ورضاه، فلم أفلح. ولم أعلم آنذاك أنه سليل أسرة توارثت الشعر والأدب والعلوم الدينية. فأبوه الشيخ محمد رضا وجده الشيخ طاهر عالمان شاعران، وعمه الأستاذ مرتضى فرج الله (1914ـ 1984) من كبار شعراء النجف، وله عدّة دواوين قيمة: " أشرعة الفجر" و "مرايا في الأفق" و "وراء الملامح"، و" مرفأ الظل"؛ كما أن له كتابين مخطوطين هما " النهضة الشعرية وتطورها في العراق" و " مفاهيم في الشعر". أما عمّه المحامي محمد حسين فرج الله (1918ـ 1994)، فهو شاعر كذلك له ديوان مطبوع عنوانه " عبث وأنين" وكتاب مخطوط " أبو العلاء في موكب النور". فالشعر وهمومه وأهله هو من تراث هذه الأسرة الكريمة، توارثته كما توارثت الكرم والزعامة.

كان أخي حميد يُدعى للمشاركة في الاحتفالات التي تُقام بالمناسبات الثقافية في النجف والكوفة، فيستجيب للدعوات المختلفة ويقدّم قصيدة من قصائده الجيدة في كل مناسبة.  بيدَ أن شعره لم يقتصر على المناسبات الدينية فقط، فأهمّ الأغراض التي غلبت على شعره، هي: القضية الفلسطينية، والثورة الجزائرية، والشعر القصصي. أذكر أن صديقي المجاهد الجزائري السفير الدكتور عثمان سعدي أهداني ذات يوم كتابه القيم " الثورة الجزائرية في الشعر العراقي"، الذي جمع فيه أكثر من مئة وخمسين قصيدة أبدعها شعراء عراقيون، وكان لمعظمهم قصيدة أو قصيدتان. أما أخي حميد فاختار له المؤلِّف ثلاثة قصائد لجودة شعره الذي يعكس صدق مشاعره تجاه الثورة الجزائرية وشهدائها.

كان أخي حميد يصطحبني معه إلى الاحتفالات الثقافية التي يدعى إليها في النجف، ويشجعني على المشاركة فيها بكلمة. كنتُ أتردد في إلقاء كلمة نثرية تبدو قميئة أمام تلك القصائد العملاقة. ثمَّ، وبإلحاح من أخي حميد، أخذتُ أعدّ بعض الكلمات القصيرة وأعرضها عليه، فيثني عليها، ويعدّلها بفكره ، ويحسِّنها بأسلوبه الجميل. ولما كانت المهارات، جسدية أو فكرية، تتحسَّن وتتطوَّر بالمران طبقاً لمبدأ " كلُّ عضوٍ يُستعمَل ينمو ويكبر، وكل عضو يُهمَل يضمر ويصغر"، فإن كلماتي النثرية تحسّنت تدريجياً، وصار إلقائي أفضل وأجمل؛ حتى أنني وجدتُ في نفسي الجرأة الكافية للمشاركة في المباراة الخطابية التي أقامتها ثانوية النجف لطلابها ذلك العام.

كان رئيس لجنة المباراة الخطابية أستاذنا في مادة اللغة العربية الأديب الشاعر صالح الجعفري (1908ـ 1997) صاحب " ديوان صالح الجعفري" الذي حقَّقه ونشره الناقد العراقي الكبير الدكتور علي جواد الطاهر بمساعدة أحد زملائه. والجعفري من أسرة كاشف الغطاء الشهيرة، ولكنه اتخذ اسم جدِّه جعفر لقباً له. ولشدّ فرحتي أنني فزت بالجائزة الأولى، وتسلَّمت جائزتي من يد أحد أعضاء اللجنة، الأستاذ كاظم الشمرتي المدرس في ثانوية النجف، والذي كان قد درَّسني اللغة العربية في ثانوية الديوانية سابقاً، ثمَّ عُيّن مستشاراً ثقافياً في بيروت بعد حركة 14 تموز العسكرية 1958 (ثورة 14 تموز)؛ ولكنه ترك وظيفته بعد الانقلاب العسكري في بغداد سنة 1963، فلجأ إلى المغرب، وأسَّس مدرسة حُرَّة (أهلية) في الدار البيضاء حقَّقت نجاحاً كبيراً. والتقيتُ معه في المغرب عندما قدمتُ أستاذا زائراً في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط أواخر سنة 1972.

كانت الجائزة التي نلتها في المباراة الخطابية في ثانوية النجف، عبارة عن كتاب " حديث الأربعاء" بأجزائه الثلاثة، لعميد الأدب العربي آنذاك الدكتور طه حسين. وفي اليوم نفسه، قمت بتقديم جائزتي هديةً لأخي حميد، اعترافاً بفضله الأدبي عليَّ، وشعوراً مني بأنه يليق بأجزائه المسفّرة المجلّدة برفوف مكتبة الأسرة، فمعظم كتبها مجلَّدة. وكانت مهنة تجليد الكتب شائعة في النجف، لكثرة المهتمين باقتناء الكتب وتجليدها. ولا أدري إذا كانت تلك المهنة رائجة حالياً أم أن المطابع الحديثة التي تسفّر الكتب قبل تسويقها قد قلّصت من رواج تلك المهنة.

لم أدرِ آنذاك أن أخي حميد لم يقتصر على إبداع القصائد الجميلة في ذلك العام الدراسي فحسب، بل كان أيضاً يدوِّن مذكراته اليومية بنثرٍ فنّي سلس أخّاذ. ولم أعلم بذلك حتى كتب إليّ بالبريد الإلكتروني قبل سنة تقريباً الأديب الأستاذ مسلم عقيل الشاوي يخبرني بأنه عثر على تلك المذكرات وأنه يقوم حالياً بتحقيقها وكتابة الهوامش اللازمة لها للتعريف بأسماء الأعلام التي وردت فيها. ولكثرة ما تردَّد اسمي فيها فقد قرَّر أن يتَّصل بي ويرجوني أن أكتب مقدِّمة للكتاب. وبعث إليّ بالمذكرات، فقرأتُها بتأثُّر عميق، وأدهشتني بلاغة أسلوبها المزدان بتقنيات أدبية يندر وجودها في كتابات مَن هم أكبر سناً وأعلى شهادة من فتى في الخامسة عشرة من عمره ما زال في المدرسة الثانوية. وأعادت إليّ تلك اليوميات سعادة أحداث ومناسبات فقدتْها ذاكرتي المنهكة بعد أن عفا عليها غبار السنين الطويلة، ومنها فوزي بجائزة الخطابة ذلك العام.

في نهاية تلك السنة الدراسية، قرَّر والدي أن أعود إلى ثانوية الديوانية لأمضي سنة البكالوريا بالقرب من أهلي، بيد أنه نصحني باغتنام الفرصة وتمضية العطلة الصيفية في الدارسة بالحوزة العلمية. وعندما أطلعتُ أخي حميد على نيتي، أسرع بتيسير الأمر لي، إذ اتصل بمدير مدرسة الإمام كاشف الغطاء الدينية، الذي خصص لي غرفة في تلك المدرسة أسوة ببقية طلبة العلم القاطنين فيها الوافدين من أنحاء العالم الإسلامي. وكان أخي حميد يحظى بتقدير رؤساء المؤسَّسات الثقافية بالنجف، لا لمكانة والده الروحية السامقة فحسب، بل لكونه كذلك أديبا شاعراً يدعمهم بمشاركاته اللامعة في أنشطتهم الدينية، والثقافية عموماً.

ولكي ألتحق بتلك المدرسة الدينية، كان عليَّ أن أتخلى عن الزي الأوربي الذي كنتُ أرتديه في ثانوية النجف الرسمية. فطلاب مدرسة الإمام كاشف الغطاء يرتدون زي الطلبة في الحوزات العلمية الدينية المكوَّن من الجبّة والعمامة. بيدَ أني شعرتُ بأن درجتي العلمية أدنى بكثير ممن يرتدون العمامة، وسني أصغر منهم؛ ولهذا نصحني أخي حميد أن أعتمر الكوفية والعقال بدلاً من العمامة. وأذكر أن أخاه الأكبر، الشيخ جعفر، كان يعتمر الكوفية والعقال وهو من طلبة العلم في الحوزة الحيدرية. ومع ذلك فقد كنتُ أحسُّ بأنني، وأنا اعتمر الكوفية والعقال بين طلبة العلم المتوَّجة رؤوسهم بالعمائم البيضاء والسوداء، مثل فلاحٍ قرويٍّ عراقي ظلَّ طريقه في أزقّة النجف.

كان طلاب المدارس الدينية يختارون الموضوعات التي يريدون تعلُّمها، وينضمّون إلى حلقات العلم المنبثة في المساجد المختلفة في النجف بعد استئذان شيوخ تلك الحلقات. وقد وقع اختياري على ثلاثة موضوعات: النحو، والمنطق، وعلم الكلام. وتولى أخي حميد اختيار الشيخ الذي أنضمُّ إلى حلقاته، وهو من أصدقاء آل فرج الله، واسمه الشيخ عبد الهادي الفضلي (1935ـ2013)، وأصله من المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية. كان الشيخ الفضلي شاباً دمث الأخلاق، تتوقَّد عيناه ذكاء وطموحاً علمياً، ولم يعُد إلى بلاده إلا بعد أن حاز درجة الاجتهاد في الحوزة العلمية في النجف، والماجستير من كلية الآداب بجامعة بغداد، فقد كان يجمع بين الدارسة الإسلامية التقليدية والدراسة الرسمية الحديثة. وعند عودته إلى السعودية عُيّنَ مدرِّساً في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، التي ابتعثته لمواصلة دراسته العليا في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، فنال منها الدكتوراه بامتياز سنة 1976، وعاد إلى جامعته بجدّة. وانتُدِب للتدريس مدّةً في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن. وأمضى أواخر سنوات حياته مع أهله في مدينة الدمام.

في حلقة النحو، كنا ندرس منظومةً في النحو عنوانها " الآجُرُّمية" التي مطلعها:

كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقِمْ     واسمُ وفعلٌ ثمَّ حرفٌ، الكَلِمْ

ولم أعلم آنذاك أنَّ مؤلّف تلك المنظومة هو فقيه نحوي مغربي أمازيغي ( بربري) اسمه محمد بن آجُرُّوم (672ـ723 هـ) من أهالي فاس، حتى استقر بي المقام في المغرب العزيز. والعنوان الكامل لهذه المنظومة هو: " المقدّمة الآجُرُّمية في مبادئ علم العربية" وهي تلخيص شعري لكتاب أبي القاسم الزجاجي (ت 340) البغدادي داراً ونشأة النهاوندي أصلاً ومولدا، الموسوم بـ " الجُمل في النحو"، الذي ظلَّ النحويون يتصدّون لشرحه أكثر من ثلاثة قرون. وقد ألّف ابن آجُرُّم منظومته في مكَّة المكرَّمة عندما وصلها حاجاً وأقام فيها مجاوراً.

أما في علم الكلام فكنا ندرس " الباب الحادي عشر" المخصَّص لعلم الكلام من أبوب كتاب " منهاج الصلاح في مختصر المصباح" للعلامة الحسين بن المطهر الأسدي المعروف باسم العلامة الحلي (648ـ726هـ). وقد أخذ علم الكلام في عصر العلامة الحلي يقترب من الفلسفة ويتماهى فيها.

وأما في علم المنطق، فكان الشيخ عبد الهادي الفضلي يلقي علينا دروساً يستخلصها من كتاب " المنطق" للعلامة محمد رضا المظفر (1904ـ1964). وكانت تلك الدروس نواة لكتاب " خلاصة المنطق" للشيخ الفضلي، الذي يُعدّ من أشهر كتب المنطق في العصر الحديث، إن لم يكُن أفضلها.

لم تكن في النجف آنذاك وسائل الترفيه كالسينما أو التلفزيون، وكانت الوسيلة الرئيسة لذلك تتمثل في التقاء الأصدقاء في منزل أحدهم في أمسية للمسامرة. وكان أخي حميد يصطحبني معه بين الفينة والأخرى إلى إحدى هذه المسامرات التي تجري فيها مطاردات شعرية. وإحدى صور المطاردة الشعرية هي أن ينشد أحد المتسامرين بيتاً من الشعر، فيسارع آخر بالإتيان ببيت شعر يبدأ بقافية البيت السابق. فمثلاً يقول الأول:

الحربُ أوَّلُ ما تكونُ فتيةً ... تسعى بزينتها لكلِّ جَهولِ

فيقول آخر: اللام، ويأتي ببيت شعر أوله لام:

لا يبلغُ الأعداءُ من جاهلٍ ... ما يبلغُ الجاهلُ من نفسِهِ

فيقول ثالثٌ: الهاء، وينشد بيتاً يبدأ بحرف الهاء:

هل تعلمينَ وراءَ الحبِّ منزلةً ... تُدني إليكِ، فإنَّ الحبَّ أقصاني؟!

والفائز في هذه المطاردة هو من يُسهم بأكبر عدد من الأبيات أو من يورد بيتاً يعجز الآخرون عن الإتيان ببيت يبتدئ بقافيته. ولعل لهذه المطاردة أنواعاً وصوراً وقواعد متعدّدة مختلفة.

في نهاية تلك العطلة الصيفية عدتُ إلى مدينة الديوانية والتحقتُ بالسنة الخامسة في ثانويتها، وهي السنة الأخيرة التي يجري في نهايتها امتحان البكالوريا. وكانت نتيجتي فيه الأول في اللواء (المحافظة) والثالث في العراق لسنة 1956ـ1957. وقد أسهمتْ في هذه النتيجة المشرِّفة عدّةُ عوامل أهمّها في نظري تلك السنة التي أمضيتها في النجف وعلى وجه الخصوص صداقتي مع حميد فرج الله والتحاقي بحلقات العلم في الحوزة الحيدرية. وقد تعلَّمتُ من أسرة العلامة كثيراً من المعارف والأخلاق، مثل محبة الآخرين واحترامهم وإكرامهم وعونهم لأنهم " إخوة لنا في الدين أو نظير لنا في الخَلق"، وطلب العلم لوجه الله ولذة تحصيل المعرفة، ومساعدة الآخرين بها. لقد كان لفضاء النجف الحافل بالعلم والفكر والأدب أثرٌ واضح في توسيع آفاقي الثقافية وتفوُّقي على زملاء لي لم تُتَح لهم فرصة مماثلة تشحذ هممهم وتفتح أمامهم آفاقاً فكرية متنوعة.

بعد الدراسة الثانوية، التحقتُ بدار المعلمين العالية في بغداد، ذات الأمجاد الشعرية والأدبية، فهي مهد حركة الشعر الحرّ بأعلامها الرواد: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وغيرهم. وتمنيتُ لو أن أخي حميد كان معي في تلك الكلية. ولكن حميد اختار الانضمام إلى كلية الآداب في بغداد، ذات المستوى العلمي الراقي، التي يدرِّس فيها أعلام العراق في اللغة والأدب، كالدكاترة مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، وعلي جواد الطاهر وأضرابهم.

في بغداد، كنتُ أسكن في القسم الداخلي التابع لدار المعلمين العالية، وأتناول وجبات الطعام اليومية في مطعمها. فقد كانت هذه الدار تستقبل طلابها من مختلف أنحاء العراق، لإعدادهم مدرِّسين في المدارس الثانوية. أما كلية الآداب فليس لها قسم داخلي ولا يؤمُّها إلا الميسورون من الطلبة أو ممن أهاليهم في بغداد. ولهذا كان أخي حميد يسكن مع شقيقه علي، الذي يقطن في دار قريبة من مكان عمله. وظل أخي حميد يصطحبني إلى دار أخيه في عطلة نهاية الأسبوع لتناول طعام العشاء الذي كان له طعم لا أتذوقه في وجبات القسم الداخلي.

وللمحبّة الراسخة بيننا، كنتُ أشتاق إلى رؤية أخي حميد قبل عطلة نهاية الأسبوع، فأذهب للقائه في كلية الآداب بدار المعظم. وذات يوم ولكي يطول لقاؤنا، اقترح أخي حميد أن أحضر الدرس معه، وتولّى هو استئذان الأستاذ. وهكذا صرتُ أحضر مُستمعاً في عدد من مواد كلية الآداب. ولم أدرِ آنذاك أن الاستماع هو جزء من النظام الجامعي في الدول الغربية، حتى رحلتُ إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمواصلة دراستي العالية. فألفيتُ أن الطالب الذي أدى الأجور الدراسية لعدد من الدروس، في وسعه أن يحضر دروساً أخرى بصفة مستمع ولا يشارك في امتحاناتها ولا يحصل على النقاط عنها. ويسمى هذا النظام في الجامعات الأمريكية بالاستماع (auditing). ولم يدُر في خلدنا، أنا وحميد، آنذاك أننا ابتكرنا نظام الاستماع في جامعة بغداد. ولا يخفى أن الحوزات العلمية الإسلامية، تتيح حرية اختيار الطالب للدروس التي يريد، إضافة ً إلى مجّانية العلم.

بعد تخرّجنا في جامعة بغداد، عمل أخي حميد مدرساً في النجف، وأنا مدرساً في الحلة، وكنّا نتزاور بانتظام. وسرعان ما اختير أخي حميد مديراً لمدرسة متوسطة ثم مديراً لمدرسة ثانوية في النجف، أما أنا فحصلتُ بعد مدة قصيرة على منحة للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت. واغتنمت وجودي في لبنان للتسجيل في كلية الحقوق بجامعة بيروت العربية. وقد فعل أخي حميد الشيء نفسه عندما درس في كلية الحقوق وحصل على شهادتها سنة 1976. ولعل رغبتنا في المعرفة وانجذابها لتنوّعها يعود الفضل فيها إلى مكتبة العلّامة محمد رضا فرج الله وحريتنا في الاطلاع على كتبها. لقد كانت المعرفة في نظرنا مثل شجرة معمِّرة ذات أغصان وفروع متشابكة متداخلة يزداد الفرد متعةً عندما يتسلّقها متنقلاً من غصنٍ إلى آخر مثل طائر حرّ.

في لبنان، قُدّر لي أن ألتقي بفتاة بغدادية، بتول عبد  المجيد إسماعيل البستاني، وفَّقني الله بالزواج منها بعد انتهائي من الدراسة، وقاسمتني غربتي، وأنجبت ابننا حيدر. بعد مراسيم الزواج لدى أهلها في بغداد قمنا بزيارة عددٍ محدود من أهلي، فتشرّفنا بزيارة أسرة أخي حميد. واستقبلت والدته وأخواته زوجتي في جناحهن من الدار، واحتفين وفرحن بها كما لو كانت ابنتهم، وخلعن عليها هدايا عديدة، منها قلادة ذهبية جميلة، فبقيت زوجتي في غاية التأثر، فأخبرتها بأن الجود يجري في دماء هذه الأسرة الكريمة، وتلك هي عادتهم حتى مع الضيوف الأغراب، وينطبق عليهم قول الشاعر:

ونكرم ضيفنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا

ظلّت زوجتي أم حيدر تعتزُّ بذكرى تلك الزيارة السعيدة لأسرة آل فرج الله والعواطف النبيلة والمحبة الأصيلة التي غمرونا بها..

لا أريد أن أتحدَّث عن الحزن الذي ألمَّ بي عندما بلغني النبأ المفجع بالرحيل المبكر لأخي حميد، وأنا في الغربة، فزادني غربة على غربة. وكل غريب يحتفظ، في زاوية من زوايا روحه، ببصيصِ أملٍ في العودة يوماً إلى وطنه والالتقاء بالأصحاب والأحباب. ولكن زوبعة رحيل أخي حميد أطفأت ذلك البصيص وأخمدته بحيث تسربلت حنايا الروح بدامس من الظلمة والسواد.

ومما خفف من وقع غياب أخي حميد وأنين روحي، ما لمسته في مراسلات نجله وسام فرج الله، بعد أن تعرَّفت عليه بالمراسلة بمساعدة الأديب مسلم عقيل الشاوي، من أدب جم، ولطف شفيف، ومحبة سامية. وقلت في نفسي: لا عجب فإن هذا الشبل من ذاك الأسد، وهذا الغصن من تلك الدوحة المثمرة المعطاء.

 

علي القاسمي

مدينة مراكش 1441هـ/2020م

 

في المثقف اليوم