شهادات ومذكرات

عبد السلام فاروق: رسائل من مصر.. زلزال يهز عروش "التحديث" الزائف

هل يعقل أن تصدق الحقيقة فجأة، فتبثها امرأة إنجليزية تحتضر في صحراء الصعيد؟ هل يعقل أن تكون شهادة غريبة عجوز مريضة أصدق من زعيق مؤرخي القصور وتهليل مثقفي الاستنارة المزعومة؟

هذه "رسائل من مصر" لليدي دوف جوردون - التي وثقت سبعَ سنوات (١٨٦٢–١٨٦٩) بين أحضان الفلاحين والعبيد - ليست أدب رحلات فحسب، بل هي قنبلة أخلاقية تفجر كل الأوهام التي نسجها الخديوي إسماعيل وأعوانه عن "عصر الذهب". إنها سِفر مر يكشف كيف تتحول الحضارة إلى آلة سحق للبشر تحت شعارات التحديث!

سمعنا كثيرًا عن "مصر الحديثة" التي بناها الخديوي: قناة السويس، والأوبرا، وشوارع القاهرة الفارهة. لكن جوردون، من كوخها المتواضع في الأقصر، ترى ما لم تره عيون المؤرخين: ترى جثث الفلاحين تلقى في ترع السخرة، وأطفال الصعيد يُباعون في أسواق النخاسة بعد ثورة دموية، وحميرَ الفقراء تجبى ضريبة لتمويل حفلات الأوبرا!

أليس من العار أن نكتشف اليوم، بعد قرن ونصف، أن كاتبتنا الإنجليزية رأت في المصريين إخوة يستحقون العدل، بينما رآهم حكامُهم أرقامًا في سجلات الجباية؟ أليس من المأساة أن تكشف لنا رسائلُها أن التسامحَ الديني الذي ننشده اليوم كأنه طوبى، كان واقعًا حيًا في قرى الصعيد قبل أن تفسده سياسات "المستنيرين"؟

إنني أقولها صريحة:

هذا الكتاب يحاكمنا قبل أن يحاكم التاريخ! يحاكم صمتَنا عن جرائم الماضي التي تكرر نفسها اليوم بثياب جديدة. يحاكِم انبهارَنا بأوهام التقدم المبني على عظام المقهورين. يحاكم جهلنا بقيم شعبنا التي احتضنت غريبةً تحتضر، فصارت "نورًا على نور" في قلوب البسطاء.

فلنقرأ هذه الرسائل إذن، لا كوثائق تاريخية فحسب، بل كمرآة تكشف عوراتِ الحاضر، وكصرخة توقظ ضمائرَنا النائمةَ على تراث من الظلم نرفض الاعترافَ به!

كيف لنا أن نصلح حاضرًا، إذا كنا نخجل من حقيقة ماضينا؟ وكيف نسترد إنسانيتَنا، إذا ظللنا نقدس سيفَ المستبد لمجرد أنه صقل حكمَه بشعارات براقة؟

ما أكثر ما كتب الغرب عن الشرق، وما أندر أن ينصف كاتب غربي الشرق! فإذا صادفت عملًا يخرجك من سجن الاستشراق وقيود التمركز الحضاري، فاعلم أنك أمام ظاهرة تستحق التأمل. "رسائل من مصر" لليدي دوف جوردون (١٨٦٢–١٨٦٩) - التي نقلها إلى العربية الروائي إبراهيم عبد المجيد - هي شهادة إنسانيةٌ نادرة تكشف ما أخفاه المؤرخون الرسميون عن معاناة الشعب المصري تحت حكم الخديوي إسماعيل، "المستنير" في عيون أوروبا، "المستبد" في عيون المصريين.

جاءت هذه الأديبة الإنجليزية، صاحبة الصالون الأدبي في لندن، إلى مصر منهكة بمرض السل، تبحث عن شفاء الجسد، فوجدت شفاء الروح في كرم المصريين وبساطتهم. لم تكن كسائر المستشرقين تبحث عن الغرائب لتبهر قراءها، بل أقامت في "بيت فرنسا" بالأقصر، وتعلمت العربية، واختلطت بالفلاحين والخدم والعبيد، فصارت جزءًا من نسيجهم الاجتماعي. لقد دفن جسدها في تراب مصر عام ١٨٦٩، لكنها دفنت قلبَها في رسائل كتبتها بحب قبل الرحيل.

صوت البسطاء

هذه الرسائل - التي بلغت ١٣١ رسالة - تنتزع التاريخ من بروج المؤرخين الرسميين لتسلمه للشعب: الفلاح المقهور: تصف كيف جرد الفلاح من قوت أطفاله لدفع ضرائب باهظة فرضها الخديوي لتمويل مشاريعه الفارهة. حتى الحمير لم تسلم من الضرائب!

- السخرة في قناة السويس: بينما تزين الكتب الأوروبية "بطولات" ديليسبس، تكشف جوردون أن آلاف المصريين مسخوا عبيدًا في حفر القناة، يسقطون موتى كالذباب.

- ثورة أحمد الطيب: تروي كيف قمعت ثورة الصعيد بوحشية: بُقِرَت بطون الحوامل، وبيعت الفتيات في أسواق النخاسة، ونفي الرجال إلى "فازوغلي" بالسودان. كل هذا تحت عين الخديوي "المتحضر"!

"إن المصريين طلبوا مني أن أكون صوتهم في أوروبا.. لقد صرخوا: ليحكمنا الإنجليز ويخلصونا من ظلم الأتراك!"

أبكاني- كما أبكى المترجم إبراهيم عبد المجيد- وصفها للعلاقة بين الأقباط والمسلمين في الصعيد: الأعياد المشتركة حيث كان المسلمون يشاركون إخوانهم الأقباط أعيادهم، والعكس صحيح، في مشهد يذكرنا بـ"ألفة" الجبرتي. والموالد التي كانت ملتقى الجميع ففي مولد "سيدي أبو الحجاج" بالأقصر و"سيدي عبد الرحيم القنائي" بقنا، كانت الأرواح تتصافح فوق الفوارق. النقد الجريء: ترفض جوردون مقولةَ "المسلمون لا يحبون الأقباط" وتقول: "هذا لم أشهده في حياتي بينهم".

حكيمة الصعيد وأم المهمشين

لقد تجاوزت دور الرحالة إلى دور المنقذ: طبيبة بلا شهادة: كانت تعالج الفقراء بالأعشاب من أمراض الدوسنتاريا والربو، بعد أن فقدوا الثقة في "أطباء الحكومة".

- ملاذ العبيد: اشترت عبيدًا يتوسلونها للخلاص من ظلم أسيادهم، فأعتقتهم وعلمتهم، وأحبوها حتى دعوا لها في الصلوات.

- هدايا الفلاحين: لم يأتها الفلاحون فارغي الأيدي، بل قدموا لها زبدَهم وخضارَهم وفطيرَهم، كرمز للتبادل الإنساني لا للاستعلاء الاستعماري.

المستشرقة التي فضحت الاستشراق!

ناقشت جوردون بعمق التناقض بين حقيقة مصر وصورتها في أدب الرحالة: هجوم على المستشرقين فهي ترى أنهم سطحوا الشرق وتعصبوا ضد المصريين، وتستثني فقط إدوارد وليم لين (صاحب "عادات المصريين المحدثين"). كما قاموا بالسرقة باسم علم الآثار إذ تكشف كيف نهب الأثريون الأوروبيون آثار مصر، مثل بيلزوني ومارييت باشا، تحت سمع الحكومة وبصرها. كما أنها ترفض الصورة الاستشراقية عن المرأة المصرية "الحريم"، وتصف حضورها القوي في الأفراح ورقصها كتعبير عن حريتها الدفينة.

الرسائل المحذوفة!

يكشف المترجم الروائي إبراهيم عبد المجيد أن ابنتها جانيت روس (مراسلة التايمز) حذفت في الطبعة الأولى كل ما يشي بـ"خصوصية أسرية" أو انتقاد لاذع للخديوي. لكن الحفيد نشرها بعد ٦٠ عامًا، فظهرت: أن الخديوي ليس "مستنيرًا": تصف سياساته بأنها "أقرب إلى الجنون"، وتتنبأ بسقوطه بسبب الديون والفساد. نداء للضمير الأوروبي: "لو رأى الإنجليز كيف يجلد الفلاحون لدفع الضرائب، لامتلأت قلوبهم غضبًا!". إدانة للعنف الرسمي تسجل أسماء القرى التي دُمِّرت وأعداد الضحايا الذين صاروا "أرقامًا منسية".

لماذا نقرأ "رسائل من مصر" اليوم؟

لأنها تذكرنا بأن "المستنيرين" قد يكونون قتلة شعوب، وأن البسطاء هم حماة الإنسانية. ولأنها توقظ فينا سؤالًا مريرًا: لماذا صار التسامح الديني الذي وصفته جوردون في القرن التاسع عشر أحاديث تراث في القرن الحادي والعشرين؟

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم