نصوص أدبية

المدينة

علي القاسميدخلتُ المدينةَ أوَّلَ مرَّةٍ عندما كنتُ فتًى يافعًا غريرًا، وعالَمي يقتصر على فضاء قريتنا الإنسانيّ البسيط. بيوتٌ طينيَّةٌ قليلةٌ متواضعة، تحيط بها حقولٌ شاسعةٌ خضراء، وتُظلّها سماءٌ صافيةُ الزرقة معظم أيام السنة، وتتغلغل أشعة الشمس الذهبيَّة في كلِّ مكان: في المزارع والأزقَّة والمنازل والقلوب، تحمل معها الدفء والحنان، وتُشعِل الألوان زاهية في المراعي والحقول والبساتين، وتبعث البريق في العيون. وفي الليل غالبًا ما ننام على سطوح المنازل أو في باحاتها المشرعة على السماء، فتبدو النجوم لنا كبيرةً قريبةً في متناول اليد. وعدد أهالي القرية لا يتعدّى العشرات ويعرف بعضهم بعضًا، وتربط بينهم أواصر القرابة والصداقة والعمل، ويوحِّد مصيرَهم الحرثُ والسقي والحصاد وأحوالُ الزرع والمحصول. البسمة على الشفاه، والطيبة في الأفئدة.

غادرتُ قريتي متوجِّهًا إلى المدينة باحثًا عن عمل. فقد بهرتني أخبار المدينة قبل أن أرحل إليها. سمعتُ أنَّ شوارعها فسيحة نظيفة، وأنَّ مساكنها فاخرة ذات مرافقٍ مريحةٍ تُضاء ليلاً بالكهرباء، وأنَّ غُرفها مجهَّزة بمكيِّفات الهواء فلا يشعر الإنسان فيها بِحَرٍّ ولا برد، بل بهواءٍ ربيعيٍّ دائم. قالوا إنَّ أحياءَها تتوفَّر على مدارس يتعلَّم فيها الصغار والكبار، وتنتشر فيها عيادات الأطباء والمصحّات والمستشفيات. وقالوا إنَّ العمل ميسور بأجورٍ سخيّة لمَن يرغب، وإنَّ المرء يعود إلى قريته غنيًّا بعد فترةٍ وجيزة.

أقبلتُ على المدينة فبدتْ لي من بعيد كتلةً متراصّةً من أبنيةٍ شاهقةٍ بُنِّيَّة اللون. وكلَّما اقتربتُ منها تلاشتِ المزارع والخضرة من حولي، وخفتتْ أصوات الطيور، وطغى ضجيجُ المعامل المنتشرة في أطراف المدينة، واتَّشحتْ زرقة السماء بدخانٍ أسودَ يتصاعد من مداخن المصانع.

كاد أوَّل شارع ولجته في أطراف المدينة يخلو من المارة. أردتُ أن أسأل أحدهم عن نُزُلٍ أسكن فيه. ولكنِّي لم أجد أيَّ فرد في ذلك الشارع سوى بعض السيّارات التي كانت تمرق مسرعةً بجانبي وتوشك أن تُلقي بي أرضًا. سرتُ طويلاً قبل أن أصلَ تقاطع الطرق. وهناك رأيتً شرطيًّا ببزَّته الخاكيَّة، يقف على منصّة في وسط الساحة، وهو يرفع يدَيه يمينًا وشمالاً لتنظيم حركة مرور السيّارات. وأقعى إلى جانبه كلبٌ ضخمُ الجثةِ حسبتُه واحدًا من تلك الكلاب البوليسيّة التي سمعت عن عجائبها. لم أجرؤ على الاقتراب من الشرطيّ أو طلب مساعدته، لأنَّه لم يأبه بي، ربَّما بسبب انهماكه في عمله.

الشارع خالٍ تقريبًا من المارة، والسيّاراتُ فيه نادرة. واصلتُ سيري وأنا أحرص على المشي على الرصيف خوفًا من السيّارات التي قد تنطلق في وسط الشارع. وعندما سمعتُ ضوضاءَ قادمةً من الخلف تُنْبئ بقدوم إحدى هذه السيّارات، أدرتُ وجهي إليها فلمحت رجلاً يقود سيّارته، وعلى المقعد المجاور له كلبٌ يُقعي على رجليْه ويطلُّ برأسه من النافذة الجانبيّة نصف المفتوحة.

شاهدتُ على الرصيف امرأةً تسير في اتّجاهي وهي تدفع عربةً أمامها، لا شكَّ أنَّها تحمل رضيعها في تلك العربة. وعزمتُ على أن أرجو منها أن تدلَّني على نُزُلٍ قريب. وعندما اقتربتْ مني رأيتُ في العربة كلبًا صغيرًا ذا شعر طويل أشبه ما يكون بالقطَّة، وقد أراح رأسه على الوسادة داخل العربة، وغطّ في إغفاءة هنيئة. غلبتني الدهشة وهلةً، وعندما أردتُ أن أتوجّه بسؤالي إلى السيدة، كانت قد ابتعدت بعربتها، ولم يعُد من اللائق أن أتبعها، لألقي عليها بسؤالي.

أقْبلَ رجلٌ وهو يقود كلبًا متوسطَ الحجم بسلسلةٍ تنتهي بطوقٍ جلديٍّ على عُنق الكلب. ألقيتُ السلام على الرجل، وتوقفتُ لأرجوه أن يدلَّني على نُزُلٍ قريب أستطيع أن أقيم فيه. ولكنَّ الرجل لم يردّ التحية، ونظر إليّ باستغراب، ومضى في سبيله دون أن يتيح لي فرصة السؤال.

واصلتُ سيري وأنا أتطلَّع إلى المنازل المُمتدَّة على جانبَي الشارع، وهي موصدة الأبواب. ولكنَّ بعض نوافذها مفتوحةٌ ومحميَّةٌ بمُشبَّكٍ حديديّ.  ودفعني حبُّ الاستطلاع إلى إلقاء نظرةٍ على بعض تلك النوافذ المشرَعة. فرأيتُ من خلال إحداها صالةً مؤثَّثةً بمجموعةٍ من الأرائك الفاخرة، وقد استلقى على إحداها كلبٌ ضخمٌ أسودُ أفطسُ الأنف، وما إنْ التقتْ نظراتنا حتّى اكفهر وجهه، وكشّر عن أنيابه، وتأهَّب للنباح والهجوم عليّ. ابتعدتُ مُسرِعًا عن النافذة بقلبٍ خافق.

لم أستطِع مقاومةَ حبِّ الاستطلاع في داخلي، وأخذتُ أنظر إلى النوافذ المطلَّة على الشارع. فألفيتُ معظم الغرف فارغةً لا أحد فيها. ولكنَّني رأيتُ، في داخل إحدى هذه النوافذ المفتوحة، كلبًا يستحمُّ في المغطس، وقد انهمكت امرأة في غسله بالصابون والماء، ورائحة العطور تفوح عبر النافذة.

وتوقَّفتُ أمام واجهة زجاجية كبيرة لإحدى المحلات التجاريّة وقد عُرض فيها عددٌ من الجِراء ( صغار الكلاب )، وهي تلعب مع بعضها، أو تأكل طعامها، أو تَلِغ في آنية الماء الموضوعة بعنايةٍ في زاويةِ مكانِ العرض. كانت كلُّها نظيفةً لامعةَ الشَّعر.

واصلتُ سيري في الشارع، وكلَّما اقتربتُ من وسط المدينة، ازداد عدد المارَّة وكثرتِ المحلات التجاريّة. بَيْدَ أنَّني لم أفلح في التحدُّث إلى أيِّ واحدٍ من الناس، رجلاً كان أو امرأة. فكلُّ واحدٍ من أولئك المارَّة، كان يصطحب كلبًا يُشغله عن أيِّ شيءٍ آخر. بعضهم يجرُّه وراءَه بسلسلة، وبعضهم الآخر استغنى عن السلسلة وراح كلبه يتبعه أو يسير إلى جانبه أو أمامه. أبادرهم بالسَّلام فلا يردّون عليَّ، بل ينظرون إليَّ بشيءٍ من الاستغراب، ثمَّ يمضون مبتعدين عنّي.

وأخيراً تأكَّد لي أنَّ أحدًا لن يتحدَّث معي. ولا بُدَّ لي من الاعتماد على نفسي ومحاولة قراءة اللوحات المعلَّقة على البنايات لَعلّي أعثر على نُزُل. لم أقرأ منذ مُدّة طويلة، وأخذتُ أنسى ما تعلمتُه من القراءة في المدرسة الأوَّليّة في قريتي، وصار التمييز بين الحروف المتشابهة أمرًا عسيرًا عليَّ. فرحتُ أتوقَّف بين الفينة والفينة لأفكَّ رموزَ لوحةٍ من اللوحات.

وبينما كنتُ أقرأ إحدى هذه اللوحات في الجانب الآخر من الشارع، جذب انتباهي كلبٌ أوقف صاحبَه على الرصيف المقابل وأخذ ينظر إلى الرصيف الذي كنتُ أسير عليه. ظننته أوَّل الأمر ينظر إليّ. ولكنَّني وجدت رجلاً يسير خلفي مباشرة ومعه كلبه. وقد أوقف هذا الكلبُ صاحبَه كذلك، وراح ينظر إلى الكلب الآخر على الرصيف المقابل. ثمَّ أخذ الكلبان بجرِ صاحبَيهما متَّجهَيْن أحدهما نحو الآخر حتّى التقيا وسط الشارع. وهناك، شرع الكلبان في تبادل النظرات، وصدرت منهما همهمة خافتة، ثمَّ أخذا بشمِّ أحدهما الآخر، وانغمرا في عناق طويل، في حين وقف صاحباهما كلٌّ في مكانه من دون أن يتبادلا كلمة. وتوقَّفتْ حركة المرور في الشارع، وانتظرتِ السيّارات من الجهتيْن حتّى انتهى لقاء الكلبيْن.

وبعد جهدٍ، قرأتُ كلمة النُزُل في لوحةٍ من اللوحات وهي تشير إلى شارع جانبيّ. توجهتُ إلى ذلك الشارع الفرعيّ. كان الطريق مُوحِشًا والأبواب موصدة. وسرتُ حتّى رأيت بناءً كبيرًا له بابٌ واسع مفتوح على مصراعَيه، فدخلتُ منه. امتدَّ أمامي ممرّ طويل وعلى جانبيه أقفاص حديديّة متراصَّة لها أبواب تُفضي إلى الممرّ. وفي كلِّ قفصٍ منها كلبٌ وأمامه إناءُ ماءٍ وصحنُ طعام. كانت الكلاب من أنواع متعدِّدة، وذات ألوان مختلفة، ولها أحجام متباينة.

لمحتُ في آخر الممرِّ مكتبًا، يتوسَّطه رجلٌ بَدينٌ يجلس على كرسيٍّ وثيرٍ، وأمامه منضدةٌ كبيرةٌ عليها سجلات وأقلام، وهو يدوّن شيئًا في تلك السجلات. نظر إليَّ الرجل وبادرني بالكلام قبل أن ألقي عليه التحية:

ـ هل تريد أن تحجز مكانًا لكلبك في النُزُل؟

ـ ما عندي كلب.

ـ إذن ، ترغب في شراء كلب؟

ـ لا، ولكن..

فقاطعني قائلاً بنبرة صارمة لا تقبل الردّ: إذن، لا أستطيع أن أفعل شيئًا لك.

وصرف نظره إلى سجلِّه يدّون شيئًا فيه.

خرجتُ من المكان، ورحتُ أحدّق في اللوحة المعلَّقة على بابه، وأكملتُ قراءتها ففهمتُ أنَّه نُزُلٌ للكلاب. وعدتُ إلى شوارع المدينة أبحث عن نُزُل للبشر. وبعد لأي عثرتُ عليه.

دخلتُ البناية فوجدت ساحةً فسيحةً وفي أرجائها الأربعة انتظمت الغرف. وكان بعض أبوابها مفتوحًا، بحيث كنتُ أستطيع أن أرى مَن فيها وما فيها. رأيت،ُ مثلاً، رجلاً وكلبًا مستلقييْن على سريريْن منفصليْن في إحدى هذه الغرف. وفي غرفةٍ أُخرى، رأيتُ امرأةً تداعب كلبًا صغيرًا وترمي بدُميةٍ إليه. وتوجَّهتُ إلى مكتب الاستقبال في النُزُل، حيث يجلس رجلٌ كهلٌ على كرسيٍّ مرتفعٍ، وإلى جانبه كلبٌ ضخمُ الجثّة.

نظر إليَّ بشيءٍ ظاهرٍ من الاستغراب. سلَّمتُ عليه فلم يردّ السلام. قلتُ:

ـ أريد غرفةً صغيرة .

ـ لماذا؟

ـ لأنَّني أنوي البحث عن عملٍ لي في هذه المدينة.

ـ ولكن أين كلبك؟

ـ لا كلب لديّ.

في تلك اللحظة ارتسمتْ على مُحيّا الرجل أماراتُ الدهشة الممزوجة بشيءٍ من الخوف والاشمئزاز، وقال:

ـ إذن، لا يمكنك البقاء في النُزُل.

كنتُ على وشك أن أسأل عن السبب، عندما أضاف بعدوانيَّةٍ جليَّةٍ قائلاً:

ـ بل لا يمكنك البقاء في هذه المدينة، ولا العمل فيها. 

اعترتني الدهشة وداخلتني الحيرة، ووقفتُ مرتبكًا أنظر إلى الرجل باحثًا عن تفسير لقوله. حدّق الرجل في وجهي بحدّة، وأخذت عيناه تحمران شيئًا فشيئًا، وأرنبتا أنفه تخفقان ، وشفتاه ترتعشان بشدّة. وصدر منه صوت خافت سرعان ما علا حتّى أصبح أقرب إلى العواء منه إلى الصوت البشري، وراح الزَّبد يخرج من شدقيه، وكشَّر عن أنيابٍ حادة، واستطال فكاه إلى الأمام حتّى أصبحتا مثل فكَّي الكلب، وانتصبت أذناه، وازداد عواؤه حتّى تحوَّل إلى نباح، وقفز من وراء المنضدة وكاد يقع عليَّ لولا أنَّني تراجعت القهقرى، واستوى على أطرافه الأربعة على الأرض أمامي، وقد تجرّد من ملابسه ونبتَ لجسمه شعرٌ قصير، ونمت لقوائمه الأربعة مخالبٌ بارزة، ومُسِخَ كلبًا نبّاحًا ضخم الصوت كبير الخطر، فما كان منّي إلا أن أولّي هاربًا من النُزُل والمدينة، تاركاً نعلَيَّ خلفي، لأجري بأقصى ما استطعتُ في اتّجاه القرية.

***

قصة قصيرة

بقلم: علي القاسمي

أديب وباحث أكاديمي عراقي مقيم في المغرب.

 

 

في نصوص اليوم