نصوص أدبية

الشيوعيون.. المطاردة

صالح البياتيلم يعد هناك شيء يؤخره عن العودة بسرعة لسيناء، فقد انجز كل شيء، اوكل بيع المطحنة لصديقه المحامي حسن، الذي وجد مشتريا يدفع الثمن قبل سفره، اما مخزن الحبوب الذي انتفت وظيفته منذ عقدين، والذي يقابل حديقة البلدية ومبنى الاطفائية، فكان يفكر بتحويله الى مجمع سكني حديث. وبينما كان يفكر بمشروعه المستقبلي، تذكر صديقه سعيد وحلمه بوطن حر وشعب سعيد، شعار الحزب الشيوعي العراقي، فبإنتماءه للحزب طوى صفحة بائسة في حياته، وفتح آخرى نضالية، محى عار اميته وجهله، وفي غضون أعوام قليلة، تمكن ان يقرأ رواية الأم، وعشرة أيام هزت العالم، وكيف سقينا الفولاذ، وطبعا قرأ قبل كل شئ المنشورات التثقيفية، وصحفية الحزب، كان نوح يسميه الشيوعي الريفي، فيرد عليه البرجوازي الوجودي..

وكما درس نوح علم الاقتصاد واطلع على أمات الكتب في هذا الحقل من المعرفة الأنسانية: فعرف ان بذرة الثورة الصناعية، نبتت اولا في تربة إنكلتره الملائمة لنموها، وتغذت شجرتها من رؤوس الأموال الكبيرة، للطبقة الوسطى وكبار ملاك الأراضي، وأنها حملت في النهاية على اغصانها الحديدية، ثمارا طيبة، حيث تراكمت الثروات في خزائنهم، اما العمال الفقراء، فأطعمتهم ثمارا أمر من الحنظل.

لذا كانت الشيوعية الغربية المنشأ، ردة فعل مباشر، واحتجاج قوي على بؤس حياة العمال، كما ان التوحيد كان احتجاجا ايمانيا على الشرك وتعدد الآلهة. ولكن سعيد لا يريد ان يؤمن كما يعتقد نوح ان تربة العراق غير ملائمة ابدا لهذه الأفكار الاشتراكية، فكان يدخل معه في جدل لا ينتهي، يؤمن نوح ان رجال المبادئ الإنسانية، يجب ان يكونوا ارقى من الناس العاديين خلقا، وذلك بالالتزام المطلق بالمثل العليا، لذا عندما اكتشف ان ماركس كان رجلا آثما، لأنه انجب ولدا غير شرعي من خادمة منزلهم، سقط بنظره أخلاقيا، ولم يعد يقيم له وزنا، بعكس سعيد الذي لا يعير أهمية لهذه الأمور، فهو يفصل بين الشخصية والمبادئ، ويعتبر الانسان المثالي والمبرأ من الأخطاء، انسان متفوق على طبيعته البشرية، ولا وجود له في الواقع، ولكنه صنيعة الفكر الديني الغيبي، كان هذا القدح بشخصية مؤسس الماركسية، يثير غضب صديقه الشيوعي، فيعير نوح بأفكاره السطحية والبرجوازية..

 كان نوح يتوخى الحذر ان يتكلم بسوء او يقدح بشخصية واحد من هؤلاء الكبار: ماركس، انجلز، لينين، أيام المد الأحمر، يومذاك كانت مدينة العمارة يطلق عليها اسم موسكو الصغيرة، وكان سعيد واحدا من رواد مقهى العمال بشارع بغداد، والتي تزين واجهتها صورتين كبيرتين لماركس وانجلز، وشعار يا عمال العالم اتحدوا، وكان صاحب المقهى من ذوي الميول الشاذة جنسيا..

وكانت الشتائم المتبادلة، علنا أحيانا او سرا، حسب بارومتر السياسة، بين الشيوعيين واعدائهم القوميين والبعثيين على هذا النحو..

" عميل" و " قذر"

واللافت للنظر تحول سعيد المستمر، من قروي بسيط الى مناضل اممي صلب، وكان في غمرة انغماسه في العمل الحزبي وحماسه لفكره، يتخيل ان العراق عاجلا او آجلا سيتحول للمعسكر الاشتراكي، عكس ما كان يعتقد ويراهن ابن عمته، الشيخ كاظم الموحان، وقد تحداه يوما امام نوح، فيما إذا تحقق حلمه يوما ما، فأنه مستعد ان ينزع عمامته البيضاء، ويعطيها لزعاطيط *المحلة كي يلعبوا بها كرة باقدامهم الحافية ..

يا الله كان الشيخ كاظم رائيا آخر، مثل نظيره المندائي سنيجر..

يوم غادر نوح مدينته نهائيا، كان الطقس دافئا، مشمسا ورائعا، اكتفى بأخذ ملابس امه، والبوم صور كبير، كان فيه صور تذكارية، صورة تجمعه بأخيه الراحل منير، يظهر مدى التشابه بينهما، حمل معه كل تلك الأشياء الثمينة، وتوكل على الله، وسافر مبكرا، وهو منشرح الصدر، مرتاح الضمير، ومتلهف لرؤية سيناء بعد حوالي أربع ساعات، إذا سار بمعدل 90 كيلو مترا في الساعة، ولم يحدث شيء طارئ يؤخره عن الوصول.

لم يشغل باله شيء سوى سيناء؛ التي غاب عنها أسبوعا كاملا، وتركها نهبا للقلق والخوف، ولا بد انها الآن غاضبة عليه، ولكن لا بأس، ستسامحه بمجرد ان تراه واقفا امامها يبثها لواعج حبه واشتياقه، يسافر هذه المرة ولا يفكر بالعودة، وهو مرتاح الضمير، مطمئن النفس، لأنه كان طوال حياته مواطنا صالحا، لم يؤذ أحدا بشكل مباشر او غير مباشر، لم يشعل فتيل حرب، ولم يهن أستاذ شاب امام زوجته، ولم يزج مواطنين في مراكز الحجز، ويطردهم من وطنهم.. ولم يأخذ قلم حبر استاذه غصبا، وأن استمر يكرر (لم) فأنه سوف لن ينتهي منها إلا على أبواب بغداد.. لذا فتح نافذة السيارة وهتف بأعلى صوته...

أنا مرتاح الضمير.

 كررها ثلاث مرات، مرتين أقل من الشيخ كاظم، عندما كرر يوما ما في جامع النجارين كلمة "يا الله" خمس مرات.

 لفحته لسعة هواء بارد، اغلق النافذة، وفتح مسجل السيارة،  فملأ فضاءها صوت فيروز يصدح..

 ياحبيبي كلما هب الهوى وشدا البلبل نجوى حبه، لفني الوجد واضناني الهوى كفراش ليس يدري ما به..

مضى الوقت على أحسن ما يرام، لم يوقفه عسكري في أي من نقاط السيطرة، على امتداد الطريق، عند مداخل المدن والبلدات، كان يبطء السرعة، عندما يقترب من واحدة، استعدادا للتوقف، يرفع العسكري يده، يومئ بها بمواصلة سيره.. الاستثناء الوحيد حدث عند جسر ديالى، حيث كان طابورا طويلا من السيارات، متوقفا هناك عند نقطة السيطرة الرئيسة، قبل الدخول الى بغداد، توقف نوح، وعندما انتهى اليه العسكري، رفع يده وبإيماءة سريعة، تحرك نوح ودخل بغداد من أوسع أبوابها المفتوحة على اللمجهول..

استقبلته المدينة من مكان قصي، بأحضانها الدافئة، من جهة الجنوب الشرقي، نهاية توسعها العمراني، ضواح محتشدة بمنازل، معظمها ذات طابق واحد، وبدون حدائق، ولكن هناك ثمة أشجار متفرقة ومساحات خضراء، وعندما حاذى قناة الجيش، كان منظر الاشجار على جانبي القناة، وانتشار المشاتل الكبيرة، شيء يشرح الصدر، ولما كان نوح قليل الخبرة بخارطة مدنية كبيرة مثل بغداد، فقد أضاع وقتا زائدا في شوارعها المزدحمة، حتى افضى به اللف والدوران الى ساحة التحرير، قلب المدينة، ومركزها النابض بالحياة، كان يفكر عندما وصل هناك باستراحة قصيرة، في حانة صغيرة، لاحتساء كأس او كأسين من العرق العراقي، قبل الذهاب الى المنصور، هناك حيث ستستقبله سيناء بدموع الفرح، وبكلمات العتاب القاسية، لكنه عدل عن الفكرة، وقرر مواصلة طريقه، فعبر الجسرعلى نهر الدجلة الى جانب الكرخ، فشاهد النوارس البيضاء تحلق فوق النهر وعلى ضفتيه، شعر ان زعيقها لامس احاسيسه المتفتحة للحياة نحو بدايات جديدة، كان قد فكر بها اثناء فترة وجوده في مدينته العمارة، صحيح ان الحرب اربكت المسارات، وأدت الى تداخلها ببعض، محدثة فوضى عارمة في جميع الاتجاهات، وضبابية وعدم وضوح في رؤية الأهداف، ابرز ما تنتجه الحرب الغموض والخوف وتجميد المستقبل، الأولوية دائما تكون للحاضر، لليوم الذي يعيشه الانسان.. ولئن كان لها دور هام في تجميد الرؤى المستقبلية لصالح غريزتي القوة والافتراس، التي توارثهما الانسان من عصور غابرة، فأنها أيضا أيقظت الضمير على الإحساس بالآخر الذي يواجه نفس المصير، فهي صحوة وسط ضباب وتضارب الأحاسيس.. فهناك مجالس العزاء تقام في كل مكان، في الازقة الضيقة امام البيوت، حيث تنصب الجوادر التي تسد الطرق، يأكل فيها الفقير، وتسمع فيها تلاوة القرآن، وتتبادل فيها عبارات المواساة، ويحتل الحزن مساحة اوسع في حياة الناس، للحرب وجه بشع، ولكن فيها شيء اخر أيضا، يحسب لها، الشجاعة والتضحية والألم المتوج بالروح الإنسانية..                                      

وصل الأستاذ نوح الى المنزل الذي تقيم فيه سيناء مع ابيها، أوقف السيارة عند السياج، نزل ودق الجرس الكهربائي الذي بجانب الباب الحديدي الأسود، فتفاجأ بها تفتح له الباب. عانقته بحرارة وبكت، وبكفيها الناعمتين راحت تكيل لصدره ضربات سريعة متوالية، تركها تشبعه ضربا، وهو يضحك منتشيا، لأنها قرعت ذاك الباب الذي كان موصدا بوجهها، طوال الأسبوع الذي امضاه بعيدا عنها.. كان هذا هو العقاب الذي يستحقه رجل من امرأة رائعة ربطت مصيرها به في فترة زمنية قصيرة.

"هل كنت تتوقعين وصولي في هذا الوقت بالضبط ، فوقفت تنتظرينني عند الباب!

لم يكن أحد في البيت عندما وصوله، لذا أدرك ان بقاءهما وحدهما، حتى مجئ الأب، امر غير لائق، فبعد إنزال حقيبته، عاد للسيارة، وقصد مقهى قريب، وفي اللحظة التي خطى داخل المقهى، كان صوت التلفاز عاليا، يصدح بأغنية

" احنه مشينا، مشينا للحرب، عاشق يدافع من اجل محبوبته"

 استقبله النادل المصري بابتسامة ترحيب، طلب نوح كوب شاي وكأس ماء، وجلس في ركن بعيد عن الشارع، راح يفكر بكلمات الاغنية وهو يرتشف الشاي، فقال في نفسه، يا الله ما هذه العلاقة الغريبة، بين نقيضين، لابد ان كاتب الاغنية اختلط عليه الامر، فزج كلمة الحرب إرضاء للهوس، الذي هيمن على الأجواء العامة، وعندما عاد نوح الى البيت، التألم شمل الجميع على مائدة العشاء التي أعدتها سيناء، احتفاء بعودته من السفر.

دارت الأحاديث كالمعتاد حول الحرب التي تصدرت نشرات الاخبار العالمية، خاصة وأنها باتت تراوح في مكانها، اما التهجير القسري على خلفيتها وقبلها، فلم يتوقف، كان منذ البداية عملا ممنهجا، يهدف للتخلص من مواطنين من الدرجة الثانية، اقلية صامتة؛ قد تنفجر متى ما تهيأت لها الفرصة، وهذا ما كان يقلق النظام. تحدث صاحب البيت الحاج إبراهيم عن التغيرات المستمرة في تركيبة سوق الشورجة، منذ تولي الرئيس زمام الحكم، أكبر سوق تجاري في بغداد والتي كان يهيمن عليها منذ عقود من الزمن، تجار اكراد فيليون، واخرون من أصول إيرانية، ومن قبلهم في الأربعينات، تجار يهود عراقيون.

 " ابعدونا عن المشاركة في الحكم، فاتجهنا الى مجالات أخرى، والآن يحاربوننا في مصدر رزقنا،  يسعون لتعريب السوق.فهل كان إيرانيا، الم تكن الشورجة منذ القدم سوقا بغداديا ذائع الصيت، ضاهى في شهرته سوق الحميدية!  هذه عقلية عقيمة، لرئيس لا يفهم بالسياسة ولا بالأقتصاد، لا يريد ان يترك اقتصاد البلاد لذوي الخبرة، دون ان يتدخل فيه.."

"هل تعتقدون ان هذه المطاردة ستنتهي يوما، أقول لكم لن تنتهي ابدا، لأنها جوهر السياسة في العراق، وقد نشأت عليها دول في التاريخ، المطاردة هي اللعبة المفضلة، اليوم انت الطريدة وغدا انت القناص، وهكذا تدور عجلة السياسة ولن تتوقف ابدا."

 علقت سيناء على كلام الأستاذ نوح.

" نوح يفلسف اراءه بطريقة غريبة، هل تفهمان ما يقول؟"

دافع نوح عن رأيه، بأنه  يفكك التشابك بين الاحداث، ويستنطق الماضي ليفهم  الحاضر."

" وما الحل، كيف نخرج من هذه اللعبة الخطرة."

" بتدخل النبي العزير.."

 قاطعه الحاج إبراهيم.

" النبي العزير المذكور في القرآن، ابن الله."

"عمي الحاج سبتي يعرف مكانه *.."

 تدخلت سيناء ونصحتهما الا يأخذا كلامه على محمل الجد، انه أحيانا يخلط بين الجد والهزل. ولكن العم ابراهيم اصر ان يعرف.

"وكيف سيكون الحل عند نبي مات منذ آلاف السنين!"

" الله اعلم، هذا ما ستكشفه لنا الأيام"

  ضحك الجميع، ولكن كما يقال شر البلية ما يضحك.

 دار الحديث بعد ذلك عن اليهود ليتشعب الى مواضيع شتى، كان من بينها حوادث الفرهود عام 1941، التي طالت اليهود في العهد الملكي، خلال يومين، الأول والثاني من حزيران، وما رافقها من اعمال سلب ونهب وقتل مروعة، وكان الحاج إبراهيم آنذاك صبيا، وشهد بنفسه تلك الاحداث، ويتذكر شابا مسلما يعمل في محل اقمشة، يملكه يهودي بسوق دانيال، كان يعشق ابنته، وعندما بدأ تهجيرهم الى إسرائيل، التجأت الفتاة الى بيت حبيبها، وتوسلت بوالده ان يوافق على زواجهما، لكن الأب رفض، وكانت حجته انه لا يريد ان يتربى حفيده او حفيدته، في أحضان ام يهودية، فهدده الابن بالانتحار، لكن قلبه لم يلن، وهنا تدخل والدها وإستخرج له وثيقة تثبت بأنه يهودي، وهاجر مع حبيبته..

" الاحداث التي كنتَ شاهدا عليها يا حاج، تؤكد ما قلته قبل قليل عن المطاردة، ولكن فيما رويت هناك جانب انساني، نهاية رائعة لقصة حب، ليت مشاكلنا تنتهي هكذا، اتعرف ان العلم أكد ان المشاعر الطيبة والايجابية تساعد الانسان على الشفاء من الأمراض النفسية وحتى البدنية."

استمرت المسامرة، وتجاذب أطراف الحديث حتى منتصف الليل، ثم انفرط الجمع، وقام كل منهم وذهب الى غرفته لينام، على امل صباح جديد، يشرق بشمس بيضاء بدون حرب، ومطاردة مواطنين ابرياء، تحولوا بين ليلة وضحاها اكباش فداء..

جلس نوح في سريرة يفكر بالشاب جاسم اخ هيلة، وبصديقه المحامي حنا، الذي انقطعت اخباره، منذ اخر زيارة قام بها، قبل وفاة المرحومة، وكان اول شيء قام به عند الصباح شراء كل ما يحتاجه الشاب المحتجز من أشياء ضرورية، وعندما ذهب لزيارته سأل عنه العسكري الواقف عند بوابة المعسكر، فأخبره انهم نُقلوا الى سجن ابي غريب، وهناك لا يسمح بالزيارة، وعندما سأله نوح عن جاسم، قال انه يعرفه، الشاب الأبيضاني، كان طيبا، يوزع ما لديه على المحتجزين وعلى الجنود المكلفين بالحراسة..

اما صديق نوح المحامي حنا، فبعد السؤال والتقصي عنه، توصل الى معلومة مفادها انه اما ان يكون قد أُعتُقِلَ او قُتِلَ. ولا يعلم ماهي تهمته، ربما كان من ضمن مجموعة الثلث الذين تم تصفيتهم من القيادة، حال استلام الرئيس الحكم.. قال نوح يا ألهى لقد اعتاد الناس في شتى بقاع العالم، على سماع اخبار جيدة وأخرى سيئة، ومن العجيب اننا نسمع اخبار واحدة كلها سيئة، ومع ذلك لا نصاب بكآبة نفسية حادة، ولا ننتحر..!

 ما السر في ذلك، هل ان اعصابنا قدت من فولاذ، ام ان الاعتياد على مثل هذه الاخبار، خلق فينا مناعة او قناعة بعدم التذمر، او حتى الشكوى، لان الشكوى كما كانت تقول امي لغير الله مذلة، او لأن ليس لاحد مقدار من الحزن اقل من الآخر، كل يستلم حصته، او أحيانا يحتمل أحدنا حصصا إضافية..

أي شعب هذا الذي خلقته يا لله يحتمل كل هذه المآسي كما يحتمل هذا الشعب.. وتضرب لنا مثلا عن صبر أيوب!

 انه جمل في صحراء يحمل على ظهره جبلا عاليا.

 مرت الأيام وجاءت مناسبة الأربعين على رحيل والدته، زار قبرها وبكى وذرف الدموع فشعر براحة نفسية، قفل راجعا ليبحث عن منزل يستأجره، ريثما يبني المنزل الذي سيكون عش الزوجية، أما الآن فلديه شيء واحد، اولوية أن يحدد موعدا لزفافه على سيناء، عرض عليه الحاج إبراهيم ان يقضي شهر العسل، في مزرعته بالجادرية، حيث بنى هناك منزلا ريفيا وقام بتأثيثه بنفسه، لم تبق سوى حفلة الزفاف وقد أقيمت في نادي المهندسين بالمنصور، بعدها امضى الأستاذ نوح احلى الأيام مع حبيبته بين أشجار النخيل والبرتقال ونسائم الدجلة العليلة، وتعرف على البستاني وعائلته، وقال في نفسه وهو ينعم بهذه السعادة التي اغدقتها السماء عليه، كمطر هطل في اوانه، فأنعش ارضا عطشى، ادرك انه أخطأ في حكمه الأحادي على الأشياء، حيث ان في عمق المأساة ثمة بصيص من الأمل، وفي اخر الليل تشتد الظلمة قبيل انبلاج الفجر، وان ذرة الغبار التي تؤذي الانسان، تكون نواة لحبات المطر في الصحراء، وان الثنائية هي المحور الذي تتحرك عليه عجلة الحياة، كان قد اقتنع ان الهرب من الوطن عند الازمة يعتبر خيانة، وان أولئك المواطنين، الذين الصقت بهم التبعية الإيرانية، هم مواطنون عراقيون لانهم استماتوا من اجل البقاء كما فعل اخوانهم اليهود العراقيين، الذين هجروا قسرا الى اسرائيل من قبل، ولا غرابة ان ماتوا معنويا في منافيهم بعيدا عن الوطن، الذي ترعرعوا فيه، جاءوا مع سبي بابلي ونفوا بعده بقرار سياسي، فالشجرة المتجذرة في الارض تموت عند اجتثاث عروقها من التربة.. ولا يفهم هذه الأمور أولئك الذين نفذوا عملية التهجير، لذا فكر بعد تأمل طويل، اثناء اقامته في المنزل الريفي، برغبته في مقابلة الرئيس، نعم رئيس الجمهورية بشحمه ولحمه، وعندما اتخذ نوح القرار، عين اليوم الذي سيذهب فيه الى استعلامات القصر الجمهوري للحصول على موعد، وعندما عرض الفكرة على سيناء ضحكت منه واختصرت فشل محاولته مسبقا، فقالت ساخرة، ستعود بخفي حنين أو كما نقول بلهجتنا المحلية:

" تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي"

كانت سيناء تجلس مع زوجة البستاني، وكان الحديث بينهما يدور حول قلق المرأة على ابنها المجند، الذي التحق بوحدته العسكرية، قبل مجيء سيناء ونوح، سألت امرأة البستاني سيناء عن صحة الكلام حول وساطة إسلامية لوقف الحرب، فطمأنتها سيناء بكلمة تمني وامل ودعاء حار، نبعت كغصن زيتون اخضر وحمامة سلام بيضاء من أعماق قلبها:

 "إن شاء الله ستتوقف يا خالة.."

اطالت المرأة النظر لوجه سيناء، كأنها تريد ان تؤمن حقا بما قالته، وأن السلام سيحل فعلا كما قالت. ورددت بصوت منكسر، مستسلم وخافت

" إن شاء الله"

كان نوح اثناء غياب زوجته يهمس لنفسه منفعلا، سأقابله أخيرا، ولكن ليس من أجل نفسي، انا شخصيا لا اطلب شيئا، سأقابله من اجل الناس البسطاء، ولكن ليس كما يفعل الرجل المتملق والمنافق الجبان والمداهن المحتال، لأني سأقول لفاقد البصر انت اعمى، ولا اكذب عليه فأقول له انت بصير، وأقول لمن فقد عينا واحدة انت اعور، ولا أقول له انت كريم العين، ارتفع صوته فقال ليست المشكلة في الحكام، المشكلة فينا نحن الذين نكذب ونخدع ونخون أنفسنا، او كما قالوا من قبل وصفا لهذا السلوك الشاذ:

يصانع ويضارع ويتبع المطامع..

عادت سيناء فكلمته عن امرأة البستاني، اتفقا على مساعدتها بشيء من المال قبل مغادرتهما.

" المسكينة قلقة جدا على ابنها."

" لم يعد القلق اضطراب نفسي يصيب المفكرين والشباب المنطوين على أنفسهم، وهاجس يلازم الموسوسين على صحتهم، والتجار على اموالهم، صار مرض عامة الناس."

 ظلت فكرة مقابلة الرئيس تراوده، ولا تبارح خياله، استحوذت عليه بقوة، وعندما نصحته سيناء بالتخلي عنها، قال لها انه لا يستطيع، لأن تنفيذها سيجلب له الراحة النفسية والسلام الداخلي، وعدها انه بعد ذلك سيكرس حياته لسعادتهما المشتركة. ويتفرغ لصناعة اثاث المكاتب الحكومية، لما فيها من مستقبل واعد، وتوفير عملة اجنبية للبلاد، تذهب عادة على استيرادها من الخارج..

" اعدك حبيبتي أنى سأكون واحد من أبرز أعمدة الاقتصاد الوطني في العراق."

 وبينما كانا مستلقيان على السرير، يتحدثان عن المستقبل، كان هناك في مكان ما، بعيد، تدور ماكنة الحرب، فيخفي الظلام قبح الأشياء، وهنا في البستان، يخفي جمال النخيل واشجار البرتقال، كان نوح ينظر لوجه سيناء بوله، ويخفي في نفسه رغبته العارمة بمقابلة الرئيس وجها لوجه.

كان الهدوء يهيمن على المنزل الريفي وما حوله، النهر يجري متهاديا في جريانه، والعصافير والطيور هجعت في قلب الأشجار الكثيفة، ولا أحد يعرف بمكان نوح وسيناء سوى صاحب المزرعة، الحاج إبراهيم وأبو سيناء والبستاني وعائلته، أي سعادة هذه، لا تقدر بثمن عندما يشعر المرء بالأمان وينام مطمئنا هانئا في فراشه.. فجأة قال نوح:

" تخليت عن مقابلة الرئيس، ليذهب للجحيم"

" الحمد لله.. تحررت الآن من مشكلة كبيرة، ماذا بعدها؟"

"بقي شيء واحد."

"يا الله.. ما هو؟"

" أوراق المحامي حنا التي اودعها عندي."

" قد تنزل علينا مصيبة بسببها، لماذا لا تتخلص منها!"

" كيف اتخلص منها، ربما دفع حياته ثمنا لها، ومقبل وسعيد وآلاف غيرهم فعلوا ذلك، ما الفرق بيني وبينهم؟

" هم اختاروا هذا الطريق بمحض ارادتهم."

" هذه هي فرصتي الأخيرة يا سيناء، فإن لم افعل، سأبقى انسانا عاجزا، ضعيفا وجبانا، ولن أستطيع حتى حمايتك، امنحيني هذه الفرصة لأبرهن لك انني رجل يستحقك بجدارة."

" اين هذه الأوراق؟"

" لا تزال في المكان الذي خبأتها فيه."

" اين؟"

" في السيارة"

احضر نوح الأوراق، قلبها بسرعة، كانت وثائق خطيرة، عن إنتزاع إعترافات تحت التعذيب الجسدي والنفسي، افضت باعدام متهمين امام محكمة أمن الدولة."

 "الم اقل لك انها مصيبة."

 " سأعيدها لمكانها. اعرف ان وجودها في حوزتي، مجازفة كبيرة."

" مخاطرة يا نوح، نحن في غنى عنها."

"لا تخافي، الخوف أحيانا أقسى من الموت نفسه."

" لماذا المجازفة"

 " هذا هو واقعنا يا عزيزتي سيناء، وانه قاس ومؤلم، وسأكون كاذبا ان الونه بألوان زاهية، كي يقال عني متفائل."

وعلى الأستاذ نوح ان يتعلم من الواقع الجديد درسا، ان ينحني للعاصفة حتى تمر..

اقنع سيناء بالسفر الى عمان لقضاء شهر العسل، وإستطاع ان يهرب الملف بدسه بين الصور الشعاعية والتقارير الطبية التي تعود لأمه، وضعها ظاهرة للعيان، فوق الملابس، لأبعاد الشك، وعندما سؤل عنها عند التفتيش في المطار، قال انها تقارير طبية لزوجته المصابة بالسرطان، يأخذها للعلاج في الأردن.

 نظرت سيناء للرجل ولزوجها باندهاش وحيرة، تنفس نوح الصعداء، وشعر ان شيئا من الخوف واليأس، والقلق، والغضب، مزيج غريب من مشاعر متناقضة، قد اخذت تتفكك تدريجيا وتتلاشى سريعا، ومعها انزاح الم مكبوت في صدره، وحينما استقر بجانبها، في مقعده بالطائرة، المتجهة لعمان ، سألته سيناء بإندهاش:

" لماذا تمنى لي رجل الامن الشفاء؟"

" لا أدري.. ربما لانه رأى وجهك ممتقعا بالصفرة فظنك مريضة، أكنت خائفة يا سيناء؟"

" خائفة...! مرعوبة من الخوف، هذه اول مرة اسافر فيها خارج العراق."

" مع أنك تحملين جوازعراقي فإنت أجنبية بنظرهم، رغم لهجتهك الميسانية الجنوبية التي اموت فيها، وأنك درست الادب الإنكليزي بجامعة بغداد.. أي تناقضات هذه التي جُمعتْ كلها في شخصيتك يا سيناء!"

" اسألهم.. لماذا تسألني انا!"

   أقلعت الطائرة، فكانت كلما ارتفعت في الجو بضعة مئات من الأمتار، تناقصت همومه قليلا، قال في نفسه، آمل قبل ان نعبر الحدود، سأجمع ما تبقى منها وسأرميها من النافذة الجانبية، وسأرها كمظلة سوداء تهبط للأرض التي غادرناها قبل دقائق معدودة، وتركنا فيها تاريخ حياتنا وذكرياتنا.

ارض الوطن التي أحبها بعنف وكان مستعدا ان يموت من اجلها، والتي تركت بصمتها الأبدية على حياته، كما تركت أيضا وصمتها الأبدية على جباه آخرين دأبوا على تدميرها.

 

صالح البياتي

....................

* حلقة من رواية: بيت الأم

- الزعاطيط: الأولاد الصغار باللهحة العراقية

- العزير النبي: يقع مرقده على نهر الكحلاء جنوب مدينة العمارة

شكرا لمتابعتكم.. يتبع رجاء

 

 

في نصوص اليوم