نصوص أدبية

قلب صغير

السيد الزرقانيكانت السماء غائمة، في نهار شتوي عاصف، تصفر فيه الرياح الباردة فتنال من أجساد نحيفة نيل الأسود من فريستها، كانت الصغيرة تدفن جسدها الضعيف بين ضلوع أمها التي توسدت تلك الكنبة العتيقة التي ورثتها عن أبيها الذي رحل منذ عده سنوات بعد أن زوجها من جار له عائد من بلاد النفط العربي معوج اللسان منفوخ البنيان، تاركا عقلة رهن ملذاته الدؤبة في مقاهي العاصمة ونواديها الليلة، حين زغلل أعينه بتلك الأوراق الخضراء التي حصدها من ترحاله في تلك البلاد البعيدة عن هويتنا وحضارتنا، لم تنسي ابد حين زفت أمها خبر خطبتها لرجل ثري سوف ينتشل فقرهما إلي كينونة أخري كانت مجرد أحلام اليقظة تراودهم كلما ضاق بابيها الخناق من قلة الحيلة في كسب العيش، كانت ذو جمال أخاذ يشد كل الناظرين في تلك القرية الفقيرة في البنيات حيث كسا فيها الحزن وجوه خرت مهمومة من عوذ الحاجة، كانت رغم ملابسها البسيطة تبدو وكأنها (سندريﻻ) في خطواتها الرنانة في تلك الحارة العتيقة تمنحها حالة من الانبهار الداخلي بعد ظهور أنوثتها البكر وهي لم تزل تخطو خطواتها الأولي في المدرسة الاعداية الكائنة عند الطرف البحري من قريتهم، نهداها مشدودان خلف تلك البلوزة الضيقة التي حصلت عليها والدتها من تلك السيدة التي كانت تمسح لها شقتها في كل أسبوع حيث منحتها بعض من ملابس أبنائها البنين والبنات، كانت كلما خلت إلي نفسها جلست تقيس تلك الملابس سواء الخارجية أو الداخلية وتمارس أمام تلك المرأة لعبة البروفات المنزلية فتلك تمنحها زهوا بجمال صدرها وخسرها وذاك يطير بها من تلك الحارة المتربة إلي مصاف نجمات السينما في بهاء الخطوات وجمال البشرة البيضاء، كانت تمتلك نظرات ساحرة تبهر بها كل ناظر إليها وتمتلك من الحديث أعذبه ولديها لسان ذواق لجمال لغتها وثراء مداركها العلمية، كانت تمنح نفسها دائما فرصة القراءة والاطلاع الواسع في مناهل الأدب كانت تعيش ليال طويلة مع حكايات" نجيب محفوظ"فتسبع في حواري الجمالية وباب الخلق وتعيش مع بطالاته وشرودهن العاطفي ومغامراتهن مع أولاد حارتهن، وكانت روايات" إحسان عبد القدوس " لها مفعول السحر عليها بما يملكه من جمال الأسلوب وسحر الحوارات العاطفية حتي تنبه إليها مدرس اللغة العربية فمنحها شهادة تقدير وتوعد لها بمستقبل باهر وسطت المتفوقات من أقرانها وأبناء عمرها، توسمت في نفسها احدي المذيعات الفضلاء اللاتي ينتظرهن السود الأعظم من جمهور المشاهدين كل مساء، تذكرت تلك المساءات التي ولت وكانت تحتضن أحلامها الخيالية في تلك الحجرة ذات الحوائط الطينية التي تحتويها هي وإخوتها وكم كتبت في دفاترها المدرسية عن طموح لم يتحقق منه شيء، حيث جئتها أمها لتخبرها بأن أبيها قد قبض ثمن زفافها إلي رجل يكبرها بثلاثين عاما ﻻ تعرفه ولكنه فقط ساوم أبيها علي ثمنها، ضمتها أمها في تلك الليلة وقلبها يصرح في فضاءات العالم دون ان يسمعه احد، كانت ذبيحة اللسان حين نظرت دموعها أمها في الحجرة الأخرى ونظرات أخواتها الصغار (والله وكبرتي) كانت أغنيات الجيران وهم يودعونها إلي المقصلة ترانيم حزن علي الزهرة التي قطفها هذا الكهل ليلقي بها في محراب متعته المجنونة التي تهرب من حين يغيب منشطه الطبي فلم يطل بها الوقت حتي هربت منه لتعود وفي أحشائها حلم ليس أوانه ورحل الجميع وهاهي مازالت ترتب ملامحها في مرآة الشتاء العاصف في انتظار المطر كي يغسل عنها ما علق بها من دنس تلك الزيجة البالية، الصغيرة تتقلب في أحضانها تبحث عن الدفيء وهي تبحث في كنف السقف المعروق بالأخشاب عن سند يحميها من سيل المواجع التي ترسبت في براءة قلبها الصغير .

***

قصة السيد الزرقاني - كاتب مصري

 

في نصوص اليوم