نصوص أدبية

دمية الصبر

صالح البياتيفي أجواء مشحونة بالتوتر، كنت أتسائل عن اقتراني السريع بسيناء، أكان بسبب ظروف استثنائية، وضعتنا في علاقة بغير إرادتنا، أم أنها الصدفة الجميلة والحظ السعيد، المشيئة الإلهية، كما يعبرعنها بالقسمة والنصيب، كنت منذ أن بدأت علاقتنا تنمو وتثمر، وستؤتي أكلها بالزواج، أتلهف لمعرفة ميلها العاطفي نحوي، وها انا الآن قد تأكدت أنها تحبني وتعشقني، وأنا أبادلها حباً وعشقاً، لا حدود لهما، ولا شطآن لمحيطهما الواسع، فماذا أريد أكثر من ذلك..!

في صباح اليوم التالي، حينما أنهينا افطارنا، وكنا نهم بالقيام من مائدة الطعام، أومأت أمي بيديها بحركة تدل على رغبتها بأن نبقى في مقاعدنا، من أجل ان تختم حكاية الفتاة ودميتها العجيبة، ورفعت نبرة صوتها، كي تشد انتباهنا وتثيرنا اكثر عند ذروة الحكاية..

إنفجرت الدمية، وإنقذف خنجر مرهف من بطنها، عند تلك اللحظة سمعنا إنفجارا قويا في سماء بغداد، أحدثته طائرة أف 16 إيرانية، كسرت حاجز الصوت، توقفت أمي، أمسكت صدرها، انبجس سائل قيحي اصفر كريه؛ من وراء ثوبها، صرخت متألمة، ثم وقفت متشنجة، وقالت سأذهب لأغير ملابسي، دخلت غرفتها، فساد بيننا صمت وترقب، صحت لتسمعني، أتحتاجين سيناء تساعدك، لم نسمع ردا، بعد قليل عادت الى مكانها وإستأنفت الحكاية..

كادت الفتاة المسكينة أن تغرز الخنجر في صدرها..

تهلل وجهها بالفرح، ورفت ابتسامة رضى على شفتيها الذابلتين، استجمعت قواها، ركزته في نبرة صوتها الذي رن كأجراس الانتصار :

"كادت الفتاة ان تقتل نفسها، لولا يقظة الأمير، الذي أنتزع الخنجر من يدها .." قاطعتها لأضيف:

" وتحذير بائع الدمى "

" الحمد لله.. لقد وهبني القوة.. وما تبقى من الحكاية شئ بسيط.. سيناء اتوقع انك ستعرفين النهاية "

قامت سيناء وقبلت امي وقالت

"  ماما.. نعم أنا اعرف نهاية الحكاية التي أعجبتني كثيراً، وهي باختصار..

أن الأمير بعد سماع قصة الفتاة، رق قلبه فتزوجها، وطرد زوجته المدعية التي انتحلت شخصية السيدة..

" وكيف عرفتِ ذلك؟"

" هكذا عادة تنتهي الحكايات القديمة نهاية سعيدة، وينال الأشرارعقابهم الصارم."

 قاطعت استرسال سيناء.

" ولكن من سيعاقب الذين أشعلوا الحرب، وسعروا نيرانها ؟

غيرت أمي الحديث عن الحرب، ولكن سؤالها أعادنا اليها كما يحدث عادة في لعبة الحية والدرج:

" هل نمتما جيدا ليلة أمس؟"

"  لم ننم، كان صوت تلفاز الجيران عاليا ينعق بأخبار الحرب، يعرض صور من المعركة عن بطولات وانتصارات جيشنا على الفرس المجوس، في ميادين القتال.. قالت:

" كنت مرهقة جدا فلم أسمع شيئا."

استدعيت من مخيلتي شخصا احاوره،  افترضته مكتهلا في أواخر الستينات، عليه سيماء وقار طاغ، جلست مطرقا امامه، افكر بما اطرحه عليه من اسئلة كانت تلح عليَّ منذ بدأت الحرب، فكان عليَّ اختيارها بدقة.. فكرت بصوت عال، فعرف بماذا افكر، اندهشت كيف عرف، قبل ان اصيغ افكاري على شكل اسئلة، ولشدة ارتباكي سألته بدون تحديد:

" أين نحن يا عم؟"

ابتسم كما لو ان كان يتوقع السؤال، ولكنه اراد ان يختصر الجواب على قدر الامكان.

" كما كنا من قبل، في نفس المكان الذي وجدنا فيه.. لم نغادره بعد...

وبعد صمت قصير، أضاف.. على الأقل حتى لحظة طرح السؤال."

" عفوا سيدي، هل افهم من كلامك اننا لا نزال نشغل الحيز من المكان ذاته، الفراغ الذي تشغله الأشياء!"

" نعم بني.. المكان والمكانة والتمكين.. الأشياء الثلاثة مجتمعة في نفس الوقت"

" وهل يرجع ذلك لإفتقادنا روح المغامرة والاكتشاف."

" نعم بني بالتأكيد"

"لماذا؟"

" الخوف من المجهول" 

فقلت في نفسي، اليس خوض غمار الحرب مغامرة كبرى، وعمل جرئ  ينفي الخوف.. فسمع ما افكربه، فأجاب

 " الحرب ارتماء بدون تفكير في احضان الماضي، لإيجاد مخرج من ازمات الحاضر، الماضي الحضن الآمن الذي يلجأ اليه الخائف عندما تعصف الرياح حوله، وقد ينقلب لعدو شرس، كما هو الحال في هذه الحرب الدائرة بين بلدين ينتميان لماض مشترك..

فأكملت كلامه مع نفسي

 "ولنفس المنظومة الفكرية والدينية تقريبا، فرجل إيران الكبير يلوي عنان التاريخ، يرجعه القهقرى، لأربعة عشر قرنا ونيف، فيختار شفرة اسلامية للحرب، " دفاع مقدس " تذكيرا بمعركة بدر، فيقول كما نُقل عنه: الخير فيما وقع.. ورئيس العراق القوي، يختار لحربه شفرة قومية، "القادسية الثانية"، استلهاما لأول معركة اندحر فيها الفرس على ايدي العرب قبل الإسلام.

انتهى الحواربينا، عندما لمحت على شفتيه شبح ابتسامة شاحبة، مرت كضوء خاطف، واختفت سريعا، احترت في تفسيرها، اكانت ابتسامة سخرية ام شفقة وتعاطف..

عدت لنفسي، أفكر بميزان الحق المتقلقل دائما، إحدى كفتيه العدل والأخرى القوة، واستقريت احداث التاريخ، فوجدت أن كفة القوة كثيرا ما تطغى على الأخرى، ونتيجة هذا الطغيان تحدث الحروب والمآسي في العالم.. وقلت في نفسي لذا ينبري الرجال الشجعان في كل عصر، يتصدون بإخلاص، وهم دائما في الصدارة لإنجاز هذا العمل العظيم والخطير.. المحافظة دوما على كفتين متعادلتين.. ولكن ماذا سيفعل الضعفاء المقهورين الذي هم اشبه بخشاش الأرض، عندما لا يجدون أحدا ينبري لهذه المهمة النبيلة! سيهرعون طبعا، وبلا أدني تردد، كما رأيتهم، الى مراقد الائمة..

نستطيع ان نختصرها بكلمتين “العدل الإلهي" المفقود على الأرض والمؤجل في السماء..

الأشياء التي قد تبدو تافهة، ولا قيمة لها بنظر الاخرين، قد تكون على العكس بنظر غيرهم..

اذكر يوما في مدرستي الابتدائية، كنت اثناء فترة الأستراحة والتي نسميها الفرصة، ابري قلم رصاص جديد، جاء تلميذ فخطفه مني وهرب، جريت وراءه، ولكن حين لحقت به لأستعيده، كسره نصفين ورماهما للأرض.. كان الولد أكبر واقوى مني، فلم أستطع ان افعل شئيا، شعرت بانسحاق قاهر.. كان قلبي تلك اللحظة يغلي بنار الغضب..

يا إلهي الرحيم، ان ذرة صغيرة بمقدار خردلة او اصغر من رحمتك الإلهية، تزرعها في قلوب الأقوياء، سادة العالم، كافية كي يسود العدل ويعم السلام، ولما كنا نعاني كل هذا العذاب الذي لا ينتهي.. كما هو عذابي حين اكتشفت ان لي أبا حقيقيا، هو  غير الأب الذي احمل اسمه..

عند تلك النقطة من الحوار مع نفسي، آثرت السكوت، التوقف، لان الاسترسال هكذا وبدون ضوابط عقلية، قد يقودني من تلابيبي للجنون، وكالمتلبس بجرم، يحاول انكاره، توقفت، كي لا اتهم بأني بدأت أكلم نفسي، وتلك علامة خطيرة، كبحت جماح خيولي المنطلقة في براري شاسعة لا حدود لها..

جاءت سيناء فأخرجتني من دوامة افكاري، ذكرتني بالخروج  للعشاء في أحد مطاعم المنصور الراقية، حين رأتني أهم بالدخول لغرفة امي، دخلنا معا، كانت في اغفاءة فاستيقظت، لترانا نقف امام سريرها، كانت ثمة ابتسامة تساؤل واستغراب، ارتسمت باهتة على شفتيها الذابلتين.

 جلسنا على الاريكة المريحة المسندة الى الحائط .

" جئنا لنشكرك، كانت حكاية رائعة حقا، أليست كذلك يا سيناء؟"

"رائعة وذات مغزى."

" قولي لي ماما، لماذا تخلى عني ابي الحقيقي موسى الكيال.. هذه قصة حقيقة اريد ان اعرفها منك!؟"

  استوت جالسة، وأعادت الشيلة السوداء لتغطي شعرها الناصع البياض، في الغرفة المضاءة بمصابيح الفلورسنت الشديدة التوهج، قمت فأسندت وسادة وراء ظهرها، وعدت لمكاني بجانب سيناء، رفعت رأسها الينا ونظرت الي طويلا.

"لم يتخل عنك"

استطرت تستذكر احداثا قديمة..

.. كنا نحن الثلاثة، أبوك وجدك وانا، في منزلة الكيال القديم، الذي تزوج فيه بشقيقتي أمينه، المرحومة أمك، كنت أنت نائماً، أشار جدك اليك، وأومأ الي، خذيه، نظرت اليك، كنت كملاك، فكرهت إيقاظك، فلما رآني لا أتحرك، انحنى عليك ليرفعك، فسبقته، وعندما اقترب وجهي منك، صحوت من نومتك، كنت تنظر إلي ويداك ترفرفان كجناحي عصفور، تخيلتك تلك اللحظة، تريد ان تطير وتحط في حضني، رفعتك وأخفيتك تحت عباءتي وخرجت. سألتها:

" لماذا فعل ذلك، لماذا تخلى عني!؟"

" ليس أبوك، بل جدك هو من أجبره على فعل ذلك.."

"لماذا!"

"لأن زوجة موسى الكيال، لم تكن تعرف بزواجه الثاني، كانت حينذاك تعيش في بغداد."

" هكذا إذاً طوى الرجلان صفحة أمي المتوفية بسرعة، ليمهدا الطريق لمجيء المرأة البغدادية."

" نعم هذا ما حدث، اتفقا وتفاهما فيما بينهما."

" لا بد انها كانت صفقة رابحة لصالح جدي، كم قبض من الكيال" لم تجب على سؤالي..

كنت أجهل تلك العلاقة التي كانت بين الرجلين، وخاصة المتعلق منها بزواج أمي، توقفت عند تلك النقطة، التي دار فيها الحديث حول المرحومة أمي، اختها الصغرى، ولكن استدعيت ما احتففظت ذاكرتي من معلومات عن مدينتي، فأنا اعرف الشيء الكثير، أجزاء هامة من فصول تاريخها، حينما كانت مستوطنة صغيرة، في أواخر القرن التاسع عشر، تحيطها مستنقعات تغطيها حشائش الحلفاء، الطرفة، البردي، والقصب، تعج بخنازير برية، ومرتعا للبعوض، ليس فيها بناء شاخص، بوسع المرء أن يراه مرتفعا عن الأرض، وقائما على أساس، عدا مبنى سراي الحكومة التركية، وبيوت موظفيها المتناثرة حوله، وإسطبلات خيولهم في مكان قريب يطلق عليه السوارية..

سألتها عن الجد الأكبر آغا كيال: أكان من ملاك الأراضي الكبار، فاستطردت في الحديث عن تاريخ العائلة الكيالية، عن الجد الأكبر آغا كيال، الذي جاء في زمن العصملي بصحبة ابنه الوحيد عمران الكيال، جدك لأبيك، لم يكن بوسع أحد حينذاك، مهما كان فضوليا ومحبا للاستطلاع أن يعرف من أين جاءا؟! أمن شرق، ام شمال.. أكان تركيا، شركسيا، أم فارسيا، لا أحد يعلم بأصله، الله وحده العالم بسره المكنون، وسرعان ما أنشأ علاقة متينة مع موظفي السراي، كان يسامر القائم مقام في ديوانه الخاص، حتى منتصف الليل، وقيل إنه كان يحمل توصية من والي بغداد، تمنحنه الحق بامتلاك أراض.. ولكن بعد أن أستقر به المقام بما فيه الكفاية، وصار إقطاعيا صغيرا، حاول أن يمد جذوره للتعايش والبقاء مع من حوله، مثل نبتة غريبة، فلم يستطع منافسة أقطاعيي العمارة الكبار، ذوي القوة والسطوة والأصول القبلية العريقة.. أولئك المستحوذون على أراض شاسعة، بحكم أنها كانت مشاعا، فنشأت الاقطاعيات الكبيرة، التي يكدح فيها الفلاحون كعبيد ارض تحت رحمة حفنة من الشيوخ، الذين استأثروا بخيراتها وتركوا الفلاحين في فقر مدقع، فاعتبروا الكيال منافسا غريباً وضعيفا، ولا ينتمي إليهم مطلقا..كالغراب الأبقع بين الصقور الجارحة..

" بل قولي كان متطفلا؛ ودخيلاً على بيئة عشائرية غريبة عليه، لا يفهمها ولا تفهمه. ولكن عُرفَ عنه، أنه أشتهر بالذكاء والسياسة..

" صحيح،  كان يوصف بهما، ولكن كان يتعين عليه ان يشتغل بالتجارة فهي مهنة اجداده، التي نشأ وتربى عليها."

" هل كان يتكلم اللغة العربية؟"

"والتركية والفارسية بطلاقة أيضاً، ويتفاهم بالهندية، وكانت لهجته العامية بغدادية اصيلة. كان بغداديا قحاً."

فكرت مع نفسي.. إذن قد يكون متحدرا من سلالة من التجار الشرقيين القدامى، الذين كانوا يجوبون البلدان من بحر الخزر حتى الخليج، وقد اختلطت دماؤهم منذ أجيال بعيدة، بالغزاة الذين تناوبوا على حكم العراق، منذ سقوط دولة بني العباس.

" اتشكين بأصله، ألم يكن عربياً!"

"  انا اعرف يا نوح! أنت أعرف مني بذلك، أنت تقرأ كتب التاريخ، أما أنا فقد توقف عندي الزمن منذ مقتل الحسين، وبعده عم الحزن البكاء."

" وكيف تعامل معهم؟:

"مع من؟"

"مع كبار ملاك الأراضي؟"

"إي.. أخذوا يضايقونه ويؤلبون الفلاحين ضده، حتى اضطر أن يتنازل لهم عن اراضيه.."

فكرت بما قالت، فعرفت انه تنازل عنها لقاء امتيازات تجارية، تمنحه حق احتكار شراء الحبوب من أراضيهم الزراعية.. فبنى مخزن كبير للحبوب في محلة السرية، وامتلك بيوتاً فيها، وبساتين في محيط المدينة، كل هذه الثروة الطائلة آلت في النهاية لأبي.. وأثناء احتلال الإنكليز، أستورد مكائن انكليزيه من بريطانيا، لجرش الحبوب وطحنها..

ذكرت لها شيئا مما اعرفه عن عائلة الكيال.

"ها.. أنت تعرف الشيء الكثير عنه، فلماذا تسألني؟"

" لأتأكد من صحة معلوماتي."

"أحكي ماذا تعرف أيضاً؟"

شرعت أحكي لها...

أن الجد الأكبر كان ذو ميول تركية قوية، أما ابنه عمران فقد عقد علاقة قوية مع القوميسير الإيراني في البصرة، مصالح تجارية، وشجع أهالي محلة السرية على تسجيل ابنائهم كرعايا للدولة الفارسية، أقنعهم أن ذلك يعفيهم من التجنيد الإجباري في الجيش التركي، والانخراط  في السفر برلك.. الذي كان الرجال يتهربون منه، كان التنافس التركي الفارسي على العراق، امتدادا للصراع الطويل منذ قرون، بين الدولتين الصفوية والعثمانية، ولكن في أول إحصاء رسمي للسكان، عندما جاء موظفو الحكومة العراقية الى محلة السرية، حيث كان منزله، دقوا الباب، فخرج لهم، رحب بهم وقدم لهم الشاي، وحين سألوه من أي رعايا الدولتين هو، قال انا من رعايا الدولة العلية العثمانية، كان ذكيا يعرف أن رعاياها سيكون لهم شأن هام، ومنهم ستكون الكوادر المدربة لإدارة دفة الدولة، لأنهم كانوا آخر من حكم العراق، قبل هزيمتهم في أواخر الحرب العالمية الأولى، على يد المحتلين الإنكليز.. وأعرف أيضاً أن والدي موسى الكيال كان ذو نزعة رجعية في البداية، وشديد التعصب للملكية، وفي غضون السنوات المتعاقبة، أخذ يتقلب مع السياسة حيثما اتجهت رياحها، حتى أنه انقلب على أفكاره، وتبنى أفكار ثورة 14 تموز، تشفياً بمصادرة الزعيم عبد الكريم قاسم لأراضي الإقطاعيين، وصار من أنصاره، والمتحمسين له، حتى أنه علق صورته في مكتبه، ثم أنزلها بعد إطاحته، واحتفظ بها مع مقتنياته الشخصية القديمة، وبعد ذلك أنطوى على نفسه، وآثر العزلة ومال للزهد، خاصة بعد غرق أبنه منير ورحيل زوجته وسفر ولده الدكتورممتاز للخارج..

شكرا لمتابعتكم

يتبع رجاء

 

صالح البياتي

.........................

حلقة من رواية: بيت الأم

 

 

في نصوص اليوم