نصوص أدبية

حرب وعقد قران

صالح البياتيجاءت المدعوة عمتي وابنتها بدور، اعتذرت عن عدم مجيء زوجها لظروف طارئة، عند العصر حضر رجل الدين، وبعد قليل جاء صديقي المحامي حنا حمد، بيده باقة جوري حمراء، وبينما كنت لا أزال اقف مرحباً به، جاء صديقي يوسف استقبلته، وعرفتهما ببعض، تبادلا عبارات الترحيب المألوفة، وعرفتهما كذلك بالحاج سبتي، أقبل يوسف على أمي حياها بحرارة، وسألها عن صحتها، وقبل يدها، كما اعتاد عندما كان يأتي لزيارتنا في الكاظمية، عرَّفتُ المحامي حنا على أمي، سلم عليها وتمنى لها الشفاء، وهمس لي، أمك تتمتع بشخصية قوية، ابتسمت له وشكرته على المجيء وباقة الزهور، قال معبرا عن فرحه، و سمعته سيناء التي جلست وحدها في غرفتها يقول .. لا أحب إهداء الحلوى لأنها مضرة بالصحة وأيضاً لأنكما حلوين بما فيه الكفاية، لا تحتاجان اليها، أما الورد فهو جميل وسيفتح شهيتكما لحياة زوجية سعيدة، ابتسمتُ وشكرته على تمنياته الرقيقة، وقع حنا ويوسف بإسميهما الكاملين، شاهدان على عقد زواجنا، همس الشيخ بإذني، عندما قرأ أسم حنا، أن لا يجوز شهادة النصراني على زواج المسلم، ابتسمت، قلت، هو مسلم ولكن الاسم فقط هو المسيحي، أحس حنا بما يدور بيننا من همس، فأخرج بطاقته المدنية وناولها للشيخ، أخذها مرتبكاً، ألقى عليها نظرة سريعة، ثم أعادها له معتذرا، ضحك حنا عاليا، وقال: لا عليك يا شيخ حصل خير، ليست هذه هي المرة الأولى التي تحدث معي، لا عليك، أخي نوح يستحق أن يشهد على زواجه، مسلم ونصراني ويهودي، الأديان الثلاثة مجتمعة، كما هي موجودة في العراق منذ القدم، ولا تنسى يا شيخ هذا نوح، الذي أنقذ البشرية من الفناء.

ضحك الجميع لخفة روحه. كانت أغاني أم كلثوم تصدح في الهواء، في تلك الليلة الأيلولية الدافئة، تناوبت معها أغاني الريف، للمطرف المحبوب داخل حسن، التي تحبها أمي كثيرا. ودعنا الجميع وتمنوا لنا  زواجا سعيدا، وكان صوت كوكب الشرق، يهدهد روحينا، كأنه أرجوحة سماوية، ترفعنا عاليا وتظل شاهقة هناك، معلقة بأهداب النجوم، وضوء القمر الذي كان يغمر الشرفة بنورة المخملي المنساب كالحرير الدمشقي. كانت القبلة الأولى التي طبعتها على جبين سيناء، حينما قطعنا معا الكعكة بسكين واحدة، لا تزال دافئة على شفتيً..

سألتني عندما اختلينا في البلكونة، بنبرة هادئة ناعمة تقطر عذوبة ورقة، ونحن ننظر لبعضنا بصمت، نظرات فيها شوق ورغبة وجنون:

" نوح.. أهذه هي اللحظة الجميلة، التي انتظرتها في حياتك، والتي ستذكرها دائما"

 كان صوت أم كلثوم يصدح برومانسية الحب، وتلفاز الجيران ينعق بأناشيد الحرب النارية، احترت أي لحظة سأتذكرها في هذه الليلة الرائعة. قلت مع نفسي، لتذهب الحرب للجحيم، وليذهب الحب الى النعيم، ثم قلت لها:

" بل هي الأجمل في حياتي كلها، وسأذكرها الى آخر لحظة من عمري."

" مسكين، لم تكن حياتك سعيدة، ولم تر في حياتك لحظات هنيئة وجميلة، سأعوضك عن كل دقيقة ضاعت من حياتك. قمت أخذتها من يدها برفق، الى زاوية معتمة من الشرفة، احتضنتها بحنان بين ذراعي، طوق ذراعاها رقبتي، وتبادلنا قبلة طويلة، شعرت أني غبت عن العالم ، وغامت عيناي، ولم أعد أسمع شيئاً، سوى أنفاسنا اللاهثة الدافئة. وبعد أن غمرتنا السعادة بفيض كرمها، كانت لحظات ليست من حساب الزمن، جلسنا متقابلين، بعد ان استعدنا شيئا من الهدوء، سألتني سيناء:

"ما قصة صديقك حنا، لماذا اختاروا له هذا الاسم!"

حكيت لها قصته..

كان ابوه ضابطا قديما في الجيش، وقع بحب فتاة مسيحية من تكريت، مسقط رأسه، وتزوجها رغم معارضة أهله، لكن الفتاة اشترطت عليه أن يُسمَّى أول مولود لهما باسم ابيها، فقبل، حنا إنسان نبيل ونقي السريرة، وكان تأثير امه أقوى عليه من تأثير ابيه، هو عضو بارز في حزب السلطة، ومحامي بارع.

سألت سيناء بعد سماع قصته:

" اخبرتني أن شقته التي نسكن فيها كانت مكتب محاماة يدير منها عمله.. ماذا يعمل الآن؟"

" عينته محكمة الثورة محامي دفاع في قضايا متهمين ."

"  تقصد يدافع عن متهمين ضد الحكومة.. كيف!"

" لأنه لا يحق لمحامين مستقلين القيام بذلك."

"وهل  يستطيع حقا القيام بواجبه على أكمل وجه!"

وجوابا على سؤالها، اوضحت، ان المشكلة هنا تكمن في الأختيار، بين الواجب المهني الذي اقسم عليه، وبين الحزب الذي اقسم الولاء اليه، ولما استغربتْ، كيف إذاً ستتحقق العدالة، إذا إنحاز للحزب، كان جوابي أن لا أهمية لذلك. ولكني استدركت فأكملت ما بدأته.. انه حاول قدر استطاعته مساعدة الذين ساقهم حظهم السئ ، بسبب عداء شخصي أو وشاية لئيمة، وهو يسميهم ضحايا العقارب السامة، ويقول هؤلاء كالمسيح، لم  يدافع عنه احد، عندما حوكم امام كبار الحاخامات اليهود.

" حقا هو إنسان نبيل وشجاع "

 في اليوم آخر يوم لذهبنا لمستشفى الطب الذري، كانت القوات المسلحة العراقية تخترق الحدود، وتتوغل في العمق الإيراني، وصلنا في العاشرة صباحا، موعد حضور الجلسة، والتي تستغرق ساعة كاملة، جلستُ في صالة الانتظار، أنظر لساعة الجدار، وأراقب الدقائق الآخيرة المتبقية، على انتهاء الجلسة، خرجت امي من الباب الذي دخلت منه، كان الممرض المعالج يسندها من تحت كوعها، كانت قواها خائرة وفي حالة يرثى لها، لا تكاد تقوى على المشي، خلافا للمرات السابقة، أسرعت اليها لأسندها، شكرته، طوقت خصرها بذراعي اليمنى، سألتها ماذا تشعرين، ابتسمت وقالت:

" لا تقلق أمك أقوى من المرض."

وعندما غادرنا المستشفى، كانت أخبار انتصارات الجيش العراقي تذاع  على مدار الساعة، وصور المعركة تُظهر الجنود العراقيين وهم يرفعون علامة النصر، ويتوغلون بسرعة في عمق الأراضي الإيرانية..

عدنا للشقة، كانت بغداد قد تغير وجهها الى الأبد، حدث شيء غريب ومؤذ ودخيل، أقتحم حياة المدينة، شيء طارئ ومعتد، حال بينها وبين شموس نهاراتها الضاجة بالحركة، الزاخرة بالحياة والنشاط الدائب، كان شعاع الشمس الذي يخترق كالعادة، مياه دجلة في الظهيرة، قد انطفأ فجأة، وصُب مزاج البغاده المرح وضحكاتهم، في قالب كونكريتي، وانقلب صبرهم وجلدهم إلى وجوم رمادي..

من ساحة الأندلس إلى الأعظمية، اخترقنا عدة شوارع، حتى أفضينا لشارع الرشيد، بعد أن تجاوزنا ساحة التحرير، ثم باب المعظم، فخيل لي أن سحابة دخان تشكلت في سماء بغداد وطمست معالم المدينة التي كانت بالأمس القريب قبلة الناظرين، وبهجة القلوب...

أوت أمي تلك الليلة الى فراشها مبكرا، فحمدت الله أنها لم تذكر حكاية الفتاة.. التي شارفت على الانتهاء..

كانت منهكة من تأثير الإشعاع وهواء الغرفة الخانق، حركت المروحة المنضديه الهواء قليلا، ولكنها لم تلطف من درجة حرارته كثيرا، كانت مرهقة جدا فما ان وضعت رأسها على الوسادة حتى غطت في نوم عميق وأرتفع شخيرها عاليا ولكنه هدأ بعد قليل..

جلست أدخن في البلكونة، ومعي العم سبتي، ثم انضمت الينا سيناء، بقى العم نصف ساعة ثم نهض وتمنى لنا ليلة سعيدة، وذهب للنوم مبكرا.

تذكرت وصف الخالة الدهلة لحالة التشوش والدوار، لمن تفاجئه المصائب، فهي تصفها بدولاب الهواء، الذي يدور ويدور، حتى يفقد الانسان توازنه، ويدوخ وتختلط أمام عينيه الأشياء، وتتداخل الاتجاهات..

قلت في نفسي لقد إقترن دولاب الدهلة  بطرقاعة زهلول فأنجبا مسخا أسمه: الطرقلاب.. سألتُ سيناء:

" هل سمعتِ بامرأة اسمها الدهلة؟"

" لا.. من هي؟"

" هي امرأة رائعة، تؤام أمي الروحي، صنعتهما الحياة من طينة واحدة، وعندما تستعيدهما الطبيعة الى أحضانها، سيمضي وقت طويل حتى تنجب إثنتين مثلهما، شيء لا يتكرر دائما بسهولة، الطبيعة تسترجع ودائعها إذا وجدت أنها لا تلاقي الامتنان والترحيب"

" هذه ألغاز لا أفهمها."

" تبدو لك ألغاز، لأنك لا تعرفين المرأة، اسألي أمي عنها فهي صديقتها، وسوف تحكي لك عنها."

" سأفعل."

" وهل سمعتي بالعراف ؟"

" سمعت الناس يتحدثون عنه، اليس هو من تنبأ بهذه الحرب؟"

" هو تنبأ بشيء آخر، اسمه طرقاعة، والدهلة حين تلفها الدنيا، وتدور بها حتى تذهلها عن نفسها، تسمي ذلك دولاب، ومن اقتران طرقاعة العراف بدولاب الدهلة ولد الطرقلاب، وهذا الاسم من اختراعي انا، .. أعرفتي الآن كم هذه المرأة عانت في حياتها! أترين يا سيناء أنتِ اخترعت كرسي الاعتراف الداخلي، وأنا

الطر قلاب." ابتسمت سيناء.

 كنا مستيقظان طوال الليلة الأولى لاندلاع الحرب، وكان صوت تلفزيون الجيران ينقل صورا من المعركة، ويذيع أناشيد الانتصار الحماسية، وينقل صور المعارك من جبهات القتال، الممتدة  شمالا من جبال كردستان إلى البحر جنوبا، وبينما كانت حالة امي آخذة بالتدهور، كانت الحرب في تصاعد مستمر، قلبها يضخ الدم بقوة، وشرايينها تنزفه بغزارة.

***

يتبع رجاء

شكرا لمتابعتكم

 

صالح البياتي

...................

حلقة من رواية: بيت الام

 

في نصوص اليوم