نصوص أدبية

في مركز الإبعاد..!

صالح البياتيفي تلك الليلة، لم تغمض عينا هيلا وأمها حليمة، وعيون النسوة المحتجزات للإبعاد، وهن يحتضن أطفالهن النائمين، وفي قاعة الرجال، كان الأباء والأبناء والأخوة الشبان،  يمضون ليلتهم الأخيرة بتساؤلات لا جواب لها، عما ينتظرهم من مصير مجهول في إيران..

قلت لنفسي، أنا خجل، من عودي للبيت بدون المرأتين، كيف ستقضيان ليلتهما الأولى، وتساءلت كيف سيبدأ هؤلاء المسفرون حياة جديدة من الصفر، وهم لا يتكلمون اللغة الفارسية، ومن سيراعي الشيوخ والعجزة ذوي الأمراض المزمنة او المستعصية، وهم والأطفال الحلقة الأضعف، عند اجتياز نقاط العبور، مشيا على الأقدام، سيعطبهم المطر والبرد قبل ان يصلوا للحدود.

عندما وقفت انظر من خلال النافذة الصغيرة في اعلى باب قاعة الرجال، سمعت جدلا إحتدم بين الشباب داخل القاعة ..

وعندما رجعت للبيت نادما على مجيئي،  تذكرت موضوع جدالهم، كان الشبان المراهقين متحمسين كعادتهم، اعلنوا أنهم حالما يصلوا الى إيران سيشكلون تنظيما مسلحا، على غرار حركة الأنصار الشيوعية في شمال العراق، حرب عصابات، قلت بنفسي أنهم يرسمون خططا خيالية، لعودة بطولية للوطن، سوف لن تنفذ على ارض الواقع، كنت واقفا انتظر ماذا سيكون مصير مقبل، فسمعت إثنين من الشبان المحتجزين، تعالت أصواتهما، أحدهما كان يقول سأقاتل بجانب الإيرانيين إذا حدثت الحرب، فرد عليه الآخر غاضباً، ويبدو أنه كان شيوعياً: أتخون وطنك! أجابه: والأنصار الذين يقاتلون الحكومة في شمال العراق، اليسوا خونة !، قال: كلا، هم يحاربون النظام على أرض الوطن، وقضيتهم تختلف، يريدون إسقاط النظام من الداخل، وليس بأيدي قوات أجنبية، هذا هو الفرق بين الأثنين، من يصطف مع الأجنبي في الحرب، ضد وطنه فهو خائن، ولما تعالت أصوتهما وأصوات الآخرين، تدخل شرطي وشتمهم وهددهم بالضرب، بينما خيم اليأس والقنوط على الأثرياء الذين فقدوا كل شيء، ومن العجيب أن المحنة جمعت قلوب الأغنياء والفقراء، واختفىت مشاعرالحسد والاحتقار، الذي كان فيما بينهم من قبل، كأن الإبعاد غسل تلك المشاعر السلبية من النفوس، ولما أخرجوا مقبل من مخفر خيالة الدبيسات وزجوه في سيارة الشرطة، التي انطلقت به لجهة مجهولة، عدت الى البيت، ألعن في نفسي الرئيس وعيد ميلاده الثالث والأربعين، لم أنم تلك الليلة، ولم تنم أمي أيضا.

تخيلت  تلك اللحظة التي هوت كف سليم الخماش مدوية على وجه الأستاذ مقبل، أن الرئيس كان لحظتها يقطع الكعكة الأسطورية، محتفلاً بعيد ميلاده.

تساءلت مع نفسي.. هل كان ما حدث الليلة حقيقة لم يصدقها عقلي، هل قال مقبل ما سمعته بأذناي، ام انه محض أوهام تخيلها عقلي المشوش، وإذا لم يقل، فما الذي دفع المدير واشعل غضبه فصفع مقبل، بدأت اشك بقواي العقلية

 أخيرا توصلت الى استنتاج مفاده:

 أن إصرار مقبل على عدم الامتثال لأمر المدير، ربما كان السبب في تأزم الموقف، بينما أنتج عقلي تفاصيل كل ذاك المشهد العنيف، خفت على نفسي، وارتبت من أني قد امر بحالة نفسية سيئة، وفكرت باستشارة طبيب نفساني.. ولكن كنت لا انفك اتساءل: لماذا إذن، استشاط المدير غضبا؟

 قلت مع نفسي، سأراه غدا، سيتضح كل شئ، اتوسط لإطلاق سراح مقبل، فالخماش مدين لي بالكثير، وعليه ان يرد جزء بسيط  مما عليه، فهو منذ أن حلّ في مدينتا مبعدا، وكان آنذاك مجرد موظف بسيط في دائرة النفوس، لكن سرعان ما تغيرت الأمور، بعد مجيء الرئيس الجديد، فبين ليلة وضحاها صار سليم الخماش مديرا للأمن، يتباهى بالقرابة التي بينه وبين الرئيس.

 قمت بزيارته، وسألته إن كان مقبل قال أو فعل شيئاً يستحق عليه العقاب، نفى ذلك، وقال وهل يجرأ! فترجيته ان يطلق سراحه، فقال سنبقيه عندنا بضعة ايام ليتأدب، ويتعلم درسا، ان يطيع الأوامر، ثم نعيده لبيته وعمله.

بعد ظننت نجاح وساطتي، ذهبت مع أمي الى الدهلة لأُبشرها، وبنفس الوقت أخذتها بسيارتي لزيارة هيلا وأمها، وأحضرت لهما بعض الطعام، وما تحتاجه المرأتين خلال مدة إحتجازهما غير المعروفة، على أن نأتي كل يوم  زيارة بالطعام لهما، لكننا فوجئنا عند وصولنا، بوجود حافلتين تقفان أمام المخفر، تستعدان للمغادرة، كان شرطياً يقف عند باب الصعود، يقرأ في ورقة بيده، اسماء المسفرين لذلك اليوم، وكانت، هيلا تنظر من نافذة الحافلة الى الشارع، الذي بدا خاليا، ثمة رجل عجوز يبيع الشاي وطعام الإفطار أمام بوابة المخفر، وكلب يقعي غير بعيد، ينتظر من يرمي له شيئا يأكله، وعلى مسافة قريبة، كانت محطة الدبيسات، حيث توقفت سيارة تتزود بالوقود، لرحلتها الى بغداد.

رأينا الأم تصعد الحافلة وبيدها صينية فيها بيض مسلوق وصمونتان وإستكانان من الشاي يتصاعد منهما البخار، وعندما رأتنا هيلا أشارت لأمها، فتركت الأم الطعام على المقعد، وهمتا بالنزول لاستقبالنا، حاول الشرطي منعهما، فتدخلت، فسمح لهما، جلسنا على الرصيف، وأحضر الشرطي الصينية. قالت السيدة حليمة أم هيلا:

"لم تأكل ابنتي شيئا منذ ليلة البارحة، وبعد قليل سيرموننا وراء الحدود، والله أعلم متى ستأكل...!"

وقالت أمي:

" كلي ابنتي، على الأقل من أجل الطفل الذي في بطنك "

راحت تأكل ونظراتها شاردة، تشيح بوجهها للجهة الأخرى من الطريق، كلما أقترب أحد من المكان، كان الأحراج باديا على وجهها..

عبرت عن قلقها.. قالت:

"ماذا لو رأتني إحدى تلميذاتي، وبعضهن من هذه المنطقة...!"

لذنا بصمتنا القاهر.

ارتشفت هيلا رشفة صغيرة من قدح الشاي، وقضمت قطعة صغيرة من الصمونة المحشوة بالبيض، ونظرت بعيدا لمحطة الوقود، سألتها أمها

" كيف سنتفاهم معهم؟!"

"مع من ماما؟"

"العجم، الإيرانيين، هل هم يتكلمون لغتنا؟"

"لا ماما.. هم يتكلمون اللغة الفارسية.."

"وكيف سنتفاهم معهم؟"

" ماما.. ليس مهما أن نتفاهم بلغتهم، اللغة ليست وحدها الوسيلة الوحيدة للتفاهم، والكلمات بدون حب نابع من القلب تتحول الى سياط تلسع دون رحمة.."

أرتفع عويل النسوة المبعدات، مختلطاً بصراخ الأطفال، عندما بدأت الحافلتان تستعدان للحركة، ناحت الدهلة، كأنها حمامة جريحة، وبكت أمي، كما لم تبك من قبل، كان حزنها على ما اصاب صديقتها الدهلة من قهر وحيف، قد أثر على صحتها بشكل خطير.

ساءت صحة أمي بسرعة، وظهرت حبيبات صغيرة حول الثدي، الذي اُزيل منه الورم، فاتصلت هاتفياً بالطبيب الجراح، نصحني ألا أتأخر، وإنه يريد أن يراها في أقرب وقت، فمددت إجازتي قبل أن تنتهي، وتهيأت للسفر، وقد أبدى الكيال رغبته بالسفر معنا لحضور اجتماع تجار المحافظات، الذي سيعقد بعد يومين، في غرفة تجارة بغداد.

في الليلة التي سبقت سفرنا ثانية الى بغداد، حكيت لأمي عن سيناء، وكانت أمي تعرف المرحومة امها، لم أذكر لها رفضي للعرض الذي تقدم به الكيال لزواجي منها، أمرتني أمي أن أتصل به حالا، واطلب منه أن يتصل بالحاج سبتي الزبون، ويخبره أننا نسافر غدا، ويقنعه أن يأتي معنا ومعه ابنته الست سيناء، ويبقوا معنا، حتى تنجلي الأزمة، كي لا يحدث لإبنته الوحيدة ما حدث للست هيلا.

 لم أعص أمرها، عندما ذكرتني بوعد قطعته على نفسي، بعد أن غيرت اسمي من إجباري الى نوح، أن أكون جديرا بالاسم الجديد الذي أحمله، اتصلت بالكيال،  ولحسن الحظ كان صاحيا، لم يأو لفراشه بعد، وقد تم كل شيء على ما يرام، وفي تلك الليلة نمت مرتاحاً مطمئناً، لأن الأب وابنته سوف لن يعودا لمدينة العمارة، ويتعرضا للتهجير القسري الذي بدأت حملته في الربيع.

لم أفكر بما سيحصل جراء موافقتي، قلت لنفسي، طالما أن حياتنا سارت بهذه الدرجة من الفوضى، فلنترك الحبل على الغارب ،وللغد رب يتولى تصريف شؤونه. ولحسن الحظ لم ترفض أمي سفر الكيال معنا، من أجل سيناء، وحلمها القديم بزوجة تنجب لها الأحفاد والحفيدات، ليكونوا قرة عينها.

يتبع

شكرا لمتابعتكم

صالح البياتي

........................

حلقة من رواية: بيت الأم

 

 

في نصوص اليوم