نصوص أدبية

موت المجنون

صالح البياتيأحدثت العيارات النارية عند ارتطامها بجدران البيت، صوتا مكتوما، ملأ الدخان باحة البيت المكشوفة..

 فتح نوح باب غرفة النوم قليلا، بمقدار يتيح له رؤية ما يحدث، توقف إطلاق النار، رأى الدهلة تخرج من غرفتها، تصرخ وتتوسل، أن يكفوا عن إطلاق النار، رد عليها ضابط الأمن فاخر خريبط ، تنحي جانبا،  صرخ بأعلى صوته.

أخرج الينا وارفع يديك عاليا.

أنتهز سعيد الفرصة فهرب من نافذة الغرفة، وتسلق الى السطح، وأخذ يطلق النار من مسدسه، ردوا عليه برشقات من رشاشاتهم الكلاشنكوف، توقف عن الرمي، صرخ فاخر خريبط، لقد جرح واحدا من رفاقنا، سنقتل الكلب حالا، وصرخ أحد العناصر، ُقتل الشيخ مجبل، فاجأهم ثانية من داخل المنزل، وعندما نفدت ذخيرته حاول الفرار، لكنهم حاصروه، فهبت الدهلة لنجدته، وقفت أمامه لتحميه، بينما كان هو يحاول دفع أمه ويلوح بمسدسه، أطلق أحد عناصر الأمن النار فقتلها، وقبضوا عليه جريحا.. سحلوه من رجليه خارج البيت وهم يضربونه ويركلونه حتى أثخنوه، فراح يصرخ بألم:

قتلتم أمي الدهلة..

فز نوح من نومه مرعوبا، كانت ستائر غرفة النوم غير مسدله، وضوء الشمس يغمر الغرفة، ولكن ظل السرير الكبير حجبه عن عينيه، نظر حوله، لم تصدق عيناه، انه كان يختنق تحت وطأة كابوس الساعة الأخيرة، قبل فجر تلك الليلة، التي نام فيها في بيت الخالة الدهلة، وعندما صحى تماما، نهض، وخرج من الغرفة، لم يكن أحد في البيت، كان وحده في بيت اشباح، كان ذاك الذي رأه كابوسا، اشبه بالواقع الذي يعيشه بكل تفاصيله وظلاله القاتمة..

ذهب لصالة الاستقبال، هناك عثر على رسالة سعيد القصيرة:

" أعفيتك من مهمة القيام بتهريب والدتي الى إيران، سأقوم  بالمهمة واعود لأكمل واجبي"

تخيل نوح منزلها غارقا بالدموع.

عاشت الدهلة بين كادحي المدينة، في محلة السرية، التي يستنشق أهلها الهواء، ممزوجا بنسمات آتية من نهر الكحلاء، هنا التقى الفقراء، كما يلتقون في كل مدن العالم الواسع، بأناس من جلدتهم ورائحتهم وانكفاءهم، كما التقى ابنها سعيد بعامل المطحنة مظلوم والد هيلا، تصادقا، شربا الخمرة، وتقاسما شظف العيش..

ستعود السومرية الدهلة من رحلتها، كما تعود الطيور المهاجرة لموطنها الأصلي، رغم خوفها من الوقوع في شباك الصيد المنصوبة لها على أسطح مياه الهور الساكنة..

 بعد تلك الليلة المروعة التي رأى فيها نوح مصرع الدهلة، كأنه حقيقة ماثلة للعيان، رغبت نفسه عن الإفطار الذي أعدته وتركته في غرفة المطبخ، خرج عند الساعة السابعة صباحا، يحث الخطى لبيته القريب، الذي لا يبعد سوى مئة متر تقريبا، كان مسرعا كأنه مطارد من اشباح الليلة الماضية، يروم توضيب حقيبتة للسفر غدا..

وقبل وصوله لمنزله، رأى شاحنة عسكرية تدخل الزقاق، توقفت امام بيت  مهجرين لإيران، ترجل السائق ومرافقه، انزلا نعشا ملفوفا بالعلم العراقي، وتركاه امام الباب المغلق، وعادا للشاحنة، حاول نوح اللحاق بهما، ولكنها انطلقت بسرعة، تحلق بعض اصدقاء القتيل حول النعش، وصل اليه، انحنى

و قرأ الورقة الملصقة بخشب التابوت: الاسم، الميلاد، الوحدة العسكرية، العنوان، تاريخ ومكان الاستشهاد..

فقال واحدا من اصدقاءه، وكان يبكي بحرقة:

" كانت آخر مرة جاءهم بإجازة، قبل تسفيرهم."

قال نوح محاولا تهدئته.

"الواجب علينا الآن تشيعه لمثواه، ودفنه وإقامة العزاء على روحه"

 رفعوه عن الأرض، وسارو به بين الناس الواقفين على جانبي الطريق، الى جامع النجارين، هناك أسجوه في الباحة الواسعة، وبعث نوح من يخبر الشيخ كاظم، ولكنه اعتذر عن المجيء، فهم نوح لماذا لم يأت للصلاة عليه، خوفا من تهمة التعاطف مع المسفرين، دار نقاش سريع بين الحاضرين، واتفقوا على دفنه بمقبرة المدينة، وإقامة مراسم التأبين على روحه مساء نفس اليوم.

 كان الشاب واسمه عدنان، ينتمي لأسرة من أصول إيرانية بعيدة، ذات سمعة محترمة، وبمستوى معيشي جيد، وهم من الجيران القدامى في زقاق المحلة، وكان الأب ممرضا قديما في مستشفى مدينة العمارة الجمهوري، لم يحقق الابن حلم ابيه بدراسة الطب، انصرف للأعمال الحرة، بعد تخرجه من الثانوية، اختار تجارة الساعات اليدوية، فكان يسافر للكويت ثلاث مرات في السنة، يشتري بضاعته من تجار الجملة، ولديه زبائن يرغبون بإقتناء الساعات الغالية الثمن، السويسرية الصنع، ومن الماركات العالمية

يرتدي دائما قمصانا راقية، ماركة ارو الشهيرة، واحذية جلدية تلمع تحت ضوء الشمس، رغم الغبار المتطاير صيفا، والأوحال المزعجة شتاء، يعتني بهندامه، وبتصفيف شعره الاسود، يفرقه من جهة اليسار، وجهه الحنطي وسيم وحليق دائما، يتحدث بلهجة، مزيج بين الميسانية المحببه والبغدادية، التي اتقنها باختلاطه بأبناء الموظفين البغادلة، في دوائر الحكومة في مدينة العمارة.

 كان كريم النفس، يبادر بالمساعدة عن طيب خاطر، ومن تلقاء نفسه، ويغض الطرف عندما يلتقي في الطريق بإحدى فتيات المحلة، أحبه الناس الذين عرفوه عن قرب..

 تذكره نوح، عندما كان يزوه في مكتبه بالمصرف، يأتي ليودع في حسابه، او يسحب منه، وأثناء وجوده يعرض عليه ساعة باهضة الثمن، يشتريها نوح دون مساومة، كان بارعا في ترويج بضاعته، ونزيها مع زبائنه.. ساله يوما في احدى زياراته للمصرف:

" عدنان انت ناجح في عملك رغم صغر سنك، واتوقع لك مستقبلا باهرا في التجارة. ولكن كأي شاب في عمرك، أكان لك حلم آخر لم تستطع تحقيقة ؟"

" كان حلمي يا أستاذ نوح.. ولكن لا داعي لنبش الماضي.."

أستدعى نوح لذاكرته ذاك المشهد القديم، الذي في حدث في مكتبه، بكل تفاصيلة الدقيقة.. ظل عدنان صامتا، ارتسم حزن طارئ على وجهه الأسمر الحليق، تنهد بعمق:

" كنت احلم بالكلية العسكرية، وقدمنا أنا وصديقي حنون اوراقنا، في نفس السنة، ولو اتيحت لي فرصة المقابلة، لنجحت واجتزت اختبار اللياقة البدنية. لكنهم رفضوا قبولي."

" لماذا؟"

"لأني لست عراقيا كما قالوا.."

"كيف!"

حكى لنوح.. ان عضوا في لجنة المقابلة قال عنه انه ايرانيا، وآخر قال انت نزيل وتدبك على السطح، ولم يفهم معنى كلام الثاني، ولما سأله نوح إذا كان الموضوع كذلك، فلماذا لم يثنك والدك عن التقديم، فهل كان لا يعرف انهم سيرفضونك، أكد لنوح انه يعرف ذلك سلفا، ولكنه اغتنم الفرصة لتحقيق حلمه العتيد، بإقناعي بعد الفشل في القبول بالكلية العسكرية، ان اقدم أوراقي الى الكلية الطبية، لأن معدلي كان يؤلني للقبول، ولما قال نوح وماذا بعد؟ تأوه عدنان وتنهد قائلا، لا شئ يا استاذ نوح.. يبدو نحن مواطنون من الدرجة الثانية، هم لا يقولون لنا، ولكن افعالهم تدل على ذلك.

كان هذا الحديث قد دار بينهما قبل سنة، عندما جاء عدنان واشترى نوح منه الساعة اليدوية، وقد ذكره بشيء اخر فاستغرق نوح ضاحكا، ذات يوم تشاجر حنون وعدنان، كانا آنذاك صبيان، عير أحدهما الآخر هكذا:

" يا ابن الخبازة "

" يا ابن العجمي."

اصلح نوح بينهما ومنذ ذاك الوقت صارا صديقين حميمين..

كان يحبهما جدا، وكما توقع للمرحوم عدنان مستقبلا ناجحا كرجل اعمال، كذلك تمنى للمرحوم حنون، مستقبلا مهنيا مرموقا في الجيش العراقي، شاب عصامي بمعنى الكلمة، وكان يحبه ويعطف عليه كأب، لأنه نشأ يتيما منذ طفولته المبكرة، وعندما كان يلتقيه في اجازاته، قبل تخرجه من الكلية العسكرية، كان ينصحه الا يورط نفسه في أي انقلاب عسكري، وان يضع نصب عينيه دوما، وقبل كل شيء، الدفاع عن الوطن، والا يتحزب لأي اتجاه سياسي يتصارع على الحكم.. كان المرحوم حنون يؤكد لنوح انه سوف لن يخالف نصيحته..

 تذكره وهو صبي حافي القدمين، يحمل طبقا على رأسه، مليئا بأرغفة الخبز الطازج، ليبيعه في السوق بعد عودته من المدرسة مباشرة..

وكما انه حضر مأتمه قبل ايام، ها هو يحضر مأتم صديقه عدنان، اثنان فُجع بهما، من شبان محلته الصغيرة، خلال أسبوع واحد.. وعندما خرج من المأتم، ولم يجد من يواسيه بالفقيد، اغرورقت عيناه بالدموع، رأى رجلا عجوزا اعمى، يقف في الظلام، عند باب الجامع، تصدق عليه، وما أن لمس النقود بأصابع كفه المرتعشة، حتى رفع صوته بالدعاء:

"عظم الله اجوركم "

 عندما ابتعد نوح عن الجامع، ولفته عتمة الزقاق، انتحب، واسرع في مشيه حتى وصل لبيته.

في صباح اليوم التالي ذهب لمحل عمه الحاج سبتي، كي ينقل رسالة شفاهية لشريكه، وقبل أن يصل المكان، حدث شيء غريب، أذهله عن هدفه، كان بطله المجنون عاشور، الذي طرد سليم الخماش أهله الى إيران، في حملة تهجير الربيع الكبيرة، رأى المجنون يطاف به في الشوارع، مرتديا الزي الديني، ويعتمرعمامة سوداء، تكاد تسقط عن رأسه الصغير، عند كل حركة، قاده اربعة من رجال سليم الخماش، حتى اوصلوه الى السوق الكبير، وكانوا يضربونه بالتناوب، ضربا خفيفا، بقصد الإهانة، ويرددون ضاحكين باستهزاء:

"هذا المجوسي الدجال"

 هناك تركوه، واعطوه طعاما..

بقي المسكين واقفا في مكانه بلا حراك، يلتفت حائرا يمينا ويسارا..

وفي اليوم التالي، كان عاشور يرتدي هذه المرة بدلة الرئيس العسكرية، ذات الرتبة والانواط والنياشين، ويعتمر قبعته، ويقف في نفس المكان، ابتعد عنه الناس، وهم يخفون ابتساماتهم الماكرة، جاء الذين اقتادوه بالأمس على جناح السرعة، سحبوه بعنف، فسقطت القبعة عن رأسه، بان رأسه الصغير المحلوق، كجوزة هند كبيرة الحجم، اقتادوه بهدوء، وساروا به بين الناس، ولكنهم لم يرفعوا أيديهم عليه، ولم يمسوا شعرة واحدة من رأسه الحليق.

اختفى عاشور عن الانظار لبضعة أيام، ثم شوهد جثة هامدة، عارية، مرمية عند مدخل السوق الكبير، عند تقاطعه مع سوقي العرب (العجم سابقا) والصفارين، مغطاة بقطعة من ورق المقوى، لم تكن كافيه لتغطي الجثة بأكملها، فمرة يأتي أحدهم فيسحبها ناحية قدميه المتسختين الحافيتين ليواري عورته، ويأتي آخر يسحبها ليغطي رأسه الصغير.

تساءل أحدهم متبرما:

" لماذا تركوا هذا المسكين وحيدا، ولم يسفروه مع اهله!"

وعلق آخر جوبا على هذا التساؤل بتهكم ولكن بنبرة حزينة:

" لكي نتسلى به وننسى الحرب.."

اسرع نوح مع واحد من المحلقين حول الجثة، الى جادة النجارين، ليجلب تابوتا، كان يشاهد هذه التوابيت قديما على جانبي ورش النجارة اليدوية، مصنوعة من  من خشب رديء، معروضة في الخارج ليلا، وكان بعض المحسنين يشترونها ابتغاء الثواب، وقفا لجامع النجارين، فهي مجرد وسيلة نقل، وتنتفي الحاجة اليها مباشرة بعد الدفن، ولم يكن عليها طلب كثير في تلك الايام.

قال نوح في نفسه.. ها قد جاء اليوم الذي ازدهرت فيه هذه التجارة، التي كانت بائرة من قبل.

شكرا لمتابعتكم

يتبع

***

حلقة من رواية: بيت الأم

صالح البياتي

 

 

في نصوص اليوم