نصوص أدبية

إنسان بلا أزرار

ahmad hayhatاستيقظ ككل يوم من نومه الثقيل على وقع الركل والرفس العشوائي الذي لا يراعي الأماكن الصلبة الغليظة من الأماكن الحساسة الخطيرة من قبل صاحب المخبزة التقليدية ذات الستار البلاستيكي الإشهاري الذي يحجب خيوط الضوء القوية المزعجة ليلا وأشعة الشمس النافذة نهارا، ومن هول المفاجأة وألم الضرب، اضطرب قلبه وعلت دقاته حتى صارت مسموعة، وأسرع نبضه ولهثت أنفاسه وتجلجل صدره وارتعشت يداه، وانتفضت مختلف أجزاء جسمه.

فكر في الصراخ وإمطار المعتدي الخسيس بوابل من اللعن والسباب والشتائم، فشدّ أوتار حنجرته وأعاد ترتيب فكيه وتنظيم شدقيه، وزمّ شفتيه، وعزم على إطلاق صوت فخم ضخم، وهو مكفهر الوجه متجهم النظرة، شامخا بأنفه إلى السماء متجاوزا بنظره طباق السموات السبع، ولكن منعته شدة الحاجة إلى مستقر يحميه من قساوة البرد وتهاطل الأمطار وقوة الريح، خصوصا وأنه قد اعتاد اللجوء إلى هذا المكان من أجل الراحة واستعادة الأنفاس من الحركة والمشي والتجول من بزوغ الفجر إلى ما بعد العشاء الآخرة.

وقبل أن ينطلق في رحلته اليومية المرتجلة التائهة عمد إلى تغيير ملابسه الليلية الثقيلة بملابس النهار الخفيفة، فنزع من رأسه القبعة الرمادية المنزوعة الأزرار الخلفية، والتي لا يُعلم إن كان ذلك لونها الحقيقي أم أنه لون الأوساخ والأدران المتراكمة عليها، ثم أزال العمامة الطويلة حادة الزرقة التي تمنع الطاقيتين الصوفيتين من السقوط من على رأسه بسبب حركات النوم الكثيرة غير المتوقعة، والتي يضاعفها اشتداد الزمهرير في ليالي الشتاء الطويلة، ثم أزال السترة الصارخة الحمرة غير ذات اليدين، ونزع بعدها المعطف الأسود القاتم ذي الحزام المحيط بالخصر، وأتبعه نزع الجلباب الصوفي البني المُحبّب، قبل أن يتخلص من المنصورية الفاقعة الصفرة ذات الياقة الحريرية التي ضاع منها معظم الشريط الحريري.

عدّل بعد ذلك من وضعية النعلين الجلديين المليئين بالفتحات الأصلية والطارئة من كثرة الاستعمال وطول مدة اللبس والتي يظهر منها الخف الجلدي الأسود في القدم اليمنى، وثلاثٌ جوارب بألوان مختلفة في القدم اليسرى والتي لم تفلح في تغطية القدم بأكمله، إذ يبدو منها جزء متورم متصلب أضحى أقرب إلى الحافر منه إلى القدم، ثم جمع ضفائر شعره مع تجمعات عشوائية أخرى لشعيرات يختلط فيها الشعر الحقيقي الأشعث ببعض القش اليابس، وربطها جميعها إلى بعضها بقطعة قماش اقتطعها لتوه من أسفل المنصورية التي كان يرتديها، وَلَبَّدَ شعره على قفاه، أما مقدمه رأسه ووسطه فقد تخلصا مما كان فيهما من شعر منذ زمن بعيد، كما أعاد ترتيب لحيته الطويلة التي لا يفصل بينها وبين شاربه برزخ واضح، أو يميز بينهما طول الشعر أو طبيعته، وخلّلها بأصابعه حتى ظهر أنفه النحيف وجزء كبير من فمه الضامر.

حمل متاعه الخفيف في يد وفي الأخرى حمل عصاه التي يتوكأ عليها ويُنَقّب بها في حاويات القمامة، ويهُشُّ بها على الكلاب الضالة والقطط المتشردة التي تزاحمه وتنازعه في غنائمه التي يحصّلها من فتوحاته وغزواته التي لا تنتهي على حاويات القمامة التي تتكاثر بتزايد الأحياء العصرية والتجمعات العشوائية القصديرية.

وقبل أن يخطو أولى خطواته بدأ يفكر ويقدّر ويخطّط ليومه الجديد، فكان أول ما وقر في ذهنه هو تجمع حاويات القمامة الخضراء بالقرب من المقبرة القديمة مأواه ومنزله القديم، غير أن تفكيره الحكيم قاده إلى أن يجعلها آخر محطة في رحلة تفقد الحاويات قبل أَخْذِ قسط من الراحة عند منتصف النهار، واستقر رأيه على افتتاح الرحلة بحاويات القمامة التي تقع قرب التقاء أكبر شارعين في المدينة الاسمنتية التي لا قلب لها، حيث ينتشر أكبر عدد من المقاهي الشعبية والعصرية ومقاهي الشيشة والقمار ومسابقات الحظ، وذلك من أجل جمع أكبر قدر من أعقاب السجائر لتسوية المزاج وتصفية الذهن وتنشيط الرئتين.

ثم فكر أن ينطلق بعد ذلك إلى تجمع حاويات القمامة قرب المحطة الطرقية أمام الدكاكين المتخصصة في تقديم وجبات الفطور صباحا ووجبات اللمجة بعد العصر، وذلك حتى يملأ الجزء الأكبر من معدته ويسكت عصافير بطنه، مما يعينه على تحمل القهر والنهر الذي يبدر من بعض الزبائن المنشغلين بالتهام وجبات الفطور عندما يلجأ إليهم، وحتى لا تدفعه لسعات الجوع إلى سرقة رغيف أو جزء منه فيتعرض لشوط جديد من الركل والرفس الذي لا يدرأه عنه أحد حتى رجال الأمن ببذلاتهم الرسمية الذين يتناولون فطورهم البسيط ككل يوم في تلك الدكاكين.

كما استقر في خلده أن يلجأ بعد الظهر إلى حاويات القمامة القريبة من المطاعم المنتشرة في مركز المدينة ليأكل منها ما لذ وطاب من بقايا وجبات الغذاء المختلفة، وقد يكون محظوظا فيعثر على وجبة أو وجبتين كاملتين تركهما حبيبان تغاضبا لسبب مهم أو تافه، أو غني اضطر إلى طلب وجبة غذاء كاملة دون أن يضطره الجوع إلى ذلك، ولكن حثه على ذلك تشديد الطبيب على ضرورة الاهتمام بوجبات اليوم كاملة.

وقد استمر في التفكير والتقدير وتقليب النظر والمراجعة إلى أن غلبه النوم من جديد، فاستسلم له وترك التخطيط الاستراتيجي إلى الاستيقاظ الموالي.

 

أحمد هيهات

 

 

في نصوص اليوم