نصوص أدبية

سيناء وأنا

صالح البياتيأخذت سيناء على عاتقها مسؤلية إعداد الطعام، والعناية بأمي المريضة.

كنت أتساءل كيف لرجل معافى ان يسقط تحت وطأة القنوط واليأس، بينما تحدت إمراة عجوز؛ مرضها، وتسامت بكرامة  فوق الآلام الفضيعة، لم يند من فمها  كلمة تذمرأو شكوى.

عندما كنا نقوم بتمريضها، وترى الدموع في عينيَّ، كانت تقول

" ابني دموعك غسلتني"

فتقول سيناء:

"عمرك طويل خالتي"

شعرت يوما بغضب لم أستطع كبحه، فذهبت فوراً، للجراح الذي اجرى لها العملية، أنبته على عدم استئصال الثدي كله، الأمر الذي أدى لتلك الآلام الفظيعة.. كنت غاضبا، وكدت أضربه، ولكني تمالكت نفسي وهدأ غضبي، عندما شرح لي الخطر المؤكد الذي كان يهدد حياتها، في حالة الاستئصال الكلي للثدي، لم أقتنع بكلامه، ولكني اسلمت أمري الى الله.

في تلك الأيام، كنا نقوم بتنظيف ما تحت ثديها وحوله بشاش ومعقمات طبية، قالت سأحكي لك حكاية، طالما وعدتك بها، والآن حان الوقت، أبديت معارضتي، لأعفيها من مشقة الكلام، محتجا بأن  في الغد متسع من الوقت لسماعها، ورجوتها أن تنام.. ولكنها اصرت بأن الوقت قد لا يواتينا غدا، وبأنها ستحكي جزء يسير، واثارت رغبتنا بالحكاية وانها ستعجب سيناء، فإشترطت ان تتوقف عندما تشعر بالتعب.

" بالطبع الحكاية طويلة، نحتاج ان نتوقف لنتأمل "  قلت مازحا:

" كأنك تريدين سرد رواية على مسامعنا المسكينة.."  قالت باسمة:

" ولك الحق أن توقفني، اذا لم تعجبك ولكن ان لا تتظاهر بالتثاؤب.

هكذا تبدأ حكايتنا..

البنت المسكينة، كانت أبنة تاجر ثري، أما امك يا نوح  فابنة فلاح قاس معدم. انا وهي اشتركنا بالمظلومية، واختلفنا بالفقر، والفقر كما تعلمان، أشد وطأة وقهرا، فكيف أذا إقترن بالظلم كما كانت حالتي.

" كأنك تعقدين مقارنة بينك وبين بطلة القصة."

" نحن الاثنتان من طينة واحدة، صنعوا منها تنورا يستعر بالنار.."

هكذا بدأت الحكاية..

هربت المسكينة ذات يوم من زوجة ابيها القاسية، وهامت على وجهها طوال النهار...

مرة أخرى يتداخل تاريخ حياة امي بالقصة..

" لم تكن في حياتي زوجة أب قاسية بل أب قاس.."

تاهت البنت في البرية حتى جن عليها الليل، بكت، جاعت، خافت، فآوت الى حفرة في الأرض، طلبا للأمان من الضواري المفترسة..

مرة أخرى تحدثت عن نفسها:

"  لم أخف من شيء في حياتي أبدا، بقدر ما كنت أخاف أن يز وجني أبي من رجل قاس مثله، ولحسن حظي الذي لم يدم طويلا.. كان زوجي مختلفا  تماما، ولكنه   قُتل في معارك الجيش مع الأكراد في الشمال، وتركني أرملة شابة.. قاطعتها:

" ولماذا لم تفكري بالزواج مرة أخرى."

" لهذه قصة أخرى، ستعرفها عندما يحين وقتها."

" قولي لنا، هل أنت تحكين قصتك أم قصة البنت ...؟"

" ألم  أقل نحن الاثنتان من طينة شقاء واحدة."

" حسنا لنتركها تروي قصتها بنفسها."

تدخلت سيناء

" تفضلي ماما لن اسمح لنوح أن يقاطعك مرة أخرى، تفضلي أحكي لنا القصة كما يعجبك، لقد أثارت البداية إهتمامي.

" سأتكلم بلسان حال البنت المظلومة، اتفقنا ؟

"هكذا أحسن، اتفقنا؟"

خفتُ، جعتُ، عطشتُ، تمزقت ملابسي، وجرح الشوك قدمي، وحينما جن الليل، التجأت لحفرة في الأرض، لم انم تلك الليلة، كانت الأصوات تمزق صمت الليل، تتناوب بين عواء ونباح وزئير، أجلت نظري في أنحاء المكان، لم أر شيئاً سوى الظلام، ولم أسمع سوى زمجرة الأصوات المشحونة بروح العداء، كنت أزداد رعبا كلما شعرت بأجفاني تثقل وتنطبق، فأفز مرتعبة أفتح عيني في حلكة الظلام، متكورة على نفسي، التمس الدفء والأمان، حتى أشرقت الشمس بنور بارئها، قمت فأجلت النظر حولي.

"لا أنس ولا جنس، ولا آن ولا ودان"*..

وقع نظري فجأة على قصر منيف، صرخت لدهشتي ما هذا يا إلهي، هل أنا في حلم أم علم، فركت عيني، ونظرت، كان ينتصب وحيدا في الخلاء، شاهقا كالطود يسد الأفق الواسع، اين كان هذا البارحة يا إلهي، ولماذا لم أره، كأنه أنبثق فجأة من أعماق الرمال، ليس في محيطه شيء آخر سوى الخواء والخلاء، الممتد على طول البصر..

سرت نحوه حتى صرت عند سوره العالي، وقفت مذهولة أمام بوابته الكبيرة، أحترت هل أطرقها، تغلبت رثاثة حالي على خوفي، فطرقتها فانفتحت، وانتظرت مترددة، سمعت نداءً يدعوني للدخول، ترددت، كدت أعود أدراجي، وأجري لحفرتي، تكرر النداء من داخل القصر يحثني على الدخول.. إقتربي لا تخافي.. تقدمت خطوة، خطوتين، وقفت، فكرر الصوت النداء إقتربي أكثر لا تخافي، مشيت بين صفين من الأشجار الباسقة، ملأ حفيف أوراقها والحان اطيارها المغردة أذني بأروع الألحان، هدأ روعي قليلا وسكنت مخاوفي، واطمأنت نفسي، وأسلمت مصيري لمشيئة الله، وقلت مهما سيحدث  لن يكون اسوأُ من حياتي مع زوجة اب شريرة..

إقتربي.. اقتربي يا فتاة، حتى وجدت نفسي أقف تحت شرفة تطل على حديقة غناء، تتطلع من أعلاها إمراه عجوز بشعة المنظر، ولكن بالرغم من بشاعة منظرها لم اشعر بالخوف، سألتني من أنا ومن أين أتيت، ولم تزد شيئا آخر، فأخبرتها، قالت ستكونين خادمتي في هذا القصر، وتطيعينني ولا تعصين لي أمرا، وسأكافئك جزاء ذلك بكل ما تحلمين.

نزلت من الشرفة وأخذت يدي وقادتني في أرجاء القصر، صالاته الكبيرة، ردهاته العديدة، وأروقته الخافتة الضوء، فتحت الغرف وأرتني ما فيها من أثاث وتحف ورياش وزخارف ونقوش وجواهر وذهب يخطف البصر، واسرة نوم من خشب الأبنوس المطعم بالفضة، وكنبات وكراسي ذوات اذرع مذهبة،  واشجار من المرجان مزدانة بالياقوت واللآلئ والدرر.. أشياء لم أرها في حياتي، ولم تخطر ابدا على بالي أو في خيالي، حتى ايقنت أنني في قصر مسحور، وان قصر أبي لا يسوى شيء، أمام هذا القصر العجيب..

توقفت أمي هنيهة، تسترد أنفاسها، قامت سيناء للمطبخ وأتت لها بكأس ماء، شربت نصفه، وضعته أمامها، على المنضدة الصغيرة، وقالت: الحمد لله، بعد أن مسحت شفتيها بطرف شيلتها السوداء، التي كانت محلولة وتغطي مؤخرة رأسها، فانكشف شعرها الناصع البياض، تحت ضوء مصابيح الفلورسنت المتوهجة بالضوء الأبيض، فترة صمت قصيرة... قبل أن تعاود السرد..

" الله يلعن الشيطان، هو دوما سبب النسيان.. ها.. أين وصلنا بالسالفة* مع البنت المسكينة. ها.. تذكرت..

فتحت العجوز كل غرف القصر، إلا واحدة قالت هذه الغرفة محرم عليك فتحها، أو حتى الاقتراب منها.. لم أسأل لماذا، بل خفضت رأسي وقلت سمعا وطاعة مولاتي، بعدها قادتني إلى غرفة، وفتحت خزانة كبيرة، وقالت اختاري ما شئت من هذه الملابس كلها لك، وفتحت صندوقا آخر من الأبنوس الأسود المطعم بالفضة، وأخرجت محتوياته من حلي ذهبية، وأحجار كريمة نادرة، عقد ألماس وخواتم فيها فصوص من عقيق، وأقراط لؤلؤ، وقالت وهذه كلها ايضا لك، لا أريد منك شيئاً، سوى ان تكوني من الآن رفيقتي، في هذا القصر الكبير، تؤنسين عليَّ وحشة عزلتي الطويلة..

كانت العجوز كريمة جداً معي، عوضتنني عن الحرمان الذي عشته في بيت أبي، كانت لا تكلفني بشيء فوق طاقتي، نجلس معا على مائدة طعام فاخرة تتوسط صالة كبيرة، معدة لنا بكل اصناف الطعام والشراب، دون أن أعرف من يعدها لنا كل يوم.. كانت تغيب عن القصر يوما أو يومين، وتعود محملة بالهدايا، متلهفة للغرفة السرية، تدخلها وتمضي ساعات طويلة فيها.

مرت الأيام والأشهر، ومضت سنة تلتها أخرى، كما تمر كلمح البصر في القصص، ونحن على انسجام تام لا ينغص عيشنا شيء، حتى جاء اليوم الذي أخبرتني أنها ستغيب لبعض الوقت، ولا تعرف متى ستعود، وحذرتني من دخول الغرفة السرية، وفي الصباح ودعتني واختفت، بكيت أول ليلة فارقتني فيها، كتمت خوفي في البداية، على أمل أن تعود كما كانت تفعل كل مرة، كنت كلما تذكرت معاناتي مع امرأة أبي، أتذكر لقمة الطعام التي أغص فيها مغموسة بدموعي، خفت غدر الزمن وقسوة البشر. انتظرت عودتها بفارغ الصبر، ولكن الأيام مضت ببطء، ثقيلة وكئيبة، ولم تأت سيدتي، حتى يئست من عودتها، وبدأت مؤنة القصر تنفد شيئا فشيئا، أشفقت على نفسي من الهلاك، وحيدة في هذا القصر الكبير، أيقنت أن حادثا قاهرا منعها من العودة، وإلا فهي شغوفة بغرفتها السرية لا تصبر على الابتعاد عنها طويلا..

فقدت الأمل بعودتها، قلت أن العجوز قد هلكت، ولن تعود أبدا، فقررت أن أفتح الغرفة، لعلي أعثر على السر الدفين الذي اخفته عني العجوز، فتشت على المفتاح فوجدته في مياه النافورة التي تتوسط الحديقة، عثرت عليه تحت صخرة صغيرة، ذهبت من فوري للغرفة، وفتحتها صباحا، وجدت فيها سريرا كبيرا يتوسطها، ينام فيه شاب وسيم، لم يشعر بدخولي، كأنه في غيبوبة، لا يحس بمن حوله، أو ربما كان مسحورا، وعلى منضدة جانبية صغيرة ثمة كومة من المراوح اليدوية الصغيرة، تناولت واحدة، وشرعت أحركها فوق رأسه، وأهوي بها وجهه، وبقيت على هذا المنوال طوال النهار وشطرا من الليل، حتى اهترأت المروحة وتنسل نسيجها و خيوطها بين يدي، فرميتها، وتناولت آخرى، تعبت فنمت بجانب السرير، واظبت على عملي لا أبرح الغرفة، إلا لقضاء الحاجة، أو لتناول قليل من الطعام الباقي الذي إدخرته، حتى هزلت وبرزت عظام وجنتي ووهنت حركتي، كنت في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدراً، وينير أرجاء القصر وسوره وحديقته الساحرة، أخرج للحديقة لأتنسم الهواء العليل، وأتملى بطلعة القمر البهية، كان يؤنس وحدتي، بين بزوغه وأفوله في الليالي الداجيات.

كنت أعد الأيام بعدد المراوح التي استهلكتها، نفدت جميع المراوح المائة إلا واحدة، والشاب راقد في سريرة كالأموات لا يتحرك، خرجت من الغرفة، نظرت للسماء، رأيتها كصفحة كتاب مفتوح، قرأت فيه كل ما مر على حياتي حتى تلك اللحظة.

سمعت طرقا قويا على بوابة القصر، فتوقف قلبي عن الخفقان، تجمد الدم في أوصالي، خطر على بالي أن العجوز قد عادت، وأنها ستعاقبني أشد عقاب عندما تعلم ما فعلت،  حتى وأن  حاولت الاختفاء أو هربت من القصر فستطالني، ستنتقم مني للمعصية التي ارتكبتها، ولكنني لشدة ذهولي، لم أفكر بأن العجوز الساحرة لا تحتاج لأحد يفتح لها الباب.. تجدد الطرق على الباب بقوة أكبر، وسمعت نداء استغاثة:

يا سامعين الصوت إ فتحوا الباب على حب النبي.

قلت في نفسي، هذا صوت فتاة، وتذكرت أول مرة وقفت فيها أمام البوابة الكبيرة، قلت ربما هي في وضع صعب الآن، مثلما كنت من قبل، ولكنني ترددت، خفت أن تكون العجوز قد تنكرت، وأخفت شخصيتها بهيئة فتاة مسكينة، لتكتشف أمري، تكرر الصوت المنادي مرة آخرى، كان فيه توسل ويأس وخوف وعجز واستكانة ورجاء..

على حب النبي أفتحوا لي الباب.. أنا جائعة وخائفة.

حين سمعت نشيجها يأتي متقطعا، رق قلبي له وتجرأت ففتحت لها الباب.. وإذا بي أمام بنت كفلقة البدر، حسنا في الوجه واكتمالا في الأنوثة، رغم سيماء الفقر ورثاثة الثياب، قلت سبحان الخالق، ما أجملك قولي للقمر غب وأنا أطلع مكانك..

ابتسمت تلك الابتسامة الساحرة، وخفضت رأسها خجلا، قلت أدخلي، مشت تتعثر بأسمالها المتسخة، قدمت لها الطعام والماء، واغتسلت وأعطيتها ثيابا نظيفة، وقلت لها أنت متعبة نامي الأن وسنتكلم في الصباح.. وأرشدتها للمكان الذي تنام فيه.. كنت متعبة ومرهقة وأشعر بصداع شديد، لذا تركت باب غرفة الشاب مفتوحا، ونمت تحت سماء تلك الليلة، يحرسني قمرها، وتهمس لي نجومها، بأسرار ليست بمستوى فهم الأنسان، ليست ألغازا أو طلاسم، ولكنها السر الدفين في سرة الكون، قبل أن تولد النجوم وتنتظم وتدور في أفلاكها الدائرة، وتجري الكواكب في مجراتها السيارة، السماء كانت غطائي والأرض فراشي، نمت وأنا في أمان الله وحفظه، غافلة عما كان يجري حولي.

قطعت أمي سردها وطلبت مني أن آتي لها بشيء تأكله لأنها شعرت بالجوع فجأة، فأسرعت سيناء للمطبخ وعادت وبيدها صحن فيه تفاحة وبرتقالة وبسكوت، وقالت سيجهز الشاي بعد دقائق، ريثما أقشر لك الفاكهة.

" كلي خالة السالفة طويلة، كلي حتى تقوين وتقصينها علينا. فأجابتها أمي.

" سوده عليَّ يمه تعبتك وياي.. قالت سيناء:

" تعبك راحة .."

أكلت شيء من يد سيناء واستأنفت قصتها..

صحوت صباحا ويا لهول ما رأيت.. الشاب الوسيم الذي كان نائما كالأموات، واقفا أمام الفتاة الفقيرة، يخاطبها بكلمات تفيض رقة وعذوبة ومودة، امتنانا وعرفانا بالجميل:

" لولاك يا جميلتي ما عدت للحياة ولبقيت على رقدتي تلك الى الأبد، شكرا لك، أنت أفنيت من أجلي مائة مروحة في مائة يوم وليلة، فأبطلت السحر الذي وضعتني فيه الساحرة، التي كانت تعشقني وخطفتني من مملكة ابي.. أنا مدين لك بحياتي، أُمري وسألبي كل ما تأمرين.. لقد زال عني السحر بفضلك، أنا أمير مملكة الأقحوان، أنحني أمامك، وأطلب يدك، يشرفني أن تكوني زوجتي وأميرتي.."

انحنت الفتاة للأمير ولم تقل شيء، اقتربت منهما، فأنتبه الأمير لوجودي، سأل الفتاة: من هذه؟ أجابت بكبرياء:

" هذه خادمتي "

كتمتُ ذلك في قلبي ولم أنبس، وهكذا حكم علينا القدر، تبادلنا الأدوار اصبحت هي السيدة وأنا الخادمة، ورضيت بهذه القسمة، هي تحظى بحب الأمير وأنا بعطفه، لقد تعلق قلبي بحبه منذ الليلة الأولى التي اقتحمت عليه الغرفة السرية، كنت لا أبالي بالتعب والجوع ، انتظر بلهفة لحظة يفيق من غيبوبته الطويلة..

كانت أمي تروي القصة على لسان البنت المسكينة، حتى تخيلت أنها لحماستها المفرطة تحكي قصتها هي، كانت تواصل الحديث رغم الأعياء الذي بدا واضحا على صوتها، رجوتها أن تتوقف وتكمل القصة غدا، فالصباح رباح، ابت، قالت

" إذا بدأت حكاية يستحسن أن تكملها.. فمن يعلم ما يحدث غدا.. "  سألتها مازحاً:

" هل تخشين أن يفسد عليك الموت إتمامها؟"  فأسرعت سيناء تقول:

" أسم الله على خالتي، عمرها طويل، وتشوف إن شاء الله ولد ولدها."

أجابت مبتسمة:

" ومن لا يخشى الموت يا ولدي، كل واحد منا يقول أنا لا أخافه، ولكن في قرارة نفسه يرتعب من ذكره، أنا أحب أن أنهي ما بدأته، لا أحب شيئا ناقصا أو مبتورا، فقصة بلا نهاية مثل حياة بلا معنى."

" أو مثل حقيقة ضائعة بين كم هائل من الأباطيل.."

"صحيح أحسنت."

قلت متوسلا:

" نامي إذاً الآن واستريحي وسنكمل غدا"

قامت لتدخل غرفتها، تبادلتْ المرأتان القبل، والتمنيات الطيبة بليلة سعيدة، رجتها سيناء أن توقظها إذا احتاجت لشيء ما، فسألتها امي عن والدها، فقالت لا تقلقي عليه، لن يتيه في بغداد، يعرف كيف يصل الى هنا، كما أني أتوقع مجيئه الآن، قمنا أنا وسيناء وجلسنا في الشرفة، بينما فتحت أمي باب غرفتها، وتمددت على سريرها لتشاهد التلفاز، أما أنا فكنت أفكر بمغزى لحكايتها غير المكتملة.

"والدتك بارعة في سرد الحكايات."

" آمل يوما أن أجمعها في كتاب."

تحدثت سيناء عن أبيها بشغف وحب وإعجاب.. وأنه بقى أرملاً، في مقتبل العمر، وكانت صغيرة، فرباها واعتنى بها، تمنت ان ترد ولو شئ بسيط  لتضحيته من أجلها..

فحكيت لها عن معرفتي به قديماً، وذكرت لها قصة البدلة التي تبرع  لي بها. أثنيتُ على طيبتة، فقالت انه كان دائما يمتدح اخلاقك وسمعتك الطيبة، فقلت ان كل إنسان حريص على أن يحافظ على سمعة نظيفة، ولكن لا أحد يعرف شيئاً عن السرائر. وما في أعماق النفس البشرية.."

قلت ذلك وأنا أنظر مباشرة الى عينيها الناعستين العسليتين.

تطلعت اليَّ باستغراب. وتساءلت ماذا تقصد!

فتكلمت عن طبيعة الأنسان المركبة والغريبة، وأن كل منا يحب أن يُمتدح أمام الناس، ولكن عندما يختلي بنفسه، قد ينتقدها، أو يجلدها احيانا بقسوة.

" تقصد عندما  يقترف واحد منا عيباً أو محرماً، أهذا ما قصدت!"

"صحيح أتفق معك فيما يتعلق بهذا الجانب"

استرسلت اوضح لها فكرتي.

خذي مثلا، الأنسان الجبان الرعديد، يحب أن يظهرأمام الناس بمظهر الشجاع المغوار، وهكذا نحن مخدوعون بالناس، نقيمهم على اساس مظاهرهم، إذا لم تكن لنا معرفة عميقة بهم.. وافقت سيناء على ان  ما نخفيه في سرائرنا شيء يخصنا وحدنا، وما يظهر للعلن شئ آخر، لذلك يحتاج كل واحد منا الى كرسي اعتراف داخلي.."

اعجبني قولها فسألتها:

" كرسي الأعتراف الداخلي اعجبتني، أهي من بنات أفكارك! كلنا نحتاج لهذا الكرسي، ولكن قد يختفي في لمح البصر، إذا كان الضمير نائما."

" نعم هي فكرتي عن الضمير عبرت عنها بكرسي الأعتراف، لآن التأنيب وحده لا يكفي بدون الأعتراف بالذنب أولا " هل أعجبتك!

" جداً، وأنه أكثر جدوى وتأثير من كرسي الاعتراف في الكنيسة."

طرحت سيناء تساؤلا غرييا عن تفكير العراقي، عندما ينوي الزواج، فهو يبحث عن إمراة اشبه بملاك سماوي، وينسى أنه آدم وهي حواء، مخلوقان ضعيفان، مطرودان من الجنة، وكلاهما ناقصان، ولكنه لا يحتمل أي عيب في المرأة، حتى وأن كان تافها،  يحرم عليها ما يبيحه لنفسه، اليس هذا تناقض صارخ!" ولما سألتها:

"مثل أي شيء؟"

" الحب، العلاقة بين الجنسين حتى وان كانت بريئة."

" هل هناك علاقة غير بريئة؟"

" اذا فشل الحب ولم ينتهي بالزواج."

" صحيح.. العراقي صعب.. اقصد صعب ارضاؤه وإقناعه."

فاجأتني بهذا السؤال الجريء الذي لم أتوقعه.

" وأي الرجال أنت!"

فقلت ببساطة:

" انا لا أختلف كثيراً، لكن أحاول قدر المستطاع السيطرة على الجوانب السلبية في شخصيتي، لأنه كما تعلمين أن التشخيص الصحيح للمرض نصف العلاج الناجع، وأن اي قرار إذا لم يأخذ الوقت الكافي لينضج، تأتي ثماره فجة.."

" تعني قرار الزواج مثلا!"

" نعم.. صحيح.. لأنه أهم قرار في حياة الرجل والمرأة "

وبعد فترة صمت، تحدثنا عن إهتمامتنا الشخصية، فعلمت انها تقرأ كثيرا، وتحب الشعر، وتعلم اللغة الفارسية، تريد اتقانها لتقرأ شعر حافظ شيرازي بلغته، كما قرأت شكسبير، ولورد بايرون وكيتس، وت سي اليوت بلغتهم.

فاجأتني اثناء الحديث بتساؤل، طالما وجهته لنفسها دون ان تجد جوابا، وهو أيعاني العراقي من عقد نفسية، مترسبة في أعماق شخصيته، نتيجة لتاريخه الطويل المضطرب دائماً؟

في النقاش الذي دار بيننا حول هذا الموضوع، لم اسمه عقدة نفسية كما تساءلت، وإنما تأكيدا للذات، عن طريق القوة، وهذه الصفة متأصلة، حتى تكاد أن تتحول إن جاز التعبير، عند بعض الأشخاص كالرئيس مثلاً، الى المرض النفسي، وعندما تتضخم أكثر تصل الى تقديس القوة والرجولة، وقد يكون الشخص هو ونقيضه في آن، الجلاد والضحية، ولا أحد يفهم هذه الازدواجية." ابتسمت قائلة:

"عجيب، هل نحن هكذا ولا نشعر بأنفسنا!"

" المرأة العراقية لا تعاني منها، لأنها بالأساس تعاني من قمع مركب، التقاليد والرجل."

" الحمد لله لسنا رجالاً."

"خذي مثلاً المختل عقلياً، يعيش مع الجنون كحالة طبيعية عادية، يعبرعن رغباته دون أي عوق عاطفي."

" عوق عاطفي، لم اسمع به من قبل  كمصطلح في علم النفس."

" موجود.. الإعاقة العاطفية، هي كبت الاحاسيس وعدم التعبير عنها بطريقة طبيعية، وبدون مبالغة، كالفرح او الحزن، والعراقي صندوق عاطفي مغلق. ولكن احيانا ينفجر كقنبلة موقوته، فيدمر نفسه ومن حوله.

***

حلقة من رواية: بيت الأم

صالح البياتي

 

في نصوص اليوم